الذي كان مارتن هايدقر وراءه في مُؤَلَّفِهِ المُسمَّى الكينونة والزَّمان ليس هو أقلَّ من تعميقِ فهمنا لما يعنيهِ لشيٍ ما أو آخرٍ (من الأشياء، النَّاس، التَّجريدات، اللُّغة، إلخ) أن يكُون. إنَّهُ يبتغي، في كِتابِهِ ذاك، التَّفرقة فيما بين طُرقٍ عديدةٍ لتَبَدِّي الكينونة، ثُمَّ، من بعدِ ذلكَ، إبداء الكيفيَّة التي بها تُكن كُلُّ تلك الطُّرق على صِلَةٍ بالكينونةِ الإنسانيَّة ومن ثَمَّ، في غايةِ الأمرِ، على صِلَةٍ بالزَّمانيَّة temporality.



يزعمُ هايدقر أنَّ التَّقليدَ الفلسفيَّ العريق قد أساءَ وصفَ وتأويل (تفسير) ماهيَّة الكينونة الإنسانيَّة. عليه كأوَّلِ خطوةٍ في مشروعهِ المعنيِّ يحاول هايدقر الاشتغال على تحليلٍ بِكْرٍ لما يعنيه أن يكُن أيٌّ مِنَّا إنسانا. من الواضح هنا أن نتائج مثل ذلك التَّحليل، إن تَكُن هي مقبُولَةً، مُهِمَّةً لأيِّ شخصٍ يبتغي أن يفهمَ أيَّ نوعٍ من الكينونةِ يكُن هو، أو هي، عليهِ. نتائج هايدقر تلك أيضاً مُهِمَّة للعلوم الإنسانيَّة طالما يكُن من الواضح أنَّ أيَّاً مِنَّا لن يكن بوسعه، أو بِوُسعِهَا، فهمَ أيِّ شيءٍ ما، أو آخرٍ، ما لم يكن هو، أو تكُن هي، على إلمامٍ دقيقٍ بذاكَ الذي هو، أو هي، على سبيلِ محاولةِ فهمِهِ. عليهِ إن يرى أيٌّ منَّا، مثلاً، أنَّ الإنسانَ حيوانٌ عقليٌّ ناطِقٌ يُحلُّ المشاكل ويتصرَّف على أساس قواعد معيَّنة من الاعتقادات والرَّغبات، كما فعل التَّقليدُ الفلسفِيُّ مُنذُ عهدِ أرسطوطاليس، سيُطَوِّرُ، أو يُنشِئُ، الواحدُ مِنَّا، في تلك الحالة، نظريَّة عن العقل (أو الوعي)، صُنع القرارات، اتِّباع القواعد.. إلخ، يُفسِّرُ على أساسها تلك الطَّريقة التي تَتَبَدَّى (تَتَمَظْهَر) عليها الكينونة. وفي حالة اتِّسام ذاكَ الوصف للحقيقة الإنسانيَّة (أو الواقع الإنساني) بالسَّطحيَّة والاصطناع سينتهي كُلُّ ذلك الجُّهد العويص الذي قد بُذِلَ على ذاكَ السَّبيل إلى أن يكُن، في عمُومِهِ، جُهدَاً سُدَىْ.

إنَ سُوء الفهم للكائن الإنساني يبدأ من افتتان أفلاطون بالنَّظريَّة وبما هو نَظَرِيٌّ. صحيحٌ أنّض الفكرة التي مُؤَدَّاهَا أنَّ أَيَّاً مِنَّا بوسعِهِ فهم الكون على نحوٍ منفصلٍ عنه وذلك عبر اكتشاف المبادئ التَّحتِيَّة التي تتأسَّسُ عليها كثرةُ وتعدُّد الظَّاهرات المختلفة كانت، بالفعل، أكثرَ الأفكارِ قُوَّةً وإثارةً مُنذُ اكتشافِ النَّارِ ونُشُوءِ اللُّغةْ. لكنَّ أفلاطون وتقليدَنَا الفلسفيَّ سارا، في هذا السِّياق، على دربٍ خاطئٍ حيثُ فَكَّرَا أنَّهُ بِوُسعِ الإنسان إنشاءَ نظريَّة لكُلِّ شيءٍ- بما في ذلك الكائنات الإنسانيَّة وعالمها- وأنَّ الطَّريقةَ التي تُنشئُ وِفْقَهَا الكائنات الإنسانيَّة علاقةً مع الأشياءِ حولَها تَكمُنُ في تَمَلُّكِ نظريَّةٍ ضمنيَّةٍ عن تلك الأشياء.

مارتن هايدقر، من حيث المبدأ، ليس ضد التَّنظير وهو يرى أنَّ التَّنظيرَ وإنشاءَ النَّظريَّاتِ فعلٌ قويٌّ ومُهمُّ، بيد أنَّه محدود النِّطاقْ. إنَّه ينشُدُ أساساً أن يُظْهِرَ أنَّهُ ليس بِوُسْعِ الواحد منَّا تَمَلُّكَ نظريَّةٍ عمَّا يجعل إنشاء النَّظريَّات ممكنَاً. لئن يكن هو مُصيبَاً في موقفه هذا سيكن تحليلُه، في تلك الحالة، مُستَدْعِيَاً مُساءلة واحدٍ من أعمق الافتراضات وأكثرها شيوعاً كان قد قَبِلَهُ الفلاسفة التَّقليديُّون، بدءَاً بأفلاطون وانتهاءً بديكارت وكانط وإدموند هوسرل، مُعلِّم هايدقر نفسَهُ.

بما أنَّ ذاكَ الافتراض يُؤَدِّي دورَاً حيويَّاً في تفكيرنا ستُضمِرُ مُساءلتنا له مساءلة عملٍ حاليٍّ في الفلسفة وفي كُلِّ شِكُولِ التَّخَصُّصَاتِ الأخرى التي تدرس الكائنات الإنسانيَّة. ففي تخصُّصات اللِّسانيَّات، الأنثروبولوجي، السَّايكولوجي، السَّوسيولوجي، النَّقد الأدبي، العلوم الإنسانيَّة وعلم الاقتصاد، على سبيل المثال، يكمُنُ ذلكَ التَّقليدُ الفلسفِيُّ تحت النَّشْدِ الحاضرِ للنَّماذج النَّمطيَّة (الشَّكليَّة) المُفَسِّرَةْ. عليهِ يُحاولُ الباحثون في كُلٍّ من تلك التَّخصُّصات إيجاد عناصر حُرَّة من السِّياقات، خطوط، صفات، ملامح، عوامل.. إلخ ووصلها معاً خِلالَ قوانينٍ تشملها تحتها، كما في العلم الطَّبيعي والمدرسة السُّلوكيَّة في علم النَّفس، أو عبر قواعد وأحكام وبرامج، كما في النَّظريَّة البنيويَّة والنَّظريَّة الإدراكيَّة Cognitivism.

وفيما هنالك اهتمامٌ عظيمٌ بتلك المداخل الشَّكليَّة- خاصَّة ما يُدعى من بينها باسم "أنموذج العقل الخاص بعمليَّة التَّعامل مع المعلومات"- يظلُّ هنالكَ، أيضاً، إحساسٌ مُتَنَامٍ بأنَّ المداخل إيَّاها لم تشتغل على النَّحو الحَسَن الذي كان مرجُوَّاً منها فالنَّظرية البنيويَّة، مثلاً، ما عادت الآن نظريَّةً مُحبَّذَة، كما هنالك ظاهرات يَتِمُّ التَّقَصِّي بشأنِها في العلوم الإنسانيَّة، مثل دور النَّماذج الأوَّلِيَّة في السَّايكولوجي أو في ممارسات التَّفسير الذَّاتي في الأنثروبولوجي، لا تتناسب تمامَاً مع أنموذج العقل الخاص بعمليَّة التَّعامل مع المعلومات. وفيما يَجِيءُ الباحثون إلى حيثُ مساءلة دور النَّظريَّة في تخصُّصاتهم المختلفة هم يغدُونَ، حينذَاكَ، مُهتمِّينَ بِطُرُقٍ أو مداخلٍ تأويليَّةٍ تأخُذُ في حُسبانِها المعنى والسِّياقْ.

