رضا شاه البهلوي.. حكم إيران بتأييد من الإنجليز وخُلع بأيديهم
تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT
في أواخر القرن الـ18 استطاع القاجاريون -وهم الذين تعود أصولهم إلى التركمان القراغوز أو "العيون السوداء"- أن يستولوا على حكم بلاد فارس، بعد أن نجح قائدهم محمد خان القاجاري في توحيد فروع القبيلة بالعنف والقتل، فقوي أمره واستطاع الاستيلاء على طهران وجعلها عاصمة لملكه.
وقد تمكن المؤسس محمد خان القاجاري أن ينتقل بقبيلته من طور البداوة والرعي والتبعية لحكم الصفويين إلى التمدد في الوظائف المفصلية والمهمة في إيران، ثم القضاء على حكم الأفشاريين وبقايا الصفويين.
وفي عام 1797، اغتيل محمد خان القاجاري في شوشا، عاصمة خانية قراباغ، وخلفه ابن أخيه فتح علي شاه القاجاري، الذي حرص على توسيع بلاده ولا سيما المناطق الشمالية التي تقع في القوقاز الشمالي، والتي كانت روسيا استولت على كثير منها طوال القرنين الـ17 والـ18، تارة من العثمانيين وتارة من الإيرانيين بحسب خضوع هذه المناطق.
واضطر فتح شاه إلى الدخول في صراع ضد الروس في الفترة ما بين 1804 وحتى عام 1813 حتى تعرّض لهزيمة كبيرة اضطر على إثرها إلى عقد اتفاقية مع القيصر ألكسندر الأول.
سُميت هذه الاتفاقية باسم "كلستان" وفيها اعترفت إيران بالسيادة الروسية على داغستان وجورجيا وأذربيجان الشمالية وأرمينيا الشرقية وأجزاء من سواحل بحر قزوين وجورجيا واعتُبر نهر آراس والحدود الجنوبية لنهر أذربيجان هي الحدود الفاصلة بين الدولتين حينئذ.
وبعد عقد أو يزيد على تلك الاتفاقية وإدراك القاجاريين مدى الهزيمة الثقيلة التي تعرضوا لها، اضطروا للدخول في صراع جديد ضد الروس ولكنهم انهزموا أيضا في نهايته، واضطروا إلى عقد اتفاقية جديدة عام 1828عُرفت باسم معاهدة "تركمنشاي" كانت بنودها أشد قسوة؛ حيث استولى الروس في هذه المرة على معظم أراضي القوقاز الجنوبية، وتم إعطاؤهم وحدهم حق تعيين الحدود بين الجانبين.
كانت إيران تستند في حروبها ضد الروس على عون ومساعدة الفرنسيين والبريطانيين؛ ولا سيما الذين حرصوا على إبعاد الروس دائما عن التمدد ناحية الهند سواء من خلال إيران أو عن طريق آسيا الوسطى وأفغانستان، ولهذا السبب كان النفوذ البريطاني والروسي يزداد في إيران بمرور الزمن.
ولئن استولى الروس على المناطق الشمالية، وأُعطي تجارهم حرية الحركة والتجارة داخل إيران، بل وفرض ضرائب لا تتعدى 5% على بضائعهم، فإنه سرعان ما امتد المرسوم إلى البضائع البريطانية والأجنبية؛ الأمر الذي أدى إلى زيادة نفوذ الأجانب التجاري والاقتصادي داخل البلاد، وتضرر قطاعات كثيرة من التجار والحرفيين المحليين.
وفي الجهة المقابلة، كان البريطانيون قد استولوا منذ فترة مبكرة من القرن الـ18 على مناطق بوشهر ومواقع إيرانية مهمة مطلة على الخليج العربي.
ويشير أول سفير أميركي تم تعيينه في طهران وهو س. بنيامين في كتابه الذي نشره عام 1878م أن زيادة نفوذ الأجانب في البلاد ولا سيما الروس والبريطانيين أدى إلى تركز الثروات لدى تجار هذه الدول، وتحول البلاد السريع إلى شبه مستعمرة تابعة للدول الكبرى في العقود الأخيرة من القرن الـ19.
