عندما حصل الأديب التركي أورهان باموق على جائزة نوبل للآدب في عام 2006 عن رواية "جودت بيك وأولاده"، لم يكن عمره قد تجاوز الـ54، لكنه كان ثاني أصغر فائز على الإطلاق بعد الكاتب والشاعر البريطاني رديارد كيبلينغ، وهو في عمر الـ41.

في حيثيات تلك الجائزة، ذكرت لجنة نوبل أن باموق اكتشف رموزا جديدة للصراع والتداخل بين الثقافات، "أثناء بحثه عن الروح الكئيبة لمدينته الأصلية، وما تحتويه من توترات عميقة الجذور بين الشرق والغرب، وبين التراث والعلمانية"، وهي الفكرة الرئيسية التي تتقاطع في العديد من أعمال باموق.

وتضيف لجنة الجائزة أنه "في بحثه هذا اكتشف باموق رموزا جديدة لتصادم الحضارات وتضافرها".

وكان باموق قد اختزل بروايته "جودت بيك وأولاده" 3 أجيال بأحداثها ومتغيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليتنقل بالقارئ من عصر إلى عصر، ومن حقبة إلى 3 حقب متعاقبة.

فقد بدأت الرواية التي تقع في 700 صفحة، في مطلع القرن الـ20، حيث شهدت عائلة جودت بيك، الدولة العثمانية وسقوطها، وقيام الجمهورية التركية وحياة مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، لتشهد تلك العائلة، وفاته، ثم تنطلق الرواية إلى حقبة السبعينيات، والانقلابات العسكرية التي شهدتها، وما حدث بعدها، من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية.

ويتميز باموق بالسلاسة في حياكة خيوط الحياة السياسة التركية الحديثة، وعلى الرغم من أن بعض أشهر رواياته، تبدأ في تاريخ تركيا البعيد والأكثر حداثة، فإن كتاباته باتت معروفة، بقدرتها على إثارة الذكريات والعواطف، والسعي لاستكشاف الماضي والحاضر.

بيد أن باموق كثيرا ما تحدث عن فكرته الأساسية، تلك التي يرى من خلالها، أن تركيا أضحت ملحقة بالعالم المتمدن، وأن الأدب التركي لن يصبح أدبا مهما كالأدب الغربي، لأنه لا يوجد اهتمام بالثقافة والأدب والفنون في تركيا، بحسب رأيه.

ترجمة عربية لرواية أورهان باموق "جودت بيك وأبناؤه" (الجزيرة)

 

 من العثمانية إلى الغرب

تزخر روايات باموق بعناصر من حياة المؤلف وتطور تركيا على حد سواء. روايته الأولى "جودت بيك وأبناؤه" تروي قصة الأجيال الثلاثة التي تنتمي إلى إحدى العائلات الثرية التي تعيش في حي نيشان تاشي، وهو الحي الذي يقطنه باموق. والذي كانت عائلته قد تحمّلت كثيرا من التغييرات التي اجتاحت تركيا في السنوات الأولى من القرن الـ20. وبعد أن كانت هذه العائلة ثرية، باتت تسعى مع ظهور الجمهورية التركية إلى مظاهر الحياة الغربية.

وضمن أحداث رواية جودت بيك، هناك عديد من العناصر، التي تتصارع من بينها الشعور القومي، والتأثر بالغرب، وهناك أيضا الأفكار الصوفية، التي ظلت تتلاعب بأبطال الرواية، وتدفع الأبطال الرئيسيين إلى المعاناة من ضغط الواقع. فهناك على سبيل المثال "عمر" الذي كان يعتبر نفسه أحد الفاتحين، بعد أن تحول إلى ثري بائس، ونسي ثورته التي كان يحدوها طموح عارم للتغير. وهناك "وفيق" التاجر الذي انحاز إلى عزلته، تاركا عمله، ثم انفصل عن زوجته. وهناك أيضا "محي الدين" -الشخصية الثالثة- الذي كان نموذجا للشخص الباحث عن حقيقته الضائعة، وهذا الشخص الشاعر عندما يصدر ديوانا لا يترك أي صدى، سرعان ما يمضي في اتجاه آخر، وينضم إلى حركة القوميين الأتراك.

وتتهاوى أحلام شخصية مثل جودت الذي يعمل بالتجارة، ولكنه يشعر بالغربة بسبب سيطرة اليهود والأرمن على التجارة في تركيا. ومن هنا تتداعى أحلام جودت التي تمثلت في توسيع أعماله في بيع الخردوات. بعد أن كان قد فقد عائلته منذ صغره، حيث توفى والده ولحقته أمه، في حين قرر شقيقه "نصرت" الهروب من تركيا إلى فرنسا، ليعيش في مجتمع أكثر انفتاحا، ولكنه بعد مرضه يعود مرة أخرى إلى تركيا.