أمثال تلك الطرق والمداخل التَّأويليَّة تعتمد، على نحوٍ واعٍ أو غير واعٍ، على النَّهج التَّأويلي (الهيرمينطيقي") المُتَّبع في مُؤَلَّفِ مارتن هايدقَر المُسمَّى "الكينونة والزَّمان". قد اتَّبع هايدقر، في ذاكَ الكتاب، وِلهلم دِلْثِيْ Wilhelm Dilthey في تعميم النَّهج التَّأويلي ومن ثَمَّ تحويلَهُ من مُجرَّد طريقة لدراسة النِّصوص المُقدَّسَة، فحسب، إلى طريقةٍ ونهجٍ لدراسة كُلِّ النَّشاطات الإنسانيَّة. إنَّه هو، بالفعل، من استقدم النَّهج التَّأويلي إلى نطاقِ بحث الفلسفة الغربيَّة الحديثة وذلك خلال توضيحِهِ لضرورة التَّأويل في دراسة الكائن الإنساني وللهيئة الدَّائريَّة التي ينبغي على مثل ذاكَ التَّأويل أن يَتَّخِذَهَا.

بناءً على ذلك أنشأ مارتن هايدقر الفينومينولوجيا التَّأويليَّة الخاصَّة به مقابل فينومينولوجي هوسرل التِّرانسيندينتالي. إنَّ إدموند هوسرل كان قد ردَّ الفعل تجاه أزمةٍ باكرةٍ في أُسسِ العلوم الإنسانيَّة عبر حِجَاجِهِ بأنَّ العلوم الإنسانيَّة قد فشلت لأنَّها لم تأخذ فِي حُسبَانِهَا مسألة قصديَّة الوعي التي بمُوجِبِهَا يكن العقلُ الإنسانيُّ الفرديُّ مُوَجَّهَاً نحو موضوعاتِهِ بفضلِ محتوىً عقليٍّ يُمثِّلُ تلك الموضوعات. ذلك يعني أن هوسرل أنشأَ سِجِلَّاً عن الإنسان باعتبارِهِ وعيَاً ذا معانٍ مُحتواةٍ ذاتِيَّاً دعاها هوسرل باسم "المحتوي القصدي للوعي". ووِفقَ هوسرل يهبُ ذاك المحتوى العقليُّ القَصدِيُّ معنى مفهومَاً intelligibility لكُلِّ شيءٍ يُواجِهُهُ النَّاسُ في مُختَلَفِ شِكُولِ حَيَوَاتِهِمْ. جَابَهَ مارتن هايدقر ذاكَ الحِجَاجِ الهوسرليِّ بقَولِهِ إنَّهُ قد كان هنالك شكلٌ أكثرَ أساسيَّةً من قَصْدِيَّةِ الوعيِ من وَضْعِيَّةِ ذاتٍ فرديَّةٍ مُكتَفِيَةٍ بذاتِها مُوَجَّهَةً إلى العالم بوسيلةِ مُحتواها الذِّهنِيْ. ذلك يضع عِندَ أساسِ مدخل هايدقر الفلسفيِّ الجَّديد نَهجَاً فينومينولوجِيَّاً يُقَامُ على مهاراتِ التَّكَيُّفِ "اللَّا ذِهنِيِّ" أو "ما قبل الذِّهنِيِّ" اليوميَّة باعتبَارِها القَاعِدَة لكُلّ ما هو جَلِيٌّ المعنَىْ.

قد وقفَ الفلاسفةُ، مُنذ عهد ديكارت، عِند عقبة المشكلة الإبستمولوجيَّة المُتعلِّقة بإيضاح الكيفيَّة التي يغدُو، وِفقَهَا، بِوُسعِ الأفكار التي في أذهاننا أن تكن صحيحةً بشأنِ العالم الخارجي. في ردِّ فعلِهِ الفلسفِيِّ على ذلك يُظهِرُ لنا هايدقر أنَّ إبستمولوجيا الذَّات/الموضُوع الدِّيكارتيَّةَ تِلك ليس لها إلَّا أن تفترِض، في الواقِع، وجُود خلفيَّة ممارسات يوميَّة يَتِمُّ فيها وبِها توليفُنَا اجتماعيَّاً، غيرَ أنَّنَا لا نُمثِّلُهَا (أو نَتَمَثَّلُهَا) في أذهاننا. وبِما أنَّهُ يَحْسَبِ أنَّ تلك الطَّريقة الأكثرَ أساسيَّةً (أَوَّلِيَّةً) لإنشاء (استخلاص) معانٍ ما، أو أُخرى، لمُختَلَفِ أشياءِ هذا العالم هي سِمْتُ فهمِنا للكينُونة يزعمُ هايدقر، والحالُ كذلك، أنَّهُ إنَّما هو يُمارسُ هُنَا تحليلاً أنطولوجيَّاً، أي أنَّهُ يتساءلُ هنا عن طبيعةِ ذلك الفهم للكينونة الذي لا نَعْلَمَهُ- بمعنى أنَّهُ ليس تَمثُّلاً في الوعي (الذِّهن) مُتطابق مع العالم الخارجي- لكنَّنَا- ببساطةٍ- نَكُونهُ.

هكذا فَضَلَ هايدقَر نفسَهُ عن هوسرل والتَّقليد الدِّيكارتِي عبرَ استبدالِ الأسئلة الإبستمولوجيَّة المعنيَّة بالعلاقة فيما بين الذَّات العارفة وموضوع المعرفة بأسئلة أنطولوجيَّة معنيَّة بمسألةِ أيِّ نَوعٍ من الكائنات نحنُ وكيف هي كينونتُنا مُوثَقَةٌ مع قابليَّة العالم للفهم. ومُتَّبِعَاً سبيلَ سورين كيركيجارد يرى هايدقر نقطة بدء ديكارت الشَّهيرة ينبغي لها أن تُعكَس ومن ثَمَّ تصيرُ إلى "أنا كائنٌ، إذاً أنا أُفَكِّر". يقولُ هايدقر بذلكَ الصَّدد: "مع الكوجيتو cogito sum زعم ديكارت أنَّهُ كان واضعاً للفلسفة عِندَ موقعٍ راسخٍ وجديد. غير أنَّ ما تركَهُ غيرَ مُقرَّرٍ بشأنِهِ آن ما هو قد بدأ شُغلَهُ الفلسفيَّ بتلكَ الطَّريقة "الرَّاديكاليَّة" كان هو نوع الكينونة الذي ينتمي إلى موضوع ذاك "الفكر" أو- على الأدق- حسُّ كينُونًةِ ذاكَ الـ "أنَا أكُون".." (هايدقر، ص. 24- النُّسخة الإنجليزيَّة من الكينُونة والزَّمان).

نَشَدَ هايدقر، مثل الفلاسفة الإدراكِيِّين the cognitivists والبنيويِّين، تقليص دور الذَّات الفرديَّة الواعية في تحليلهِ للكائن الإنساني. لذلكَ السَّبب يُخلَطُ أحيانَاً فيما بينه وبين البِنيويِّين. غيرَ أنَّ نَقْدَهُ لهوسرل والتَّقليد الدِّيكارتي في الفلسفة الغربيَّة أكثرَ راديكاليَّةً من أولئك لذا هو، بخلافِ الشَّكلانيِّين، يَستَقْدِمُ تحليلاً لقصديَّة الوعي أو المعنى يقودُهُ إلى مُساءلةِ نماذج شكليَّة لا معنى لها في ذاتِ الوقتِ الذي يقوم هو فيه أيضاً بمساءلة الزَّعم التَّقليدي بأنًّ العلاقة الأساسيَّة للعقل (الوعي/الذِهن) مع العالم علاقة لذات مع موضوعات بِسَبِيْلِ مَعانٍ ذهنيَّةْ.

