جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-27@03:17:20 GMT

عُمان.. مذهب المذاهب!

تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT

عُمان.. مذهب المذاهب!

مُعاوية الرواحي

شعاراتُ الوحدة مهمة للغاية لأي مجتمع، ومع تعدد الأديان، والعرقيات، والهويات، والثقافات، والأعراق تكون هذه الشعارات أكثر أهمية، مع أنها في حقيقتها سخيفة منطقيا، وغير مقنعة لأحد، وبها عمومية شاطحة، ولا يُسند حقيقتها أي شيء سوى ذلك الشعور العمومي بالسلام الذي يدعو الجميع للتعايش. "كلنا واحد" وغيرها من هذه الشعارات تصبح نافعة، وتمارس التوكيد على العموم الكبير فقط بعد تحقق أركان المذهب الذي ما أن يتم التفريط به إلا وتستيقظ الفتن المذهبية وتنطلق من عقالها كالشياطين التي تمسك المشاعل في حقلٍ من القش الجاف!

تشكل لغة الشعارات العمومية مظلة أمان لا بأس بها للفرد المنتمي لمذهب ديني.

نعم نحن عندما نجتمعُ في الساحة العمومية، كلنا بشكل ما أو بآخر نرفع هذه الشعارات السطحية، والعمومية، وأصفها بهاتين الصفتين متعمداً، فهي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يفرزَ وسيلة تفكير أساسها التعايش وقبول تعدد الآراء، ليس لأن الفرد يظن في نفسه أنه قد يكون مخطئا، وقد يكون غيره صوابا، ليس من هذه الناحية. إنها تقود إلى تقبل تعدد الصوابات، وأن الطريق لله بعدد أنفس الخلائق، وبعدد عقول المذاهب.

متى يشعر الإنسان حقا بالأمان المذهبي؟ وبالتالي يردد بملء فيه هذه الشعارات العاطفية؟ يشعر بالأمان المذهبي عندما يتقين أن مذهبه الديني ليس عرضة للهجوم أو للإلغاء، عندما يتأكد لديه أن ممارسته لحق الانتماء الديني والمذهبي لا يقوم بتحديدها إنسان آخر نيابةً عنه. عندما يشعرُ أنَّه ليس متهماً، وأن مذهبه لا يحدد انتماءه الوطني أو الاجتماعي، عندما يرى الجميع سواسية أمام القانون لا يفرق بينهم مذهب ديني، عندما يرى أن الروح الوطنية هي التي تسود في الزمان والمكان، هُنا يتحقق الأمان المذهبي، وتشتد قوة الأواصر الاجتماعية.

هذا هو مذهب المذاهب، لم أجد نحتا ملائما لوصف الحالة العُمانية سوى هذه الطريقة. لدينا في عُمان قناعة راسخة للغاية أن خطر الانقسام المذهبي هو أحد أشد الأخطار الاجتماعية ضرراً على عُمان، ليس أمرا يحب أحدٌ أن يخوض فيه، وليس مجالاً يستطيع أن يتصدى له الجاهلون. المذاهب تختلف، في الفقه، وفي بعض شؤون العقيدة، وتتفق في شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ما يجمعها أكبر من قدرتها على أن تتفرق، وما يفرقها أقل من قدرتها على أن تجتمع. ونعم، لا تخلو المذاهب من خلفيات تاريخية، ومن صدامات سياسية، ومن حركة قيام الدول واندثارها، لكنها في المشهد العُماني متمسكة بذلك المذهب الذي لا يجب أن نفرط فيه، مذهب المذاهب، أو يمكن أن نسميه، مذهب تعدد المذاهب.

هذه ليست حقيقة مفتعلة، وليست من شعارات التطبيل التي يلوكها البعض في الشدة والرخاء، هذه حقيقة عُمانية واضحة المعالم، وتستمد قوتها من الطمأنينة المذهبية، وشعور كل فرد أن مذهبه محمي بقانون عام يشمل الجميع، يتبع العلماء الذين يختارهم، ويحترم العلماء من المذاهب الأخرى، ونتيجة هذا الاحترام المتبادل نشأت ظاهرة التعايش المذهبي في عُمان في عالم عربي يزخر بالصراعات المذهبية، ويشتعل بحروب الإلغاء، هذا فضلا عن استخدام العامل المذهبي في حروب سياسة بعضها يكاد يتحول إلى حروب ميدانية تهلك الحرث والنسل!

