قصص يحيى سلام المنذري.. ماسات صغيرة في حجم حبوب التفاح
تاريخ النشر: 26th, July 2024 GMT
أحبُّ كتابة يحيى سلام المنذري القصصية، فهو لم يخيِّب ظني أبداً، في أي كتاب له، فالمتعة مضمونة، والحصيلة اللغوية حاضرة، والإمكانات الفنية الهائلة واضحة. وهذه المزايا لا تتوفر إلا لكاتب يعمل على نفسه منذ زمن.
أصدر المنذري أول مجموعة له بعنوان "نافذتان لذلك البحر" عام 93، ومضى يفتِّش ويجرِّب ويكتشف عالم القصة عبر سنوات، وأصدر عدداً قليلاً من المجموعات، تشبه ماسات في حجم بذور التفاح لكن قيمتها كبيرة للغاية، وبحسبة بسيطة ستجد أنه احتاج إلى 31 عاماً ليصدر مجموعته الأخيرة "وقت قصير للهلع"، وقد منحها كل خبرته واجتهاده ومحبته، حتى أصبحت عمله الأهم، وكتابه الذي يمكنه أن يعيش لسنوات، وينافس – حتى - الروايات الضخمة.
انحيازي لكتابة يحيى له أسباب كثيرة، منها قدرته على السخرية أو استخلاص السخرية أو الابتسام أو الضحك من قلب المواقف الصعبة. هل يمكن أن نسميها كوميديا سوداء؟ ربما. لا أهتم بالتصنيفات. خذ عندك مثلاً بطل قصته الأولى الإصبع، رجل كبير، يعيش وحدة قاسية، نراه مباشرة في مستشفى قبل إجرائه عملية بتر لإصبع قدمه اليمنى. لا يتوقف يحيى أو بشكل أدق لا يهتم بأن نعرف سبب حاجة هذا الرجل إلى بتر إصبعه. الأدب ليس مطلوباً أن يكشف كل تفصيلة أو يرصد أي نأمة أو يفسر جميع التصرفات. يحيى أيضاً لا يخبرنا بأن هذا الرجل المسن مصاب بالبارانويا. إنه هلعٌ مثل كل الشخصيات الأخرى الهلعة في المجموعة من هاجسٍ يخصه أو يخصها. الرجل يخشى أن يخطئ الأطباء قدمه ويبترون إصبع قدمه اليسرى، بدلاً من اليمنى، وأحد الأطباء يوضِّح له أنهم لن يخطئوا، فكل شيء مكتوب في الملف، لكن الرجل - الذي يضيق بتصرفات الجميع - يطلب منهم أن يضعوا علامة على قدمه اليمنى، وبعد إلحاح يوافقون، وبعد إفاقته من التخدير يدرك أنهم اختاروا القدم الصحيحة، لكنهم بدلاً من أن يبتروا الإصبع فقط بتروا القدم كلها. يا للهول! وفي قصة "هدية أختي حسينة" نطالع ما يشبه اليوميات، كتبها شاب بنجالي يعمل بنَّاء، يوميات ليست مرتَّبة بشكل مثالي، فالشاب مجرد عامل وليس كاتباً، تلقى هدية من أخته حسينة عبارة عن كتاب بالإنجليزية. يحاول الشاب أن يفهم نفسه، وهو - كما يفكر - بداخله شخص طيب وآخر مجرم وثالث أخ ورابع صديق وخامس عدو، لكنه من الخارج مجرد شخص ضعيف وجبان. الشاب يحاول أيضاً أن يفهم تصرفات المحيطين به. معظمهم ترك الصلاة مثله لكنهم يواظبون في رمضان على ارتياد المسجد ليستمتعوا بالإفطار المجاني. كما يعطينا لمحة عما يحدث لشاب باكستاني يخالف القوانين ويواقع امرأة، كما يخبرنا عن جرائم قتل مفزعة تحدث هنا وهناك، ويطلعنا على حلمه بالأنثى، أي أنثى، مع خوفه من لمسها، مع أن أقرانه لا يلمسونها فقط وإنما يقيمون علاقات كاملة معها.
