ناجي شريف بابكر، يوليو ٢٠٢٤
.
على الرغم من أن ما يحدث الآن في الخرطوم وفي السودان بأكمله، من عدوان ونهب وقتل للمدنيين العزل، وإخراج من الديار تولت كبره عناصر الجنجويد المدعومين من قبل بعض قيادات قوى الردٌة. مأساة ربما يتبادر إلى الذهن، من عنفها وضراوتها، كأنها واقعة تحدث بصفة منعزلة ولأول مرة في التاريخ الحديث.
لكنني أرى أن ما يحدث الآن لا يعدُ كونه اختلافٌ في الكم لكنه ليس بالضرورة إختلاف في الكيف.. إن ما يحدث مأساةً قديمة لكنها تجددت وتوسعت رِقعتُها، تعاظمت وانتشرت كفطر أسود لتداهم مدنا وحواضر كانت من قبل ساكنةً مطمئنة، وعلى بعد جعل الأهالي فيها يتوهمون أنهم آمنون من طاحونة الشرّ، التي ظلت رُحاها تدور دونما توقف، لتُنجزَ طحينها الدموي المسحور في الضواحي والأرياف البعيدة النائية، لأكثر من ثلاثة عقود متتاليات، حتى صاروا من عماهم.. كعُميان سَارَامَاغُو لا يُبصرون شيئا ولا يحفلون بمبصرٍٍ إذا ما دعاهم لما يُحييهم .. إن ما حدث سبق أن عبّر عنه الراحل والأديب الطيب صالح، عطّر الله مقامه بعَبَق الجنة، ذلك حين قال في إحدى رواياته "أن سقف البيت حينما يسقط لا يكون قد سقط فجأة، لا بد ان السقوط قد بدأ منذ زمن بعيد"..
إن هذا البلاء ليس جديدا فقد ظل السودانيون في دارفور لعشرين عاما متتاليات، يتعرضون من نفس هذا العدو لأشد أنواع البطش والتنكيل، للمجازر الجماعية، وللإختطاف والتهجير القسري، وللإغتصاب وحرق القرى والبلدات.. ونهب وقتل القطعان.. إن ما تغير فقط هو إتساع رقعة الضحايا، لتشمل اهدافا لقطاع من الأشرار، كانوا بالأمس في صفوف المُحرضين والممولين لماكينة البطش والعدوان، كانوا يحسبون أنفسهم آمنين، فصاروا بمشيئة الأقدار هدفا لنفس النيران التي كانوا يوما قد أوقدوها فارتد على صانعه الكيد، وارتد السحر على الساحر .. أدركتهم النيران في قصورهم وغرف نومهم، فأكلت طنافسهم وأموالهم الحرام.. إنها طاحونة الشر التي لا تعرف حليفا.. ولا زالت تدور .. فقط اتسع مداها وازداد فتكها وتضاعفت أعداد ضحاياها، فازداد العويل.
إن "عنفُ البادية" الذي تجسد في زحف البدو والمستعربين على الحواضر ليس حدثا طارئا بل ظاهرة قديمة، ليس فيمن حل منهم ضيفا بارا، وإنما فيمن إساء منهم الجوار وسعى لإفساد نُظُمها وانتزاع الغلبة فيها، في تمددهم واستيطانهم، واستيلائهم على مقاليد الحكم في البلاد بقوة السلاح وفقه دار الحرب، في إتلاف مؤسساتها والعبث بمواردها وثرواتها. بدأت الظاهرة منذ المصالحة الوطنية التي وقعتها أحزاب الحركة الوطنية "التي دخلت جحافلها المدينة غازية ومعتدية وقتها" لتتصالح مع حكومة مايو، ذات النفس العلماني اليساري في العام ١٩٧٨، وتشرع من بعد ذلك في إفساد النظم والأعراف المالية والقانونية والسلام الإجتماعي .. ذلك في أعقاب لقاء بورتسودان الشهير والذي سبق ذلك بقليل ومهّد له.. شهدت البلاد لأول مرة في تاريخها إنتهاك الحرمات وتسور عساكر الأمن لمنازل المواطنين لفرض الفضيلة، بتر أطراف الفقراء والمعدمين بحجة الفساد في الأرض.. وإعدام أصحاب الرأي دون عدوان منهم.. شرعت حينها الدولة لأول مرة في إذاعة مساوئ الناس ونشر عوراتهم بالصوت والضوء على شاشات التلفاز الحكومي.. لم يعرف السودانيون من قبل فظاظة وهمجية كتلك التي شهدوها في أعقاب المصالحة الوطنية.