تنشأ شعارات الوحدة وتردد بصدق وحماسة في نهاية طريق التعايش المذهبي، بعد تحققه التام، بعد وجود الطمأنينة المذهبية لدى الجميع، ومن هنا يكتسب هذا الشعار حقيقته، ومع سخفه المنطقي، يقال بصدق، لأنه يُرى بوضوح، وتشعر به القلوب، وتشعر بصدقه، وما دمنا في عُمان نستشعر هذه الطمأنينة في قلوب كل الأفراد، لا توقع بعض الملاسنات الجانبية تلك الفتن النارية التي تعصف بمجتمعات أخرى. بالمنطق البسيط جدا، ما دام الفرد آمنا في مذهبه، سيساهم في تحقيق الأمان للمذاهب الأخرى!

يمارس البعض أدواراً لا نفع منها، ترسخ الشعور بالاختلاف بين المذاهب، بعضهم ضليع بما يفعل ويستثمر الاختلاف بين المذاهب لتعميق الانتماء إلى مذهبه، وبعضهم أحمق، وداعية فتنة، ومسبب شقاق، ينطلق من الكراهية والإلغاء، ولا يمانع حتى أن يستدعي السلطة لكي يوجهها ضد مذهب فلاني أو علَّاني، ولحسن الحظ السلطة في عُمان عاقلةٌ لكي لا تسمح لهذا الخطاب بالتفشي، وقد تتعامل مع هؤلاء الأفراد أحيانا ببعض الشدة، ولكن في المجمل، تتجنب السلطة في عُمان إثارة اللغط المذهبي وتسعى دائما إلى حل هذه المشكلات بطريقتها الأخرى المبنية على الاحتواء والإقناع ووأد المشكلات في مهدها. مقاربة يتمنى الجميع أن تستمر كما هي، وألا يوضع السيف موضع الندى.

السخيف منطقيا يصبح حقيقيا عندما يسنده واقع متحقق. الشعار، أي شعار في هذه الحياة سخيف منطقيا، كل إنسان يعرف أنه يختلف عن الآخر، ويجد الذي يشبهونه فيراهم يختلفون عن الآخرين، الذين أيضا لديهم مذهب آخر مغاير، فما الذي يصنع مشهد الوحدة في عُمان؟ تصنعه الطمأنينة، والعدالة بين المذاهب، والسعي المشترك بين علماء وعقلاء كل مذهب لإيقاف من يدعو للفتن والشقاق، تصنعه الثقافة الاجتماعية المتعايشة حتى بين غير المتدينين، يصنعه البناء المستمر للحصانة الثقافية، يصنعه الصدق في الاعتراف باختلافنا، يصنعه النقد الحصيف وتفنيد العلم المتراكم من بقايا الحروب السياسية، والاستخدام الغاشم للدين من قبل السلطة، وتحييد، أو تسطيح، أو قمع العلماء والفقهاء.

التعايش المذهبي في عُمان كبير، وواسع، وشاسع، وله سياقات وأسباب كثيرة، وبه تاريخ مفصل، ومن الصعب على أي فرد أن يحيط به علما، ومن المؤكد أن مقالا صغيراً مثل هذا لن يضع أكثر من بضع النقاط على ملايين الحروف، لذلك نلجأ أحيانا إلى لغة الشعارات، لأنها آمنة، وواضحة، وثمة واقع يسندها، قد لا نعرف لماذا نشعر بصدقها! لكننا نرى واقعا يؤكد لنا التعايش المذهبي في عُمان. مذهب المذاهب في عُمان! واحةٌ في صحراء الشقاق المذهبي العربي، ومنارة في المحيط الهائج للوحدة الإسلامية المهددة بالحروب، ثغر من ثغور التحقق التام للتصالح بين المسلم والمسلم، ومدنية تدير هذه المعادلة الصعبة باحتراف وبنجاح حتى هذه اللحظة. منجز من منجزات عُمان الحقيقية الذي إن تم التفريط به، فقد تم التفريط بسلامة المجتمع، والسلطة، والأجيال القادمة بضربة واحدة!