أورهان باموق في متحف البراءة الذي يجسد إحدى رواياته (الأناضول)

هنا يعقد باموق مقارنة من خلال الحوار، بين جودت ونصرت تجسد الاختلافات داخل المجتمع، فجودت لا يهتم بأي شيء يحدث في المجتمع على صعيد السياسة الذي وجد نفسه واحدا منها بعد أن طلب الزواج من ابنة شكرو باشا "نيجان"، وهو أحد الوزراء السابقين، على عكس شقيقه "نصرت" الطبيب الذي درس الطب في إحدى الكليات العسكرية، ثم ترك الطب، واتجه إلى السياسة.

وفي أتون الصراع السياسي، تبدأ وقائع وأحداث الرواية، وعبر السرد التقليدي الذي يعتمد على الوصف والتفصيلات الجزئية، نتعرف على "جودت بك" الذي أصبح عميدا لأسرة التجار في إسطنبول، والذي سوف تتابع الرواية حياته وطموحاته، حتى الجيل الثالث من أحفاده، في نسق بنائي تتداخل فيه أحداث وتطورات الواقع التركي السياسي والاجتماعي، في مصائر الشخصيات الرئيسية والثانوية. فيقدم باموق نماذج نمطية لجيل هذه الفترة من حياة تركيا الحديثة، مجسدا في 3 زملاء هم المهندس "عمر" العائد من دراسة وعمل في أوربا، والمهندس الحالم "رفيق" ابن جودت بك، والمهندس الشاعر "محيي الدين".

لكن باموق في بنائه لهذه الأنماط، لم يعطنا سوى هياكل مجردة تزينها عبارات من البلاغة اللفظية، دون أن يفعل ما سبق أن فعله كبار الروائيين الواقعيين الذين ابتكروا مصائر لنماذج رجال ونساء من لحم ودم.

 صعود وهبوط

في رواياته، حاول "باموق" أن يقدم صورة بانورامية للحياة في تركيا منذ أوائل القرن الـ20 وحتى حقبة السبعينيات.. وقد تأثر في هذا النوع من الروايات الملحمية بالروائي جون جالزورذي الذي كتب "ملحمة أسرة ال فورست"، وتوماس مان في روايته "ال بادنبرك"، غير أن هناك تشابها بين رواية "جودت بيك" وتصويرها للأجيال والتاريخ التركي، مع ثلاثية نجيب محفوظ، فثمة قرابة بين فهم وطموح الكاتب لتصوير ملحمة الصعود والسقوط لحياة طبقة وأسرة من التجار، ورصد الأخلاق والعادات لطبقة البورجوازية، في حركة الصعود والتحول الثوري.

وهنا تظهر العديد من أوجه التشابه بين تناول باموق للمدينة، وما كتبه نجيب محفوظ من خلال أعماله عن المدينة أيضا، التي تبدو غالبية رواياته، بمثابة تأريخ حقيقي للقاهرة.

وهنا يعلق أورهان باموق على ما يقال من أنه تشابه مع ثلاثية محفوظ، قائلا:

"أحببت الثلاثية وتأثرت بها، وأظن أن التشابه قد يتمثل في الشخصيات وعلاقاتها بالمكان والأحياء والشوارع وحكايات النساء، لكن رواياتي تحمل أوجه التناقض بين التراث الديني والثقافي والرغبة في التجديد. ولكن الأمر أكثر عمومية من هذا، يشغلني تحول حياة العائلات الكبيرة حيث يتعايشون سويا كما لو كانوا جماعة موحدة، ثم تتفتت الأسرة وتنتقل من البيت الخشبي التقليدي إلى مساكن متفرقة في بناء موحد.. كل هذا يشكل عالمي الروائي الذي ربما يشبه محفوظ، لكنه يختلف عنه".

وعندما يكتب باموق عن إسطنبول، يواصل طرح سؤاله الأهم: هل يستطيع الشرق والغرب أن يتعايشا سويا، ولا يكف عندئذ عن رواية حكايات متشابكة، لأبطال من كل الطبقات والأزمنة، وهو ما يدفع بعض النقاد إلى القول إن رواية جودت بيك التي كتبت في سبعينيات القرن الماضي، كانت تحاكي روايات دستوفسكي، لأن الأبطال يفكرون كثيرا، وكل واحد منهم يريد أن يتطور كي يرضى عن نفسه. وقد يبدو الحنين إلى الماضي هاجسا يشغل باموق، في حين لا يحبذ كتاب آخرون ذلك، وهو ما كان قد عناه باموق، حين قال إن "فكرة الحنين للماضي ليست منبوذة، لكنها تعطي أحيانا انطباعا بالتشاؤم، لأنها توحي بفقدان الأمل في المستقبل، ولكنها إن وُظفت بطريقة صحيحة في الكتابة، فإنها ستكون جيدة، لأنها أيضا تحمل جانبا يثور على الحاضر متمسكا بالماضي، فهي ليست مرفوضة بالنسبة لي، وكلنا متفقون أن الحياة السياسية والدينية والكرامة الإنسانية كانت أفضل في الماضي".

