حضارات سريعة الزوال.. لماذا اندثرت مدن أوروبية فجأة قبل 6200 سنة؟
تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT
مقدمة للترجمة
يحاول علماء الآثار والأنثربولوجيا حل لغز طالما أرق الكثيرين منهم، يتعلق بحضارة تريبيليا التي نشأت قبل أكثر من ستة آلاف سنة شرقي أوروبا، لكنها فنت بشكل مفاجئ، ولم تترك ورائها أية آثار بشرية يمكن دراسة حمضها النووي. في هذه المادة المترجمة من نيوساينتست، يحاول فريق من العلماء اقتراح أسباب لفناء تلك الحضارة الصغيرة، وخلالها نتعلم بعضا من أساليب تفكير علماء الآثار والأنثربولوجيا المعاصرين.
نص الترجمة
قبل حوالي 6200 عام تقريبًا، قرر المزارعون الذين يعيشون في ضواحي شرق أوروبا -المعروفة الآن بأوكرانيا- القيام بأمرٍ عصي على التفسير. إذ خلَّف هؤلاء وراءهم قراهم التي بنوها في العصر الحجري الحديث نازحين إلى الغابات والسهوب ذات الكثافة السكانية المنخفضة. وهناك في تلك المنطقة التي يُقارب حجمها حجم بلجيكا تقريبًا وتقع بين مدينتي كييف وأوديسا اليوم، تجمّعوا في مستوطنات جديدة بلغ حجمها ضعف حجم مستوطناتهم القديمة بـ20 مرة.
تعود هذه الثقافة الغامضة، المعروفة باسم "كوكوتيني-تريبيليا"، إلى زمن يسبق أقدم المدن المعروفة في بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا). استمرتْ هذه الحضارة المشوبة بالغموض لمدة 800 عام، لكنها انهارت فيما بعد بطريقة غامضة بقدر الغموض الذي بدأت به. والغريب أن سكان هذه الثقافة لم يتركوا وراءهم سوى القليل جداً من الأدلة المادية على وجودهم في المنطقة، كما لم يعثر الباحثون على أي بقايا بشرية يمكن أن يعوّل عليها. وتعليقًا على ذلك، يقول أليكسي نيكيتين، عالم الحفريات القديمة بجامعة جراند فالي ستيت بولاية ميتشيغان الأمريكية: "لم يتركوا وراءهم خنصرًا واحدًا أو حتى سِناً يمكن أن نهتدي إليه."ً
أثار هذا النقص المحيّر في الأدلة جدلًا واسعًا بين العلماء حول ما يُسميه نيكيتين "عصور الظلام" لحقبة ما قبل التاريخ الأوروبي. وعن ذلك يقول: " تخيَّل أنك إذا تحدثت إلى خمسة علماء آثار متخصصين في ثقافة تريبيليا، ستتلقى منهم خمسة آراء مختلفة!" ورغم ذلك، لم يقلل نقص البيانات حول هذه الحضارة الغامضة من اهتمام الباحثين، بل على النقيض من ذلك.
ففي السنوات الأخيرة، بذلت مشاريع بحثية جهودًا لتكوين فكرة عما كانت عليه "المدن الأولية" لثقافة تريبيليا. فعلى الرغم من تغلغل خلافات مستعصية بين العلماء حول تفسير هذه الحضارة، فإن ما يتبدى الآن هو صورة لمحاولة مبكرة وفريدة من نوعها في التحضر. ومن يعلم! فقد تكون هذه المحاولة مفتاحًا لفهم كيف تطورت أوروبا الحديثة من العصر الحجري، وقد تساهم أيضاً في تسليط الضوء عامةً على بزوغ الحضارة البشرية.
