الشيخ ياسر مدين يكتب: كيف وصلتنا السُنة (12)
تاريخ النشر: 27th, July 2024 GMT
رأينا كيف أن السنة دُونت منذ العهد النبوى إلى أن وصلنا إلى جيل تابعى التابعين، وأشرنا إلى كتاب الإمام مالك المعروف بالموطَّأ، ولم يكن هو وحده مَن دوَّن، ولا كتابه هو الكتاب الوحيد، بل عاصره آخرون، منهم مَعْمر بن راشد (ت 153هـ) وله كتاب «الجامع»، وهو أقدم من «موطأ مالك»، وعبدالله بن المبارك (ت 181هـ) وله كتب حديثية مثل: «الزهد والرقائق»، و«الجهاد»، و«المسند»، وتلميذ الإمام مالك عبدالله بن وهب المصرى (ت 197هـ)، ومن كتبه «الجامع» و«الموطأ» أيضاً، ووكيع بن الجراح (ت 197هـ)، ومن كتبه كتاب «الزهد»، وأبوداود الطيالسى (ت 204هـ)، وله كتاب «المسند».
واستمر التصنيف فى السنة حتى وصلتنا كتب موسوعية كبيرة مثل «مسند الإمام أحمد بن حنبل» (ت 241هـ)، وقد صنف فى السنة غيره أيضاً، ككتابه «فضائل الصحابة»، وغيرهما من الكتب، إلى أن نصل إلى البخارى الإمام الكبير محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256هـ)، صاحب الكتاب المشهور، وله غيره فى السنة ككتاب «خلق أفعال العباد»، و«بر الوالدين»، و«الأدب المفرَد»، وليس المقصود بالأدب هنا ما يتصل بالفنون الأدبية المعروفة، وإنما المقصود به الآداب التى تندرج فى عصرنا هذا تحت «البروتوكول» و«الإتيكيت».
ولم يكن التصنيف فى السنة قاصراً على علماء الحديث، والفقهاء الملتزمين بالسنة والآثار، بل كان لمدرسة أهل الرأى فى الفقه التى يترأسها الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان رضى الله عنه (ت 150هـ) كتب فى الحديث، فها هو القاضى أبويوسف (182هـ) كان له كتاب فى السنة اسمه «الآثار»، وهذا الكتاب جمع فيه الأحاديث التى أخذها عن شيخه الإمام أبى حنيفة، وزاد عليها ما يرويه عن غيره، فهو فى أصله «مسند الإمام أبى حنيفة» مع زيادات، فهو كتابان فى كتاب واحد، وكذلك كان لمحمد بن الحسن (ت 189هـ) ثانى أشهر تلاميذ الإمام أبى حنيفة كتاب «الآثار» أيضاً، هذا غير روايته موطأ الإمام مالك.
وغير هذه الكتب كثير جداً، ويكفى أن نقول: إن جميع هذه الكتب التى أشرنا إليها وصلتنا أصولها المخطوطة، وحُقّقت تحقيقاً علمياً وفق قواعد فن التحقيق المتفق عليها بين المحققين فى الشرق والغرب، فهى وغيرها -مما أعرضنا عن ذكره خشية الإطالة- سُبلٌ وقنواتٌ عِلمية وثيقة وصلت إلينا من خلالها السنة المطهرة وصولاً لا شبهة فيه إلا عند الجاهلين بسبل وصول العلم ونقله وتوثيقه! أو عند مَن ينكر الشمس وظِله تحت قدمه! وصدق القائل:
وليس يصحُ فى الأذهانِ شىءٌإذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ
ثم لا بد هنا من بيان أمر آخر، وهو أنه لم يكن التأليف فى السنة النبوية هو السبيل الوحيد لنقلها، بل هناك سبل أخرى علمية وصلتنا السنة من خلالها، فإن مَن يتكلم فى الفقه أو فى التفسير أو فى غيرهما من علوم الإسلام، فإنه يسوق فى كتبه أحاديث السنة المطهرة من باب الاستدلال، والغالب على هذه القرون أنهم كانوا يسوقون الأحاديث بأسانيدهم إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يُعد سبيلاً توثيقياً آخر وصلت السنة من خلاله، ومن هذا السبيل وصل إلينا «مسند الإمام الشافعى»، وهو الأحاديث التى رواها رضى الله عنه فى كتبه بسنده عن أشياخه، ككتابه «الأم» و«الرسالة» وغيرهما، حيث قام بعض العلماء بجمعها من كتبه وجعلها فى كتاب مستقل.
