كان خطاب نتنياهو أول أمس في الكونغرس الأمريكي، أحسن فرصة لشرح معنى الإبيسيوقراطيا، أي نظام العجل (الإبيس باليونانية هو العجل)، والنظام وضع مرجعيته الدينية السامرية خلال غياب موسى بحضور أخيه هارون.

وما يحتاج إلى الشرح خمس مسائل، هي التي تمكّن من فهم ثورة الإسلام في تاريخ البشرية، ومعنى كونه الرسالة الخاتمة.

ولولا فرضياتي حول هذه المسألة، لما كتبت حرفا حول القرآن، ولما عرفته بكونه رسالة في استراتيجية توحيد البشرية لإتمام نظرية توحيد الربوبية، لتكون الحنيفية المحدثة (المحمدية) تتمة للحنيفية الأصلية (الإبراهيمية)، التي لم تتجاوز المشروع الذي اقتصر عل أسرته لم يتجاوزها.

النقلة من توحيد الرب والتحرر من عبادة الأفلاك (آيات الأفول ومن التضحية بالإنسان في الآيات الطبيعية إلى تكريمه في الرسالة الخاتمة بعد كل التجارب التي بقي الدين فيها غير شامل للبشرية، وآخرها قبل الإسلام، هو دين عيسى الذي جاء للنعاج الضالة من بني إسرائيل _كما جاء على لسانه _  ومقصور على الأمة؛ أمة جاءها النذير خاصا بها، إلى الرسالة الشاملة للبشرية بمنطق (النساء 1) و(الحجرات 13).

وإذا كانت النقلة هي المرحلة الخاتمة، فهي تذكير بالمرحلة الفاتحة؛ أي بالآيتين (النساء 1) أصلا للإنسانية، (والحجرات 13) غاية للتوحيد المتجاوز لكل ما يترتب عن حرب دين العجل الاستعبادي، ضد دين موسى؛ رمز التحرير من العبودية الفرعونية.

 دين العجل كان ترجمة للعبودية بإبداع أداتيها اللتين هما مقوما العجل: معدنه (الذهب المسروق) وخواره (الكلام المغشوش). ويمكن ترجمته من منظور الثورة المحمدية، بكونه يمثل الانقلاب الذي يجعل من ربوا على أخلاق العبييد، قادرين على استعباد غالبية البشر، ما لم يدركوا حقيقة ثورة الإسلام.

وذلك بالاعتماد على أداتي إفساد معاني الإنسانية فيه (ابن خلدون المقدمة الباب السادس الفصل 40 في التربية والحكم)، فمعاني الإنسانية تفسد في الإنسان عندما يربى العنف والخوف، فيكون جبانا ومتوحشا شيمته الغدر.

الخطة التي كانت تشوه الإسلام بخرافة الإرهاب، وتخوف شعوبه بعضها من بعض، لم يبق لها تأثير يذكر، بعد أن تبين لكل المحميات، أن الحماة هم من جنس حاميها حراميها: فهو استعمار بيّن، لا يحسب لهم أدنى حساب، كما هو بيّن من خطاب قيادات إسرائيل وحماتها.1 ـ الأداة الأولى هي ربا الأموال: معدن العجل،  ورمزه العملة الرببوية.
2 ـ  الأداة الثانية هي ربال الأقوال: خوار العجل المضلل، ورمزة الكلام المخادع.

وبلغتنا الحديثة، فأداتا العبودية العامة التي يسيطر بها ذوو أخلاق العبيد على كل البشر، هما: البنك بربا الأموال، والإعلام بربا الأقوال. ومن يسيطر عليهما يمكن أن يستعبد كل البشر.

ولهذه العلة، أعلن القرآن أن الله يحارب الربا، ويمقت أشد المقت من يقول ما لا يفعل، والأمر ليس مقصورا على الشعوب، بل هو يشمل خاصة النخب النافذة التي تقودها:

1 ـ  فالنخب هي أولى ضحايا ربا الأموال وربا الأقول، وهي خدم مطيعة لأصحابهما من اللوبيات.

2  ـ وهي الأذل وتتوهم أنها الأعز في الظاهرة، كما رأينا في جلسة خطاب نتنياهو، وكثرة المصفقين لمجرم الحرب.

وأول درس ينبغي أن نتعلمه، هو أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالعملاء من نخبنا، بل هي ظاهرة كونية؛ لأن الإسلام لم يقدم حلولا لما هو خاص كما يتوهم حمقى البحث عن الخصوصيات، فلو كان ذلك كذلك، لما كانت الرسالة الخاتمة.

وثاني درس ينبغي أن نتعلمه، هو أن  هذه الظاهرة ومحركاتها وما تتحرك ضده، هي التي جعلت الرسول الخاتم يقول قولته الشهيرة في هود وأخواتها:

1 ـ  الأولى هود، لوضعها المعوقات التاريخية في معركة تحرير الإنسانية التي حصرت بصورة جامعة مانعة وشاملة للمشترك الإنساني، وليست من خصوصيات أي أمة وأي دين.

2  ـ والثانية الأخوات الأربع، بيان القرآن لحتمية مضاعفة الحياة الدنيا بالحياة الأخرى؛ لأن هذه المعوقات لا يمكن علاجها بما لأجله جعلت السياسة، من حيث هي تربية وحركة يمكّن من الحد منها؛ وقاية بالأولى وعلاجا بالثاني.