تعتبر أوروك وتل براك، اللتان نشأتا في بلاد ما بين النهرين في أوائل الألفية الرابعة قبل الميلاد، أول مدينتين في العالم. وتشير الحفريات في هاتين المدينتين إلى زيادة في الكثافة السكانية بالإضافة إلى تأسيس نظام اجتماعي هرمي جديد، وهما سمتان تعتبران جزءًا أساسيًا من تعريف المدينة. وقد تطلب نمو عدد السكان أن يجتمع الغرباء معًا في مساحة مشتركة و محاولة التعايش في ظل ما جادت به الحياة بمذاقاتٍ جديدة. وتأكيدًا على ذلك، تقول مونيكا سميث،عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، ومؤلفة كتاب "المدن: أول 6000 عام": "أعتقد أن هذه الفترة كانت العتبة النفسية الحقيقية للتمدّن. لكن المشكلة أن مستوطنات تريبيليا العملاقة لا تستوفي هذين المعيارين، لذا يبقى السؤال الأهم هنا: إن لم تستوفِ هذه الحضارة الشروط الكافية فكيف سيتسنى لنا فهمها؟"
هياكل حضرية قديمة في تل براك (ويكيبيديا)اهتدى علماء الآثار الأوكرانيون إلى المدن الضخمة لهذه الحضارة منذ أكثر من قرن من الزمان، ومع ذلك لم تبدأ عمليات التنقيب الممنهجة إلا بعد الحرب العالمية الثانية، كما لم تحظَ هذه المستوطنات بالاهتمام الدولي إلا قبل عقد مضى. لكن اليوم، ومن بين عدة آلاف من المستوطنات التريبيليانية المعروفة، توجد نحو 15 مستوطنة "موغلة في الضخامة" باعتبار أنها تمتد على أكثر من 1 كيلومتر مربع، وأكبرها تالجانكي التي يزيد حجمها عن ثلاثة أضعاف هذا الحجم، مما يجعلها أكبر قليلاً من الحي المالي في لندن ، وأكبر حتى من أوروك خلال معظم الألفية الرابعة قبل الميلاد.
ورغم ضخامة مواقعها، لم تكن هذه الحضارة مكتظة بالسكان كما قد يخيِّل للبعض، إذ كانت منظمة بصورة دائرية، بمنازل مبنية من شبكة من الأغصان المجدولة المُغطاه بمادة لزجة كالطين، تصطف على الطرق الدائرية التي تحيط بمساحة مركزية واسعة. انطوتْ أكبر هذه المدن على عدة آلاف من المنازل بما يصل إلى 15,000 نسمة، مقارنة بما لا يزيد عن بضع مئات من الأشخاص في القرى التقليدية للعصر الحجري الحديث. وقد تأجج نقاش حاد حول هذه الأعداد، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه المواقع مأهولة بالكامل على مدار العام أو لا، وهو ما يثير تساؤلاً آخر: ما الغرض من هذه الأماكن إذن إن لم تكن مأهولة بالسكان؟"
لا تشبه المدن الأولى التي ظهرت بعد عدة قرون
تشير وجهة النظر التقليدية حول سبب وجود تلك المدن الضخمة لحضارة تريبيليا هي أن هذه المواقع شُيدتْ استجابة للضغط السكاني المتزايد، وهو ما أدلى به ميخايلو فيديكو من جامعة بوريس جريتشينكو في كييف بأوكرانيا. يرى فيديكو أن السبب الذي ربما ساهم في تيسير نزوح سكان حضارة التريبيليان، هو ظهور أدوات متطورة كالزلاجات التي تجرّها الثيران أو الحيوانات الأخرى، إذ أتاحتْ هذه الزلاجات نقل الطعام والموارد الأخرى على مسافات تصل إلى عشرات الكيلومترات أو أكثر من القرى القائمة أو الحقول النائية إلى المواقع الجديدة. ويضيف فيديكو أنه لم تكن ثمة طرق ليشقوا سبيلهم عبرها، بل كانت جميع المناطق عبارة عن امتدادات من غابات وأودية نهرية.
من ناحية أخرى، يعتقد يوهانس مولر من جامعة كيل في ألمانيا أن هذه المواقع كانت ببساطة عبارة عن قرى موغلة في الضخامة، وبزغ الاختلاف بينها في الحجم فقط وليس في التصميم، بمعنى أن هذه المواقع لم تكن تختلف جذريًا عن القرى الأصغر في تصميمها، بل كانت ببساطة أكبر بكثير من حيث الحجم فقط. يرى مولر أن تصميم المنازل على هيئة دائرة متحدة المركز لم يكن بالأمر الجديد، بل كان موجودًا منذ 4800 عام قبل الميلاد في مستوطنات أقدم تضم في كنفها ما لا يزيد عن 50 منزلًا.
