أحبُّ كتابة يحيى سلام المنذري القصصية، فهو لم يخيِّب ظني أبداً، في أي كتاب له، فالمتعة مضمونة، والحصيلة اللغوية حاضرة، والإمكانات الفنية الهائلة واضحة. وهذه المزايا لا تتوفر إلا لكاتب يعمل على نفسه منذ زمن.

أصدر المنذري أول مجموعة له بعنوان "نافذتان لذلك البحر" عام 93، ومضى يفتِّش ويجرِّب ويكتشف عالم القصة عبر سنوات، وأصدر عدداً قليلاً من المجموعات، تشبه ماسات في حجم بذور التفاح لكن قيمتها كبيرة للغاية، وبحسبة بسيطة ستجد أنه احتاج إلى 31 عاماً ليصدر مجموعته الأخيرة "وقت قصير للهلع"، وقد منحها كل خبرته واجتهاده ومحبته، حتى أصبحت عمله الأهم، وكتابه الذي يمكنه أن يعيش لسنوات، وينافس – حتى - الروايات الضخمة.

انحيازي لكتابة يحيى له أسباب كثيرة، منها قدرته على السخرية أو استخلاص السخرية أو الابتسام أو الضحك من قلب المواقف الصعبة. هل يمكن أن نسميها كوميديا سوداء؟ ربما. لا أهتم بالتصنيفات. خذ عندك مثلاً بطل قصته الأولى الإصبع، رجل كبير، يعيش وحدة قاسية، نراه مباشرة في مستشفى قبل إجرائه عملية بتر لإصبع قدمه اليمنى. لا يتوقف يحيى أو بشكل أدق لا يهتم بأن نعرف سبب حاجة هذا الرجل إلى بتر إصبعه. الأدب ليس مطلوباً أن يكشف كل تفصيلة أو يرصد أي نأمة أو يفسر جميع التصرفات. يحيى أيضاً لا يخبرنا بأن هذا الرجل المسن مصاب بالبارانويا. إنه هلعٌ مثل كل الشخصيات الأخرى الهلعة في المجموعة من هاجسٍ يخصه أو يخصها. الرجل يخشى أن يخطئ الأطباء قدمه ويبترون إصبع قدمه اليسرى، بدلاً من اليمنى، وأحد الأطباء يوضِّح له أنهم لن يخطئوا، فكل شيء مكتوب في الملف، لكن الرجل - الذي يضيق بتصرفات الجميع - يطلب منهم أن يضعوا علامة على قدمه اليمنى، وبعد إلحاح يوافقون، وبعد إفاقته من التخدير يدرك أنهم اختاروا القدم الصحيحة، لكنهم بدلاً من أن يبتروا الإصبع فقط بتروا القدم كلها. يا للهول! وفي قصة "هدية أختي حسينة" نطالع ما يشبه اليوميات، كتبها شاب بنجالي يعمل بنَّاء، يوميات ليست مرتَّبة بشكل مثالي، فالشاب مجرد عامل وليس كاتباً، تلقى هدية من أخته حسينة عبارة عن كتاب بالإنجليزية. يحاول الشاب أن يفهم نفسه، وهو - كما يفكر - بداخله شخص طيب وآخر مجرم وثالث أخ ورابع صديق وخامس عدو، لكنه من الخارج مجرد شخص ضعيف وجبان. الشاب يحاول أيضاً أن يفهم تصرفات المحيطين به. معظمهم ترك الصلاة مثله لكنهم يواظبون في رمضان على ارتياد المسجد ليستمتعوا بالإفطار المجاني. كما يعطينا لمحة عما يحدث لشاب باكستاني يخالف القوانين ويواقع امرأة، كما يخبرنا عن جرائم قتل مفزعة تحدث هنا وهناك، ويطلعنا على حلمه بالأنثى، أي أنثى، مع خوفه من لمسها، مع أن أقرانه لا يلمسونها فقط وإنما يقيمون علاقات كاملة معها.

الكتاب في القصة السابقة يتحول إلى بطلٍ في القصة التالية وهي بعنوان "الكتاب الأسمتني"، حيث يعرض شاب هندي على بطلها أن يمنحه كتاباً فيقبل، ويجد أنه كتاب لمؤلف عماني مترجم إلى الإنجليزية بعنوان "بيت وحيد في الصحراء" (وهو عنوان كتاب طبعاً ليحيى سلام المنذري نفسه). تناوله البطل بشيء من السرعة وطالعه فوجده مهترئاً وهناك بقع متيبِّسة من الأسمنت على صفحاته حولته إلى كتاب محنط. البطل يجد في الهوامش يوميات كتبها شاب من جنسية أخرى، ثم يستمر الكتاب معنا بطلاً في القصة التالية "صياد العاملات" حيث يقرر الراوي أن يجد صاحب الهوامش. يبحث عنه بين عمال البناء، ومن خلال الحوارات التي يجريها معهم يبدو لنا أن الهدف من القصة ليس رحلة البحث عن الشاب، ولكن عرض تلك التقاطعات الجهنمية بين الجنسيات المختلفة في مسقط، فهناك "الفورمن" كبير العمال، وهو رجل ليست لديه أخلاق من أي نوع، يتعسف مع العمال فهو راجستاني وهم من الهنود أو الباكستانيين، يتفاخر بمنصبه. هي قصة إذن عن تعسف السلطة - حتى مع كونها سلطة تافهة شديدة البؤس – مع الناس. ثم نتحول في القصص الباقية إلى رصد علاقة تلك الجنسيات بأسرة عمانية. البارانويا تسيطر على البطل العماني في قصتين متتاليتين هما "خفة الصندوق" و"كائنات الأوهام والتوجس"، حيث يوصل بعضُ العمال الباكستانيين شحنة ضخمة إليه، وقد رأى أنهم لا يستحقون إكرامية، لكنه لا يثبت على موقفه، فبإمكانهم العودة وإيذاؤه. إنه لا يريد أن يقضي وقتاً طويلاً في عذابات الهواجس المخيفة، وبالتالي يُخرِج مبلغاً من جيبه ويمنحه لرئيس العمال، راجياً أن يمر الموقف على خير، وأن ينساه هؤلاء العمال إلى الأبد. ثم نرى مغامرة الأسرة ذاتها، أو غيرها، مع شغالة باكستانية، في القصة الأخيرة "رهافة نحلة" بدءاً من طريقة اختيارها، ثم اجتيازها اختبار الأمانة الذي وضعته لها الزوجة بنجاح، مروراً من فوبيا عجيبة تتلبسها، هي فوبيا الحشرات البلاستيكية، وإفزاع الابنين لها على الدوام وضحك الجميع عليها، ثم أخيراً اكتشاف أن لها حياة سرية في الليل رغم أنها لا تغادر غرفتها، فهي نجمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد ظنوا في البداية أنها تضع زينتها الكاملة قبل النوم هرباً من الكوابيس قبل أن يكتشفوا أن الزينة لزوم "البث المباشر".