ولهذا السبب كتب أحد الرحالة الأوروبيين يقول: "إذا رغب التاجر الإيراني في تصدير بضاعته إلى الخارج، فعليه أن يدفع عند كل مدينة ضريبة محددة، أما التاجر الأوروبي فإنه مستقل ويدفع مرة واحدة فقط؛ لذا يكلفه تصدير بضاعته أقل بكثير مما يُكلّف التاجر الإيراني".
ومع مرور الزمن كان حكام إيران من القاجاريين يدينون بالولاء للبريطانيين، ويسمحون أكثر لزيادة النفوذ الأجنبي في البلاد، وقد تزامن ذلك مع انتشار روح الحداثة والأفكار الغربية التي كانت تمتد بين قطاعات ليست هينة بين طبقات المتعلمين وطلاب المدارس والجامعات ممن كانوا يقرؤون عن الديمقراطية ومشاركة الشعوب في حكم بلادها، ومطالبتهم بالإصلاح الدستوري والتشريعي في البلاد.
وبحسب كمال مظهر أحمد في كتابه "دراسات في تاريخ إيران الحديث والمعاصر" فإنه لم يكن بوسع رجال الدين أن يبقوا بمعزل عن التحولات الاجتماعية والانهيار الاقتصادي الذي كانت تشهده البلاد، فإن جزءا كبيرا منهم استولى على أراضي الأوقاف، وأقبلوا على اقتناء أنواع أخرى من الأراضي.
وهكذا كانت إيران في فاتحة القرن الـ20 تتصارعها قوى مختلفة سمحت بهيمنة التجار الأجانب وقلة من التجار المحليين التابعين لهم على ثروات البلاد، الأمر الذي أدى إلى فساد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتبعية نظام القاجاريين للسفارة البريطانية في طهران.
وفي عددها 21 الصادر عام 1314 هـ/1897م تهكّمت صحيفة "حبل المتين" -المعارضة للنظام القاجاري والتي كانت تصدر في كلكتا بالهند- من جميع حكام إيران وولاتها آنذاك بأنهم كانوا يفتخرون ويعتزون حينما يضمن لهم الروس أو الإنجليز أو الأميركان أو الألمان بالنعيم والرفاه في حياتهم الخاصة.
وأمام هذه التطورات كانت تندلع الانتفاضات الشعبية بصورة مكثفة منذ أواخر القرن الـ19 وحتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، منها انتفاضة كيلان بزعامة مرزا كوجك خان، وانتفاضة خراسان بقيادة محمد تقي خان، وانتفاضة كردستان إيران بقيادة سمكو وغير ذلك، وكثير من الانتفاضات كانت تحمل الطابع القومي والاستقلال الجهوي عن نظام القاجاريين.
وكانت تطورات الحرب العالمية الأولى وصعود الشيوعية والثورة البلشفية عام 1917 سببت قلقلا لدى البريطانيين وخوفا من انتشار هذه الأفكار بين الإيرانيين وهو ما كانت أماراته تتضح منذ عام 1918 وما تلاها.
ورغم التبعية المطلقة للنظام القاجاري لما كان يأمر به السفير البريطاني في طهران؛ فإن البريطانيين رأوا في الوقت عينه ضعف وتفسخ وانهيار هذا النظام، والكراهية العميقة له من قبل الشعب، فضلا عن كثرة الانتفاضات وتململ قطاعات كثيرة من الجيش وعلى رأسهم فرقة القوازق وهي الأقوى.
وفي وسط تلك الأحداث ظهر اسم القائد رضان خان بهلوي، وهو رجل عسكري كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وقد أشاع بعد ارتقائه للعرش الإيراني أنهم يعودون للنسب البهلوي الساساني القديم، توفي والده وهو ابن عام واحد فقط، فالتحق برعاية خاله الذي أرسله طفلا إلى أسرة الجنرال أمير تومان كاظم -الذي كان على معرفة وثيقة بأسرته ووالده- فشبَّ في وسط هذه الأسرة.