لكن على النقيض من ذلك، يعارض جون تشابمان وبيسيركا غايدارسكا من جامعة دورهام في المملكة المتحدة هذه الفكرة بشدة، وعن ذلك يقول تشابمان: " إن وجهة النظر هذه أشبه بأن نشير إلى حاملة الطائرات باعتبارها يخت موغل في الضخامة" (يرى تشابمان أن المواقع الضخمة تختلف تمامًا عن القرى الصغيرة من حيث الطبيعة والتعقيد.)
بالنسبة لوجهة نظر تشابمان وغايدارسكا حول طبيعة المدن الضخمة لحضارة تريبيليا، يرى الاثنان أن ذلك كان بمثابة تجربة أشعلتْ فتيل النظام الاجتماعي، وأن ظهور المدن الضخمة في ذلك الوقت يعكس هذا التحول الأيديولوجي. كان كل موقع مُقسمّاً إلى أرباع تنتشرمن المركز على هيئة شطيرة دائرية، وكانت هذه الأرباع مقسمَّة إلى أحياء تضم عددًا قليلًا من المنازل.هذا التصميم العام أُسس منذ البداية، ثم اكتسب الهيكل الداخلي لهذه الأحياء بنية داخلية فيما بعد مع انتقال الناس إليها تدريجيًا، وغالبًا ما كانت تضم تلك الأحياء مقرا رئيسيًا رابضا في موقع استراتيجي على الطريق الدائري الخارجي.
كان لكل حي بيت كبير مخصص لخدماته، بالإضافة إلى بيت كبير جداً للاجتماعات يخدم الموقع ككل و يقع بالقرب من المركز باتجاه الشرق. فيما ترى غايدارسكا أن هذه التقسيمات الهيكلية ربما ساعدت في احتواء النزاعات، وأن بيوت التجمع هذه قد تكون الأماكن حيث تُتَخذ القرارات ومن ثَم توصيلها إلى السكان في وقت كان يسبق اختراع الكتابة، بينما يضيف تشابمان أن المجتمع كان متساوياً إلى حد كبير، دون وجود فرق واضح بين الطبقات الاجتماعية أو الأفراد المتميزين بالثروة أو السلطة. فالمدن الضخمة لحضارة تريبيليا لا تُظهِر أدلة على وجود طبقات اجتماعية عليا أو ممتلكات فاخرة تميز بعض الأفراد عن غيرهم.
لِمَ يتجمعون؟
ترى غايدارسكا وتشابمان أننا في حاجة إلى إعادة التفكير فيما نعنيه بالمدينة، لأن هذه المدن الضخمة تُظهر نوعًا مختلفًا من التنظيم الاجتماعي والحضري الذي لا يتماشى مع التعريف التقليدي المستند إلى النماذج الهرمية والسلطوية. في حين أن البعض الآخر لا يذهب بعيدًا إلى هذا الحد، إذ تصف مونيكا سميث، عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، المدن الضخمة هذه "بالمستوطنات الجماعية"، وتشير إلى أنه يمكننا التفكير فيها بوصفها مرحلة انتقالية نحو المدن التي أتاحتْ للسكان في القرى الصغيرة فرصة تجربة شيء أكبر وأكثر تنوعًا لأول مرة في حياتهم
تعتقد سميث أن هذه المدن الضخمة ربما تشابهت في بعض السمات مع موقع غوبكلي تبه في تركيا الآن، وهو مجمع مبانٍ يبلغ عمره على الأقل 10,000 عام، ويبدو أنه كان مكانًا يتجمع فيه الناس بصورة دورية لممارسة الطقوس. وتفترض سميث أن هذه المراكز التي كانت تُستخدم لأغراض ممارسة الطقوس هي التي بدأت تغرس في نفوس السكان فكرة تقبل الغرباء والتعامل معهم، والحاجة إلى الوثوق بهم.
تُعدُّ هذه واحدة من عدة فرضيات تستكشفها غايدارسكا وتشابمان في كتابهما الجديد "التحضر المبكر في أوروبا". يقول كلاهما أن المواقع الضخمة ربما طُوعتْ لأغراض طقوسية بحتة، حيث كان يديرها مجموعة من "الأوصياء" الذين يستقبلون الناس خلال أربعة أو خمسة أشهر من السنة، وأحيانًا على مدى شهر واحد. فيما تشير فكرة بديلة إلى وجود عشائر مختلفة تولتْ مسؤولية توفير احتياجات الموقع وإرشاد الزوار في الطقوس لمدة عام، ثم تناوبتْ مع عشيرة أخرى في العام التالي.