إنَّ فينومينولوجيا هايدقر التَّأويليَّة تُساءِلُ، إذاً، الافتراض الأفلاطوني الرَّائي أنَّ النَّشاط الإنساني يمكن تفسيره وِفق النَّظريَّة والموضع المركزي الذي يُخصِّصُهُ التَّقليد الدِّيكارتي للذَّات الواعية، معاً. ويُمكنُنا هنا تَبَيُّنَ خمسة افتراضاتٍ تقليديَّةٍ يبتغي مارتن هايدقر إزاحتَها عن سبيلِ تَفَلْسُفِهِ حتَّى يُشغِرَ مكانَاً لتأويلِهِ للكينونة الإنسانيَّة ولبحثِهِ الفلسَفِيِّ بشأنِ مسألةِ الكينونةِ في عِمُومِهَا:

1. الجَّلائِيَّةExplicitness : افترض المُفكِّرون الغربيُّون من سقراط إلى كانط وإلى يورقن هابرماس أنّنا نعرف معرفتنا ونفعل أفعالنا خَلَلَ تطبيقِ قواعد نظريَّة مُعيَّنة، كما خَلُصُ أولئكض المُفكِّرون، على سبيلِهم النَّظَرِيِّ ذاكَ، إلى ما مُؤَدَّاهُ أنَّنا يجب علينا أن نكن على وُضُوحٍ وجلاءٍ بشأنِ ما افترضوا حتَّى نتمكَّن من الحوزةِ على سيطرةٍ مُستَنِيْرَةٍ على حيواتِنَا. وذلك كان مَدعَاةً لتساؤُلِ هايدقر عن إمكان جعل فهمنا اليومي واضحاً تمامَاً وعمَّا إن يكُن ذلكَ أصلاً شيئاً مرغُوبَاً لدينا. وقد استَقدَمَ هايدقر، في هذا السِّياق، فِكرَةً ترى أنَّ المهارات الإنسانيَّة اليوميَّة المُشتركَة ومُختلف شكُول التَّفريق والممارسات التي نُطبع اجتماعيَّاً عليها تُوفِّرُ الشِّروط الضَّرورِيَّة لأفراد النَّاس للتَّمييزِ بين مُختَلَفِ الأشياء ولفهمِ أنفُسِهِم كذوات و، عِمُومَاً، لتفسيرِ (أو جَعْلِ) العالم من حولِهِم وحَيَواتِهِم فيه ذواتَ مَعنَىْ. ويَحاجُّ هايدقر، في ذلكَ المُتَّصَل، بأنَّ تلك المهارات والممارسات بإمكانها الاشتغال فقط عندما تكُن هي باقيةً عِند خلفيَّة الأشياء. بيد أنَّهُ يستدرِكُ حُجَّتَهُ تلك بقولِهِ بَلى، إنَّ التَّفَكُّرَ النَّقدِيَّ ضروريٌّ عِندَ بعضِ الوضعيَّات حيثُ لا تكن طريقة تواؤمنا العاديِّ كافيةً على ذاكَ السَّبيل، غير أنَّ مثل ذاكَ التَّفَكُّر ليس بِوُسْعِهِ ولا ينبغي له أداءَ الدَّورِ المركزيِّ الذي كان هو قد أدَّاهُ في التَّقليدِ الفلسفيِّ الغربيِّ منذ عهد أفلاطون. ذلك مؤَدَّاه أنَّ جلاءَ كُلِّ شيءٍ بشأن "افتراضاتنا المسبقة" قد يُودِي بأفعالِنا إلى الافتقار إلى الجِّدِّيَّةْ. عن ذلك يقولُ هايدقر في أحد أعمالِهِ الفلسفيَّة الأخيرة: "كُلُّ قرارٍ يُؤسِّسُ نفسَهُ على شيءٍ لم يَتِمُّ تَملُّكُهُ بعد، شيءٍ مُسْتَتَرٍ، شيءٍ مُلتَبِسٍ، وإلَّا فإنَّهُ قد لا يكُن أبدَاً قرارَاً" (هايدقر، " أصلُ العمل الأدبي" في الشِّعر، اللُّغة، الفِكر، ص. 55). عليهِ ما هو أهمَّ وذو معنى في حيواتِنا ليس له، ولا ينبغي لَهُ، بحسبِ هايدقر، أن يكن مُتاحَاً للتَّفَكُّرِ النَّقْدِيِّ، فالتَّفكُّرُ النَّقدِيُّ عِندَهُ يفترضُ مُسبَقَاً وجُودَ شيءٍ ليس بِوُسْعِهِ أن يكُن تامَّ البُنيَانْ.

يُطلِقُ مارتن هايدقر على تلك الخلفيَّة (القاعدة) غير القابلة للتَّفسير أو الإيضاح التي تُمكِّنُنَا من تَلَمُّسِ معانٍ للأشياء من حولنا اسم "استيعاب الكينونة". ونهجُهُ التَّأويليُّ يُشكِّلُ بديلاً لتقليد التَّفكُّرِ النَّقدِيِّ في كَونِهِ يَنشُدُ أن يُشيرَ إلى ويصف استيعابنا للكينونة من داخلِ فِعلِ/حالِ الاستيعاب ذاكَ دونَ أيَّةَ مُحاولةٍ مِنَّا لجعلِ "إمساكِنَا" بمختلفِ كياناتِها (وتفاصيلِها) جلِيَّاً نظريَّاً. ويُشيرُ هايدقر في هذا المُتَعَلَّقِ إلى الكيفيَّةِ التي تشتغلُ وِفقَها الممارسات الخلفيَّة (التَّحتانيَّة) في كُلِّ وجهٍ من أوجِهِ حيواتِنَا: في مواجهاتنا للموضُوعات وأفراد النَّاس، في استخدامنا للغة، في نشاطاتنا العمليَّة.. إلخ.. إلخ. غير أنَّهُ بِوُسْعِ ذاك النَّهجِ التَّأويلِيِّ، بحسب هايدقر، الإشارة إلى تلك الممارسات الخلفيَّة (التَّحتانيَّة) وكيفيَّات اشتغالها فقط للأُناسِ الذي قد سبقَ لهم وأن تشاركُوا فيها- الذين هم، كما قد يقُولُ هايدقر عنهم، قاطنُونَ في الممارسات إيَّاهَا. إنَّهُ- ذاكَ النَّهج التَّأويليُّ- ليس بوُسعِهِ، وِفقَ هايدقَر، تَهَجِّي الممارسات إيَّاهَا على نحوٍ مُحَدَّدٍ وحُرٍّ من السِّياق يغدُو من الممكنِ وِفْقَهُ توصيلَ "محتواها"، بالضَّبطِ الدَّقيقِ، المُقَاسِ أو الموزون، إلى أيِّ كائنٍ عاقلٍ أو تمثيلها عِندَ جهازِ كومبيوتَر. وبِمُصْطَلَحِ هايدقر يعني ذلكَ أنَّ الفَردَ مِنَّا يجبُ عليهِ دومَاً ممارسة التَّأويل في داخلِ دائرةٍ تأويليَّةْ.