وحين بلغ الـ15 من عمره التحق رضا خان بإحدى كتائب فرق الجيش التي كانت تُسمى "القوازق"، وهي فرق أنشأها الروس لإصلاح الجيش الإيراني في بداية القرن الـ19، وانضم لها في العاصمة طهران عام 1893.
وسرعان ما تدرج في الرتب العسكرية من عريف إلى ملازم ثم مقدم وعقيد وما فوق ذلك، وقد بدأ يهتم بالشؤون السياسية في بلاده، ويتابع الصحف المعارضة، وسرعان ما أصبح مشهورا وقائدا مقبولا وسط أفراد الجيش، وكانت القيادة العليا للجيش وكذا قيادة فرقة القوازق العليا في يد الضباط الإنجليز والأجانب.
وقد لفتت هذه الشهرة أنظار البريطانيين، وتابعوه عن كثب، ورأوا في منطلقاته الفكرية التي كانت تكره الديمقراطية وتؤيد الإصلاح على الطريقة الدكتاتورية توافقا مع أهدافهم بعيدة المدى في إيران، فهم من جانب يريدون استمرار هيمنتهم وسيطرتهم على البلاد ومن جانب آخر يريدون أن يأتي حليف لهم لسدة الحكم بعد القضاء على الأسرة القاجارية.
ولهذا السبب أبدى الجنرال إدموند آيرونسايد -وكان من كبار قادة الجيش البريطاني في إيران ومن كبار ضباط المخابرات العسكرية في الوقت نفسه- إعجابه برضا وشاركه في هذا الإعجاب السفير البريطاني في طهران الذي توقع في وقت مبكر أن رضا خان هو الشخص المؤهل لإجراء التغيير المطلوب في إيران.
وعقب إبرام الشاه القاجاري مع البريطانيين اتفاقية فتحت الباب واسعا لخضوع البلاد الشامل للبريطانيين في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، وتعاقب الوزارات وسرعة تغيرها وسوء الأوضاع المعيشية، اشتعلت المعارضة في البلاد عام 1919.
وأمام هذه الأحداث، قام رضا شاه وصديقه الصحفي الليبرالي ضياء الدين طبطبائي بانقلاب في فبراير/شباط 1921، عُين فيه ضياء الدين طبطبائي رئيسا للوزراء، بينما أصبح رضا شاه قائدا للجيش والقوات المسلحة، وتم بمقتضى هذا الانقلاب تقييد سلطة القاجاريين، واعتبار مُلكهم شكليا.
وطوال السنوات التالية غاصَ طبطائي في المشكلات الاقتصادية، وبعمالته في الوقت نفسه للإنجليز، ولم يتحسن الوضع العام داخل البلاد، بينما انزوى رضا شاه بعيدا ليعزز مكانته ونفوذه داخل الجيش ليكسب نفوذا أكبر عدد ممكن من الضباط من كافة الرتب.
وعزز من قبضته الأمنية حين ضم قوات الجندرمة "الدرَك"، وهي التي أنشأها الإنجليز لحراسة آبار وحقول النفط لوزارة الحربية على خلاف رغبة صديقه طبطائي الذي أرادها تابعة لوزارة الداخلية.
وفي النهاية أُقصي الطبطائي من الوزارة وأجبر على السفر خارج إيران، وارتقى رضا شاه لمنصب رئيس الوزراء وقائدا للجيش في الوقت نفسه في السنوات ما بين 1923 وحتى القضاء على الحكم القاجاري بالكلية في ديسمبر/كانون الأول عام 1925م وتعيينه من قبل الجمعية الوطنية "البرلمان" شاها على إيران، يورّث الحكم في عقبه.
كان رضا شاه مؤمنا بالدكتاتورية التحديثية، وكان في كثير من خطواته يرى في مصطفى كمال "أتاتورك" في تركيا نموذجا يُحتذى به في التحديث ومواجهة رجال الدين والقضاء على سلطتهم الدينية والاجتماعية إن لزم الأمر.