وتلك هي علة جعل الدولة الدنيوية ذات مقومين، لا يمكن أن يتحققا من دون تفاعلهما:

فهي بنية ثابتة لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن نظامها هو سنن التاريخ الثابتة؛ أي منظومة نسقية وظيفتها علاج شروط الرعاية تكوينا وتموينا وشروط الحماية داخليا وخارجيا، لكنها لا تتعين في التاريخ الفعلي إلا بمن يملأ خاناتها، التي هي عشرة:

1 ـ خمسة للرعاية؛ لأن التكوين مضاعف (المدرسة والمجتمع)، والتموين مضاعف (الثقافة العلمية والاقتصاد)، وأصلها أربعتها البحث العلمي، أو تراكم الخبرة في سد هذه الحاجات.

2 ـ خمسة للحماية؛ لأن الحماية الداخلية مضاعفة (القضاء والأمن)، والحماية الخارجية مضاعفة (الدبلوماسية والدفاع)، وأصلها أربعتها البحث الاستعلامي أو المخابرات؛ للإحاطة بحال البلاد ومن يعاديها ويصادقها.

وما لا يتحقق فيهما دنيويا لغياب حضور الوعي بالأخروي الذي يشبه ما يسمى في القضاء التعقيب، لكنه تعقيب مطلق ليس فيه خداع ولا تحيل، أي الوقوف أمام الحاكم المجلق يوم الدين. غيب هذا المعيار هو فساد معاني الإنسانية الذي يسيطر على ذوي أخلاق العبيد (وقد ضرب ابن خلدون مثال اليهود على فساد معاني الإنسانية وأخلاق العبيد وشيمة الجبن والتوحش والغدر).

فما هي المعوقات التاريخية الكونية الثابتة، التي لا خصوصية فيها؟ إنها تتحدد بمطابقة حال الإنسان لما وصفه القرآن أو نظرية الإنسان في الرسالة الخاتمة: مكلف ومكرم (رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، وهذا هو الفرق الجوهري بين رؤية ابن خلدون ورؤية هيغل: فالتاريخ عند الأول يبدأ بهذا المعنى فيكون علاقة بين الرؤساء بالطبع بمقتضى الاستخلاف، وليس علاقة بين سيد وعبد.
ومعنى ذلك، أن ابن خلدون تجاوز أحوال نفس هيغل إن صح التعبير. فهيغل كان ذليلا وناقما على الأسياد الذين كانوا يحكمون بمنطق الحق الإلهي والتحالف بين الكنيسة (الوسيط الروحي) والشوكة (الوصي المادي)، ليس في الواقع فحسب؛ لأن ابن خلدون كان يعيش في واقع لا يختلف كثيرا عن واقع هيغل، والفرق الوحيد أنه كان من نبلاء الأُسَر، ولم يكن من العامة مثل هيغل.

الفرق في العقيدة، فهو ينتسب إلى دين يعدّ تحرير العبيد عبادة؛ لأنه من أهم المكفرات التي تعدّ تحرير الرقاب مزيلا للذنوب، مثله مثل الصوم والعناية بفاقدي السند من اليتامى والمساكين. فتكون العلاقة بين البشر عين ما حددته سورة الماعون، واعتبار من لا يعمل بها هو الذي لا يؤمن بيوم الدين.

نأتي الآن إلى المعوقات التي تزيل الحريتين اللتين تبدأ سورة هود بأولاهما، وتنتهي بآخراهما في تصنيف الرسالات السبع التي تتضمنها، وما تذكر به من رسالة البداية ورسالة الغاية في تاريخ الأديان المنزلة.

1 ـ  الحربة الأولى: كيف يتحرر الإنسان من طغيان الطبيعة؟ رسالة نوح.

2 ـ الحرية الثانية: كيف يتحرر الإنسان من طغيان الدولة؟ رسالة موسى.

 3 ـ ما بين الأولى والأخيرة التحرر من طغيان الطبيعة والتحرر من طغيان الدولة، أربع رسالات تتكلم على المعوقات، ورسالة تتوسط بين الاثنين الأوليين والاثنين الأخريين.

4 ـ الأوليان: هود وطغيان المسيطرين على الثروة، وصالح وطغيان المسيطرين على الماء أصل وجود الحياة .

5 ـ الثانيتان: لوط وطغيان المثلية الجنسية العامة شرط بقاء النوع، وشعيب وطغيان المسيطرين على قواعد التبادل الاقتصادي.

لكن ما يفصل الثلاثة الأولى (نوح وهود وصالح)، والثلاثة الأخيرة (لوط وشعيب وموسى)، نجد إبراهيم الذي جاءته الملائكة لتخبره بالخلفة وبمصير اللوطيين، وتعلمه بأن محاولة الشفافية فيهم غير مقبولة.

وما كنت لأقص هذه القصة كلها، لو لم يكن الهدف بيان علة الختم، وحتمية أن تكون نجاة البشرية على يد المسلمين، بفضل هذا الوعي بالسنن التاريخية، التي تعوق التحرر من أخلاق العبودية للطبيعة وللدولة، وهو معنى تبين الرشد يكون بالكفر بالطاغوت شرطا في الإيمان بالله.