2. التَّمثيل الذِّهنِي Mental Repreentation: أضاف ديكارت للافتراض الفلسفي الكلاسيكي الرَّائي أنَّ الاعتقادات والرَّغبات تكمُن وراءَ السِّلُوك الإنساني وتُفسِّرُهُ فكرةً مُؤَدَّاها أنَّه لكي يُتاح لنا إمكان التَّصَوُّر والفِعل و، عمُومَاً، إقامة العلاقات مع الأشياء التي هي حولَنَا ينبغي أن يكن هنالك بعضُ مُحتوىً مُسبَقٍ في عقُولِنَا- بعضُ تمثيلٍ أو تَمثُّلٍ داخِلِيٍّ- يُمكِّنُنَا من توجيهِ عقولنا نحو أيِّ شيءٍ في العالمِ الخارجِيْ. ذلك "المحتوى القَصْدِي" للوعي قد تَمَّ استقصاء أمرِهِ آناءَ النَّصف الأوَّل من القرن الحالي [القرن العشرين- المترجم] من قِبَلِ هوسرل (إدموند هوسرل، أفكار ذاتَ صلة بفينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجيَّة، الهيج: نجهوف، 1982) ومؤخَّرَاً، خلال ذات القرن [القرن العشرين الماضي، المترجم]، من قِبَلِ جون سيرل John Searle (جون سيرل، مقال عن فلسفة العقل، كامبردج: مطبعة كامبردج الجَّامعيَّة، 1983. وللمقارنة فيما بين ما يراه هوسرل وسيرل بشأن قصديَّة الوعي أُنظُر/ي هيوبيرت ل. دريفوس، هوسرل، القصديَّة وعلم الإدراك، كامبردج: برادفورد بوكس/أيم آي تِي بريس، 1982).

يُساءِلُ هايدقر وجهة النَّظر الفلسفيَّة الرَّائية أنَّ التَّجربة، دومَاً وأساسَاً، عبارة عن علاقة فيما بين ذاتٍ مكتفية بذاتها ذاتَ محتوىً عقلي (ما هو داخِلِيٌّ) وموضوع مستقل (ما هو خارجِيٌّ). هو لا ينفي أنَّنَا أحيانَاً نختبرُ أنفُسَنَا بوصفِنَا ذوات واعية تتعلَّق بالموضوعات (بالأشياء) من عِندَ سبيلِ حالاتٍ قَصْدِيَّةٍ مثل الرَّغبات، الاعتقادات، التَّصَوُّرات.. إلخ.. إلخ، غيرَ أنَّهُ ينظُر إلى ذلك باعتبارِهِ وضعيَّة مُشتَقَّة وبين-بينِيَّة تفترضُ وجود طريقة أكثر أساسيَّة للكينونة-في-العالم ليس لها أن تُفهم، أو تُستَوعَب، وِفقَ مفهوم/مُصطلح ثُنائيَّة الذَات والموضوع.
إنَّ النَّظريَّة الإدراكيَّة Cognitivism، أو أنموذج معالجة المعلومات الخاص بالعقل information-processing model of the mind، هي أحدث وأمتن نُسخة فلسفيَّة لفكرة التَّمثيل، أو التَّمثُّل، الذِّهنيِّ للعالم وأشيائه وموضوعاته. وتَستَقِدِمُ تلك النَّظريَّة الفكرة إيَّاها ومن ثَمَّ هي تسعى، عبر تَمثُّلات منطقيَّة شكليَّة، إلى تفسير النَّشاط الإنساني بُناءً على مُرَكَّبٍ مُعقَّدٍ من رَمُوزٍ منطقيَّةٍ مُستقلَّةٍ تُمثِّلُ عناصرَ مُختَلِفَة، سِمات مختلفة، أو أُسُس أوَّليَّة في هذا العالم. ذلك المدخل يَشْرُطُ تَحتَانِيَّاً علوم تحليل القرارات، النَّحو التَّحويليtransformational grammar، الأنثروبولوجيا الوظيفيَّة وعلم النَّفس الإدراكي، فضلاً عن الاعتقاد في إمكان برمجة أجهزة الكومبيوتر الرَّقَمِيَّة لِتُبْدِي ذكاءً. في مقابل ذلك تُساءِلُ وِجهة نظر مارتن هايدقر الفلسفيَّة بشأنِ طبيعةِ الوجود-في-العالم، غير التَّمثيليَّة وغير القابلة للصِّياغة في شِكُول منطقيَّة نَمَطِيَّة، بِقُوَّةٍ مُضاعَفَةٍ، ذلكَ الأُنموذجَ الكمبيوترِيَّ للعقل.
3. الكُلَّانيَّة النَّظريَّةTheoretical Holism : إنَّ رأي أفلاطون القائل إنَّ أَيَّمَا معنى لأيِّ ولكُلِّ شيءٍ تفعله الكائنات الإنسانيَّة مُؤسَّسٌ على نظريَّةٍ ضمنيَّة، كما وجهة نظر ديكارت وهوسرل المشتركة التي مُؤَدَّاهَا أنَّ تلك النَّظريَّة تُمثَّلُ في أذهاننا كحالاتٍ قصديَّة وقوانين وقواعد لإنشاء علائق فيما بين تلك الحالات، تقودان، معاً، إلى رأيٍ مفادُهُ إنَّهُ حتَّى ولو تكن خلفيَّةٌ مُشتركةٌ من الممارسات ضروريَّة لاستحصال المعنى من الأشياء يظلُّ بِوُسعِ الواحدِ مِنَّا الاطمئنان إلى أنَّ الواحدَ مِنَّا سيكن بوسعِهِ تحليل تلك الخلفيَّة بُناءً على مزيدِ من تلك الحالات القصديَّة. ذلك مُؤَدَّاهُ، بعبارةٍ أخرى، أنَّهُ ما تدُم خلفيَّة تلك الممارسات المشتركة تحتوي على معرفة سينبغي عليها، والحالُ كذلك، أن تكُن مُؤسَّسةً على اعتقاداتٍ ضمنيَّةٍ وأنَّهُ ما تَدُم الممارسات إيَّاها منطويةً على مهاراتٍ معيَّنة سيتوجَّبُ عليها، والحالُ كذلك، أن تَتَولَّدَ عن قوانين (نظريَّة) ضمنيَّة. ذلك يقود إلى الرأي الزَّاعم بأنَّ هنالك شبكة من كُلَّانيَّة من الحالات القصديَّة، نظام اعتقادٍ ضِمنِيٍّ يُفترضُ أنَّهُ كائنٌ تحت كُلِّ وجهٍ من أوجُهِ النَّشاط الإنسانيِّ اليوميِّ المُعتاد أو الرَّاتب وأنَّهُ لا تُستثنَى من شِمولِ (أو حتَّى "قبضة") ذاكَ النِّظام الضِّمنِيِّ، بحسبِ الرَّأيِ إيَّاهُ، حتَّى الخلفيَّة اليوميَّة اللَّا ذِهنيَّة لمُختَلَفِ ممارساتنا الإنسانيَّةْ. إنَّ تلك "المعرفة الضِّمنيَّة"- أو ما يدعوها هوسرل باسم "القَصدِيَّة الأُفُقِيَّة"- كانت هي دومَاً الأرضيَّة التي ينطلقُ منها فِكر الإدراكِيِّين المُتَّسِقِين Consistent Cognitivists.