يمنحنا يحيى سلام المنذري زاوية محددة للنظر وهي "الهلع" كما ظهر في عنوان الكتاب، ويحولنا بامتداد الكتاب إلى كائنات مرعوبة وقلقة تتوجس من الجميع، من الغرباء.. وكذلك من أقرب الأقربين.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی القصة

إقرأ أيضاً:

«عُدْ إلى بيتكَ يا ذا الطلْعة البهيـَّة» أحدوثة إيزه وأوزير.. إصدار جديد بهيئة الكتاب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

صدر حديثًا بوزارة الثقافة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، ضمن إصدارات 2025، كتاب «عُدْ إلى بيتِكَ يا ذا الطلْعة البهية» (أحدوثة إيزه وأوزير) للكاتب عاطف سليمان. 

الكتاب قصد جمع روايات متعددة من أحدوثة مصرية قديمة عظيمة هي أحدوثة إيزه وأوزير، أو (قصة إيزيس وأوزوريس).

وقد ذكر الكاتب في مقدمة كتابه: «أيقنت أن قصة إيزه وأوزير هي خزينة الخزائن الكبرى لأسرار الروح المصرية القديمة، وتعلمت أن هذه القصة كانت قد صارت بلا وجود محدد بسبب فرط وجودها الهائل، وبسبب وجودها في طبقاتٍ بلا حصر، وبسبب تناميها وتخللها في ثنايا وأعماق الحياة المصرية القديمة الدينية والاجتماعية والفكرية مهما طرأت على هذه الحياة المصرية طوارئ على مر التاريخ حتى اللحظة الراهنة، وأيضًا بسبب بروز أجزاء منها على حساب أجزاء أخرى مع تعاقب العصور؛ فنصوص الأسطورة في عصر المملكة الوسطى، مثلًا، برزت فيها تفاصيل الصراع بين "أوزير" وأخيه "ست"، بينما نصوصها في المملكة الحديثة تنامى فيها دور الإله "سوكر"، إله الجبانة، في حماية رفات "أوزير" ثم مساعدته في قيامته، بل الاندماج به، وفي عصر "الرعامسة" ركزت النصوص على الصراع بين "ست" و"حور" ابن "أوزير"، بينما نصوصها في فترة حكم البطالسة أكبرت مساعي وجهود "إيزه" و"نفتيس" ("نبت حوت") وأبرزتهما، وهكذا».

وتضمن الكتاب ثلاث روايات لقصة إيزيس وأوزوريس؛ الأولى (بحسب رواية المؤرخ اليوناني القديم "بلوتارخوس")، والثانية (بحسب رواية "مانيتون السمنودي")، والثالثة (بحسب بردية "شستر بيتي").

وصدر للكاتب من قبل ثلاث مجموعات قصصية ("صحراء على حِدة"، و"على هيأة اللوتس"، و"أعراف البهجة")، ورواية "استعراض البابلية"، وكتابان نثريان هما "حجر طاحون اخضر"، و"شجرة نبق تحت البروج".

مقالات مشابهة

  • هجوم على سفينة حبوب في أوديسا الأوكرانية يودي بحياة سوريين (شاهد)
  • تناول حبوب الإفطار ورقائق البطاطس والأطعمة فائقة المعالجة يعرض لخطر الوفاة
  • طارق يحيى : نعاني من تخبط شديد والناس برة مصر بتضحك علينا
  • لماذا يعتبر التوت الأزرق مفتاحا للصحة المثالية؟
  • خبير تغذية يزعم.. التفاح بديل طبيعي لـ “أوزمبيك”!
  • قيصرية الكتاب تنظّم أمسية يوم العَلَم السعودي
  • وزير الثقافة الفلسطينى: سنحمل الكتاب من تحت الركام ونواصل المسيرة
  • «عُدْ إلى بيتكَ يا ذا الطلْعة البهيـَّة» أحدوثة إيزه وأوزير.. إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • «عُدْ إلى بيتكَ يا ذا الطلْعة البهيـَّة» أحدوثة إيزه وأوزير.. إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • ليس التفاح.. أطباء يكشفون فاكهة تبقيك بعيدا عن الاكتئاب