لذلك، فما حدث في خطبة نتنياهو، دليل قاطع على نهاية دين العجل؛ لأن الوعي بأداتيه صار الفضل فيه للتضحية التي قدمتها الأمة منذ أكثر من خمسة قرون من مقاومة الوحشية، التي يمثلها عبيده، وتركز الأمر في الأرض التي مكنت من:

أولا ـ هزيمة الصليبية
ثانيا ـ هزيمة المغول
ثالثا ـ هزيمة الاسترداديين
رابعا ـ هزيمة الاستعمار
خامسا ـ والآن نحن في لحظة الإجهاز على أداتيه وحماتهما؛ أي الصهيونية بربح شباب الغرب لصفنا، وهزيمة الصفوية بانكشاف صورتها الحقيقة التي هي النوع الثاني من إخفاء دين العجل:

الأول ـ حاليا هو ديمقراطية عبيد دين العجل
والثاني ـ حاليا هو  ثيقوقراطية عبيد دين العجل.

وكلاهما يجمعان بين الإخفاءين: فإسرائيل وأمريكا غربيا وإيران وروسيا شرقيا، كلهم يجمعون بين الأساس الديني المحرف، والأساس الشعبي المحرف.

من الطوفان إلى التسونامي

لا شيء مما قصه نتنياهو في خطابه يستحق الذكر، يتجاوز أمرين، هما ما اعتبره دليل المقتل الذي ينتظر إسرائيل وإيران في آن. وقبل بيان ذلك لا بد من بيان علة الجمع بينهما.

فما يشتركان فيه وسيكون مقتلها ـ فضلا عن تاريخ علاقتهما بالإسلام أولا وتاريخ سياستهما المعتمدة على دين العجل ببعديه ـ، هو ما يوهمون به من اطمئنان لموت الشعوب قياسا على موت عملائهما في الأقليم.

فلا يكفي ادعاء اطمئنان إسرائيل لمن طبّع معها من النخب التي نصبتها هي وحاميتها الأمريكية بقواعدها، واطمئنان إيران لمن زرعتهم من المليشيات التي نصبتها هي وحاميتها الروسية.

ومن يريد أن يفهم دوريهما، فلينظر إلى موقف أوروبا التي تلعب على الحبلين. فهي تظهر ما تخفيانه من الاتفاق على حماية إسرائيل وإيران؛ لأن الغرب كله أخوف من الإسلام منها من الصين.

والخوف في كل هذه الحالات مضاعف: الخوف العاجل من فقدان ما يستمدانه من الإقليم، والآجل من الاستئناف الذي قد يجعل الإقليم يصبح قوة يُحسب لها ألف حساب.

لذلك، فقد حرص نتنياهو على الكلام على الحلف الذي سماه "حلف إبراهيم"، يسنده إلى حجتين: الأولى رد الطوفان إلى:

  - اعتبار حماس ـ كما يزعم المطبعون مع إسرائيل ـ، مجرد مليشيا إيرانية من جنس مليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

- والكلام على حصر السيطرة على الإقليم في إسرائيل والغرب، دون كلام على العرب الذين يظنهم الشعوب من جنس عملائهم.

لذلك، فما أريد بيانه الآن، هو أن هذه اللامبالاة بما يجري في الأعماق، وما حصل بعض أثره في شباب  الغرب في التحرر من سردياتها كلها، وتحرر شباب الإقليم من الخوف من قوة إسرائيل والغرب، هو ما سيحصل حتما.

تكرار مفاجأة الطوفان، ولكن هذه المرة في كل الأقليم، مما سيلغي علتي الضعف الذي في بلاد الإقليم كلها، قد صارت مثل الضفة المستسلمة.

العلة الأولى، هي تفتيت جغرافية الإقليم الإسلامية؛ أي فشل سايكس بيكو، وقد بدأ بعد الربيع الذي عمم الثورة، وإن لم يوحدها واكتفى بتوحيد الثورة المضادة ضدها.

والعلة الثانية، وهي أهم من الأولى، هي تشتيت تاريخ الإقليم؛ أي فشل محميات الفتات الساكسبيكي في تحقيق شرعية تاريخية تتغلب على الإسلامية، سواء بحثوا عنها في ما قبلها أو في ما بعدها.

ما أريد بيانه الآن، هو أن هذه اللامبالاة بما يجري في الأعماق، وما حصل بعض أثره في شباب الغرب في التحرر من سردياتها كلها، وتحرر شباب الإقليم من الخوف من قوة إسرائيل والغرب، هو ما سيحصل حتما.لذلك، فما أتوقعه، هو أن استراتيجية الغرب وخاصة الأوروبيين والأمريكيين والروس، سيشرعون في التعامل مع الإقليم على هذا الأساس، خاصة والخطة التي كانت تشوه الإسلام بخرافة الإرهاب وتخوف شعوبه بعضها من بعض، لم يبق لها تأثير يذكر، بعد أن تبين لكل المحميات أن الحماة هم من جنس حاميها حراميها: فهو استعمار بيّن لا يحسب لهم أدنى حساب، كما هو بيّن من خطاب قيادات إسرائيل وحماتها وإيران وحماتها باسم كل الإقليم، لكأن أصحابه لم يعد لهم إرادة حرة ولا حكمة راجحة.