الكتاب في القصة السابقة يتحول إلى بطلٍ في القصة التالية وهي بعنوان "الكتاب الأسمتني"، حيث يعرض شاب هندي على بطلها أن يمنحه كتاباً فيقبل، ويجد أنه كتاب لمؤلف عماني مترجم إلى الإنجليزية بعنوان "بيت وحيد في الصحراء" (وهو عنوان كتاب طبعاً ليحيى سلام المنذري نفسه). تناوله البطل بشيء من السرعة وطالعه فوجده مهترئاً وهناك بقع متيبِّسة من الأسمنت على صفحاته حولته إلى كتاب محنط. البطل يجد في الهوامش يوميات كتبها شاب من جنسية أخرى، ثم يستمر الكتاب معنا بطلاً في القصة التالية "صياد العاملات" حيث يقرر الراوي أن يجد صاحب الهوامش. يبحث عنه بين عمال البناء، ومن خلال الحوارات التي يجريها معهم يبدو لنا أن الهدف من القصة ليس رحلة البحث عن الشاب، ولكن عرض تلك التقاطعات الجهنمية بين الجنسيات المختلفة في مسقط، فهناك "الفورمن" كبير العمال، وهو رجل ليست لديه أخلاق من أي نوع، يتعسف مع العمال فهو راجستاني وهم من الهنود أو الباكستانيين، يتفاخر بمنصبه. هي قصة إذن عن تعسف السلطة - حتى مع كونها سلطة تافهة شديدة البؤس – مع الناس. ثم نتحول في القصص الباقية إلى رصد علاقة تلك الجنسيات بأسرة عمانية. البارانويا تسيطر على البطل العماني في قصتين متتاليتين هما "خفة الصندوق" و"كائنات الأوهام والتوجس"، حيث يوصل بعضُ العمال الباكستانيين شحنة ضخمة إليه، وقد رأى أنهم لا يستحقون إكرامية، لكنه لا يثبت على موقفه، فبإمكانهم العودة وإيذاؤه. إنه لا يريد أن يقضي وقتاً طويلاً في عذابات الهواجس المخيفة، وبالتالي يُخرِج مبلغاً من جيبه ويمنحه لرئيس العمال، راجياً أن يمر الموقف على خير، وأن ينساه هؤلاء العمال إلى الأبد. ثم نرى مغامرة الأسرة ذاتها، أو غيرها، مع شغالة باكستانية، في القصة الأخيرة "رهافة نحلة" بدءاً من طريقة اختيارها، ثم اجتيازها اختبار الأمانة الذي وضعته لها الزوجة بنجاح، مروراً من فوبيا عجيبة تتلبسها، هي فوبيا الحشرات البلاستيكية، وإفزاع الابنين لها على الدوام وضحك الجميع عليها، ثم أخيراً اكتشاف أن لها حياة سرية في الليل رغم أنها لا تغادر غرفتها، فهي نجمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد ظنوا في البداية أنها تضع زينتها الكاملة قبل النوم هرباً من الكوابيس قبل أن يكتشفوا أن الزينة لزوم "البث المباشر".
يمنحنا يحيى سلام المنذري زاوية محددة للنظر وهي "الهلع" كما ظهر في عنوان الكتاب، ويحولنا بامتداد الكتاب إلى كائنات مرعوبة وقلقة تتوجس من الجميع، من الغرباء.. وكذلك من أقرب الأقربين.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی القصة
إقرأ أيضاً:
هل نحتاج الكتاب اليوم؟
عندما دُعيتُ إلى معرض مسقط للكتاب لتأثيث فعالية على هامش المعرض حول شعر الرَّاحل زاهر الغافري، وقبلها كنتُ في معرض تونس للكتاب، تداعت في ذهني أسئلة تخصُّ منزلة الكتاب والشَّغف به، هل ما زلنا نحتاج الكتاب، وتلك العبارات التي مُلِئْنا بها في صغرنا، واعتمدناها تواقيع في كتبنا، من نوع "رحيق الكتب"، و"خير جليس في الزمان كتاب" "وخير جليس في الأنام كتاب"، وتراكُمٌ من الشعارات سادت زمن العقّاد والرافعي والزيّات وانتشرت في أجيال لاحقة آمنت بما آمنت به من وَفْرَةِ الأصنام التي تداعت عبر الزّمان. تذكّرت مقولات الكتاب والحثّ على القراءة والعمل على امتلاك الكتاب ورقيّا (فلم تكن لدينا بدائل، سوى الامتلاك ليسير الحال، والاستعارة لعسير الحال)، والشَّغف والفرح الذي كان يعترينا عندما نظفر بكتاب، فوجدتُ عملا هائلاً على إعادة مكانة الكتاب، واستعادة أثره، ولكن هنالك أمرين على غاية من الأهميّة في ظنّي، الأمر الأوّل لاحظته في بعض الشباب الذين يهتمّون بالكُتَّاب عمومًا، ويتتبَّعونهم ويعملون على طرح الأسئلة