يعترضُ مارتن هايدقر على تلك الحركة الفلسفيَّة فيُنفِي الافتراض التَّقليدي بأنَّهُ ينبغي أن تكُن هنالك نظريَّةٌ لكُلِّ مجالِ ممارسةٍ مُنظَّم وبأنَّ ذلكَ ينطبقُ، على وجهِ التَّعيين، على عالمِ الحِسِّ البشريِّ العام وهو يُشدِّدُ في هذا المُتَّصَلِ على ضرورة عودتنا لظاهرة النَّشاط اليومي الإنساني ومِن ثَمَّ الكفَّ عن دَقِّ أجراسِ تنويعاتٍ مُختلفةٍ على التَّقابلات الفلسفيَّة التَّقليدِيَّة فيما بين المُحايث والمُتَجَاوِز (المُتَعَالِيْ)، التَّمثيل والمُمَثَّل، الذَات والموضُوع، كما التَّقابلات في داخل الذَّات الفرديَّة فيما بين الشِّعور واللاشعور (الوعي واللاوعي)، ما هو جَلِيٌ وما هو ضِمنِيٌّ وما هو انعِكاسيٌّ وتأمُّلِيٌّ وما هو غير انعكاسيٍ وتأمُّلِيْ. لا يقُول هايدقر هنا إطلاقاً ما يجدُهُ بيتر استراوسون Peter Strawson، بشيءٍ من التَّنازُلِ، "محتمَلاً"، أو "احتماليَّاً"، في أعمال هايدقر الفلسفيَّة والذي هو، بالذَّات، الزَّعم أنَّنا، كأفرادٍ إنسانِيِّين، لدينا "استيعاب غير تأمُّلي ولاشعوريٍّ بِوُسْعٍ كبيرٍ للهيئة الأساسيَّة العامَّة المُنطوية على مفاهيم أو مقولات وِفقَها نُفكِّر بشأنِ العالم وأنفُسِنَا" (بيتر استراوسون، استعراض الكتاب المُسمَّى "مارتن هايدقر" بقلم جورج اشتاينر George Steiner، مَجلَّة نيويورك لاستعراض الكُتُب، 19 أبريل 1979م؛ حروف الطِّباعة المائِلَة من فِعلِ مُؤَلِّفِ هذهِ المُقَدِّمَةْ). ذلكَ، بِحسبِي، قد يُصَيِّرُ فَهْمَنَا للعالم (مُجَرَّدَ) نظامٍ للاعتقاد قد تعتَنِقُهُ ذاتٌ فرديَّةٌ ما أو أُخرَىْ وهو، عِندِي، ذاتُ الرَّأي الذي يعتنِقُهُ هوسرل والإدراكيُّون ويرفُضُهُ هايدقر.
4. الانفصال والموضوعيَّة Detachment and Objectivism: من الإغريق ورثنا ليس فقط افتراضنا أنَّنا بوسعنا الحيازة على المعرفة النَّظريَّة التَّامَّة بكُلِّ مجال، بما في ذلك حتى مجال أنشطتنا الإنسانيَّة، وإنَّمَا أيضاً افتراضنا أنَّ وجهة النَّظر النَّظريَّة المنفصلة متفوِّقَة على وجهة النَّظر العمليَّة المُنخَرِطَةْ. وَوِفقَاً للتَّقليد الفلسفي الغربي، عقلانيَّاً كان ذاكَ أو تجريبيَّاً، فقط عبر نهج التَّأمُّل المنفصل يكن بوسعنا اكتشاف الحقيقة. فمِن ديالكتيك أفلاطون، الذي يصرفُ الذِّهنَ بعيدَاً عن عالمِ "الظِّلالِ" اليوميِّ، إلى إعداد ديكارت نفسَهُ للتَّفلسف خَلَل إغلاقِها في غرفةٍ دافئةٍ حيثُ يكن هو حُرَّاً من الارتباط والانخراط والعاطفة، كما إلى اكتشافات ديفيد هيوم التَّحليليَّة الغريبة عِند حُجرةِ بحثِهِ الفلسفيِّ، التي هو ينساها حينما يذهبُ خارِجَاً لممارسةِ لعبة البلياردو، افترض الفلاسفة الغربيون أنَّهُ فقط خلال الانسحاب من الاهتمامات العمليَّة اليوميَّة قبلَ وصف الأشياء والنَّاس يكُن بوُسعِهِم اكتشاف الكيفيَّة التي حقَّاً عليها الأشياء والنَّاسْ.

قد ساءَلَ البراغماتيُّون The Pragmatists ذاكَ الرَّأي وبذلك المعنى يمكن النَّظر إلى مارتن هايدقر على أنَّهُ مُفكِّرٌ طبع الاستبصارات التي سبق وأن احتوت عليها كتابات فلاسفة براغماتيِّين مثل نيتشة، بيرس، وليام جيمس وجون ديوي، بميسمٍ راديكاليٍّ جَلِيْ. ونُشيرُ هنا إلى أنَّهُ من الرَّاجح كثيرَاً أنَّ مارتن هايدقر ورفيقه الطالب جورج لوكاكس George Lukacs كانا قد تعرَّضَا لآثار الفلسفة البراغماتيَّة الأمريكيَّة عبر إيميل لاسكEmail Lask (اقترح هانز-جورج قادامير Hans-George Gadamer ذلك لي. وأُشيرُ هنا إلى أن هايدقر شكر لاسك على استبصارِهِ بأنَّ مقولاتنا تتطابق ووظائف "تَتجَذَّع عِندَنَا من استخدام تعابير في الفِكر والمعرفة المُعاشَين" (Gasamtausgabe, Volume 1, 227)، كما إلى أنَّهُ يُشيرُ إلى الفلسفة البراغماتيَّة ويدعم قولها بنسبيَّة بُنَىْ المعرفة ونسبها تلك النِّسبيَّة إلى سُبلِ المعاش وذلك في محاضراتِهِ في العام 1921م (Gesantausgabe, Volume 61, 135)..).
5. الفرديَّة المنهجيَّة Methodological Individualism: يَتَّبِعُ مارتن هايدقر ولهلم ديلثِي Wilhelm Delthey في تأكيدِهِ أنَّ معنى وتنظيم ثقافةٍ ما أو أخرى ينبغي له أن يُؤخَذَ على أنَّهُ المعطى الأساسي (القاعدي) في العوم الاجتماعيَّة والفلسفة وأنَّهُ ليس بوُسعِهِ أن يُرْجَعَ جذرُهُ إلى نشاط الذَّوات الفرديَّةْ. عليهِ هو يرفض فلسفة الفرديَّة المنهجيَّة التي يمتدُّ أثرُها من ديكارت إلى هوسرل والوجودِيِّين من أمثال جون بول سارتر ما قبل الماركسي وعدَّة فلاسفة اجتماعيِّين أمريكيِّين مُعاصرينْ. وفي تأكيدِهِ على السِّياق الاجتماعي باعتبارِهِ الأساس الأقصى للمفهُوميَّة intelligibility يُشبِهُ مارتن هايدقر ذلك النَّاقد الآخر من القرن العشرين للتَّقليد الفلسفي الغربي الذي هو لُدفيغ فِيتْقَنِشْتَايِنْ Ludwig Wittgenstein فهما يشتركان في موقفٍ فلسفيٍّ مُؤَدَّاهُ أنَّ معظم المشاكل الفلسفيَّة يمكنُ "تذويبها dis-solve" عبرَ وصفٍ لممارسات اجتماعيَّة يوميَّةْ.

عِندَ هذه النُّقطة من المؤكَّد أنَّ شَخصَاً ما، أو آخر، سيعترضُ علينا هنا بقولِهِ إنَّهُ رُغم اهتمامه بممارساتنا اليوميَّة المشتركة يستخدم مارتن هايدقر، في تفلسُفِهِ، في افتراقٍ واضحٍ من فِيتقَنِشتَايِنْ، لغةً جَدَّ غيرَ عاديَّةْ. لِمَ يحتاجُ هايدقر إلى لغة اصطلاحيَّة خاصَّة للحديث عن حسِّنا العام المشترك؟ الإجابة على هذا السُّؤال تُضيءُ لنا ما ينطوي عليهِ ذاك الافتراق.

لنبدأ هنا بالقولِ إنَّ هايدقر وفِتقِنِشْتَايِنْ لهما فهمان مختلفان جِدَّاً لخلفيَّة النَّشاط البشري اليومي. فَفِتْقِنِشْتَايِنْ على قناعةٍ بأنَّ الممارسات التي تُكوِّن الشَّكل الإنساني للحياة ليست هي سوى تشابُكاتٍ لا رجاءَ فيها. يقُول فِتْقِنِشْتَايِنْ عن ذلك: "أنَّى للسِّلُوكِ الإنسانيِّ أن يُوصف؟ بالتَّأكيد فقط عبر إظهارِ أفعالِ ثُلَّةٍ مُتنوِّعَةٍ من البشر فكُلُّهم مختلفُونَ معاً. ليس ما قد يقولُهُ إنسانٌ واحدٌ الآن وإنَّمَا كُلُّ ذاكَ "الهَرْدَبِيْسِ" من الأفعال هو ما يُشكِّلُ الخلفيَّة التي نرى إزاءَهَا فعلاً ما، أو آخر؛ تلك الخلفيَّة التي تَشْرُطُ لنا أحكامنا، مفاهيمنا وردود أفعالنا" (لُدفيغ فِتْقِنِشْتَايِنْ، ملاحظات حول فلسفة علم النَّفس، مُجلد 2، تحرير ه. ف. فون راين وهيكي نِيمَان، (شيكاغُو: مطبعة جامعة شيكاغُو، 1980م) 108، 629 #).