موقع غوبكلي تبه في تركيا الآن، وهو مجمع مبان يبلغ عمره على الأقل 10,000 عام (ويكيبيديا)وعلى النقيض من ذلك، يعتقد يوهانس مولر من جامعة كيل في ألمانيا وزملاؤه الألمان أن المواقع الضخمة لحضارة تريبيليا كانت مأهولة بالكامل على مدار العام، لكن من الصعب للغاية تفسير الأدلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن سكان هذه الحضارة كانوا يحرقون منازلهم بصورة دورية ومخطط لها، وليس بطريقة عشوائية كما قد يعتقد البعض. وربما كان ذلك طقسًا لتطهير المكان قبل مغادرتهم. فمثًلا في موقع نيبيليفكا حيث يعمل تشابمان وغايدارسكا، أُحرقتْ ثلثي المنازل البالغ عددها 1500 منزلا على مدى 200 عام من وجود الموقع.
المشكلة أن تقنيات التأريخ لا توفر الدقة المطلوبة لتحديد نسبة المنازل التي كانت مأهولة بالسكان في الوقت ذاته قبل حرقها. ومع ذلك، لم تؤثر الأنشطة التي كانت تجري في المواقع الضخمة لحضارة تريبيليا كثيرًا على البيئة المحيطة، وهو ما يتضح من تحليل حبوب اللقاح والفحم في الرواسب الموجودة حول المواقع، التي تعطي فكرة عن الزراعة وإدارة الغابات في المنطقة. لكن لا يزال السبب في أن الأنشطة لم تؤثر كثيرًا على البيئة المحيطة غامضًا . تُرى هل حدث ذلك لأن الناس كانوا يزورون هذه المدن في بعض المواسم فحسب!؟ أم أن الموارد (مثل الغذاء والخشب) كانت تُجلَب من مناطق أخرى بدلاً من الاعتماد على الموارد المحلية!؟
فرضيات مختلفة
تشير فرضية أخرى حول سبب ظهور تلك المدن الضخمة إلى أن سكان حضارة تريبيليا تجمعوا معًا للدفاع عن أنفسهم ضد تهديد خارجي. إلا أنه في هذا السياق، يختلف علماء الآثار مرة أخرى. فعادةً ما تكون المواقع محاطة بخندق، مثل خندق موقع نيبليفكا الذي كان طوله 5 كيلومترات وعرضه 1.5 متر فيما يبلغ عمقه 0.8 متر، وكما هو واضح كيف كان الخندق ضيقًا وعميقًا بحيث يمكن للبالغين القفز فوقه، مما يجعل البعض يعتقد أنه لم يكن دفاعيًا.
ومع ذلك، يقول ميخايلو فيديكو من جامعة بوريس جريتشينكو في كييف بأوكرانيا إن الخندق كان يحتوي في السابق على "سياج" (سور مصنوع من أعمدة خشبية) ولكنه قد تآكل بمرور الوقت. بعبارة أخرى، يرى فيديكو أنه على الرغم من أن الخندق نفسه قد لا يكون عميقًا أو عريضًا بما يكفي ليكون حاجزًا قويًا ضد المتسللين، فإن وجود سياج خشبي فوقه كان من شأنه تعزيز الدفاعات. حتى بدون دفاعات مادية قوية مثل السياج، فإن الكثافة السكانية العالية قد تضيف طبقة من الأمان لقدرتها على مقاومة الهجمات بصورة جماعية.
وبالمثل يفضل عالم الحفريات أليكسي نيكيتين الفرضية الدفاعية. ويرى هو وديفيد أنتوني، عالم الأنثروبولوجيا في كلية هارتويك في نيويورك، أن ظهور هذه المدن الضخمة كان ردًا على صراعات إقليمية أوسع. وفي الجنوب، كانت الأراضي المعروفة الآن برومانيا وبلغاريا معقل أقدم الثقافات الزراعية في أوروبا. وبحلول عام 4600 قبل الميلاد، امتلكت المجتمعات البلقانية صناعة نحاسية مزدهرة وكانت غنية غناءً فاحشًا. وأقرب مثال على ثرائهم هو قبر متخمّ بالذهب والنحاس لرجل رفيع المستوى اكتُشف في مقبرة بمدينة فارنا ببلغاريا.
