سررت بتقديم الصحفي المقدسي محمد زحايكة في مقابلته لي بقوله: يحمل الناقد والمؤرخ الأدبي والفني تحسين يقين في قلبه حبا أصيلا للثقافة والفنون الفلسطينية، وهو يواصل المتابعة النقدية البناءة لواقع الأدب والثقافة والفن في قلمه على مدى ثلاثة عقود.
حين سألني عن الثقافة الفلسطينية، قفزت لذهني محطات مهمة ينبغي دوما تذكرها، في ظل ما عانته فلسطين من عدم استقرار على مدى قرن من الزمن؛ فقد مرت في مدّ وجزر، وقد طال الجزر بطول الاحتلال، الذي منذ عام 1948، قام «بجزّ» الازدهار الثقافي الذي ظهر في فلسطين، كأحد مراكز النهضة العربية الحديثة.
فحين نتأمل التاريخ الثقافي الفلسطيني، سنجد أنه مرّ في سلسلة حلقات تنويرية، بدءا بحضور التنوير الثقافي الفلسطيني- كما ذكرنا- قبل نكبة عام 1948؛ فقد كان في فلسطين حاضرتان ثقافيتان هما القدس ويافا إلى جانب بيروت والقاهرة، كذلك كانت مراكز المدن كنابلس والخليل وحيفا أيضا حواضر ثقافية وتعليمية مهمة. وهو ما يدلل على أسبقية فلسطين كحاضرة ثقافية نهضوية تنويرية متميزة. ومع وجود استمرارية جيدة للثقافة في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بين عامي 1948 و1967 مثل جماعة الأفق الجديد في القدس، إلا أن الحلقة التنويرية الثانية كانت في بيروت في ظل وجود منظمة التحرير ككيان معنوي للشعب الفلسطيني، واستمرت في عقد السبعينيات حتى عام 1982، بعد خروج المقاومة من بيروت. أما الثالثة، وقد عايشتها حينما كنت أعمل في الصحافة الثقافية محررا وكاتبا ومراسلا، فهي ما استأنفه الفلسطينيون لمرحلتي فلسطين قبل عام 1948 ومرحلة بيروت، فقد تأسس في الضفة الغربية وقطاع غزة ازدهار ثقافي منذ عام 1994، مع بداية تأسيس السلطة الوطنية، حيث شهدنا تدفقا لأركان الثقافة والفن من أدب ومسرح وسينما وفن تشكيلي ورقص وغناء، بدأت تنمو بذور حياة ثقافية ومشهد ثقافي فلسطيني متصاعد، استمر ذلك حتى عام 2000، حيث انطلاقة الانتفاضة الثانية، ويبدو أنه كان هناك نية احتلالية بوأد للثقافة والفن، كونهما معبرتين عن حيوية فلسطين وقضيتها.
على مدار ثلاثة عقود من مواكبتي للمشهد الثقافي الفلسطيني بعموميته، لم ألحظ إلا محطات قليلة كان فيها هذا المشهد وامضا ومشتعلا ومتألقا، في حين كان المشهد في باقي المحطات الزمنية شبه كئيب ومتراخيا ويكاد يكون هزيلا مع الأسف، حيث يغيب التراكم الكمي والكيفي والاستمرارية والزخم الثقافي. لذلك، يمكن القول : لدينا مبدعون فلسطينيون، من أدباء وفنانين ومسرحيين ولكن لا توجد عندنا حركة أدبية وثقافية وفنية فلسطينية مبنية على أرضية صلبة ومتماسكة ودائمة.
في العقدين الأخيرين تألقت بعض الأسماء الجديدة في الأدب والفن، جنبا إلى جنب مع أسماء راسخة، سواء من كانت ضمن أدباء الأرض المحتلة، أو من المبدعين العائدين بعد عام 1993 إثر اتفاق أوسلو. إن هناك أدبا جديدا وفنونا جديدة بدأت تظهر ملامحها في العقدين الماضيين، ويتوّج ذلك بشكل خاص في ظل الحرب على غزة، ما يعني أننا إزاء استئناف إبداعي فلسطيني، سيكون له الأثر على المشهد الثقافي العربي.