ويُحذِّر فِتْقِنِشْتَايِنْ في هذا الصَّدد من أيِّ مُحاولةٍ لترتيب وتنسيق ذاكَ "الهَرْدَبِيْس" حيثُ يقُولُ هُنَا إنَّهُ ""ليس بسبيلِ إيضاحِ بل قُبُولِ الظَّواهر" إنَّ ذلكَ "ما هو صعبٌ" (لُدفِيغ فِتْقِنِشْتَايِنْ، ملاحظات حول فلسفة علم النَّفس، مُجلد 1، تحرير ف. إ. م. أنسكوم وق. فون رايت (شيكاغو، مطبعة جامعة شيكاغو، 1980م)، 97، 509 #).

في مُقابل ذلك يعتقد مارتن هايدقر أنَّ خلفيَّة الحِسِّ المُشترك تِلكَ لها بُنية واسعة من شأنِ تحليلٍ وُجُودِيٍّ ما، أو آخرٍ، بَسْطَهَا أو تَوصِيْفَهَا. وتلك الخلفيَّة ليست هي، بحسب مارتن هايدقر، ما نحنُ نتعامل معه في العادة ولنا كلماتٌ لَهُ لذا يقتضي الحديثُ عنها، وفقَ مارتن هايدقر، مِعجم لغوي خاص أو استثنائي.

يُواجِهُ سيرل Searle ذاتَ المشكلة حينما يحاول التَّحدُّث عن الخلفيَّةِ إيَّاهَا ومن ثَمَّ هو يقُولُ عنها إنَّهُ من العسيرِ حقَّاً العثورَ على مُصطلحاتٍ لغويَّةٍ عادِيَّةٍ لوصفِهَا وإنَّ الواحد مِنَّ قد يتحدَّث، عِند الإشارة إليها، بغُموضٍ والتباسٍ، عن "ممارسات"، "مقدرات" و"مواقف" أو هو قد يتحدَّث حينذاك، على نحوٍ مُوحٍ بيدَ أنَّهُ مُضَلِّل، عن "افتراضات" أو "مُسَلَّمَات" وإنَّ تلك المصطلحات الأخيرة يجب أن تكُن خاطئةً حرفِيَّاُ وذلكَ لأنَّهَا، بحسبِ رأيِهِ، "تُضْمِرُ أداةَ التَّمثيل" وإنَّ "حقيقَةَ أنَّهُ ليس هنالكَ قاموسٌ لغويٌّ طبيعِيٌّ لمناقشة الظَّاهرة المعنسَّة هُنَا وحقيقةَ أنَّنا ننزع، في هذا السِّياق، إِلى السِّقُوطِ في فَخِّ استخدامِ قامُوسٍ لغوِيٍّ قَصْدِيٍّ يجبُ عليها أن تُثِرْ اهتمامَنَا" وذلكَ، وِفْقَهُ، "لأنَّهُ ليس هنالك، ببساطة، قاموسٌ لغويٌّ أَوَّلِيٌّ وجَلِيٌّ تماماً لتوصيف تلك الخلفيَّة إذ هي خلفيَّة لا مرئيَّة لعين القَصدِيَّة، تماماً مثلما تكن العين التي ترى لا مرئيَّة بالنِّسبة لنفسِها" (سيرل، القَصْدِيَّة، ص. 156-157).

عندما يحلُّ مارتن هايدقر، على سبيل المثال، مصطلحات تقنيَّة مثل "الدُّنيويَّة"، "الذي هو مُتَّجِهٌ إلى.." و"الذي هو-من-أجلِهِ" مَحلَّ مصطلحات يوميَّة من أمثال "السِّياق"، "الهدف" و"الغاية" إنَّمَا يكن هو حينذاك مُتصَارِعَاً مع تلك المشكلة بالذَاتْ.

يناضل هايدقر من أجل تحرير نفسَهُ من الافتراضات الفلسفيَّة الغربيَّة التَّقليديَّة وقاموسِها اللُّغَوِيِّ اليوميِّ وذلك في إطار مسعاه إلى العودة إلى الظَّاهرة The phenomenon. ومن بين الفلاسفة التَّقليديِّين يُعجبُ هايدقر كثيراً بالفيلسوف اليوناني أرسطو الذي كان، بحسبِهِ، "آخر الفلاسفة الذين كانت لديهم عيون ليروا بها و، أكثرَ حسْمَاً من ذلك، الطَّاقة والمثابرة على إرغام بحثِهِ الفلسفيِّ على العودة إلى الظَّاهرة.. ذلك فضلاً عن عدم ثقتِهِ، من الأسفل صُعُدَاً إلى الأَعلى، في كُلِّ التَّنظيرات والتَّخمينات الفلسفيَّة الخياليَّة، الفضفاضة أو المُفَخَّمَة، مهما تكن تلك قريبةً إلى قلبِ الحسِّ البشريِّ العام المُشتَرَكْ" (هايدقر، مشاكل فينومينولوجيَّة أساسيَّة. ذلك الكتاب مُؤَسَّس على كورس المحاضرة التي قَدَّمَها مارتن هايدقر في العام 1927م الذي هو ذاتُ العامِ الذي نشر هو فيهِ كتابَهُ المُسَمَّى الكينونة والزَّمان). غير أنَّهُ حتَّى أرسطو ذاتهُ كان واقعاً تحت تأثير أفلاطون ومن ثَمَّ لم يكن هو راديكاليَّاً بما يُكفِيْ. يقترحُ مارتن هايدقر، إذَاً، البدء، مرَّة أخرى، في التَّفلسُف، بالفهم الكائن في النَّشاطات البشريَّة اليوميَّة المُشتركَة التي نحنُ مُقيمُونَ فيها؛ ذلك هو فهمٌ يقول عنه هايدقر إنَّهُ الأقرب إلينا ومع ذلك هو الأبعد مِنَّا. ويُفتَرَضُ هنا من مُؤَلَّفِهِ المُسمَّى "الكينونة والزَّمان" أن يُبرِزَ ما نحنُ قد سبق لنا وأن نَكُن على أُلفَةٍ معه (رغم أنَّهُ في تلك الحالة لا يُجْعَلُ ذلك من الوضوحِ المُفرطِ بحيثُ يُمكنُ معه بِوُسْعِ كائنٍ من كوكب المرِّيخ أو كومبيوتر أن يتمكَّنَ من معرفتِهِ) ومن ثَمَّ يتسنَّى لنا، بفعلِ ذلك، تعديل فهمنا لأنفسنا وبالتَّالي تبديل عين طريقة كينونتنا.