حقيبة الأب

في كلمته، التي ألقاها في حفل الأكاديمية، لحظة تسلمه جائزة نوبل، يفتتح باموق خطابه بالحديث عن حقيبة والده التي ظلت تحتشد بدفاتر كتبها خلال حياته الطويلة، وعزلته في فنادق باريس، هذه الحقيبة المكتظة بما خطه الأب من أفكار وتأملات وأشعار، لم تكن سوى الرمز إلى التاريخ العثماني، أو التاريخ التركي الجديد الذي يشكل ردا على التاريخ العثماني، وذلك لأن باموق يتخوف من فتح هذه الحقيبة، لأنه إن قام بفتحها، سوف تأخذه إلى عوالم جديدة، قد تغير نظرته إلى أبيه.

وهو هنا يشير إلى ذلك، حين يقول واصفا حقيبة الأب "هي من جلد جيد، وأقفالها بادية وقوية، وحين أفتحها تخرج منها رائحة الكولونيا، والأشياء الغريبة التي كان يعود بها الأب من أوربا! ملمحا للتاريخ العثماني، حين يتحدث عن ما تحت الروائح الجميلة، لعله مظالم".

عادات الكتابة

"ما زلت أكتب بخطّ اليد. إنها عادتي الخاصّة، والمحبَّبة إلى قلبي، فأنا عاشق للورقة، والقلم، ورائحة الحبر، يعطيني ذلك دفعة قويّة للكتابة، ويلهمني كثيرا". هكذا قال باموق ردا على سؤال كان يعني بعاداته أثناء الكتابة.

ويضيف باموق "ظللت أكتب على ورق الرسم البياني. في بعض الأحيان أتصور أن السبب في ذلك، هو أن هذا الورق يناسب طريقتي في الكتابة، وفي أحايين أخرى أتصور أن السبب هو أنني عرفت في تلك الأيام، أن اثنين من كتابي المفضلين، هما توماس مان وجان بول سارتر، يستعملان هذا النوع من الورق".

أسباب الكتابة

أمام الذين شاركوا في احتفالية أكاديمية نوبل بمنح جائزة نوبل لأورهان باموق، واصل خطابه وراح يقول "كنت أكتب روايتي الأولى "جودت بيك وأبناؤه"، التي استغرقت 4 سنوات لإكمالها، ومع كل وقفة كنت أنهض من أمام الطاولة، وألقي نفسي بيأس على الديوان، في الغرفة المعبأة بالدخان، وأعود إلى قراءة تلك الحوارات، مع فوكنر وهيمنغواي ونابوكوف، محاولا أن أسترد إيماني بالكتابة، وأن أعثر مجددا على دربي.

بعد ذلك، يقول باموق إنه تخلص من إرث أبيه وحقيبته، ثم يصارحهم بما يجول في نفسه من أسئلة منها لماذا يكتب؟ ولماذا الأدب؟

ويرد باموق قائلا "أكتب لأنني لا أستطيع مزاولة أي عمل غير الكتابة! ولكي تصير كتابتي كتبا أعود إليها من أجل قراءتها، ولأني معجب بفكرة أنني مقروء، ولإيماني بخلود الكتب، ولكي أترجم جمال الحياة، وحتى أكون سعيدا، وأكتب أيضا لكي يقول لي أبي (ستصبح باشا)، لكن أبي رحل منذ 4 سنوات، ولكَم تمنيت لو أنه كان معي الآن.. في هذا الاحتفال ليقول لي أمامكم: لقد (أصبحت باشا) يا ولد!".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات بعد أن

إقرأ أيضاً:

”ما الذي سيحدث لك في القبر؟.. أدعية وسنن قد تنقذك من العذاب!”

”ما الذي سيحدث لك في القبر؟.. أدعية وسنن قد تنقذك من العذاب!”

مقالات مشابهة

  • ”ما الذي سيحدث لك في القبر؟.. أدعية وسنن قد تنقذك من العذاب!”
  • برنامج اقتصادي جديد في تركيا.. ما التحولات المنتظرة؟
  • الدفاع التركية تعلن قتل 27 عمالياً في إقليم كوردستان
  • ما مصير الكويكب الذي كان سيضرب الأرض قبل أيام؟
  • 8 عادات يومية لتدريب الدماغ على الشعور بالسعادة
  • العثور على جثة الطفل اليمني الذي جرفته سيول مكة
  • ما الذي يمكن أن تغيّره الزيارة الأولى للسيسي إلى تركيا في الملفات الشائكة؟
  • الدبيبة يشدد على ضرورة الحفاظ على نسيج المجتمع والأمن والاستقرار فيه بدعم وتوسيع الترتيبات الأمنية
  • أزهري: التصالح مع الله يمنع المؤمن من ارتكاب الأخطاء ويمنحه الشعور بالرضا
  • نقابة الصَّحفيين السُّودانيين تنعي المصور التلفزيوني حاتم مأمون الذي مات متأثراً بإصابته في حادث المسيرة التي استهدفت منطقة “جبيت” العسكرية