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: هذه الشعارات المذهبی فی فی ع مان

إقرأ أيضاً:

«صائد النوارس».. عندما يسرد البحار روحه

في كتاب «كيف تكتب رواية في مائة يوم أو أقلّ» الذي ترجمه إلى العربية الكاتب المصري محمد عبد النبي؛ ينقل الكاتب الأمريكي جون كوين نصيحة ذهبية عن الروائي الإنجليزي جون براين؛ مؤلف رواية «غرفة على السطح»، يقول فيها: ‫‏«إذا كان لصوتك أن يُسمَع وسط آلاف الأصوات، وإذا كان لاسمك أن يعني شيئًا بين آلاف الأسماء، فسيكون السبب الوحيد هو أنك قدمت تجربتك الخاصة صادقًا»، وأزعم أن هذا ما يحاوله محمد الصالحي؛ الشاعر والكاتب العُماني، سواءً في كتابه السردي الأول الذي صدر قبل سنتين، أو في كتابه الجديد الصادر عن الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء مؤخرًا بالتعاون مع دار جدل الكويتية بعنوان «صائد النوارس».‬‬‬ يكتب الصالحي ما يعرف. ينطلق من معرفته العميقة بقريته «الخضراء»، الغافية على ساحل الباطنة كحورية من حوريات ألف ليلة وليلة؛ ببحارتها وصياديها، بتلاميذها ومعلميها، بأطفالها الأشقياء وشيوخها الممسوسين برائحة المكان وأسئلته. يخلق منها عالمًا سرديًّا مميزًا، وكأنه يغرف من معين لا ينضب. في تقديمه لكتابه السردي السابق «الخضراء؛ لؤلؤة النهار، وتغريبة المساء» (الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء أيضًا بالتعاون مع «الآن ناشرون وموزعون» الأردنية، 2022) يخبرنا أن هناك آلاف الحكايات المدفونة في مناديس ذاكرته «تتلون بلون الخضراء«»» هذه المناديس يفتحها بين الفينة والأخرى ويستلّ منها مجموعة حكايات ليقدمها لقارئه بلغة بسيطة، والتقاطات ذكية، وتأملات شفيفة، وقدرة على شدّ القارئ من أنفه. حكايات عن شخصيات مستلة من الواقع ونابضة بالحياة، مما يجعلها فريدة ومصدَّقة من القارئ. حكايات لا يبدو لقارئها أن الصالحي مهتم بصفة «كاتب»، قدر اهتمامه بنقل تفاصيل عاشها في الماضي أو عايشها في الحاضر، لكأن الكتابة لديه ليست سوى استجابة لنداء خفيّ لسرد الحكايات، وانقياد عفويّ ناحية الشغف العميق بالمكان وحكاياته، فيروي مواقف وذكريات تشكّل جزءًا كبيرًا، ليس فقط من وعيه الإنساني، وإنما أيضا من وعي مرحلةٍ خَبِرَها جيلُه الذي عاش طفولته في ثمانينيات القرن الماضي. ولئن كان محمد الصالحي قد اختار لكتابه الجديد عنوانَ أحد نصوصه وهو «صائد النوارس»، فإني أرى أن هذا العنوان موفق تماما، لأنه يعبّر بذكاء عن روح هذه النصوص جميعها. فالنوارس كما نعلم هي طيور بحرية تجسد الحرية والانطلاق بعيدًا عن القيود، كحال النورس في قصة «صائد النوارس»، كما تمثل العزلة والتأمل اللذين سنعيشهما في قصة «رائحة الجدة»؛ عزلة خالد الذي لا يستطيع الحركة ولا الكلام ولا الصراخ، ويقضي حياته في تأمل الناس صامتًا. والنوارس أيضًا رمز للتحدي والصراع، فكما يصارع البحارُ الأمواجَ، يصارع النورسُ الرياحَ والعواصفَ، بحثًا عن رزقه وملاذه، وسنشاهد هذا الصراع في قصة «صائد النوارس» المُشار إليها، التي أَعُدُّها شخصيًّا أجمل نصوص الكتاب، ويذكرني الصراع المحتدم فيها بين الصياد والنورس بالروايتَيْن الكلاسيكيّتَيْن: «العجوز