وقد استمر هذا النوع من التصنيف سبيلاً تصل إلينا منه السنة النبوية، ونلمس هذا فى كتب الإمام الكبير محمد بن جرير الطبرى (ت 310هـ) صاحب التفسير الكبير المشهور «جامع البيان» والتاريخ الكبير «تاريخ الرسل والملوك» المعروف بتاريخ الطبرى، وهذان الكتابان يحويان كثيراً من الآثار المسندة، هذا بالإضافة إلى أنه له كتاب خاص فى السنة هو كتاب «تهذيب الآثار»، وقد وصلت إلينا هذه الكتب، وحققت أيضاً تحقيقاً علمياً.
وأظن أن هذا العرض العلمى الموجز المركز يبين بجلاء خطأ فكرة تأخر تدوين السنة! وأنها ظلت زماناً تُروى روايةً شفاهيةً دون كتابة!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الأئمة الأربعة فى السنة
إقرأ أيضاً:
أهمية العمل والحث على إتقانه في الشرع الشريف
قالت دار الإفتاء المصرية إن الشرع الحنيف حث على العمل والسعي لكسب الرزق الحلال؛ لكي يكون المسلم عضوًا فعَّالًا مُنْتِجًا في مجتمعه، عاملًا على توفير حياة كريمة له ولأهل بيته، قال الله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20].
حثُّ الشرع الحنيف على العمل والسعي لكسب الرزق الحلال
قال الإمام النَّسَفِي في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" (3/ 560، ط. دار الكلم الطيب): [﴿يَضْرِبُونَ﴾: يسافرون، و﴿يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾: رزقه بالتجارة... فسوَّى بين المجاهد والمكتسب؛ لأنَّ كسب الحلال جهاد] اهـ.
وعن المِقْدَام بن مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخرجه البخاري في "صحيحه".
كما جاء الحث على إتقان العمل في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال تعالى في وصف عباده المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون: 8]، وهذا أمر بالإحسان في كل عمل، والرعاية والحفظ في كل أمانة، وأثنى سبحانه على ممتثل ذلك بوصفه بالإيمان والإحسان، فالعامل المتقن لعمله يثاب على إخلاصه وتفانيه واجتهاده، فهو سبيلٌ لمحبة الله تعالى له، ولذلك ورد في الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» أخرجه الطَّبَرَانِي في "المعجم الأوسط"، والبَيْهَقِي في "شُعب الإيمان"، واللفظ للطَّبَرَانِي.
وروى الإمام البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْتَطِب أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».
الحث على العمل وإتقانه في الشريعة الإسلامية
وأكَّدت الشريعة الغراء على أنَّ من مقاصدها العمل والسعي والإنتاج؛ فروى الإمام البخاري في "الأدب المفرد" عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (4/ 241، ط. مكتبة دار السلام): [والحاصل أنَّه مبالغةٌ، وحثٌّ على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس غيرك ما شبعت به فاغرس لمَن يجيء بعدك] اهـ.
وأكدت الإفتاء أن الشريعة الإسلامية إلى إتقان أي عمل يُقدم عليه الإنسان؛ فروى الإمام البيهقي في "شعب الإيمان" عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ».
قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في "التنوير" (3/ 378، ط. مكتبة دار السلام): [«إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا» دينيًّا أو دنيويًّا له تعلق بالدين «أَنْ يُتْقِنَهُ»، الإتقان الإحسان والتكميل؛ أي: يحسنه ويكمله] اهـ.
بل جعل الله تبارك وتعالى عمارة الكون -بالإنتاج والتقدم- مقصدًا من مقاصد خلق الإنسان؛ حيث قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: ٦١]، قال الإمام النسفي في "تفسيره" (2/ 69): [﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وجعلكم عمَّارها وأراد منكم عمارتها] اهـ.
وهو ما أكَّد عليه المشرع المصري؛ فتنص المادة (12) من دستور مصر الحالي وفقًا لآخر التعديلات على أنَّ: "العمل حق، وواجب، وشرف تكفله الدولة"، وتتمثل كفالة الدولة لذلك في تشريعاتها أو بغير ذلك من التدابير، وإعلائها لقدر العمل وارتقائها بقيمته.
ولما كان حفظ المال مقصدًا من مقاصد الشرع فكذلك كل ما يعمل على زيادته وإنمائه يكون مقصودًا من قبل الشرع الشريف، وأي عمل يعرقله ويضرّ به يكون معارضًا لمقاصد الشرع الشريف، يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة] اهـ.