ولتعزيز سلطته، قام بالعديد من الإصلاحات الاقتصادية، فسعى لاستصلاح الأراضي الزراعية البور أو المهملة عن طريق تمليكها لصغار الفلاحين، وأصدر في عام 1928 قانون العلاقة بين المالك والمستأجر.
وأولى جُل اهتمامه للصناعة والجيش، وشرع في تأسيس "الشركة الإمبراطورية" و"الشركة المركزية" المملوكتين للدولة لتصدير المنتجات الصناعية المحلية، وأسّس شركة "المنسوجات القطنية" وألزم المستثمرين بتسجيل شركاتهم في وزارة الاقتصاد، وأصدر قانون إنشاء الشركات الصناعية ووسائل عملها.
وارتفع عدد المصانع الحكومية إلى 80 مصنعا علاوة على 200 مصنع صغير للقطاع الخاص، وازدهرت الصناعات اليدوية التقليدية وأصبحت قادرة على المنافسة الأجنبية، وأنشأ مصانع لصناعة السكر من البنجر، واهتم بتشغيل المناجم والتجارة ولكن التجار الأجانب كانوا يغرقون الأسواق الإيرانية ببضائع مناسبة وبأسعار تنافسية الأمر الذي كان يجلب غضب التجار والمستثمرين المحليين.
وبدأت العلاقة مع بريطانيا وأميركا في التوتر حين استدعى رضا خان -الذي أصبح اسمه الشاه رضا خان بهلوي- خبيرا أميركيا يُدعى "ملسيو" لإصلاح مسار الاقتصاد النقدي، واستطاع هذا الخبير زيادة عائدات الجمارك من 91 مليون ريال إلى 421 مليون ريال، كما استطاع تنظيم ضريبة الدخل لتشمل المناطق الشمالية والجنوبية على حد سواء.
ولكن رضا شاه عزله بعد عامين من عمله في أعقاب طرد البعثة الدبلوماسية من إيران سنة 1927م قائلا: "لا يمكن أن يكون هناك شاهان في البلاد، وسأكون أنا الشاه الوحيد". ونفهم من ذلك أن الخبراء الأجانب كانوا يتدخلون في السياسة الداخلية والقرارات العليا في البلد.
لهذا السبب أعلن رضا شاه في العام التالي 1928 تقليص نفوذ الامتيازات الأجنبية، تمهيدا لعقد معاهدات تجارية مع تلك الدول تباعا، الأمر الذي جرّ نقمة البريطانيين، ولكنه حرص على تطبيق هذا القرار، وألغى المحاكم القنصلية الخاصة التي أُنشئت زمن القاجريين، وفرض خضوع الأجانب للقضاء الإيراني، وفتحت باب الزيادة الجمركية على البضائع الأجنبية في البلاد بعد أن ظلت ثابتة على نسبة 5% لعقود طويلة.
وبدأ رضا شاه في تقليص نفوذ الأجانب البريطانيين والبلجيك والأوروبيين عدا الألمان في وظائف الدولة، واسترد جميع البعثات التبشيرية الأميركية والمدارس الأجنبية، وزاد حصة بلاده من النفط.
وسيرا على النهج التحديثي الغربي في مجال التعليم، واجه رضاه شاه نفوذ المؤسسة الدينية واستولى على ممتلكات الأوقاف التي كانت تابعة لهم، وأحد أهم أعمدة استقلال العلماء ورجال الدين، وكانت تتكون من مساحات هائلة من الأراضي الزراعية والعقارات وغير ذلك، وآلت كلها لسيطرة الشاه الشخصية، وقرر تقليص نفوذ رجال الدين في المجال العام بتخفيض أعدادهم في البرلمان فأصبح عددهم 6 أعضاء بدلا من 24 عضوا.
