بينما يتشكل في رحم الأم الطفل القادم، ويكبر جزء منه ليتطور نموه كل أسبوع تقريبا، في تغير بادٍ للعيان، فإن تغييرا ليس أقل بكثير منه يحدث داخل دماغ الأم الحامل، تستعد معه نفسيا وعاطفيا لاستقبال المولود، فما الذي تخبرنا به الدراسات التي أجريت في هذا الجانب؟

عاصفة من الهرمونات

يتطور دماغنا؛ ذلك الجهاز المذهل الذي يتألف من الشبكات العصبية وفق تجارب حياتنا، وفي أشهر الحمل تتطور بنية الدماغ كاملة، بسبب تغييرات في إفراز هرمونات جنسية مثل الإستروجين والبروجسترون التي تكون ضرورية للاحتفاظ بالحمل وإعداد المرأة للولادة، لكنّ لها تأثيرا كبيرا في الدماغ إذ تتحكم في شكل الخلايا العصبية وأعدادها.

يشبه الأمر ما يحدث عند البلوغ، حين يزيد إفراز هرمون الإستروجين والبروجسترون زيادة تتسبب في تغييرات سلوكية ومعرفية وعاطفية لدى المراهقين. ووفق موقع "ذا كونفرزيشن"، فإن زيادة هرمون الإستروجين يمكن أن تؤدي إلى تغييرات في القدرة على التعلم واتخاذ القرار، كما تؤثر تأثيرا إيجابيا في الحالة المزاجية والعاطفية.

يقف الإستروجين خلف كثير من التغيرات لدى النساء لا سيما خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، إذ تسجل أعلى مستويات لهذا الهرمون داخل الجسم.

أما بخصوص البروجسترون، فتشير الدراسات إلى حدوث زيادة في التعبير عن بروتينات الهيكل الخلوي (وهو نسيج البروتين الذي يوفر الدعم الداخلي للخلية) في منطقة الحصين بالدماغ، وهو ما قد يزيد مرونة المشابك العصبية والروابط بين الخلايا العصبية.

لا يُعرف حتى الآن كيف تؤثر الهرمونات في الذاكرة، ولا يزال الأمر يتطلب مزيدا من الدراسات للوقوف على دورها في هذا الجانب، وبوجه عام لا تزال المعرفة بما يحدث من تأثير على الدماغ قليلة نسبيا وتحتاج إلى مزيد من الدراسات.

التغيرات المزاجية تنعكس في مشاعر متناقضة بين الشعور بالرغبة في لقاء الطفل والشعور أحيانا بالخوف من الولادة (غيتي) القدرة على التحمل

ينخفض خلال الحمل حجم المادة الرمادية، وهي منطقة من الدماغ تتكون بشكل أساسي من الأجسام العصبية، وهذا ليس سلبيا كما قد يبدو، فكما يحدث في دماغ المراهق فإن هذه الخسارة تعوّض سريعا بعد ولادة الطفل، لتنشأ دوائر دماغية أكثر كفاءة.

ففي دراسة أجريت عام 2022 ونشرتها مجلة "نيتشر كوميونيكيشن" (Nature Communications) كشف التصوير بالرنين المغناطيسي عن تغيرات هائلة تحدث في دماغ الأم الحامل، إذ يزيد فقدان المادة الرمادية ويُعاد تشكيل "الوضع الافتراضي" الذي يكون فيه الدماغ في حالة أحلام اليقظة أو الشرود، أو أداء مهام بطريقة آلية، ويرتبط أيضا بالشعور بالهوية، وتعزز هذه التغيرات العصبية الترابط بين الأم والطفل وتلعب دورا في تحوّل الهوية الذي تشعر به العديد من النساء عندما يصبحن أمهات.

التغيرات العصبية تعزز الترابط بين الأم والطفل (بيكسلز)

وفي مناطق الدماغ المختلفة تحدث لدى الحامل تغييرات تتعلق بالمشاعر، فيزيد مثلا حجم الغدة النخامية المسؤولة عن إفراز هرمونات تؤثر في وظائف الجسم المختلفة، وفي أشهر الحمل يصبح دورها خلق رابطة عاطفية بين الأم والطفل، بينما يؤثر التقلص في منطقة الحصين على الذاكرة والتحكم في العواطف.

ووفق موقع "لايف ساينس" (Livescience)، فقد أشارت دراسة سابقة أجريت في إسبانيا إلى أن انخفاض حجم المادة الرمادية يمتد نحو عامين بعد الولادة، لكن تتبّع تأثير هذه التغييرات في الدراسة الجديدة كشف عن ارتباط فقدان المادة الرمادية بسلوك "التعشيش" الذي تقوم به الأم استعدادا لاستقبال الطفل، ومن ذلك تهيئة المنزل وشراء أغراض للطفل.