عليهم، ولقد لاحظت اليوم في عينيّ طفلٍ أسئلةً عن التّاريخ وعن عنوان المحاضرة التي سأل فيها الولد الصّغير الدكتور أحمد الرحبي عن عنوان المحاضرة "أوَّل إطلالة أوروبيّة على عُمان" فأبان له الدكتور أحمد الرحبي أنّ الرَحّالة الروسي أفاناسي نيكيتين هو أوّل رحّلة تحدّث عن عُمان وأظهر له أنّ الأستاذ ديمتري ستريشنيف صاحب المحاضرة، هو من المهتمّين بهذا الموضوع ومن متتبِّعيه علميّا، وبدأ من ذلك حديث عن التاريخ ومنزلته وقيمته، ولعلَّ أهمّ ما في هذا الأمر غير شغف الولد وقدرتَه وحبَّه المعرفيّ، أنَّ أباه هو الذي تعهَّده وشجّعه على سؤال مدير الجلسة، وأنّه هو الذي طلب برفق السّؤال، ثمَّ ترك ابنه وانصرف، وهذا ملمحٌ رأيته يتعاود مع كلّ مبدعٍ أمرُّ معه أو ألتقيه، ترى الأطفال والشبابَ يقفون مع هذا وذاك. قيمة المعرض ليست في إحياء الكتب وتعهُّد القراءة فحسب، بل أيْضًا في تدريب الناشئة على التواصل مع كتّابهم، في مناسبات حفلات التوقيع، أو في المحاضرات، أو في أروقة المعرض. الأمرُ الثاني الذي يُحسَب لمعْرض مسْقَط هو توفير أرضيَّة لتلاقي المبدعين والنُقَّاد والكُتّاب على اختلاف أعمارهم وشرائحهم وأرضيّاتهم وأهوائهم وأمزجتهم، فتجد المستشرق والمستغرب والعربيّ والمستعرب، وتوفَّرت جلسات كانت على هامشها حوارات بنَّاءة ونُظِّمت فعاليّات ونقاشات أثارت الرّاكد وحرَّكت السّاكن، وإن كان يُطلَب أكثر من ذلك، فإنّي أعتقد أنّ الأرضيّة قد تهيَّأت لفعل الأحسن، من مآثِر هذه اللِّقاءات أن التقيت بالمترجمة والمحقّقة الألمانيّة المستعربة كلاوديا أوت، التي أبهرتني بوفرة أسئلتها وبعمق رغبتها في معرفة كلّ ما هو عربيّ، وكانت تسأل بدقّة وتسمع بإنصات ورقّة، لا تتباهى زهْوًا بعلمٍ لها، ولا تبثّ ممكن معرفتها بثَّ مسْتعْرِضٍ، وإنّما تنساب باحثة عن إكمال الصّورة المشهديّة التي تكوِّنها عن الأدب العربيّ، الذي بدأته دارسةً، وانتهت معه مترجمةً، ناقلةً لقسم من أدبنا إلى اللّغة الألمانيّة. هذا الاحتفاء بالعلم والعلماء له تقديرٌ عميقٌ وأثرٌ في الأنفس، وصانعٌ لأجيالٍ تُقَدِّرُ المعرفة، والعلم، وتُجلُّ فعل القراءة، ونحن أمَّةٌ دينُها يدعو إلى القراءة، إلى الاطّلاع، إلى البيان وكشفَ الغمّة. لابدّ أن يُقدِّر أهل الفعل والحزم والعزم والحلّ والعقد أنّ هذه النماذج الأدبيّة والعلميّة تصنع اقتداءً واحتذاءً أفضل بكثير من الفراغ وشطحات الأهواء. لقاءُ أديبٍ أو عالمٍ أو فنّانٍ أو رسّام أو كاتبِ تجربته، هو شعورٌ بامتلاء الذات وبعضٌ من التوازن الذي تحتاج إليه الناشئة والشباب، ويحتاجه الكبار أيضًا لتعميق التواصل ولتقريب الأفكار، يحتاج الكاتب أن يرى ناشره، أن يُعاتبه، أن يذكر له المحاسن والأضداد، والعكس صحيح. يحتاج الصحفيّ والإذاعي أن يجد أرضيَّة ثقافيّة علميّة يُمكن أن ينتعش بها وفيها، يحتاج الأديب والكاتب عامَّة أن يُلاقي وجْهًا من قُرّائه، وأن يُدرك أثره في هذه الذّوات، كلّ هذا يكون في محفلٍ يحتفي بالكتاب مهما كان نوعه، فالبقاء للكتاب، ومزيدًا من الألق والتألُّق لكلّ من أثّثه وساهم في نجاحه. بقي أمرٌ بسيطٌ حتّى لا أغرق في الإطراء، وهو تركيمُ الفعاليّات وتزامنها في الوقت ذاته أحيانًا، وهو أمرٌ أثَّر بنسبة على أعداد الحاضرين، فكانت بعض الندوات شبه فراغ تقريبًا، ولذلك لابدّ من العمل على التفكير في كيفيّة نجاح هذه الفعاليّات على أهمّيتها وضرورة المحافظة عليها، يعني مثلاً، لمَ لا تكون حفلات التوقيع لبعض الكتّاب المتحقّقين مصحوبة بحوارٍ حقيقيّ، ينتهي إلى التوقيع، لمَ لا تُدَارُ نقاشاتٌ عميقة حول بعض الكتب التي ترشِّحها لجان قراءة. من حقّنا أن نزهو بعرْض الكتاب وتعمّقه لندفع ما اتُّهمنا به من أميّة قرائيّة ظالمة!