وقرر إنشاء جامعة طهران عام 1934 وسمح للنساء بدخولها، وسيرا على النمط الغربي فرض رضا بهلوي على كبار رجال الدولة وموظفيها اصطحاب نسائهم إلى السينما والمسارح والكازينوهات والفنادق العامة، وأصدر قرارا بإلغاء الحجاب بصورة نهائية عام 1936، وقلص بصورة كبيرة بل وقف عائقا أمام بناء المدارس الدينية في البلاد، وهو الأمر عينه الذي كان يجري في تركيا الأتاتوركية في نفس الفترة.
وكان من المتوقع في ظل سياسة الرجل الواحد أن يقمع رضا شاه الحركة الدستورية والحياة السياسية في البلاد، وأن يصنع على عينه طبقة أرستقراطية جديدة موالية بالكامل له، وأصبح البرلمان يتكون من هذه العناصر الجديدة الموالية.
كما أعاد تقسيم إيران إداريا إلى 49 محافظة و10 مقاطعات، وتم تعيين المحافظين من غير سكان المنطقة لقطع أي علاقة قرابة أو نسب بالمكان، ولهذا السبب كان أشدَ المعارضين له والكارهين لاستبداده وتأييده لسفور النساء واستيلائه على الأوقاف وتقليص المدارس الدينية؛ هم فئة رجال الدين ممن كانوا ينتشرون في طول البلاد وعرضها، وهو الأمر الذي سيظهر بصورة جدية في عصر ابنه محمد رضا بهلوي وإعلان ثورة الخميني عليه فيما بعد.
والخلاصة كما تقول آمال السبكي في كتابها "تاريخ إيران السياسي بين ثورتين" أن "سياسة رضا بهلوي اتسمت بالاستبداد المطلق النابع من دكتاتورية القرار، وأحادية التفكير، فرغم أن مشروعاته الإصلاحية جميعها استهدفت تحديث إيران فإن وسائل تحقيقها قامت على القهر، وفرض التغيير عنوة، مما دفعهم (رجال الدين وكثير من رجال الدولة) لمناوأتها وعدم الإخلاص في تنفيذها".
كانت نهاية الشاه غير متوقعة، فحين اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 أبدى تعاطفا واضحا مع أدولف هتلر زعيم النازية وقوات المحور، الأمر الذي دفع البريطانيين والروس السوفيات ليتحالفوا ضده، ويعلنوا عن عملية عسكرية باسم "الإحياء" لخلعه وحفظ حقول النفط الإيرانية من سيطرة الألمان عليها.
وهو الأمر الذي نجحوا فيه عام 1941، فخُلع ونُفي خارج البلاد وتوفي سنة 1944م، بينما عُين ابنه محمد رضا بهلوي في عرش إيران بدلا منه تحت الوصاية البريطانية حتى عام 1946، وبعدها ارتمى الشاه الأخير محمد رضا بهلوي في أحضان بريطانيا والولايات المتحدة، الأمر الذي ستتجلى آثاره الكارثية فيما بعد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مواقع التواصل ولهذا السبب الأمر الذی رجال الدین فی البلاد التی کانت فی الوقت فی طهران فی إیران الذی کان
إقرأ أيضاً:
صرخات صور الذكاء الاصطناعي.. هل كانت تسلية عابرة ام وراءها هدف سندفعه؟
بعد الزخم المؤقت الذي أحدثته صيحة توليد صور الذكاء الاصطناعي بأسلوب (استديو جيبلي) Studio Ghibli، التي اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي في نهاية شهر مارس الماضي، سرعان ما وجدت أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفي مقدمتها ChatGPT، وسيلة جديدة لجذب المستخدمين وحثهم على تحميل صورهم الشخصية في أنظمتها. وهذه المرة، كان الهدف هو تحويل صور المستخدمين إلى نسخ رقمية يظهرون فيها على هيئة ألعاب داخل صناديق صغيرة ومعهم بعض الأدوات المرتبطة بعملهم الذي يمارسونه، وقد أُطلق على هذا التوجه الجديد اسم (AI doll) أو (Barbie box trend).