وفي حوالي عام 4200 قبل الميلاد، نزح السكان من تلك المستوطنات الزراعية، والمثير للانتباه هو ما وجده علماء الآثار من علامات على العنف قبل ارتحالهم مباشرة. يفترض نيكيتين وأنتوني أن الناجين من هذه الأحداث فروا شمالًا إلى أقاربهم البعيدين من سكان حضارة تريبيليا، وأن المواقع الضخمة، التي نشأت في الوقت ذاته تقريبًا، أُسست لاستيعابهم. وعن ذلك يقول نيكيتين: "أعتقد أن هذه المواقع كانت مخيمات للاجئين".
إذا كانت هناك مذبحة بالفعل، فالعامل المسؤول عن تأجيجها لا يزال مبهمًا. تُرى هل كان العنف الذي انبثق بين المزارعين ناجماً عن تأثير التقلبات المناخية على المحاصيل؟ أم أن البدو الرُّحل من السهوب الشمالية والشرقية باتوا أشد عدوانية عندما تراجعت تلك المجتمعات الزراعية وتضاءل إنتاجها من النحاس؟ تشير الأدلة إلى أن النحاس البلقاني وُجد في عمق السهوب، مما يعني أن المجموعتين كانتا تتاجران لعدة قرون في ذلك الوقت. ومع ذلك، تشير تحليلات أُجريت على أفراد من مقبرة فارنا وغيرها من المقابر البلقانية إلى أنه لم يكن هناك تزاوج بين المجموعتين بغض النظر عن بعض الاستثناءات النادرة.
الفخار الذي كان يستعمله سكان السهوب والمعروف بـ كوكوتني- سي (ويكيبيديا)وأيًا كان السبب وراء هذه المذبحة ، يبدو أن مزارعي حضارة تريبيليا قد نجوا على الأقل في البداية، واستمروا في التفاعل مع سكان السهوب القريبين، والدليل على ذلك هو نوع الفخار الذي كان يستعمله سكان السهوب والمعروف بـ كوكوتني- سي، ويظهر في كل طبقة من طبقات المواقع الضخمة إلى أن هجرها السكان. تأكيدًا على ذلك، يقول نيكيتين: "تمكن سكان تريبيليا من التعايش بسلام مع سكان السهوب المجاورين لهم، إلا أنهم لم يتزاوجوا مع جيرانهم."
وبحسب نيكيتين فإن السبب وراء ذلك يعود إلى اختلاف وجهات نظرهم اختلافًا جذريًا. فمثلًا كان سكان السهوب يقدِّرون البراعة الفردية ــ كما يتجلى ذلك في استخدامهم للنحاس البلقاني المرغوب لتزيين أجساد زعمائهم الموتى، بينما يتجلى جوهر ثقافة تريبيليا على المساواة وهو ما يتضح من مواقعهم الكبيرة متحدة المركز والمتشابهة.
وكما هو متوقع، فإن فكرة مخيم اللاجئين لا تروق للجميع. فمثلًا تقول غايدارسكا: "لا يمكن أن تمر بأزمة تقض مضجعك لمدة 800 سنة دون أن تصَّح عزيمتك على حلها". فيما تساءل آخرون كيف يمكن لمجموعات صغيرة نسبيا من البدو، رغم ميلها للحرب، أن تدمر مستوطنات زراعية غنية ومكتظة بالسكان في منطقة البلقان. يشير عالم الحفريات نيكيتين إلى أن الفكرة يتخللها نقاط ضعف، ليس أقلها أن بناء المواقع الضخمة بسرعة لاستيعاب المهاجرين، كان سيتطلب استثمارات كبيرة للغاية في العمالة. ومع ذلك، فهو يقترح أن فرضية مخيمات اللاجئين يمكن أن تفسِّر غياب الرفات البشرية بقوله: "إذا كانت هذه مخيمات مؤقتة، فمن المحتمل أن الوافدين لم يبقوا فيها لفترة طويلة ووافتهم المنيِّة في مكان آخر".