فما فهمه شباب الغرب، من باب أولى أن يفهمه شباب الإقليم: افتضاح التخويف من الغولين إسرائيل وإيران لم يعد أحد يهابه ولا يرتهب من قوتهما، بل تبين أن العزم، وخاصة تعدد الطوفانات، سينهي سيطرتهما، وما استطاعته حماس في ما يقرب من سنة، يمكن أن يصمد سنوات، فينهار كلبا الغرب والشرق ومعهما حماتهما.

ولا أقول ذلك من باب التوهم والتفاؤل أو الحلم، فلا أحد كان يصدق أن النشأة الأولى لامبراطورية الإسلام كانت مما يعد قابلا للتوقع المعقول: كيف للعرب وهم قلة عددا وضعاف عتادا أن يقضوا على أكبر  امبراطورتين في ملتقى القارات القديمة الثلاث؟

ذلك ما هو قادم. وستكون المفاجأة الطوفانية في الاستئناف كما كانت في النشأة الأولى. طبعا لن يكون ذلك بالعملاء طوعا، بل سيكون بهم كرها؛ لأنهم لم يعودوا قادرين للاطمئنان لحماية إسرائيل وإيران ومَنْ وراءهما، ولأن الشعوب لم تعد تخشى ما كانت تخشاه في الطوفان.

والبداية ستكون من الأردن ومصر، ثم من سنة العراق وسنة الخليج، وإذا وصل الأمر إلومصر، فسيعم الجغرافيا الأفريقية كلها على الأقل من شمالها إلى ساحلها، وبذلك فهي ستكون ثورة عارمة لن يستطع أحد إيقافها، وسيرى كلا القطبين الوصول إلى حل معهم؛ لأن الوصل بين المشرقين والمغربين مقامه في جغرافيتنا وفي تاريخنا، وفي قيمنا وخاصة في ديموغرافيتنا.

ما أتمناه، هو أن يواصل نتنياهو إسرائيليا وأمثاله إيرانيا ومن وراء الأولى والثانية هذا الصلف، الذي يجعلهم يعتقدون أن السنة "حريبشة للبلعان". التحول الذي يجري في الغرب بين شبابه، سيكون من أهم العوامل المساعدة على تحرير النخب التي كانت تتوهم الخير في التحديث التابع بديلا من التحديث المستقل، ستكون جزءا لا يتجزأ من الطوفان الذي سيصبح  "تسونامي" عالميا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير خطاب نتنياهو الكونغرس امريكا نتنياهو كونغرس خطاب دلالات أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إسرائیل وإیران التحرر من ابن خلدون من طغیان ـ هزیمة من جنس أن هذه

إقرأ أيضاً:

الأسلحة الكيميائية وسر نظام الأسد المظلم الذي تخشاه إسرائيل والغرب

ترك الانهيار المدوي والمفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا العديد من الأسئلة المفتوحة بلا جواب، واحد من هذه الأسئلة يتعلق بمصير ترسانة الأسلحة الكيميائية التي يمتلكها النظام، التي استخدمها ضد شعبه بالفعل في أكثر من مناسبة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وفشلت الجهود الدولية في تفكيكها بشكل حاسم ونهائي.

فرغم تبنّي مجلس الأمن الدولي قرارا بالإجماع عام 2013 بتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية السوري والتخلص منه نهائيا في أعقاب مجزرة الغوطة، التي استخدم فيها نظام الأسد غاز السارين مُخلِّفا أكثر من 1400 قتيل، وإعلان الولايات المتحدة وروسيا إنجاز مهمة التخلص منها نهائيا في وقت لاحق، يُعتقد أن النظام نجح في إخفاء جزء كبير من ترسانته عن المراقبين، وتجديد جزء آخر منها خلال السنوات التالية، وقد ظهرت دلائل على استخدام النظام الأسلحة الكيميائية بعد الإعلان عن تفكيك ترسانته، أبرزها في دوما في إبريل/نيسان 2018 باستخدام الكلور وغاز الأعصاب.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هذه الأسلحة ستكون أشد فتكا من الأسلحة النووية والعالم يتسابق لامتلاكهاlist 2 of 2كيف أخفقت روسيا في دعم بقاء الأسد؟end of list

تُثير هذه الترسانة الكيميائية الكثير من القلق لدى جهات عدة، أبرزها إسرائيل بكل تأكيد. فبحسب ما نشرته صحيفة "هآرتس" في 3 ديسمبر/كانون الأول، تزامنا مع تقدُّم فصائل المعارضة السورية وقبل أيام قليلة من فرار الأسد، كانت هناك مخاوف من إمكانية وصول الأسلحة الكيميائية التي يملكها النظام السوري السابق إلى أيدي فصائل المعارضة السورية المسلحة، ما قد يؤدي إلى تهديدات خطيرة لأمنها. لذلك، لم تمر بضع ساعات على انهيار نظام بشار الأسد رسميا، حتى قصف جيش الاحتلال مركز البحوث العلمية في المربع الأمني بدمشق، حيث تُدار برامج أسلحة كيميائية وصواريخ باليستية، وفقا لما ذكرته هيئة البث الإسرائيلية.

إعلان

في وقت لاحق، قصف سلاح الجو الإسرائيلي مؤخرا مستودعا آخر للأسلحة الكيميائية تابعا لنظام بشار الأسد المُنهار في غرب سوريا، وعموما كانت مستودعات الأسلحة الكيميائية أحد الأهداف الرئيسية لأكبر عملية جوية في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي، التي شاركت خلالها 350 طائرة في تدمير أنظمة أسلحة الجيش السوري المُنهار، بما يشمل أيضا الطائرات المقاتلة والصواريخ الباليستية وأنظمة الدفاع الصاروخي وحتى السفن القتالية.