وتتبع هذه الصيحات الرقمية عادةً مسارًا بسيطًا ومكررًا، إذ تبدأ العملية برفع المستخدم لصورة شخصية في الأداة أو التطبيق المخصص مع كتابة بعض الأوامر النصية التوجيهية لتحويل الصورة إلى دمية معلبة تشبه دمى (باربي) الشهيرة أو شخصيات الأكشن ذات المظهر الكرتوني، مصحوبة بإكسسوارات تعكس اهتماماتك أو طبيعة عملك. والخطوة النهائية التي يتوقعها الجميع بالطبع، مشاركة النتيجة المبهرة عبر منصات التواصل الاجتماعي بهدف زيادة التفاعل.
ومع تزايد انتشار هذه الصور وملء صفحات الأخبار بها، يتزايد القلق بشأن تداعياتها، فالأمر لا يقتصر على كونها مجرد صيحة جديدة تسيء استخدام إمكانيات الذكاء الاصطناعي، بل يتعداه إلى موافقة ملايين الأشخاص على مشاركة وجوههم ومعلوماتهم الحساسة طواعيةً، فقط للحاق بالركب الاجتماعي، الذي يفرض نفسه بقوة على المنصات الرقمية، دون أدنى تفكير في مخاطر الخصوصية والأمان المترتبة على ذلك.
خدعة الخصوصية.. موافقة بلا وعي:
لقد ساهمت صيحات توليد الصور بالذكاء الاصطناعي، مثل: الصور المولدة بأسلوب الدمى (AI doll)، أو بأسلوب استديو جيبلي بنحو كبير في تغذية قواعد بيانات شركات مثل: OpenAI و xAI، وغيرها من شركات الذكاء الاصطناعي بكميات ضخمة من الصور الشخصية.
والمثير للدهشة أن العديد من المشاركين في هذه الصيحات ربما لم يستخدموا برامج النماذج اللغوية الكبيرة من قبل على الإطلاق، مما يشير إلى أن الدافع الرئيسي كان الانضمام إلى الضجة المنتشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وليس الاهتمام بالتكنولوجيا بحد ذاتها أو فهم كيفية عملها. وقد أصبح المشهد مقلقًا للغاية خلال الأيام الماضية عند رؤية العديد من العائلات التي رفعت صور أطفالها للحصول على هذه الصور ومشاركتها بدون وعي.
قد يعتقد الكثير من الأفراد أن عملية تحميل صورة شخصية إلى برنامج ذكاء اصطناعي متخصص في توليد الصور لا تختلف كثيرًا عن مجرد مشاركة صورة شخصية عبر إنستاجرام، وقد يعزز هذا الاعتقاد لديهم أن نماذج الذكاء الاصطناعي الكبرى معروفة بالفعل بجمع البيانات والصور من الويب.
ولكن هنا يكمن الفخ الأكبر، فمن خلال تحميل صورك طوعًا إلى برامج توليد الصور بالذكاء الاصطناعي، فإنك تمنح مزود الخدمة مزيدًا من الطرق القانونية لاستخدام تلك المعلومات، أو بمعنى أدق، استخدام وجهك أو البيانات البيومترية الفريدة المستمدة منه، لأغراض قد تتجاوز بكثير مجرد إنشاء الصورة الفنية التي طلبتها في البداية، فقد تُستخدم هذه البيانات في تدريب النماذج المستقبلية أو لأغراض تجارية أو تحليلية أخرى وفقًا لبنود الخدمة التي غالبًا ما يوافق عليها المستخدمون دون قراءتها بتأنٍ.
وقد أوضحت لويزا جاروفسكي، المؤسسة المشاركة لأكاديمية الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا والخصوصية، أن انتشار صيحات الصور هذه بنحو واسع يعني أن المستخدمين، بمشاركتهم الطوعية لمعلوماتهم، يمنحون شركات الذكاء الاصطناعي مثل (OpenAI) موافقة صريحة على معالجة تلك البيانات. ويتجاوز هذا الفعل الحماية التي توفرها اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) تحت بند (المصالح المشروعة) legitimate interest، مما يسمح لهذه الشركات باستخدام الصور بطرق قانونية قد لا يتوقعها المستخدمون.