ما الذي حصل؟
في حوالي عام 3400 قبل الميلاد، هجر السكان جميع هذه المدن الضخمة رغم استمرار سكان تريبيليا في العيش في مواقع أصغر وأكثر تباعدًا. يعتقد عالم الأنثروبولوجيا ديفيد أنتوني أن السلام الذي تفاوض عليه المزارعون مع سكان السهوب قد تردَّى في النهاية. بينما يكشف التحليل الجيني أنه بعد انهيار المدن الكبرى، بدأ سكان المجموعتين في التزاوج. وبحسب مختبر الحمض النووي التابع لمختبر ديفيد رايش في جامعة هارفارد، فإن إحدى النظريات المثيرة للانتباه هي أن نسل هذا التزاوج كان هم شعوب اليمنايا. وإذا كان الأمر كذلك، فقد نحتاج إلى إعادة صياغة قصة هؤلاء الرعاة، الذين يُعتَقد أنهم جاءوا من السهوب منذ حوالي 5000 عام، وساهموا في تغيير سكان أوروبا وراثياً ولغوياً وثقافياً.
لكن ما لا نفطن إليه أن شعوب اليمنايا التي صورها التاريخ باعتبارها شعب قاتل ربما كانت في الأساس جزءًا من المزارعين الأوروبيين، وهو ما ساعدهم ربما على الاندماج والتكيف مع المجتمعات الجديدة دون الحاجة إلى اللجوء للعنف. ومع ذلك، تبقى المسألة مفتوحة للنقاش. في حين يرى نيكيتين أن شعب اليمنايا ربما جاء بعد فترة عنف جالبًا معه أيديولوجية جديدة شكلتها الحياة في السهوب، ويضيف قائلًا: " تخيل معي أنه في خضم هذا اليأس، تشكَّلت فكرة عن نظام جديد."
على الجانب الآخر، يعتقد آخرون أنه ليست هناك حاجة لاستدعاء قوى خارجية لتفسير هجر السكان لهذه المدن. يقول مولر، الذي أجرى عمليات تنقيب في موقع رئيسي يُدعى ميدانتسكي ، إنه بحلول عام 3700 قبل الميلاد، اختفت مباني التجمعات في تلك الأحياء، وما تبقى منها لم يكن سوى أكبر مبنى مخصص للتجمعات.
يرى مولر أن السبب في انهيار هذه الحضارة ربما يتمحور حول اقتصار القرارات على فئة قليلة من الناس وهو ما أفضى إلى تآكل الروابط الاجتماعية التي كانت تجمع السكان. وبالمثل، تعتقد غايدارسكا وتشابمان أن المشكلة كانت داخلية، مشيرين إلى أنه مع توسع موقع ميدانتسكي، تغيرت المساحة التي كانت تلعب دورًا هامًا في جمع الناس وتسهيل التفاعل بينهم، واستُبدلت بأدوار أخرى، وهو ما أثر سلبًا على التواصل داخل المجتمع. ومع ذلك، يرى مولر أن تلك المدن فقدت ببساطة مكانتها أو هيبتها بعد تعرضها لأفكار سكان السهوب من خلال التجارة. فما إن تعرض سكانها لهذه الأفكار حتى بدأوا في التشكيك في أفكارهم ومعتقداتهم.
بناء ثلاثي البعد لموقع ميدانتسكي قبل آلاف السنين (ويكيبيديا)يتفق معظم الباحثين المتخصصين في حضارة تريبيليا على أن التدهور البيئي لم يكن سببًا في نزوح السكان من هذه المدن. وعن ذلك يقول مولر: " إن سعة التحمل البيئي في هذه المنطقة لم تُستنفد أبداً". بمعنى أن المنطقة كانت قادرة على دعم السكان دون أن تكون قد استُهلكت بالكامل أو تعرضت للتدهور البيئي. كما يرفض الباحثون فكرة اقترحها عالم الأحياء الدقيقة نيكولاس راسكوفان من معهد باستور في باريس عام 2018، والتي تفترض أن الطاعون قد انتشر في المدن الضخمة ومن ثَم تغلغل شمالاً وغرباً حتى وصل إلى مقبرة سويدية عام 2900 قبل الميلاد.
إلا أن غايدارسكا تشكك في هذه الفرضية باعتبار أنه من المفترض العثور على بقايا ضحايا الطاعون إذا كانت هذه الفرضية صحيحة. كما أن هذه المدن الكبرى كانت قد اختفت منذ 500 عام على الأقل، وهو ما يؤكد استحالة انتشار الطاعون من هناك، لأن هذا الفاصل الزمني مهول حتى بالنسبة لمرض بطيء الحركة على غرار الطاعون.