ذلك قد يُشكِّلُ سبباً كافياً لدراسة كتاب "الكينونة والزَّمان". غير أنَّ مارتن هايدقر لم يُرِدْ، في ذاكَ الكِتاب، فقط تنقية المجال الفلسفي الغربي من "شوائب" التَّشَوُّهات الفلسفيَّة التَّقليديَّة ومشاكلها الزَّائفة إذ هو لديهِ توصيفٌ إيجابيٌّ للكينونة الإنسانيَّة الأصيلة ومُقترحٌ منهَجِيٌّ إيجابيٌّ بشأنِ الكيفيَّةِ التي تَجِبُ وِفقَها دراسة الكائنِ الإنسانِيِّ على نحوٍ مُتَّسِقٍ، مع ذاتِهِ، على الأقل. إنَّ فهمَهُ للوجُودِ الإنسانيِّ وطريقته التَّأويليَّة في دراسة الكينونة-في-العالم بالنِّسبة للكائن الإنساني خَلَّفَا، معاً، أثرَاً كبيرَاً في الحياة والفكر المُعاصِرَينْ. ولئن يفهم النَّاس أنفسهم وأفعالهم على نحوٍ ذَرِّيٍّ، شكليٍّ، ذاتيٍّ، أو موضُوعيٍّ، يظلُّ فكر مارتن هايدقر مُمَكِّنَاً لهم على التَّعرُّفِ على ممارساتٍ بديلةٍ مناسبةٍ وطُرُقٍ للفهم والفعلِ مُتاحة غير أنَّها مُهمَلَة في ثَقافتنا الغربيَّةْ. ومن شواهدِ ذلكَ أنَّهُ عِند مؤتمرٍ بمدينة بيركلي الأمريكيَّة لإحياء الذكرى المائة لميلاد مارتن هايدقر ليس فقط فلاسفة وإنَّمَا أيضَاً أطبَّاء، مُمرِّضات، معالجون نفسيُّون، دارسون لعلم اللاهوت، مستشارون إداريُّون، تربويُّون، محامون وعلماء كومبيوتر شاركوا في نقاشٍ حول الطُّرقِ التي أثَّرَ بها فكر مارتن هايدقر على عملِ كُلٍّ منهم (ه. دريفوس وم. زيمرمان (تحرير)، تطبيقات هايدقر، إفانستون، مطبعة جامعة نورث ويسترن، 1991م). كذلك معظم المفكرين البارزين في مجال الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية يقرِّون بدينٍ لهم لمارتن هايدقر وقد قال ميشيل فوكو في هذا السياق: "قد كان هايدقر دوماً، بالنِّسبةِ لي، الفيلسوف الرَّئيس.... إنَّ كُلَّ تطوُّري الفلسفيِّ كان قائماً على قراءتي لمارتن هايدقر (ميشيل فوكو، "مقابلة أخيرة"، راريتان، صيف العام 1985م، 8.
“Le Retour de la Morate,
مقابلة معه أُجريت من قِبَلِ قِيلِي بارباديت Gille Barbadette في Le Novelles، 28 يونيو 1984م).

وعند مطلع امتهانه للكتابة الفكرية شكَّ جاك دريدا في أنَّه ما كان له أن يتمكَّن من كتابة أيِّ شيء ممَّا هو قد كتبه ممَّا لا يكن هايدقر قد سبق له وأن فكَّرَ فيهِ. أيضاً بيير بورديو يقولُ بذلك الصَّدد إن هايدقر قد كان في الفلسفة "حُبَّهُ الأوَّل". ونقولُ هنا إنَّ مفهوم بيير بوردو الخاص المهم بشأن "الحقل الاجتماعي" له دينٌ غير مباشر لمارتن هايدقر واتاه عن طريق موريس ميرلو-بونتيMaurice Merleau-Ponty الذي أقرَّ بأثر كتاب مارتن هايدقر المسمَّى "الكينونة والزَّمان" على كتابِهِ هو المُسمَّى "فينومينولوجيا الإدراك". ليس ذلك، فحسب، بل حتَّى يورقِن هابرماس الذي بدأ مساره الفلسفي تحت تأثير هايدقر، بيد أنَّهُ نأى بنفسِهِ عن ذلك التَّأثير وطوَّرَ لنفسِهِ خطَّاً فلسفيَّاً أكثرَ تقليديَّةً، يحكُمُ على كتاب "الكينونة والزَّمان" بأنَّهُ رُبَّما "يُشكِّلُ أعمقَ نقطةِ افتراقٍ في تاريخ الفلسفة الألمانيَّة منذ عهد هِيقَلْ" (يورقِن هابرماس، العمل ورؤية العالم: مسائل هايدقر الخلافيَّة من منظور ألماني، في الكتاب المُسمَّى "المُحافظة الجَّديدة: النَّقد وحوار المؤرِّخين"، كامبردج أيم آي تِي بريس، 1990م).

آناء دراستي وتدريسي لكتاب "الكينونة والزَّمان" لمُدَّة 25 عاماً- مُحاوِلاً في ذلك تبيين وشرح أُطروحات مارتن هايدقر الفلسفيَّة، اختبار تلك الأُطروحات إزاءَ مُختَلَفِ الظَّاهرات والدِّفاع عنها ضدَّ مواقف مُضَادَّة لها في الفلسفة القاريَّة والتَّحليليَّة المعاصرة- توصَّلتُ إلى نتيجةٍ مُؤَدَّاهَا أنَّ مَديحَاً مثل ذاكَ لمارتن هايدقر له ما يُبَرِّرُهُ. والتَّعليقُ المُفصَّل على كتاب "الكينونة والزَّمان" الذي سيلِي هذه المُقدِّمة مَعْنِيٌّ بِهِ تمكينَ قُرَّائِهِ من الحُكمِ على ذلكَ بأنفُسِهِمْ.

[تمَّت التَّرجمة في 29 مايُّو 2024م].

References:
1. Martin Heidegger, Being and Time (The English and the original German Editions).
2. Martin Heidegger, “The Origin of the Work of Art” in Poetry, Language, Thought.
3. Edmund Husserl, Ideas Pertaining to Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy (The Hague: NIJHOFF,1982).
4. John Searle, Intentionality, An Essay in The Philosophy of Mind (Cambridge: Cambridge University Press, 1983); Hubert L. Dreyfus, ed., Husserl, Intentionality, and Cognitive Science (Cambridge: Bradford Books/MIT Press, 1982).
5. Edmund Husserl, The Crisis of The European Sciences (Evanston: Northwestern University Press, 1970).
6. Peter Strawson, Review of Martin Heidegger by George Steiner, New York Review of Books, 19 April 1979.
7. Ludwig Wittgenstein, Remarks on The Philosophy of Psychology, Vol. 2, edited by G. H. Von Wright and Heikki Nyman (Chicago: University of Chicago Press, 1980).
8. Ludwig Wittgenstein, Remarks on The Philosophy of Psychology, Vol. 1, edited by G. E. Anscombe and G. H. Von Wright (Chicago: University of Chicago Press, 1980).
9. Heidegger, Basic Problems of Phenomenology.
10. H. E. Dreyfus and M. Zimmerman, eds., Applied Heidegger (Evanston: Northwestern University Press, 1991).
11. Michel Foucault, “Final Interview”, Raritan, Summer 1985, 8. “Le Retour de la Morale”, interview conducted by Gilles Barbadette, Les Nouvelles, 28 June 1984.
12. Jurgen Habermas, “Work and Weltanschauung: The Heidegger Controversy from a German Perspective”, in The New Conservatism: Cultural Criticism and the Historians’ Debate (Cambridge: MIT Press, 1990).

حاشية:

* المادَّة المترجمة هنا هي مُقدِّمَة كتاب هيوبيرت دريفوس Hubert Dreyfus المُسمَّى:
Hubert Dreyfus, Being-In-The-World- Commentary on Heidegger’s Being And Time, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, London, England, 1993.

إبراهيم جعفر

khalifa618@yahoo.co.uk  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ف ت ق ن ش ت ای ن فی الفلسفة ة الإنسانی ة فیما بین فی هذا الس فی العالم ة الغربی ة الیومی على سبیل الذی کان على نحو ینبغی ل الذی هو ومن ث م الذی ی غیر أن التی ت فی ذلک یکن هو إلى أن أو آخر ة التی

إقرأ أيضاً:

السيسي: “تم (خلال المباحثات مع أردوغان) استعراض الأزمة في السودان، والجهود التي تبذلها مصر بالتعاون مع مختلف الأطراف لوقف إطلاق النار وتغليب الحل السياسي”

إبراهيم الخازن / الأناضول

قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأربعاء، إن زيارته إلى تركيا تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون والتكامل بين البلدين، معتبرا أن الأزمات والتحديات التي تواجهها المنطقة تؤكد أهمية التنسيق والتعاون بينهما.