وقد وصفت جاروفسكي الأمر بأنه (خدعة خصوصية ذكية)، أتاحت لشركات الذكاء الاصطناعي جمع كميات ضخمة من الصور الجديدة لتدريب نماذجها وتطويرها أو ربما تستخدمها في أغراض أخرى غير معلنة.
ويمكننا القول إن نجاح هذه الإستراتيجية في صيحة توليد الصور بأسلوب جيبلي دفع الشركات إلى رفع المستوى بإطلاق صيحة الصور المولدة بأسلوب الدمى، التي لا تتطلب رفع الصور الشخصية فقط، بل تتطلب أيضًا إدخال تفاصيل شخصية إضافية عن العمل والاهتمامات.
فقدان السيطرة الكاملة على بياناتك:
لإنشاء شخصيتك الرقمية المتحركة المخصصة لك بدقة عالية بأسلوب الدمى، لا يكفي مجرد تحميل صورتك، بل يتطلب الأمر منك مشاركة بعض المعلومات التفصيلية عن نفسك – التي تتضمن طبيعة عملك واهتماماتك الشخصية وهواياتك المفضلة خارج نطاق العمل وأي تفاصيل أخرى ترغب في عكسها على شخصيتك الرقمية – لتوليد الحزمة الكاملة والإكسسوارات المصاحبة، فكلما قدمت تفاصيل أكثر، زاد الشبه بين الشخصية الناتجة وشخصيتك الحقيقية واهتماماتك.
وبناءً على ذلك، فإن المشكلة لا تقتصر على مجرد منح المستخدمين موافقة ضمنية أو صريحة لشركات الذكاء الاصطناعي على استخدام بيانات وجوههم لأغراض توليد الصور؛ بل يشمل أيضًا تزويد هذه الشركات بكمية كبيرة وغير مسبوقة من المعلومات الشخصية الوصفية والسياقية، التي لا يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي، في معظم الحالات، جمعها أو استنتاجها بدقة بأي طريقة أخرى.
ويحذر إيمون ماغواير، رئيس قسم أمن الحسابات في شركة (Proton) من أن مشاركة هذه المعلومات الشخصية يفتح صندوق باندورا من المشكلات التي لا حصر لها، والتي لا يمكن التنبؤ بها حاليًا.
ويكمن السبب الرئيسي في ذلك في فقدان السيطرة الكاملة على بياناتك، وأهم من ذلك، على كيفية استخدامها في المستقبل، فقد تُستخدم هذه البيانات لتدريب النماذج اللغوية الكبيرة، أو لتوليد محتوى جديد، أو لتخصيص الإعلانات الموجهة، أو لأغراض أخرى متعددة، ولن يكون لديك الحق في اتخاذ قرار بشأن أي من هذه الاستخدامات.
وقال ماغواير موضحًا خطورة الموقف: “الملفات الشخصية والسلوكية التفصيلية التي يمكن لأدوات مثل ChatGPT إنشاؤها باستخدام هذه المعلومات قد تؤثر في جوانب حاسمة في حياتك بما يشمل: تغطية التأمين، وشروط الإقراض، والمراقبة، والتحليل السلوكي (profiling)، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وحتى الهجمات السيبرانية الموجهة”.
ومع ذلك تُعدّ قضية الخصوصية المرتبطة بكيفية استخدام أو إساءة استخدام، شركات مثل: OpenAI وجوجل ومايكروسوفت وإكس، لهذه البيانات جانبًا واحدًا فقط من المشكلة، فهذه الأدوات التي تجمع كميات ضخمة من البيانات الشخصية ستتحول بمرور الوقت إلى أهداف مغرية للقراصنة. والمثير للقلق أن شركات الذكاء الاصطناعي ليست نموذجًا يُحتذى به في تأمين بيانات مستخدميها.
وفي هذا السياق، استشهد ماغواير بحادثتين بارزتين: الأولى: حادثة شركة (DeepSeek) التي تسببت في إتاحة قاعدة بيانات مستخدميها علنًا عبر الإنترنت، والثانية: حادثة شركة (OpenAI)، التي تعرضت فيها إحدى المكتبات التي استخدمتها لثغرة أمنية أدت إلى كشف بيانات المستخدمين الحساسة، بما يشمل: الأسماء، وعناوين البريد الإلكتروني، ومعلومات بطاقة الائتمان.