بحلول الوقت الذي ظهرت فيه شعوب اليمنايا في أوروبا، كُتبت النهاية وأُسدل الستار على حضارة تريبيليا التي اعتُبرت تجربة حضارية فريدة ربما كانت الأولى من نوعها، وفي أقصى الجنوب والشرق، كانت مدن مثل مصر وبلاد الرافدين مزدهرة ومبنية على نموذج مختلف جذرياً وما زالت تتطور، ومنذ ذلك الحين، واصلتْ الحضارة سعيها متلمسةً طريقها نحو مسار جديد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات علماء الآثار قبل المیلاد هذه الحضارة التی کانت ت على الأقل من جامعة إذا کانت کانت هذه أکثر من یمکن أن على ذلک إلى أنه ما کانت ومع ذلک لم تکن وهو ما إلى أن لم یکن
إقرأ أيضاً:
تحركات سريعة في المحافظات لكسح مياه الأمطار.. غرف عمليات واستعدادات قصوى
تحركات سريعة شهدتها مختلف المحافظات، للتعامل مع تجمعات مياه الأمطار في الميادين والشوارع العامة الرئيسية، خاصة بعد أن تعرضت عدة محافظات، لسقوط أمطار منذ ساعا الصباح الأولى، واستمرت على مدار أوقات وساعات متفرقة، نتج عنه تجمع لمياه الأمطار.
إزالة تجمعات مياه الأمطار بالمحافظاتقال اللواء طارق مرزوق محافظ الدقهلية، إن اليوم شهد جهودا مكثفة من قبل المراكز والمدن في التعامل الفوري مع تجمعات مياه الأمطار، موضحا أنه وجه بالدفع بسيارات كسح وشفط مياه الأمطار للمدن والمراكز التي تحتاج إليها، للتغلب على تجمعات المياه والسرعة في تسيير حركة الشارع، ومنع أي تعطيل للمواطنين.
وأكد الدكتور عمرو عبد العاطي رئيس مدينة جمصة، التعامل بسرعة مع تجمعات مياه الأمطار منذ الساعات الأولى لسقوط الأمطار، حتى عادت الحياة تسير بشكل طبيعي داخل المدينة.
تنسيق مستمر لكسح مياه الأمطارأشار الفريق أحمد خالد حسن سعيد، محافظ الإسكندرية، أنه منذ اللحظات الأولى لسقوط الأمطار، جرى العمل بشكل سريع لكسح مياه الأمطار، من خلال فرق العمل الميدانية، وبمشاركة معدات الوحدات المحلية، بالتنسيق مع شركة مياه الشرب والصرف الصحي.
وأوضح اللواء خالد شعيب محافظ مطروح، أن التنسيق بين رؤساء المراكز والمدن وشركة مياه الشرب والصرف الصحي، مستمر، لسرعة الاستجابة مع حالات تجمع الأمطار، عبر الشبكة الوطنية للطوارئ والسلامة بديوان عام المحافظة، بالتنسيق مع غرف الأزمات الفرعية بالمراكز والمدن والأحياء وشركة مياه الشرب، لمتابعة تجمعات مياه الأمطار وسرعة التعامل الفوري معها.
استعدادات قصوى لمواجهة تقلبات الطقسقرر اللواء دكتور علاء عبدالمعطي محافظ كفر الشيخ، رفع درجة الاستعداد القصوى لمواجهة تقلبات الطقس والتعامل الفوري معها، وإصلاح أي أعطال بأعمدة الإنارة على الفور، وتلبية مطالب المواطنين والاستجابة لشكواهم في هذا الشأن.
تغيرات جوية في الساعات المقبلةتستمر التقلبات الجوية في مختلف المحافظات خلال الفترة المقبلة، وتتعرض بعضها لسقوط أمطار ما بين الغزيرة الرعدية والمتوسطة، مع انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة ما بين 3 إلى 5 درجات عن الأيام السابقة، بحسب بيان هيئة الأرصاد الجوية.
وتشهد مختلف المحافظات نشاطا في الرياح بشكل ملحوظ ما يؤثر على برودة الجو، لتصبح الأجواء أكثر برودة في المساء، حتى الساعات الأولى من الصباح.