لو كنت وزيرا للثقافة..؟! لم يفاجئني سؤال الصحفي المقدسي محمد زحايكة، فقد سئلت هذا السؤال عدة مرات، ودوما كنت أقول: من سيقود الثقافة ينبغي عليه الاطلاع على حركة أركان الثقافة والفنون، لتشكيل ما يمكن الاصطلاح عليه بمنظومة العمل الثقافي؛ فمثلا في حالة الفن التشكيلي، يتم تنظيم ورش عمل لتعريف الفنانين من أعمار متباينة، ومعارض للفنانين المحترفين وكذلك للفنانين الشباب، مع ضرورة تسويق اللوحات، من خلال شراء الحكومة لوحتين لكل فنان، وتشجيع القطاع الخاص على الاقتناء، في ظل التعاون مع وسائل الإعلام خاصة التلفزيون الفلسطيني لعمل برنامج أسبوعي عن الفن التشكيلي، يناقش أعمال الفنانين وبالطبع يغطي المعارض، كذلك التعاون مع وزارة التربية والتعليم التي بدأت حديثا من خلال الأنشطة برعاية المواهب الفنية منذ بضع سنوات. في الوقت الذي نستفيد من الاتفاقيات الثقافية العربية والعالمية في إقامة معارض فلسطينية خارج الوطن.
إن رعاية الفعل الثقافي سيكون له أثره، في ظل النظرة الاستراتيجية لمنظومة تتعلق بأركان الثقافة والفنون، وألا تكون موسمية. وما نقوله عن الفن التشكيلي ينطبق على المسرح، من حلقات تدريب على كتابة النصوص المسرحية لأجيال مختلفة، ودعم الإنتاجات بشكل عادل، لضمان الاستمرارية وعدم الانقطاع وصولا لمنظومة شاملة ومتكاملة ذات ديمومة بدء من بداية الإبداع ومرورا بتسويقه وضمان استمراريته وعدم توقفه.
أمام أي مسؤول جاد العمل على استعادة الجمهور، من خلال فهم التحولات العربية، التي امتد تأثيرها على الثقافة في فلسطين؛ فقد بدأت الحركة الثقافية العربية تتراجع منذ سياسة الانفتاح في مصر كونها رائدة النهضة العربية، حيث بدأ التحول في المشهد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ما أثّر على مجمل الحياة الثقافية من أدب وفكر وسينما ومسرح وغناء وموسيقى، وتواصل تقريبا من منتصف السبعينيات، وبالطبع كان لذلك أثر سلبي. وطبيعي أن هذا كان له تأثيره ولو بصورة جزئية على المحيط العربي المجاور، ونحن جزء منه.
إن لكل قطر عربي بالطبع خصوصيته، وهنا في فلسطين منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، حدثت تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم تسلم الثقافة والفن من آثارها إيجابيا وسلبيا. فقد نجت الرواية الفلسطينية إلى حد ما من عوامل التشظي، وبقيت ملتزمة بالقضايا الوطنية والإنسانية، حيث أظهرت ذلك في كتابي: «ملامح الرواية الفلسطينية بعد أوسلو»، الذي صدر قبل عامين، كذلك الحال في مخطوطتي عن اتجاهات الحركة المسرحية الفلسطينية بعد أوسلو، وهو بحثي الذي نلت عليه جائزة المكتبة الفلسطينية حديثا. كذلك حدث ذلك للفن التشكيلي بعد أوسلو الذي تم غزوه لتخريبه من باب تشجيع الفن المعاصر المتحرر من الهوية والتحرر، ولكنه نجا بصعوبة، وهو ما سوف يكون في كتابي القادم. في هذا السياق فإنني أنظر للتمويل الثقافي والتعليمي نظرة نقدية، كونه عمل على تشتيت الثقافة والتعليم للأسف الشديد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثقافة والفن فی فلسطین
إقرأ أيضاً: