(نص+فيديو) كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول العدوان الإسرائيلي على غزة 19 محرم 1446هـ
تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT
(نص+فيديو) كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول العدوان الإسرائيلي على غزة 19 محرم 1446هـ.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد القائد 1446هـ
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
كُنَّا في محاضرة الأمس، في الحديث على ضوء قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في الآية المباركة: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79]، وهو يذكر لنا ما عرضه نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" من البراهين المهمة، والدلائل العظيمة، التي تَشُدُّ الإنسان إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في دعوته لقومه إلى عبادة الله وحده، والإيمان به وبرسالته، ونبذ الشرك، والأنداد التي يَتَّخِذُونَها من دون الله.
فالإنسان مرتبطٌ في أساسيات حياته بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو رَبَّهُ، الخالق له، المالك له، المنعم عليه، والذين يتَّخذهم شركاء، أو أنداداً من دون الله، ليس هناك ما يربطه بهم من شؤون حياته المهمة والأساسية، وليس لهم ملكٌ فيه، ليسوا هم أرباباً حقيقيين للإنسان؛ إنما هو يتَّخذهم أنداداً من دون الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
تحدثنا بالأمس- باختصار- عن نعمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":
- في مسألة الطعام للإنسان.
- وكذلك في مسألة الماء، الذي يشربه الإنسان، ويحتاجه في حياته احتياجاً أساسياً.
ومن الملاحظ- كما أشرنا بالأمس- أن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" منَّ بهذه النعمة على الإنسان في إطار التكريم للإنسان، الله رزق الإنسان من الطَّيِّبَات، وهذا من التكريم للإنسان؛ ولـذلك فقائمة الحلال- فيما أحلَّه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"- هي متَّجهةٌ نحو الطَّيِّبَات، وقائمة الحرام- وهي أشياء محدودة- نحو الخبائث، والمضارّ، التي تَضُرُّ بالإنسان، ولا تليق بتكريمه، فالله قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70]، الشاهد في قوله: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، فالله كَرَّم الإنسان حتى في طعامه وشرابه، فيما خلقه الله له من الطعام الطَّيِّب، وكذلك أيضاً في كيفية تناول الطعام، حتى هي فيها تكريمٌ للإنسان، طريقة تناول الطعام، والوسائل التي زوَّدك الله بها لتتناول بها طعامك، ويختلف حال الإنسان في ذلك عن حال بقية الحيوانات، بما هو مأخوذٌ فيه بعين الاعتبار التكريم للإنسان، هذه من نعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
والإنسان منذ ولادته، يأتيه رزقه، غذاؤه، فيما أعدَّه الله له من حليب أمه، وكذلك حتى كيفية الرضاعة، ومحل الثدي بالنسبة للإنسان، هو بالشكل الذي تحضنه أمه وهي ترضعه، فيحظى بالحنان، ويحظى بالمشاعر الحنونة من جهة أمه، وعندما جعل الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" الثدي في أعلى الصدر بالنسبة للإنسان، هذا فيه تكريم، وفيه أيضاً أجواء من الرعاية أثناء الرضاعة، والحنان والعاطفة من جهة الأم، هذه من نعمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ثم هكذا عندما يكبر الإنسان، ويجد كم أعدّ الله له، وكم يَمُنُّ عليه ويرزقه في طعامه وفي شرابه.
وصلنا إلى قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَإِذَا مَرِضْتُ}[الشعراء:80]، هو يعرض لنا ما قاله نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، ما ذكَّر به قومه من النعم، وما عرضه عليهم من البراهين، والدلائل الواضحة والعظيمة، والدلائل البيِّنة، التي ليس فيها غموض كما أشرنا بالأمس، ليست أدلة فلسفية غامضة، ويصعب استيعابها والتفهُّم لها، بل من الأشياء الواضحة، وهذا مهمٌ:
- سواءً فيما يتعلق بالتذكير بنعم الله، التذكير بالنعم العظيمة، الواضحة، المعروفة، البديهية.
- أو في مجال الاستدلال، والتوضيح، وعرض البراهين المهمة.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:80].
نعمة الصحة والعافية هي من أهم النعم، التي يَمُنُّ الله بها على الإنسان، وعادةً ما يغفل الإنسان عن هذه النعمة حينما يكون في صحة وعافية، والأكثر إدراكاً لهذه النعمة هم المرضى، الإنسان عندما يكون في حالة المرض، ولاسيَّما إذا كان مرضاً مؤلماً، أو مرضاً شديداً وموجعاً؛ يتذكَّر حينها نعمة العافية، ولاسيَّما مع الأعراض التي تنتاب الإنسان أثناء المرض، حينما لا يستسيغ الطعام، ولا يستسيغ الشراب، وحينما يعجز عن القيام بمهامه في هذه الحياة وأعماله، والبعض أيضاً قد يعاني من الأرق، يصعب عليه حتى النوم من شدة الألم، فلا يهنأ بشيءٍ في حياته من شدة المرض والألم، ثم هو ذلك الذي يعاني من الألم معاناه كبيرة.
فحالة المرض هي حالة صعبة على الإنسان، والإنسان يَمُرُّ بهذه الحالة، هي من الحالات التي يَمُرُّ بها الإنسان كثيراً في مسيرة حياته، في عمره، كم يمرض الإنسان، وأثناء مرضه يدعو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ويتضرع إليه، {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا}[الزمر:49]، في آيةٍ أخرى: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}[يونس:12]، فيلتجئ إلى الله، ويدرك كم أن العافية، والصحة، والشفاء، نعمة عظيمة، يهنأ فيها بكل شيء: بطعامه، بشرابه، بنومه، بالحياة، يتمكن من القيام بأعماله براحة، في وضعٍ مختلفاً تماماً عمَّا هو عليه أثناء وضعه الصحي الصعب، حتى في المستوى النفسي، الإنسان يتعب نفسياً مع حالة المرض، تكون نفسيته مضغوطة، وقلقة، ومتعبة؛ فنعمة العافية والصحة هي من أهم النعم التي يَمُنُّ الله بها على الإنسان.
والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" جعل في غذاء الإنسان، وما يتناوله الإنسان من الطَّيِّبات، ما يزيد في صحته، ما يدعمه صحياً، وهذا من المميزات لِلطَّيِّبَات: أنَّها في أصلها سليمةٌ من المضار، وفيها ما ينفع الإنسان، يزيده قوة، يزيده صحة، يُحسِّن من وضعه الصحي، يزوِّد جسمه بالعناصر اللازمة لصحته، ونموه، وطاقته، ويقيه الكثير من الأمراض، في الإنسان أيضاً جهاز المناعة زوَّده الله به، يساعده أيضاً على الصحة، على العافية، على التشافي.
والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" مع ذلك أودع في كثيرٍ من النباتات- كثيرٍ من المواد التي أحلَّها للإنسان- أودع فيها أيضاً عناصر الشفاء، بعد حالة المرض حينما تنتاب الإنسان؛ فيجعل في نبتةٍ مُعَيَّنة شفاءً من داءٍ مُعَيَّن، أو في نَبْتَةٍ أخرى- كذلك- شفاءً من داءٍ آخر، أو في تركيب أدوية من مجموعة من النباتات المُعَيَّنة كذلك شفاءً من داءٍ مُعَيَّن، كما قال عن العسل نفسه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69]، (فِيهِ شِفَاءٌ): جعل الله فيه ما يساعد الإنسان على التشافي، والتعافي، والصحة، والسلامة من المرض، والخروج من المرض أيضاً.
والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يَمُنُّ بالشفاء بشكلٍ مباشر، حالة الشفاء هي من الله، حتى عندما نأخذ بالأسباب، سواءً فيما يتعلق بالأدوية والطب، أو حينما يبتدئك الله بنعمة الشفاء قبل ذلك، الأسباب بنفسها الاستفادة منها متوقفةٌ على أن يُنْزِل الله لك الشفاء، وإلَّا يمكن للإنسان أن يسير في مسار العلاج والطب، وقد يُمْضِي فترةً طويلة، وقد يستهلك إمكاناتٍ كثيرة، ولا يصل إلى نتيجة، حتى يأتي الشفاء من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ فيتشافى ويتعافى.
في مسألة الأخذ بالأسباب، مطلوبٌ منَّا أن نأخذ بالأسباب؛ يعني: هناك توجيهات من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هناك أيضاً من قِبَل رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" حثٌّ على الأخذ بالأسباب، والأسباب متنوعة:
- منها مثلاً: تناول الأدوية المفيدة، بإرشاداتٍ طبية، من ذوي الاختصاص والمعرفة.
- ومنها أيضاً الدعاء، الدعاء ضروري، هو من الأسباب المهمة.
- مثلاً: الصَّدَقَات، هي من الأسباب المهمة... وهكذا ما ورد الحثُّ عليه.
- تلاوة القرآن كذلك، سماع تلاوة القرآن كذلك.
مجموع الأسباب المتنوعة هي مهمةٌ في مسألة الشفاء، والشفاء هو من الله، من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، كما قلنا: حتى الانتفاع بالأسباب متوقفٌ على أن يُنْزِل الله الشفاء منه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" من عنده، فالإنسان بحاجة إلى الشفاء من الأمراض بحاجة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والله هو الذي هيأ لنا في مسيرة حياتنا كل الأسباب.
بل حتى الهداية إلى العلوم، العلوم الطِّبِّيَّة، التي يستفيد منها الناس في مسألة مواجهة الأمراض، والعلاج من الأمراض، هذه العلوم هي بهداية من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":
- منها: ما يتعلق- مثلاً- بجسم الإنسان، وأحواله، وأسباب عِلَلِه.
- ومنها: ما يتعلق بما أودع الله في الأشياء (سواءً النباتات، أو المواد الأخرى) من وسائل الشفاء، ما أودع الله فيها من عناصر الشفاء، من أسباب الشفاء، من مواد لها تأثير بقدرة الله، أودعه الله فيها للشفاء من داءٍ مُعَيَّن، ثم لا يأتي الشفاء إلَّا عندما يأتي من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
فالأسباب مرتبطة بما يكتبه الله، ويبقى الشفاء متوقفاً على إرادة الله ونعمته، فهذه من النعم الكبيرة جدًّا.
والإنسان في حالة المرض، هي من الحالات التي ينبغي أن تُذَكِّره بافتقاره إلى الله، وحاجته إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وأن يكون فيها ملتجئاً إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وصبوراً في نفس الوقت؛ لأنها من حالة الضراء، التي وجَّه الله فيها بالصبر، وأثنى على الصابرين فيها: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}[البقرة:177]، من الضراء، ومن حالة الضراء هي: الوضع الصحي، المرض والمعاناة من المرض، فهي من الحالة التي يكون الإنسان فيها صبوراً، وهناك نموذج عظيم في الصبر، في حالة البليَّة في الوضع الصحي، هو: نبي الله أيوب "عَلَيْهِ السَّلَامُ" من الأنبياء، قال الله عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:44].
فالإنسان يحتسب معاناته أيضاً وهو يرجع إلى الله، يتوب إلى الله، يُكْثِر من الاستغفار، قد يكون السبب أحياناً ذنوباً مُعَيَّنة، أحياناً قد تكون من جانب الإنسان، يكون منه تقصير في أمور مُعَيَّنة، أو ابتلاء في أمرٍ مُعَيَّن، فالصبر، مع الرضا عن الله، مع الالتجاء إلى الله، مع الدعاء، مع الأخذ بالأسباب، كما أمر الله، وأذن الله، وهيأ الله؛ لأن هذا شيءٌ في إطار تدبير الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
ولهذا في قصة نبي الله أيوب "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، حينما أراد الله له الشفاء من المرض، جعل في ذلك أيضاً سبباً: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42]، والله قادرٌ على أن يشفيه ابتداءً، من دون أن يأخذ بالأسباب، من دون ركضة الرِّجْل تلك؛ لكن كان لابدَّ من الأخذ بالأسباب في إطار سُنَّة الله في أمور عباده، وشؤون عباده، وأحوال عباده في الأرض، في الأرض استخلفنا الله لنعمر هذه الحياة، ففي إطار احتياجاتنا المتنوعة:
- من طعام: كم نشتغل، كم نعمل، مع أن الطعام من الله، نحن لا نخلق المعدوم؛ إنما نعمل فيما يخلقه الله، وفيما يهيئه الله، وفيما يرزقنا الله إِيَّاه، نعمل في ذلك.
- كذلك في مسألة الشفاء والعافية: مجال واسع، فيه علوم، فيه دراسات، فيه جامعات، فيه مسار كبير جدًّا، مستشفيات، صيدليات، مصانع لإنتاج الأدوية... مجال واسع في حياة الإنسان، ويحتاج الإنسان فيه إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
فأتى من الله تعليمات لِنَبِيِّه أيوب، حينما أراد أن يشفيه، واستجاب له دعاءه عندما تَضَرَّع إلى الله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:83]، فأمره الله بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، هذا من الأخذ بالأسباب، {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42]، حتى ذلك المغتسل البارد، والشراب الذي يشربه ويتناوله كدواء، جعل الله فيه سِرَّ الشفاء، وأنزل الله له الشفاء، وشفاه وعافاه.
فالإنسان في حالة المرض، هو يدرك كم أنَّ نعمة الصحة والعافية نعمة عظيمة جدًّا، ويدرك حاجته للشفاء، ويدرك تأثير المرض على حياته، على أعماله، على واقعه النفسي، كذلك على تَهَنُّئِه بالمعيشة، كيف يهناه الطعام، الشراب، النوم... سائر أحواله في هذه الحياة؛ فهـو محتاج إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:81].
حياة الإنسان ابتداءً بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هو الذي خلقك وأحياك، ما بعد ذلك أيضاً موتك، ثم حياتك في الآخرة بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومن أهم ما يكون مؤثِّراً على الناس، وهاجساً كبيراً لديهم هو: مسألة الرزق والأجل، وهذا بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ليس إلى الناس، يعني: حياتك ورزقك بيد الله "جَلَّ شَأنُهُ"، أجلك بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" ليس إلى الناس؛ ولهـذا ينبغي أن يكون الإنسان مُنْشَدّاً إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، مُتَوَجِّهاً إليه بالعبادة، بالطاعة، راجياً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فلا يتَّخذ نِدّاً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يطيعه في معصية الله، يُؤْثِر طاعته على طاعة الله، لا ينصرف عن نهج الله الحق، الذي هو صلةٌ بينه وبين الله، صراط الله المستقيم، هديه العظيم، إلى اتِّجاهٍ آخر، إلى اتِّجاه الباطل، الذي يُضِيْعُه في هذه الحياة، ويخسر مستقبله عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
الموت والحياة كلاهما قادمٌ، آتٍ بالنسبة للإنسان، كل الناس يموتون، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:30]، الكل سيموت، والإنسان سيموت، وموته بيد الله، أجله بيد الله، ولا يمكن للإنسان أن يمتنع من ذلك، أي إنسانٍ كان: كبيراً، صغيراً، زعيماً، رئيساً، ملكاً، تاجراً، أيّاً كان، قائداً عسكرياً... الكل، والموت هو بداية الرجوع إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، مُقَدِّمة لمستقبل الإنسان في الآخرة، وهذه هي النقطة المهمة، هو في إطار مصير الإنسان إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
الموت من جانب هو نعمة من نعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأن الإنسان كلما طال عمره؛ يهرم، ويَضْعُف، ويعجز، ويتعب، ويتحول كل شيءٍ في الحياة إلى شاقٍّ عليه، حركته المحدودة، حتى على مستوى الحركة في منزله، بمشقَّة، بصعوبة، حتى على مستوى القيام من قعوده، يعاني من المشاقّ، يصل به الحال إذا طال عمره كثيراً كثيراً، إلى أن يفقد قدرته الذِّهْنِيَّة في التركيز، والحفظ، والمعرفة، فلا يستطيع أن يحافظ على المعلومات، {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}[النحل:70]، لا يستطيع حتى أن يحافظ على معلوماته البسيطة، يسألك: [من أنت؟]، تقول: [أنا فلان]، بعد قليل يكون قد نسي اسمك، فعلى مستوى قدراته الذهنية، قدراته البدنية، صحته، حالته النفسية؛ يتعب أكثر فأكثر؛ ولـذلك في الدعاء العامِّي في بلدنا، المعروف لدى عامة الناس، ولاسيَّما عند الطاعنين في السن، يقولون: [الله يزهد العمر]، لماذا؟ لأن الإنسان كلما طال عمره؛ كلما عانى أكثر.
كذلك ما يواجهه الإنسان من أعباء الحياة، من همومها، من مشاكلها، من ظروفها المتنوعة والمتقلِّبة، يشعر كلما طال عمره بالتعب أكثر وأكثر؛ فالموت هو من ناحية راحةٌ للإنسان، يعني: يَتَعَمَّر فترة مُعَيَّنة ما دامت الحياة خيراً له، ثم يأتي الموت فيستريح؛ عندما يكون مؤمناً، مُتَّجِهاً اتِّجاهاً صالحاً، هذا يفيده أيضاً.
من جانبٍ آخر، هو- كما قلنا- من مظاهر قهر الله فوق عباده، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعام:18]، لا أحد يستطيع أن يمنع عن نفسه الموت، أيّاً كان، لا بشكلٍ شخصي، ولا بشكل جماعي، أن تقرر دولة مُعَيَّنة أنَّها ستمتنع من الموت، مثلاً: أمريكا، أو زعماؤها، أو قادتها، أو أثرياؤها وتجارها، لا يستطيعون، لا يستطيع أحدٌ أن يمتنع من ذلك، وهو في إطار الرجوع والمصير إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
من جانبٍ آخر، المستوى العام، الموت- كذلك- ينتقل جيل؛ يُتِيح المجال للجيل الذي يليه، في الاستخلاف في الأرض، في الإبداع، في الحركة في الحياة، في تَحَمُّل المسؤوليات... في غير ذلك، ففيه حكمة من الله، هو في إطار تدبير الله الحكيم، في إطار تدبير الله الحكيم "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
والإنسان بحاجة إلى الله، بحاجة إلى الله، يعني: مما ينبغي أن يكون دافعاً لك إلى العبادة لله وحده، إلى السير على نهجه وفي صراطه المستقيم، إلى الاستجابة له، إلى ألَّا تتَّخذ نِدّاً من دونه؛ هو أنك مُتَّجهٌ إليه، هو الذي يميتك ويحييك، بعد الموت الحياة في عالم الآخرة، ليست المسألة أن الموت نهاية لحياة الإنسان، وانتهى الأمر وخلاص، بعد الموت حياة (الحياة في الآخرة)؛ ولـذلك فأنت مُتَّجهٌ إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" للحساب والجزاء في عالم الآخرة، فأنت بحاجة إلى العمل الذي يُفيدك لمستقبلك القادم، مستقبلك الأبدي، مستقبلك الكبير، المهم جدًّا، وأهميته هي تدل على أهمية مسؤوليتك في هذه الحياة أيضاً؛ لـذلك كان ذلك المستقبل الكبير، بجزائه الأبدي الخالص (من خير، أو شر) على أرقى مستوى وأشد مستوى؛ فكان بذلك المستوى، الذي يَدُلُّنا على عِظم مسؤوليتنا في هذه الحياة، كيف نستقيم في هذه الحياة، فهناك ترابط:
- بين استقامة حياتنا في الدنيا؛ لتستقيم لنا في الآخرة.
- وبين أن تكون مستقيمةً لنا في الآخرة؛ فلنستقم في الدنيا، نستقم على أساس منهج الله الحق وهدايته، تعليماته وأوامره.
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82].
لأن بعد الحياة الحساب والجزاء، ويوم الدين هو: يوم الجزاء على الأعمال، (كما تَدِين تُدَان) تُجازى يعني، هو يوم القيامة، يوم الفصل، يوم الحساب، يوم البعث، وهو بداية الآخرة، بداية الحياة الأخرى، التي هي حياةٌ أبدية، فيها الجَنَّةُ، وفيها النَّار.
يوم الدين، له أهميةٌ كبرى لدى الأنبياء والرسل "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم":
· سواءً فيما يتعلق باهتمامهم الشخصي:
لعظيم إيمانهم؛ لأنهم هم القدوة في الإيمان، وهم أكمل الناس إيماناً، وأعظم الناس إيماناً بالله، وبوعده ووعيده، وباليوم الآخر؛ ولـذلك هم يدركون بعظيم إيمانهم، وما هم عليه من الهدى، والنور، والبصيرة، والمعرفة، والرشد، يعطون الأمور المهمة أهميتها، فيدركون أهمية اليوم الآخر؛ ولـذلك لديهم اهتمام كبير جدًّا؛ ولهـذا يقول الله عن نبيه إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وابنه نبي الله إسحاق، وحفيده نبي الله يعقوب "عَلَيْهِمُ السَّلَام": {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ}[ص:46]، ما هي؟ {ذِكْرَى الدَّارِ}[ص:46]، فهم كثيرو التذكُّر للآخرة، ولعالم الآخرة، وللجنة وما فيها، وللحساب والجزاء، وهذا له أهميته الكبيرة في استقامة الإنسان في هذه الحياة كما قلنا.
فيوم الدين له أهمية كبرى لديهم، من حيث اهتمامهم الشخصي، فهو بارزٌ جدًّا في تذكُّرهم، في اهتمامهم، في استقامتهم، في دعائهم أيضاً: في دعائهم بالمغفرة، دعائهم بالرحمة، دعائهم بالفوز بالجنة، دعائهم بالسلامة من عذاب الله...إلخ.
· وأيضاً بارزٌ في اهتمامهم الكبير بالتذكير للناس به، والإنذار للناس به:
لأن من مهمة الرسل والأنبياء هي: الإنذار والتبشير؛ ولـذلك يأخذ هذا مساحةً كبيرةً في ما يُقَدِّمونه للناس من هدى، في تذكيرهم للناس، في سعيهم لهداية الناس؛ لأنه أمرٌ عظيم، أمرٌ كبير، مهما كانت غفلة الإنسان عنه، واستهانة الإنسان به، هي لا تُقَلِّل من أهميته، والإنسان سيندم على أنه كان غافلاً، مستهتراً، متجاهلاً، لما هو قادمٌ عليه حتماً؛ فهم من حيث اهتمامهم أيضاً بالتذكير للناس، يعطون هذه المسألة أهميةً كبيرة؛ لأنها ذات أهمية في نفسها، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}[النساء:165].
في كتب الله مع أنبيائه ورسله، أيضاً فيها مساحة واسعة للإنذار بيوم الدين، بيوم الحساب، بيوم الجزاء، وما بعده؛ لأنَّه هو المُقَدِّمة في عالم الآخرة، ومُقَدِّمة رهيبة جدًّا وكبيرة!
يوم الدين هو يومٌ عظيم، قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في القرآن الكريم، وهو يُبَيِّن لنا أهميته، وعظمته، وهوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:17-18]، فوق كُلِّ تصوُّر، فوق كُلِّ خيال، في هوله الكبير، في مشهده العظيم، فيما فيه أيضاً من أهوال كبيرة من مقامات الحساب، ثم الجزاء، والاتِّجاه إلى عالم الجنة وعالم النار.
قال عنه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، كل الناس أجمعين، من الأولين والآخرين، يُحشرون إلى ساحة الحساب، فيقومون في مقام الخضوع، والذُّلّ، والاستسلام لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والتعظيم الكامل لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، لكن في مقام حساب، في مقام سؤال، في مقام جزاء، مقام رهيب وعظيم!
قال عنه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103]، {مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}: كُلُّ الناس من الأولين والآخرين، من زعماء، وملوك، وأمراء، وجنود... الكل يُحشرون في ساحة الحساب عبيداً، أَذِلَّاء، خاضعين، خانعين، مستسلمين، لله الواحد القهار، لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، كُلٌّ يقف عبداً بصفة عبد، ليس هناك صفات أخرى: صفة ملك، صفة رئيس، صفة قائد، صفة زعيم... الصفة للجميع (عبداً)، كُلٌّ يقف عبداً، خاضعاً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، منقاداً لأمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في مقام الحساب والسؤال.
{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103]: الكل يحشر فيه، البشر يجتمعون فيه في ساحة الحشر بكلهم، مليارات البشر في ساحةٍ واحدة، في مجمعٍ واحد، وتحضر الملائكة بأكثر منهم بكثير، ملائكة الله تنزل، الجِنُّ أيضاً، مشهودٌ وعظيم، وفيه مجريات الحساب، والفصل بين العباد، يومٌ عظيم، يومٌ كبير!
أهواله رهيبة، هو يأتي- أصلاً- في إطار متغيرات كونية كبرى، تشمل الأرض بكلها، تشمل السماوات، تشمل الشمس والقمر، تشمل النجوم، دمار في النفخة الأولى لهذا العالم دمار هائل؛ لأنه في إطار عملية إعادة تكوين من جديد لمرحلة جديدة.
فالأرض بنفسها تُدَمَّر وتُدَكّ، وتنتهي حياة الكائنات عليها، في النفخة الأولى يموت كُلُّ إنسانٍ كان موجوداً على الأرض أثناء ذلك، وكُلُّ الحيوانات الأخرى، يموت الجميع، تُدَمَّر الأرض بِكُلِّها، وتتغير معالم الحياة عليها، تُسَوَّى وتُدَكّ، وتُنسف جبالها، وتتبخر محيطاتها وبحارها، وتزول كل معالم الحياة عليها، لا يبقى لا مدن، ولا قرى، ولا أماكن سكنية، ولا مزارع... ولا أي شيء أبداً.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه:105-107]، لا ترى في الأرض نفسها أي مكان منخفض، أو مكان مرتفع، أو... تحوَّلت إلى ساحة مستوية، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]، لا تبقى بحار، تحترق، وتتبخَّر، وتنتهي، الشمس كذلك: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، النجوم: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}[التكوير:2].
هكذا يتحوَّل واقع الأرض، كما قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، (صَعِيداً): ساحةً ليس فيها أي معالم للحياة: لا مزارع، ولا أشجار، ولا نباتات، ولا جبال... ولا أي شيء، قاعاً مستوياً، (جُرُزاً): لا نبات فيه، ولا مياه، ولا معالم للحياة، {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:3-4]، هذا كله في النفحة الأولى، دمار هائل، وإعادة تسوية للأرض، وتغيير لمعالمها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم:48].
ولهـذا يقول الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، النفحة الثانية هي لبعث الناس، لحشرهم، لخلقهم، الكل يبعثهم الله جميعاً، بدون استثناء، لا ينسى أحداً أبداً، كما قال "جَلَّ شَأنُهُ": {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}[المجادلة:6]، وَيُحْضَرُون جميعاً إلى ساحة الحشر؛ للحساب، وليس بإمكان أحد أن يمتنع من ذلك، يقول: [أنا لن أحضر، لن أجاوب، لن أستجيب ولن أحضر]، {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}[طه:108]، انقياد تام، وخضوع من الجميع، وحضور للجميع لا نسيان لأحد، {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس:32].
ولـذلك تذكَّر أنت نفسك في كل هذه الحسابات، في كل هذه المواقف، أنت ستحشر وتُبعث، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:93-94]، فأنت ستأتي، لا يمكن أن تُنسى أبداً، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، ليس هناك قوة بالانتماء الجماعي كما في الدنيا، لا شعبك، ولا بلدك، ولا قبيلتك، ولا أصحابك، ولا جماعتك، ولا أسرتك... ولا أحد يمكن أن يُشَكِّل حمايةً لك، أو سنداً لك، أو دعماً لك، تعتز به، أو تستند إليه؛ لِيُقَدِّم لك الحماية، أو حتى ليراجع لك، ويُغَيِّر النتائج، التي هي نتيجةٌ لعملك، محسوبةٌ على أساس عملك.
مع أنه يومٌ رهيبٌ تجتمع فيه كل الخلائق، يجتمع فيه الناس أجمعون، بكلهم من الأولين والآخرين، لكن لمهابته، لمهابته الكبيرة ليس هناك حتى الضَّجَّة، مع كثرة الناس، مليارات البشر في مجمعٍ واحد، في ساحةٍ واحدة، ولكن كما قال الله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه:108]، مهابة كبير جدًّا لذلك اليوم.
ذلك الاجتماع الكبير، الذي قال الله عنه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}[هود:103]، ليس اجتماعاً في مهرجان، أو احتفال، أو مناسبة عادية؛ هو: اجتماعٌ للحساب، اجتماعٌ يتحدَّد فيه المصير الأبدي والنهائي الكبير للإنسان:
- إمَّا على أساس ما قدَّمه من خير إلى الجنة، بنعيمها الخالص، الراقي، العظيم، الدائم.
- وإمَّا على ضوء عمله، نتيجةً لعمله كشر، باتِّجاه النار والعياذ بالله، في الشقاء الأبدي الدائم والرهيب جدًّا.
فهي حالة رهيبة جدًّا؛ ولـذلك سمَّاه الله بـ(يَوْمُ الدِّين).
وفي نفس الوقت ليس هناك مجال للالتفاف، ولا للمغالطة، ولا للتَّخَلُّص من تلك النتائج، التي هي مُتَرَتِّبة- كما قلنا- على عمل الإنسان؛ لأن هذا هو الدين: الجزاء على ما قدَّمت، وعلى ما عملت، فليس هناك أي مجال للمغالطة، للالتفاف، للوساطات، للصداقات، للتزوير، للتبريرات غير الصحيحة، ولا مجال فيه للهزل، الأمور تُحْسَم بِجِدّ، وقرارات حاسمة، قرارات نهائية، في إطار حكم الله الحق "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولهـذا فالكل في حالة خضوع.
لا يستطيعون أيضاً أن يتعنَّتوا، أن يعملوا ثورة، مع كثرتهم (مليارات البشر)، مليارات البشر من الهالكين، الذين قال الله عنهم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا}[يس:62]، لا يستطيعون أن يتخلَّصوا، أن يهربوا، أن يُشَكِّلوا ثورةً عارمة بمليارات البشر، مظاهرات في ساحة المحشر، لا يمكنهم فعل ذلك، الله يقول: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}[المرسلات:38-39]، إذا كان لديكم كيد ومكر، تريدون أن تقوموا بعملٍ ما، بحيث لا نتمكن من حسابكم ولا جزائكم، ففعلوا، لا يفعلون شيئاً، {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}[الصافات:25-26]، في حالة من الاستسلام التام، والخضوع المطلق.
لـذلك في مقام الحساب يتجلَّى للإنسان عِظْم تفريطه، وعواقب غفلته، وفداحة خسارته، إن كان أضاع فرصة حياته هنا في الدنيا، الإنسان يدرك كم كانت خسارةً رهيبة، هذه هي فرصتك الوحيدة: حياتك في الدنيا، فلا تماطل، لا تُسَوِّف، ماذا تنتظر؟! أنت هنا في مقام المسؤولية، في المقام الذي معك فيه الفرصة الكافية والتَّامَّة، لتحديد مصيرك ومستقبلك الدائم والأبدي، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر:23-24]، قدِّم هنا، تَنَبَّه هنا، تذكَّر هنا، اخرج من غفلتك، اخرج من إعراضك، لا تستمر في حالة الإعراض، أنت هنا في الفرصة الوحيدة والنهائية، ليس هناك فرصة في الآخرة.
الإنسان سيرى أهمية الأعمال، أعماله التي كان يتهاون بها في الدنيا، وكيف أن الله أحصاها، مَحْصِيَّة بدقة، أنت كنت تتهاون بها، لا تبالي بها، تعملها وكأنها ليس وراءها لا حساب ولا جزاء، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}[المجادلة:6]، لماذا ينسى الإنسان؟ في أعماله السيئة، لتصرفاته؛ لأنه لا يهتم لا بمراقبة النفس، ولا بمحاسبة النفس، وهذه أمور مهمة للإنسان: أن يراقب نفسه، وأن يحاسب نفسه؛ ليتلافى ما صدر منه من تقصير، أو تجاوز، في فرصة التلافي؛ لأن فرصة التلافي هي هنا في هذه الدنيا.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة:7-8]، يرى الإنسان أعماله مُوَثَّقة، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:13-14]، ترى أعمالك مُوَثَّقة، وأُحْصِيَّت بدقة، بدون نسيانٍ ولا غفلة.
ويرى الإنسان في تلك الأهوال، في أهوال الحساب، أن مصيره مرتبطٌ بعمله، وما قدَّمه في الحياة الدنيا، فالمأزق الخطير جدًّا هي الذنوب والمعاصي، هي التي تُشَكِّل خطراً كبيراً جدًّا على الإنسان وعلى مصيره:
- ما كان منها تجاوزاً لحدود الله، وانتهاكاً للمحرَّمات.
- وما كان منها عصياناً لأوامر الله تعالى، في الالتزامات الإيمانية التي فرضها الله على عباده.
الخطر في تلك الذنوب، وفي تلك المعاصي، هي التي تسبِّب للإنسان الخسارة الكبرى، حتى دوافعها بالنسبة للإنسان، سيندم يوم القيامة:
- إن كنت عصيت الله ابتغاء شهوة، أو لَذَّة، أو متعة من متع الحياة في الحرام؛ أو تلبية رغبة من رغبات النفس (أهوائها)؛ فالندم كبيرٌ جدًّا جدًّا يوم القيامة، ستمقت نفسك، وتكره نفسك، كيف تنكبها النكبة الكبرى للأبد، وتخسر أيضاً النعيم العظيم في الآخرة، الذي هو أرقى نعيم وللأبد، من أجل شيءٍ زائلٍ، فانٍ، منتهٍ، تسبب لنفسك به سخط الله، وغضب الله، ومقت الله، وعذاب الله.
- أو كانت حالة مخاوف؛ تُدرك كم كانت خسارتك رهيبة، عندما حسبت حساب مخاوف زائلة محدودة في الدنيا؛ ففرطت في شيءٍ من أوامر الله، مقابل أن توقع نفسك في أكبر الخطر، في الشَّرِّ الرهيب، في العذاب العظيم الفظيع، في الشقاء الأبدي والعذاب الدائم...
- وهكذا هي الأحوال الأخرى: حالة الغضب والانفعال... وغير ذلك.
ولـذلك ستكون حسرة الإنسان أنه أوقع نفسه بنفسه، بنفسه هو، يدرك أنه هو الذي ورّط نفسه إلى ما وصل إليه من العذاب، ويدرك خطورة المعاصي والذنوب؛ فيتحسَّر ويندم، يمقت نفسه، يمقت نفسه، ويتحسَّر كثيراً، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}[مريم:39]، ويشعر كم غبن نفسه في يوم التغابن.
لـذلك فرصة الإنسان في الخلاص من الذنوب والمعاصي، في الاستقامة، في التلافي لمستقبله الأبدي هنا في الدنيا.
نكتفي بهذا المقدار.
هذه الليلة والتي تليها من أهم الليالي في العشر الأواخر، في التماس ليلة القدر، لا تنسونا من صالح دعائكم.
نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