من جانبها، حرصت إدارة الشؤون السياسية التابعة للمعارضة السورية على طمأنة المجتمع الدولي بشأن موقفها من الأسلحة الكيميائية، متعهدةً بعدم استخدامها مهما كانت الظروف، وهو ما يدفعنا للتساؤل: ما الذي نعرفه حقا عن مخزون نظام بشار الأسد من الأسلحة الكيميائية؟ وكيف تَشكَّل؟ وما أشهر العمليات التي استخدم فيها النظام هذا السلاح في الحرب؟ وقبل ذلك، ما الأسلحة الكيميائية؟ ولماذا تثير كل هذا الرعب؟

أكبر ترسانة في العالم

في عام 1971، بدأت أولى المحاولات السورية لامتلاك السلاح الكيميائي، حين أنشأ عبد الله واثق شهيد، الفيزيائي النووي والمستشار الأول للرئيس السابق حافظ الأسد، مركز البحوث والدراسات العلمية لأغراض الأبحاث الكيميائية، لتبدأ دمشق في أنظمة الحماية من الهجمات الكيميائية بمعاونة الاتحاد السوفياتي، جنبا إلى جنب مع 11 ألف قناع واقٍ حصلت عليها البَلَدان من الصين.

وتشير المصادر الأميركية إلى أن سوريا حصلت على مخزون ضئيل من الأسلحة الكيميائية من مصر عشية حرب أكتوبر عام 1973، بيد أن الجيش السوري لم يستخدم تلك الأسلحة ضد إسرائيل أو ضد خصم آخر في أي وقت، ويبدو أنها كانت مجرد خطة تحوُّط في مواجهة سيناريو الانهيار العسكري الشامل. ومع ذلك، بعد أن فقدت دمشق الحليف المصري في أعقاب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في نهاية السبعينيات (اتفاقية كامب ديفيد)، وبشكل أخص بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 الذي فقدت خلاله سوريا 80 طائرة حربية دفعة واحدة في سهل البقاع، والحرب العراقية الإيرانية التي أضعفت الشراكة بين سوريا والاتحاد السوفياتي بسبب دعم الأخير لإيران في حربها ضد النظام البعثي العراقي، ازدادت عزلة النظام السوري وانكشف ضعفه الإستراتيجي والعسكري، ما وفَّر حوافز إضافية للاستثمار في الأسلحة الكيميائية.

إعلان

تشير التقديرات إلى أن دمشق بدأت فعليا في إنتاج "الكيماوي" في منتصف الثمانينيات، ففي عام 1983 أشارت تقديرات الاستخبارات الوطنية الأميركية لأول مرة إلى وجود منشأة سورية لإنتاج الأسلحة الكيميائية. وكشف إفصاح صادر عن الحكومة البريطانية في عام 2014 أن سوريا حصلت بحلول عام 1986 على مئات الأطنان من المواد الكيميائية الأولية، بما في ذلك "ثلاثي ميثيل الفوسفيت"، و"ثنائي ميثيل الفوسفيت"، و"فلوريد الهيدروجين"، من المملكة المتحدة، وتقنيات أخرى لتطوير عوامل الأعصاب مثل غاز السارين.

وبحلول عام 1990، أشارت وسائل الإعلام والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين إلى أن سوريا حوَّلت العديد من مصانع الكيماويات الزراعية إلى مرافق لإنتاج السارين. وفي عام 1997، زعمت مصادر أميركية وإسرائيلية أن برنامج الأسلحة الكيميائية السوري بات يتضمن منشآت إنتاج في دمشق وحمص وحلب، ويمكنه إنتاج السارين والخردل، وربما "في إكس" (VX) الذي يُصنَّف واحدا من أكثر الأسلحة الكيميائية فتكا وخطورة.

نتيجة لذلك، حظرت الولايات المتحدة بيع غاز السارين ومركبات الخردل إلى سوريا منذ ثمانينيات القرن العشرين، وتسبَّب ذلك في لجوء دمشق إلى السوق السوداء. مثلا في عام 1996، اتهمت السلطات الروسية الفريق المتقاعد أناتولي كونتسيفيتش بشحن 800 كيلوغرام من المواد الكيميائية الأولية إلى سوريا. ورغم إسقاط هذه التهم في نهاية المطاف، أفادت الصحافة الإسرائيلية أن كونتسيفيتش اعترف لاحقا بنقل مواد أولية لغاز الأعصاب.

من عام 2002 إلى عام 2006، كرَّرت التقارير الصادرة عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) أن "دمشق تحتفظ بالفعل بمخزون من غاز الأعصاب السارين، لكنها حاولت على ما يبدو تطوير مواد أعصاب أكثر سُمِّية واستمرارية". في عام 2009، أصدرت الاستخبارات المركزية الأميركية تأكيدها أن النظام السوري يملك برنامج أسلحة كيميائية يُمكِّنه من تنفيذ هجمات كيماوية بالطائرات والصواريخ بعيدة المدى وبالمدفعية. وفي يونيو/حزيران عام 2012، أكَّد الجنرال "يائير نافيه"، مساعد رئيس الأركان الإسرائيلي حينها، أن سوريا تملك "أكبر ترسانة أسلحة كيميائية في العالم طوَّرتها منذ أربعين عاما"، وقال إن من بين الغازات الموجودة في ترسانتها غاز السارين وغاز الأعصاب وغاز الخردل. وفي يوليو/تموز من العام نفسه، جاء أخيرا أول اعتراف رسمي من النظام السوري بامتلاكه أسلحة كيميائية، وهو اعتراف لم يرد إلينا عبر تصريح رسمي لمسؤول حكومي، بل عبر آثاره التي ظهرت على جثث القتلى.