وقد ارتبط هذا التغيير لاحقا بالشعور بالمتعة عند التواصل مع الطفل، وقلة الشعور بالاستياء أو الغضب تجاهه. وبشكل عام تسهم التغييرات التي يمر بها الدماغ أثناء الحمل في التأثير في قدرة الأم على اكتشاف ما يفكر فيه الآخر -الطفل- والشعور به، وذلك يعزز الرابطة بين الأم والطفل الجديد ويزيد قدرتها على فهم احتياجاته، واكتشاف ما قد يهدده، ويمكن تسمية ما يحدث بأنه "إعادة ضبط" لدماغ المرأة تتوافق مع وضعها الجديد، فتدعم قدراتها في رعاية الطفل القادم.

حدث نفسي قوي

الدراسة التي نشرتها مجلة "ميد بريغل" (Med Pregl) عام 2004 تعدّ الحمل حدثا نفسيا قويا، بخاصة الحمل الأول، بما يشمله من تغييرات نفسية معقدة. وتشير الدراسة إلى حدوث تغيرات تبدو متناقضة، وتشمل التغيرات المزاجية والقلق والتعب والإرهاق والنعاس وردود الفعل الاكتئابية أحيانا والشعور بالإثارة أحيانا أخرى.

وتحذر الدراسة من أن حالة الحمل التي يتغير فيها مظهر الجسم وعواطف المرأة تتوالى فيها الأفكار والمخاوف، وتشكل ضغطا قويا على المرأة قد يؤثر في الحالة النفسية لها، حتى في المرحلة التالية له، مرحلة بعد الولادة، وهو ما يتطلب العناية الجيدة ودعم الأسرة والمجتمع للتغلب على ما قد يستتبعه من آثار نفسية تترك عواقبها على المدى البعيد على الطفل الجديد.

ووفق موقع "معهد علم النفس-علم الجنس مايوركا" (Instituto Psicología-Sexología Mallorca)، تؤثر التغيرات في الهرمونات في الحالة المزاجية، كما أن التغيرات الجسدية تشعر النساء أحيانا بعدم الارتياح، وذلك يؤثر في الحالة العاطفية، ويصل الأمر أحيانا إلى تشويه صورة الجسد خاصة في وجود الضغوط الاجتماعية، والفكرة المسبقة عن الزيادة المقبولة في الوزن أو الفترة التي يكون على المرأة استعادة الوزن الطبيعي لها بعد الولادة.

المعرفة بما يحدث من تأثير على الدماغ لا تزال قليلة نسبيا (بيكسلز)

تنعكس التغيرات المزاجية في مشاعر متناقضة بين الشعور بالرغبة في لقاء الطفل، والشعور أحيانا بالخوف من الولادة والذعر من عدم القدرة على تحمل المسؤولية القادمة، وقدرتها على أن تكون أما جيدة، فضلا عن القلق على صورة الجسد وأزمة الهوية التي يعنيها دورها الجديد، إذ يترافق الحمل مع إعادة تقييم أولويات الحياة. إنها النقطة الفاصلة التي تشعر المرأة أمامها بضرورة تحديد أهداف جديدة والتخطيط للمستقبل، وهو ما قد يعرضها لمستويات أعلى من التوتر.

لكل هذه المرحلة تتطلب قدرا كبيرا من الرعاية لما لها من تأثير كبير على صحة الأم وقدرتها على تقديم الرعاية لطفلها الجديد، وإقامة علاقة آمنة معه، ولما تسهم فيه البيئة الصحية للأم من دعم عاطفي ومعرفي للطفل قبل الولادة وبعدها، كما أن الاهتمام بها يعدّ وقاية لخطر التعرض لاضطرابات مثل اكتئاب ما بعد الولادة.

الخبر الجيد الذي تشير إليه دراسة نشرتها مجلة "ساينتيفيك ريبورت" عام 2023 أن هذه التغيرات تؤثر إيجابيا في وظائف المخ في مراحل متقدمة من العمر، بعيدا عما يتعلق باحتياجات الأطفال، وتسهم على المدى البعيد في دعم صحة عقلية أفضل للأمهات، مقارنة بمن لم يمررن بتجربة الأمومة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات المادة الرمادیة بعد الولادة فی الحالة ما یحدث

إقرأ أيضاً:

علماء يكشفون: ربع ساعة نوم إضافية تغيّر كل شيء في دماغ المراهق

شمسان بوست / متابعات:

كشفت دراسة جديدة قامت بها مجموعة من الأطباء، عن أن الحصول على 15 دقيقة إضافية من النوم يرتبط بفوائد كبيرة تتعلق بصحة الدماغ لدى المراهقين.


نعلم أن جودة النوم ضرورية للصحة الجيدة، وأن فترة المراهقة فترة مهمة لنمو الدماغ، وأن المراهقين لا يحصلون دائمًا على قسط كاف من النوم.