وفي مثل هذه الحالات، يمكن للقراصنة استغلال الصور والمعلومات الشخصية لأغراض خبيثة، مثل: الدعاية السياسية المضللة، وسرقة الهوية، وعمليات الاحتيال المالية، والاحتيال عبر الإنترنت، مما يجعل هذه الصيحات ليست مجرد مخاطر خصوصية، بل تهديدات أمنية حقيقية.
الاستهلاك الضخم للطاقة.. تهديد بيئي متزايد:
لم يقتصر استخدام هذه الصيحات الرقمية على الأفراد العاديين فحسب، بل سارعت العديد من العلامات التجارية المعروفة والجهات الحكومية إلى تبني استخدامها في حملاتها التسويقية، مما يدل على الجاذبية الكبيرة لهذه الموجة الرقمية وسرعة انتشارها.
وبينما يستمتع الكثيرون بالطابع المرح لهذه الصيحات الجديدة، بدأت تظهر أصوات ناقدة تعبر عن قلقها بشأن التأثير البيئي لها، إذ تشير البروفيسورة جينا نيف من جامعة كوين ماري في لندن إلى أن ChatGPT يستهلك كميات ضخمة من الطاقة، وأن مراكز البيانات التي تدعم تشغيله تستهلك كهرباء في عام واحد أكثر مما تستهلكه 117 دولة مجتمعة.
ويستدعي هذا الواقع تساؤلات حاسمة حول ممارسات الطاقة المستدامة، خاصة عندما يتعلق الأمر بتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي قد لا تُعدّ حيوية ضمن المنظومة التقنية.
هل تستحق التسلية العابرة الثمن الباهظ الذي ندفعه؟
لقد أصبح تجنب مشاركة المعلومات الشخصية والبقاء مجهول الهوية عبر الإنترنت أمرًا صعبًا للغاية الآن في هذا العالم الرقمي، ومع ذلك، تُظهر صيحات الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي السريعة الانتشار هذه بوضوح أن معظم الناس لا يأخذون التبعات المتعلقة بالخصوصية والأمان على محمل الجد، فمع تزايد الوعي بأهمية استخدام أدوات لحماية الخصوصية، يبدو أن إغراء الانضمام إلى أحدث موجة اجتماعية يتغلب على الحذر.
وتدرك شركات الذكاء الاصطناعي هذه الديناميكية النفسية والاجتماعية لدى المستخدمين جيدًا وقد أتقنت فن استغلالها لصالحها، فمن خلال تقديم تجارب رقمية مصممة خصوصًا لتكون ممتعة وجذابة للغاية بصريًا وسهلة الاستخدام في الوقت نفسه، تنجح هذه الشركات في جذب ملايين المستخدمين الجدد، وجمع كميات ضخمة من البيانات القيمة والحساسة التي لا يمكن الحصول عليها بسهولة بطرق أخرى تقليدية.
ويمكن القول إن الازدهار السريع لصيحات توليد الصور بأسلوب جيبلي وأسلوب الدمى ليس سوى بداية لمرحلة جديدة في تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي وتهديده المتزايد للخصوصية، ومن المؤكد أننا سنشهد المزيد من هذه الصيحات التي تنتشر بسرعة البرق بين مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في الأشهر القادمة.
وفي الختام، تتجاوز صيحات صور الذكاء الاصطناعي مجرد كونها ظاهرة ممتعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل تمثل نقطة انطلاق لنقاشات جادة وملحة حول التكاليف الخفية للابتكارات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي، سواء كانت بيئية، أو أخلاقية، أو تتعلق بكيفية تخصيص مواردنا الحاسوبية المحدودة بنحو أكثر مسؤولية وفعالية لتحقيق تقدم حقيقي ومستدام يفيد البشرية جمعاء.