إعلان الكيماوي ضد الشعب

كانت الثورة التي حوَّلها قمع النظام إلى حرب دموية قد اندلعت بحلول ذلك الوقت، وتحوَّلت معها الأسلحة الكيميائية من "مخزونات صامتة" للتحوُّط ضد الخصوم الخارجيين إلى أسلحة مشهرة في وجه المواطنين السوريين. وفي الفترة ما بين أواخر نوفمبر/تشرين الثاني وأوائل ديسمبر/كانون الأول 2012، حصلت وكالات الاستخبارات الغربية على أدلة واضحة على أن النظام السوري كان يجهز الأسلحة الكيميائية للاستخدام، بما في ذلك خلط المواد الكيميائية الأولية وتحميل الأسلحة على مركبات نقل عسكرية خاصة.

لم تكد تمر أيام على تلك التقارير حتى جاء الخبر اليقين، حين استُخدم "الكيماوي" لأول مرة في حمص قبل نهاية عام 2012. وبعد بضعة أشهر، تحديدا في 19 مارس/آذار 2013، ظهرت أدلة على هجوم بالأسلحة الكيميائية في قرية خان العسل في محافظة حلب، مما استدعى تشكيل بعثة لتقصي الحقائق من قِبَل الأمم المتحدة. بيد أن الأسوأ لم يكن قد جاء بعد، ففي صباح يوم 21 أغسطس/آب 2013، ظهرت مقاطع الفيديو حول هجوم الغوطة، وهو الهجوم الكيميائي الأكثر فتكا في الحرب السورية، الذي أجبرت تداعياته نظام الأسد على إدخال فِرَق التفتيش الأممية ثم الرضوح لاتفاق روسي أميركي للتخلص من مخازنه الكيميائية تفاديا لضربة أميركية محتملة.

مجزرة الغوطة التي قامت بها قوات الأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية في أغسطس/آب 2013 (الجزيرة)

ووفقا للنتائج الأولية التي أعلنتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فإن الترسانة السورية تضمنت 1000 طن متري من الأسلحة الكيميائية من الفئة الأولى (الأسلحة الكيميائية الصريحة)، و290 طنًّا من المواد الكيميائية من الفئة الثانية (ذات الاستخدام المزدوج)، و1230 نظام توصيل غير معبأ من الفئة الثالثة مثل الصواريخ، وقد دُمِّرت الغالبية العظمى من هذا المخزون خارج سوريا. ولكن في حين رُحِّبَ بتدمير الأسلحة الكيميائية المعلنة في سوريا باعتباره إنجازا كبيرا، ظلَّت الأسئلة قائمة حول إذا ما كان النظام قد أفصح عن مخزوناته كاملة.

إعلان

بادئ ذي بدء، اقتصر دخول الفِرَق إلى مواقع تخزين السلاح الكيميائي التي أعلن عنها النظام، أما المواقع غير المُعلنة فكان على المفتشين تقديم طلب دخول إليها عبر إرفاق مجموعة من الأدلة التي تدعم شكوكهم، أي إن تحركات المفتشين كانت تخضع لشروط النظام، وكان له صلاحية رفض تلك التحركات. في إحدى الحالات، شكَّك المفتشون بأن النظام يمتلك أكثر من 20 طنًّا من غاز الخردل هو حجم ما اعتُرف به رسميا، وعندما ضغطت الأمم المتحدة على النظام، ذكر أنه كان قد أتلف فعلا مئات الأطنان من غاز الخردل قبل بدء عملية التفتيش دون تقديم أدلة على ذلك.

لاحقا، كشفت العيّنات التي أخذتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في موقع الأبحاث العسكرية السورية "المعهد 3000" (في مايو/أيار 2014 ويناير/كانون الثاني 2016) عن وجود بعض المواد الكيميائية الناتجة عن تحليل غاز الأعصاب "في إكس"، كما وجد المفتشون آثارا من كحول "بيناكوليل" في المنشأة، وهو مادة أولية لغاز الأعصاب "سومان" وليس له استخدامات سلمية.

قُطعت هذه الشكوك باليقين حين استأنف النظام هجماته الكيميائية بعد الإعلان عن تفكيك ترسانته. وتشير تقديرات مستقلة إلى وقوع عشرات الهجمات الكيميائية للنظام بعد تفكيك ترسانته رسميا. على سبيل المثال، في الرابع من إبريل/نيسان 2017، ظهرت التقارير حول هجوم بغاز السارين على قرية خان شيخون، 30 ميلا جنوبي إدلب، الذي خلَّف أكثر من 100 قتيل، وهي الحادثة التي عُرفت بمجزرة خان شيخون، ما دفع الولايات المتحدة إلى إطلاق 59 صاروخا من طراز "توماهوك" على قاعدة الشعيرات الجوية، الموقع الذي انطلق منه الهجوم الكيميائي.