وباستخدام بيانات 3222 مراهقًا تتراوح أعمارهم بين 9 و14 عامًا، قسّم باحثون من مؤسسات في الصين والمملكة المتحدة المجموعة إلى ثلاث مجموعات: أولئك الذين لديهم أسوأ عادات نوم (بمعدل 7 ساعات و10 دقائق في الليلة)، وأولئك الذين لديهم أفضل عادات نوم (7 ساعات و25 دقيقة)، وأولئك الذين بينهما (7 ساعات و21 دقيقة).


في حين لم يكن هناك فرق كبير بين هذه المجموعات من حيث التحصيل الدراسي، إلا أن الدراسة أظهرت أن من ينامون فترة أطول لديهم تحسنًا ملحوظًا في الاختبارات المعرفية للقراءة، وحل المشكلات والتركيز، مقارنةً بمن ينامون فترة أقل.

تقول باربرا ساهاكيان، اختصاصية علم النفس العصبي السريري من جامعة كامبريدج: “على الرغم من أن الاختلافات في مقدار النوم الذي حصلت عليه كل مجموعة كانت صغيرة نسبيًا، إذ تجاوزت ربع ساعة بقليل بين أطول وأقصر مدة نوم، إلا أننا ما زلنا نلاحظ اختلافات في بنية الدماغ ونشاطه وفي مدى أدائهم للمهام”.



وأضافت ساهاكيان: “هذا يبرز لنا أهمية الحصول على نوم هانئ في هذه المرحلة المهمة من الحياة”.

كما لوحظ أن مجموعة الشباب الذين ناموا فترة أطول لديهم حجم دماغ أكبر، وأقل معدل ضربات قلب، وأعلى مستويات اتصال دماغي، مقارنةً بالمجموعات الأخرى.


ومما يثير القلق إلى حد ما، أن معظم الشباب وقعوا في المجموعة التي لديها أضعف مجموعة من بيانات النوم: 39% من الإجمالي. وضمت المجموعة الوسطى 24% من المشاركين، بينما شكلت المجموعة التي سجلت أعلى درجات في النوم 37% من الأطفال.


ولا يكفي البحث لإثبات علاقة السبب والنتيجة فيما يتعلق بالنوم ووظائف الدماغ، ومن الجدير بالذكر أن الاختلافات المعرفية بين المجموعتين لم تكن كبيرة، ولكن عند مقارنتها بدراسات أخرى مماثلة، فإنها تعزز الأدلة على أن أدمغة الشباب بحاجة إلى النوم، وأن كل دقيقة لها أهميتها.

يقول عالم النفس تشينغ ما، من جامعة فودان في الصين: “على الرغم من أن دراستنا لا تستطيع الإجابة بشكل قاطع عما إذا كان الشباب يتمتعون بوظائف دماغية أفضل وأداء أفضل في الاختبارات لأنهم ينامون بشكل أفضل، إلا أن هناك عددًا من الدراسات التي تدعم هذه الفكرة”.

وأضاف: “بينما نعرف الكثير عن النوم في مرحلة البلوغ وفي مراحل لاحقة من الحياة، فإننا نعرف القليل عن النوم في مرحلة المراهقة، على الرغم من أن هذه مرحلة حاسمة في نمونا”.


ووفقا للدراسة التي نشرتها مجلة “ساينس أليرت” العلمية، فقد تناولت الدراسة ارتباط النوم بالصحة العقلية والجسدية، وهذه الدراسة تذكر المراهقين وأولياء الأمور بضرورة الحصول على دقائق أكثر من النوم لدى المراهقين.

مقالات مشابهة

  • علماء يكشفون: ربع ساعة نوم إضافية تغيّر كل شيء في دماغ المراهق
  • للمرة الثانية خلال 24 ساعة.. العثور على رضيع حديث الولادة بمدينة السادات
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • مفوضية الانتخابات تناقش التحديات التي واجهت ترشح المرأة بانتخابات البلديات
  • 4 أمور تجب على المرأة قبل السفر للحج.. أمينة الفتوى توضح
  • رئيس قوى عاملة النواب: 4 أشهر إجازة وضع للمرأة العاملة في القطاع الخاص بقانون العمل الجديد
  • نسيمة سهيم… نموذج المرأة المناضلة التي وضعت الإنسانية فوق كل اعتبار
  • نائب محافظ الإسماعيلية يشهد الاحتفال السنوي لتكريم الأمهات المثاليات لعام ٢٠٢٥
  • اليوغا والذاكرة.. وضعيات تساعد الطلاب على التركيز والتذكر أثناء الامتحانات
  • ملتقى المرأة بالأزهر يناقش طرق تأهيل التأخر اللغوي لدى الأطفال ذوي الهمم