جاء ذلك في مؤتمر صحفي عقده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع السيسي خلال زيارة بدأها الرئيس المصري إلى أنقرة الأربعاء، وهي الأولى له منذ وصوله للسلطة صيف 2014.

وقال السيسي إنه يعرب عن سعادته البالغة بزيارته الأولى إلى تركيا ولقائه الرئيس ‎أردوغا‎ن.

واعتبر أن "زيارته تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون والتكامل بين البلدين".

** "ازدهار مستمر" بالعلاقات

ونوه الرئيس المصري بـ"الازدهار المستمر" في العلاقات بين الشعبين المصري والتركي خلال السنوات الماضية، لاسيما الحركة السياحية المتنامية.

ولفت كذلك إلى العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين "التي تشهد نموا مضطردا"، فضلا عن زيادة الاستثمارات التركية في مصر، خاصة في مجال التصنيع.

وأكد على رغبة البلدين "الصادقة" في المزيد من تطوير العلاقات والتعاون، وللبناء على نتائج زيارة الرئيس أردوغان إلى مصر في فبراير/ شباط الماضي.

** مجلس التعاون "نقلة نوعية"

وعن نتائج زيارته، قال السيسي إنه ترأس والرئيس أردوغان في أنقرة اليوم الاجتماع الأول لمجلس التعاون الإستراتيجي رفيع المستوى بين مصر وتركيا، الذي يهدف لإحداث "نقلة نوعية" في كافة المجالات، وأبرزها التجارة والاستثمار والسياحة والنقل والزراعة.

وأضاف: "كما شهدنا التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم، التي تهدف إلى وضع إطار مؤسسي جديد للتعاون بين بلدينا".

ولفت السيسي إلى أنه تم خلال مباحثاته في أنقرة، اليوم، "التأكيد على أهمية تعزيز الاستثمارات المشتركة بين البلدين، ومنح التسهيلات الممكنة لرجال الأعمال الأتراك في ظل مناخ الاستثمار المتميز بمصر، والذي مكنهم من زيادة حجم أعمالهم وبيع منتجاتهم في مصر، والتصدير للخارج".

وأفاد كذلك بأنه تم "التأكيد كذلك على أهمية تيسير حركة التجارة البينية، وتوسيع نطاق اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين بهدف رفع الإجمالي السنوي للتبادل التجاري بينهما إلى 15 مليار دولار خلال السنوات المقبلة".

وفي أغسطس/ آب 2023، أكد وزير التجارة التركي عمر بولاط، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره المصري أحمد سمير صالح، بالقاهرة أن أنقرة تهدف لرفع حجم التجارة مع مصر إلى 15 مليار دولار خلال 5 أعوام، بعد بلوغه 10 مليارات في 2022.

** القضايا الإقليمية

وعن فحوى محادثاته في أنقرة بشأن القضايا الإقليمية، قال الرئيس المصري: "ما تعيشه منطقتنا وعالمنا اليوم من أزمات وتحديات بالغة توضح أهمية التنسيق والتعاون الوثيق بين مصر وتركيا".

وأضاف: "من هذا المنطلق، ناقشت مع الرئيس أردوغان سبل التنسيق والعمل معا للمساهمة في التصدي للأزمات الإقليمية، وعلى رأسها معالجة المأساة الإنسانية التي يتعرض لها إخواننا الفلسطينيون في غزة فـي كارثة غير مسبوقـة قاربت علـى العـام".

وتابع: "يهمني في هذا الصدد إبراز وحدة موقفي مصر وتركيا حيال المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، ورفض التصعيد الإسرائيلي الحالي في الضفة الغربية، والدعوة للبدء في مسار يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة".

وأشار في هذا السياق إلى التعاون المتواصل بين مصر وتركيا منذ بداية الأزمة لـ"إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة على الرغم من المعوقات المستمرة التي تفرضها إسرائيل".

وبشأن الوضع في ليبيا، قال الرئيس المصري: "تبادلنا وجهات النظر واتفقنا على التشاور بين مؤسساتنا لتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في ليبيا".

وأضاف: "تم التأكيد على أهمية طي صفحة تلك الأزمة الممتدة من خلال عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية بالتزامن، وخروج القوات الأجنبية غير المشروعة والمرتزقة من البلاد، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة، حتى يتسنى لليبيا الشقيقة إنهاء مظاهر الانقسام وتحقيق الأمن والاستقرار".

وحول الوضع في سوريا، قال السيسي: "أكدنا تطلعنا إلى التوصل لحل لتلك الأزمة (...) التي أثرت (سلبا) على الشعب السوري الشقيق بشكل غير مسبوق".

وأعرب الرئيس المصري عن "ترحيبه بمساعي التقارب بين تركيا وسوريا؛ حيث نهدف في النهاية إلى تحقيق الحل السياسي ورفع المعاناة عن الشعب السوري وفقا لقرارات مجلس الأمن في هذا الشأن مع الحفاظ على وحدة الدولة السورية وسيادتها وسلامة أراضيها والقضاء على الإرهاب".

وبخصوص الحرب المستمرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل/ نيسان 2023، قال الرئيس المصري: "تم (خلال المباحثات مع أردوغان) استعراض الأزمة في السودان، والجهود التي تبذلها مصر بالتعاون مع مختلف الأطراف لوقف إطلاق النار وتغليب الحل السياسي".

ولفت إلى أن المباحثات تطرقت كذلك إلى الأوضاع في القرن الإفريقي وخاصة بالصومال؛ حيث "اتفقنا على ضرورة الحفاظ على وحدة الصومال وسيادته وسلامة أراضيه ضد التهديدات التي تواجهه".

** التهدئة بمنطقة شرق المتوسط

وأعرب السيسي عن تطلعه إلى "استمرار التهدئة الحالية في منطقة شرق المتوسط والبناء عليها وصولا إلى تسوية الخلافات القائمة بين الدول المتشاطئة بالمنطقة؛ ليتسنى لنا جميعا التعاون وتعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة بها.. لتحقيق الرفاهة لشعوب المنطقة أجمع".

وفي ختام حديثه، أعرب الرئيس المصري كذلك عن "تطلعه لاستقبال الرئيس أردوغان مجددا في مصر لاستمرار البناء على تواصلنا المباشر بما يحقق مصالح شعبينا الشقيقين والمنطقة بأسرها".

وفي وقت سابق الأربعاء، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأربعاء، نظيره المصري، بمراسم رسمية في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة.

   

مقالات مشابهة

  • احذر “بدائل السكر”.. قد يسبب لك تجلّط الدم أو السكتة القلبية!
  • تقرير يكشف عن أهم الشخصيات في العالم التي من الممكن أن تصل إلى لقب “تريليونير”
  • قصور الثقافة تصدر كتاب "جدل الأمكنة وصراع الهُويَّات" لمحمود ذكري
  • لماذا يشكل “نتساريم” أكبر معضلة في مراقبة إسرائيل لغزة؟ الدويري يعلق
  • “الخليج العربي للنفط” تعرض نتائج دراسة التخلص من المياه المصاحبة في حقل السرير
  • “وول ستريت جورنال”: لماذا لا تؤثر الاحتجاجات الإسرائيلية في موقف نتنياهو؟
  • “الحريديم”: التجنّد في “الجيش” أسوأ علينا من الموت
  • السيسي: “تم (خلال المباحثات مع أردوغان) استعراض الأزمة في السودان، والجهود التي تبذلها مصر بالتعاون مع مختلف الأطراف لوقف إطلاق النار وتغليب الحل السياسي”
  • “الزادمة” يؤكد على الرسالة الهامة التي يحملها الإعلام في خدمة قضايا المجتمع المختلفة
  • “حماد” يبحث مع عمداء بلديات الجنوب سبل حل المشكلات التي تواجه سير عمل البلديات