لاحقا، استهدف النظام مدينة دوما بريف دمشق عام 2018 بأسطوانات غاز الكلور، مما أسفر عن مقتل 43 شخصا. وردا على هذا الهجوم، شنَّت الولايات المتحدة إلى جانب فرنسا وبريطانيا، في إبريل/نيسان عام 2018، ضربات عسكرية ضد ثلاثة مواقع ذكرت إدارة ترامب حينها أنها كانت جزءا من برنامج الأسلحة الكيميائية السوري، منها موقعان لتخزين الأسلحة الكيميائية في غرب حمص، أحدهما الموقع الأساسي لإنتاج غاز السارين، بينما الموقع الثالث كان في إحدى مناطق دمشق، وذكر مسؤول في البنتاغون حينها أنه مركز لتطوير وإنتاج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.

إعلان ما السلاح الكيميائي وما خطورته؟

يقودنا هذا الاستعراض إلى حديث مقتضب حول الأسلحة الكيميائية نفسها، ولماذا تُعد مصدرا للرعب. بحسب منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، يُعرَّف السلاح الكيميائي بأنه أي مادة كيميائية سامة مُصمَّمة خصوصا لإحداث الوفاة أو غيرها من الأضرار، أو أي مادة أخرى يمكن أن تؤدي بتفاعل كيميائي إضافي إلى تلك المادة السامة، التي يمكن أن تُستخدم مباشرة، أو تُوضع في ذخائر عسكرية.

تنقسم الأسلحة الكيميائية إلى عدة عوامل بحسب استخدامها، هناك مثلا خردل الكبريت الذي يُصنَّف ضمن العوامل المنفّطة، وتظهر تلك العوامل في الحروب على شكل سائل، أو رذاذ، أو بخار، أو غبار، وتدخل إلى الجسم عبر الرئتين والجلد. وغاز الخردل ليس له لون أو رائحة، ولكن عندما يُخلط مع مواد كيميائية أخرى فإنه يصبح بُنّي اللون وله رائحة تشبه رائحة الثوم، وتشمل أعراضه حروقا في الجلد والأغشية المخاطية والعينين، بالإضافة إلى التهابات جلدية ومشكلات في الجهاز التنفسي مثل التهابات القصبة الهوائية والرئتين.

بينما يُعد الكلور ضمن العوامل الخانقة، التي تكون عادةً في شكل غاز وتدخل الجسم عبر الرئتين. عند استنشاقها، تُسبب هذه العوامل تهيُّجا في الأنف والمجرى التنفسي، وقد تؤدي إلى تراكم السوائل في الرئتين مما يسبب الاختناق. يُعد الكلور مادة كيميائية مزدوجة الاستخدام، إذ يُستخدم في العديد من التطبيقات المدنية السلمية المشروعة، لكن يُحظر استخدامه بوصفه سلاحا بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.

أما الأسلحة الكيميائية الأكثر خطورة فهي العوامل المؤثرة على الأعصاب مثل "السارين"، و"في إكس". تظهر هذه المواد أيضا في شكل سائل، أو رذاذ، أو بخار، أو غبار، وتخترق الجسم عبر الرئتين والجلد كليهما، وتؤدي إلى تشنجات شديدة، وفقدان السيطرة على الجسم، وشلل العضلات بما في ذلك عضلة القلب والحجاب الحاجز مما قد يؤدي إلى الوفاة.

إعلان

أحد أكثر تلك العوامل استخداما هو غاز السارين، الذي طُوِّر أثناء الحرب العالمية الثانية، واكتسب اسمه من اسم العالِم الألماني الذي طوَّره، ومثله غاز "تابون" وغاز "سيكلوسارين". وتُعد هذه المجموعة من الغازات الطيارة التي تتحول إلى سائل في درجة حرارة غرفة طبيعية، غير أن غاز السارين هو أخفها، والسارين الصافي عندما يكون سائلا يكون عديم اللون والطعم والرائحة.

استخدم نظام الأسد هذه العوامل في هجمات كيميائية مختلفة على مدار السنوات الماضية، لكن التقارير تشير إلى أن المادة الكيميائية السامة الأكثر استخداما هي الكلور. ووفقا لبيانات "بي بي سي"، يُشتبه في استخدام جيش النظام السوري للكلور في 79 هجوما مسجلا. وتُعزى ميزة الكلور -في الهجمات الكيميائية- إلى صعوبة إثبات استخدامه، وبالتالي زيادة إمكانية الإنكار، بسبب سرعة تطاير الكلور، ما يعني تبخّره وتشتته سريعا.

أب يرثي أبناءه بعد مقتلهم على إثر الهجمات الكيميائية التي شنتها قوات الأسد في مدينة الغوطة في أغسطس/آب 2013 (الأوروبية)

تشير شهادات المنشقّين عن مركز الدراسات والبحوث العلمية السوري لصحيفة "لوموند" الفرنسية عام 2020 إلى أن براميل الكلور تُصنع محليا، وأشارت تلك الشهادات إلى كيانات جديدة لم تكن معروفة من قبل، مثل ورشتين لإنتاج البراميل المتفجرة المليئة بالكلور، إحداهما تقع في جمرايا، والأخرى بالقرب من مصياف. ويشير التقرير أيضا إلى آليات تزويد المركز بالمواد الكيميائية، إذ اكتشف المحققون أنه بين عامَيْ 2014-2018، صدّرت 39 دولة -بينها 15 دولة أوروبية- 69 فئة من المنتجات التي يُحتمل خضوعها للعقوبات إلى سوريا، وتضم بصورة أساسية مُركب "أيزوبروبانول"، الذي يُسمح بتسويقه فقط إذا كانت نسبة تركيزه أقل من 95%، لأنه يمكن استخدامه في صنع غاز السارين.