تعزز ذلك الغزو، والأسلمة القسرية، من خلال استيلاء تلك العناصر نفسها، على السلطة في البلاد بقوة السلاح في يونيو ١٩٨٩ ومن ثم التصرف دون وازع في مواردها، أراضيها، حواكيرها وثرواتها، فقد وُزعت رقاع الدعوى وانطلقت في الخرطوم المؤتمرات والملفات الصوتية الداعية لهجرات وتوطين العابرين والروافض، ممن تجمعهم الطائفة ولحمة الدين مع دعاتهم ومضيفيهم، وطُرحت الهويات على قارعة الطريق، في الأسواق في تمبكتو وإنجمينا ونيامي وفورت لاميه وحتى السفارة التشادية في باريس. ليصبح السودان كعبة أفريقيةً سوداء داكنة السواد، لمن يبغيها من المهاجرين رجالا وراكبين. توظيف تلك الثروات لتوطين المهاجرين ولتغذية طواحين العنف، شحذها وتسنينها والصرف على تسويق الشرّ وتوطينه داخل البلاد وخارجها.. وتمويل المصاهر والترسانات لتصنيع السلاح والصواريخ الفتّاكة والمتفجرات.. فصارت الخرطوم التي كانت آمنة مطمئنة منبعا لتصدير العنف والمتفجرات والمرتزقة على بؤر الصراع في دول الجوار الجغرافي ولما وراء البحار، وادّخرت من النيران لأهل البلاد نصيبا.
يحدث كل ذلك في بلاد تفتقر لأدنى مقومات التنمية في أرضها وإنسانها، يحدث دونما مشورة من أهلها وشعوبها على اختلاف مشاربهم، يتم إتلاف مؤسساتها ونسيجها الأخلاقي، إشعال الحروب والفتن الدينية والعرقية فيما بين سكان الوطن الواحد أسوة بتزكيتها والتورط فيها في مواجهة شعوب الجوار وما وراءها، وفيما بين تلك الشعوب بإثنياتها ومعتقداتها المختلفة. ظل بركان الشر ينمو ويتعاظم لمدة تجاوزت الأربعين عاما وتستمر حتى لحظة تحرير هذا المنشور وما سيتلوها من السنين، حتى يكتب الله خلاصا لمن سيظلون على قيد الحياة من شعوب هذه البلاد المنكوبة..
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
«آلات الشر».. جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم روبوتات مفخخة لتدمير مستشفيات غزة
يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي، استهداف البنية التحتية الصحية في قطاع غزة، باستخدام أساليب وتقنيات حديثة، إذ أقدم على تدمير مستشفى العودة شمال القطاع باستخدام روبوت مفخخ، ما أسفر عن تضرر بعض مرافق المستشفى، بحسب ما أفاد مراسل «القاهرة الإخبارية».
مدير مستشفى كمال عدوان: الروبوتات المفخخة اقتربت من المستشفى وأفرغت صناديق متفجرةوأكد الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان في مشروع بيت لاهيا شمال غزة، أن الروبوتات المتفجرة التابعة للاحتلال اقتربت للمرة الأولى من المستشفى، ما شكل تهديدًا كبيرًا.
وأشار أبو صفية في تصريحات صحفية، إلى أن الروبوتات كانت قريبة جدًا من المستشفى، وأفرغت صناديق متفجرة أدت إلى تدمير السواتر داخل المستشفى وتحطيم الأبواب الداخلية. وأوضح أن الدمار كان مروعًا، وأسفر عن إصابة 20 شخصًا في أقسام المستشفى، بينهم خمسة من الطاقم الطبي.
وأوضح أن الطائرات المسيرة عادت صباح اليوم، ولكن هذه المرة كانت أكبر حجمًا وتحمل صناديق متفجرة تزن أكثر من عشرين كيلوجرامًا، وجرى إسقاطها على المنازل المحيطة بالمستشفى، ما تسبب في انفجارات تليها حرائق.
الأمم المتحدة تحذر من التأثير المدمر للهجمات الإسرائيلية على المستشفيات في شمال غزةوفي سياق متصل، حذّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) من التأثير المدمر للهجمات الإسرائيلية على المستشفيات في شمال غزة، مشيرًا إلى أن هذه الهجمات تزيد من معاناة المدنيين في المناطق المحاصرة. وأعرب المكتب عن قلقه من تقارير تفيد باقتحام الجيش الإسرائيلي للمستشفى الإندونيسي في شمال غزة، وإجبار العاملين والمرضى على الإخلاء، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا».
وأوضح المكتب أن الهجمات على مستشفى العودة وكمال عدوان تأتي في وقت يتواصل فيه الحصار الإسرائيلي على بيت حانون وبيت لاهيا وأجزاء من جباليا لليوم التاسع والسبعين على التوالي، لافتا إلى أن الأمم المتحدة وشركائها يواصلون الضغط للحصول على الوصول الإنساني إلى المنطقة لتقديم الدعم للمدنيين المحاصرين في ظروف مأساوية.
رفض 48 محاولة من الأمم المتحدة لتنسيق الوصول إلى المناطق المحاصرة في الشمالوذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، أنه منذ بداية العدوان الإسرائيلي على شمال غزة في أكتوبر 2024، رفضت 48 محاولة من أصل 52 من الأمم المتحدة لتنسيق الوصول إلى المناطق المحاصرة في الشمال. وعلى الرغم من الموافقة على أربع محاولات إنسانية، فإنها واجهت عوائق شديدة.
وأشار المكتب إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، سمحت فقط بتنفيذ 40% من طلبات التحركات الإنسانية في قطاع غزة خلال شهر ديسمبر الجاري، وهو ما يسلط الضوء على تعقيد وصول المساعدات إلى المناطق المتضررة.