إعلان

وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بيانا في يوم إحياء ذكرى كل ضحايا الحرب الكيميائية، أشارت فيه إلى أن النظام السوري لا يزال يمتلك ترسانة من الأسلحة الكيميائية، مع مخاوف جدّية من احتمال تكرار استخدامها في سوريا. وأشار البيان إلى أن روسيا تساعد النظام السوري في إخفاء مخزوناته من الأسلحة الكيميائية. وقد وثَّقت الشبكة حتى تاريخ 30 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023 ما لا يقل عن 222 هجوما بالأسلحة الكيميائية في سوريا في قاعدة بياناتها، منذ أول استخدام موثق لهذه الأسلحة المحرّمة دوليا في 23 ديسمبر/كانون الأول عام 2012. وقد نفّذت قوات النظام السوري ما مجموعه 217 هجوما من إجمالي تلك الهجمات، بينما نفّذ تنظيم الدولة الهجمات الخمس المتبقية.

أما خطورته، فيُعد السلاح الكيميائي ضمن أخطر الأسلحة فتكا بالبشر على المستوى الجماعي، غير أن حجم الأضرار الناجمة عنه يعتمد بشكل كبير على تركيزه، وهو أمر يختلف من مكان إلى آخر، حيث تزيد المخاطر في الأماكن المغلقة والضيقة، مقارنة بالمساحات الواسعة على سبيل المثال، وفي كل الأحوال يؤدي التعرض لذلك النوع من المواد إلى الوفاة إذا زاد التركيز الذي يتعرَّض له الشخص ومدة التعرُّض على حدٍّ معين.

حقيقة أخرى لا تقل أهمية عن السلاح الكيميائي هي أنه "عشوائي" في اختيار ضحاياه، إذ يمر بين جنبات البيوت والحارات الضيقة، فيقتل مَن يقابل بلا تمييز. وتزداد الأمور سوءا إذا علمنا أن المواد الكيميائية تُحمَل مع الرياح أو المياه إلى مسافات طويلة، ويستمر تأثيرها لمدة يومين تقريبا في البيئة التي أُطلقت بها، في ظل ظروف مناخية متوسطة، ومن أسابيع إلى شهور في ظل ظروف شديدة البرودة.

كل هذا ولم نتحدث بعد عن ذلك القدر من الألم غير المحتمل الذي يعانيه الضحايا قبل الموت. تبدأ أعراض تسمم السارين مثلا بدموع غزيرة، مع ألم واضح ورؤية مشوَّشة، إلى جانب سيلان اللعاب والتعرق المفرط والسعال وضيق الصدر والتنفس السريع والإسهال والغثيان والقيء، مع آلام في البطن وزيادة التبول والارتباك والنعاس والصداع، إلى جانب ذلك يرتفع معدل ضربات القلب ويضطرب ضغط الدم. ومع استمرار التعرض، يفقد الشخص الوعي، وقد تظهر تشنجات وشلل، تنتهي بفشل الجهاز التنفسي، ثم الوفاة.

إعلان

فيما يتسبَّب الكلور في ألم حارق واحمرار وبثور على الجلد، مع شعور بحرقة في الأنف والحلق والعينين، وسعال ساحق، وضيق شديد في الصدر، وصعوبة في التنفس، يعقب ذلك تراكم السوائل في الرئتين، ومع استمرار التعرُّض تكون الوفاة هي النتيجة التالية. كل هذا القدر من الألم ألحقه نظام الأسد بلا رحمة بآلاف الضحايا، الذي كانوا بالنسبة إليه ثمنا مقبولا للاحتفاظ بكرسي السلطة، الذي لم يُخيَّل إليه أنه سيفقده بين طرفة عين وانتباهتها، في اثني عشر يوما فقط.

مقالات مشابهة

  • حصاد 2024 .. الإمارات الأولى عالمياً في 223 مؤشراً للتنافسية العالمية
  • نتنياهو يزور جبل الشيخ في سوريا الذي احتله الجيش الإسرائيلي بعد سقوط الأسد
  • الأسلحة الكيميائية وسر نظام الأسد المظلم الذي تخشاه إسرائيل والغرب
  • حصاد 2024.. الإمارات الأولى عالمياً في 223 مؤشراً للتنافسية العالمية
  • الإمارات الأولى عالمياً في 223 مؤشراً للتنافسية العالمية في 2024
  • حصاد 2024 .. الإمارات الأولى عالميا في 223 مؤشرا للتنافسية العالمية
  • مسؤول كردي في الإقليم يطالب إسرائيل بعدم فضح علاقة الأكراد بها
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • إسرائيل ترى في خطاب نعيم قاسم اعترافاً بأزمة غير مسبوقة
  • ما أبرز إنجازات مواجهة إسرائيل ومن يدعمها عالميا خلال 2024 ؟