والبحر» لإرنست هيمنجواي و«موبي ديك» لهرمن ميلفيل، ففي هذه الأعمال الأدبية الثلاثة نشهد تحديًا كبيرًا ومستمرًّا بين الإنسان والطبيعة، ميدانُه البحر، وبحثًا دؤوبًا عن الذات عُدَّتُه الصبر والجلَد وعدم الاستسلام للمصير المجهول. هذا عدا أن النورس – وهذه دلالة أخرى للعنوان – يمثِّل رمزًا للتنقل والتغيير، فهو لا يستقر في مكان واحد، بل يجوب السماء والمحيطات، تمامًا كسالم؛ بطل قصة «نرجس»، إحدى القصص الجميلة أيضًا في الكتاب. يتألف «صائد النوارس» من ثلاثة أقسام رئيسية، كل قسم منها يعكس جانبًا من اهتمامات الصالحي ومعرفته العميقة بتفاصيل الحياة التي ينقلها إلينا؛ القسم الأول، المعنون بـ«البحّار يسرد روحه»، يأخذنا في رحلة عبر حكايات البحر والبحارة والصيادين. كما هي الحال في نص «أسنان تشبه القمر» الذي يجسد قدرة المؤلف على تحويل الأساطير المحلية إلى حكايات شيقة تستدعي التأمل، إذ ترتبط حكايته هنا بأسطورة عُمانية لتسمية المد الأحمر في قرية «الخضراء» بـ«دم البانيان». وفي نص «البوم / البلم»، يروي لنا قصة عاشق البحر خلف بن خميس الملقب بـ«البوم»، الذي لم يتحمل الابتعاد عن معشوقِهِ/ البحر، فكان مصيره الموت حزنًا وكمدا. لكن المؤلف لا يكتفي هنا بتقديم صور منوعة من حياة البحارة والصيادين، مشبعة أحيانًا بإرادة الحياة، ومجللة في أحيانٍ أخرى بالحزن واللوعة والحنين؛ بل يُرينا أيضًا في أكثر من نص، المصيرَ المؤسِفَ الذي يؤول إليه البحّار حين يتخلى عن البحر، أو يحاول تغيير مهنته، كما في نصّ «سيد البحار» الذي لم تشفع له أمجاد أسلافه البحرية والتغني بها ليُصبح بحّارًا جيّدًا في وطنٍ ليس بوطنه، وبحرٍ ليس ببحره، وكما في نصّ «الصيد البرّي للبحار» حين يفشل بطلُه البحار في مهنته الجديدة التي بادل بها أخاه سائقَ التاكسي. أما القسم الثاني، فحَمَل عنوان «قم للمعلم...»، ويروي فيه المؤلف ذكريات وحكايات عاشها في المدرسة؛ تلميذًا أولًا، ثم معلّمًا بعد ذلك. نص «أنت بتعرف شو كاتب؟» – على سبيل المثال - يسرد حكاية إعداده وهو تلميذٌ صغير صحيفة حائط عن مذبحة صبرا وشاتيلا، ناقلًا الصور والتعليقات من مجلة عربية، وما تبع ذلك من غضب المدير الأردني منه، لعدم انتباهه – بسبب حداثة سنّه – إلى عبارات كاذبة عن رمي بعض الأهالي الزهور في وجه العدوّ المحتلّ. وفي حين يقدم نص «نبيع الأرنب بنصف ريال»، حكاية طريفة عن تربية الآباء لأبنائهم في الثمانينيات على عزة النفس وإبائها، ورفضهم أن يكونوا عالة على الآخرين، فإن نصّ «لماذا يضحك خدام؟» يسرد حكاية طريفة أخرى تُرينا كيف يرى التلميذ الصغير أستاذه، وكيف يعبّر عن رؤيته هذه بالضحِك حين لا تتأتى له طرق أخرى. في هذا القسم، يعيد الصالحي إحياء ذكريات الطفولة والمدرسة بأسلوب مشوق وساخر. قد لا تبتعد بعض نصوص القسم الثالث، المعنون «من يعشْ يَرَ»، عن روح القرية البحرية التي قرأناها في القسمين الأولين (خصوصًا في نص «متعهد الحفلات») إلا أن نصوص هذا القسم غلب عليها بشكل عام تناول أماكن وشخصيات بعيدة نسبيًا عن «الخضراء». إن قصصًا مثل «مشيرًا إلى شيري»، و«نرجس»، و«رائحة الجدة»، تعكس قدرة الصالحي على مراقبة حياة الآخرين وتحليلها عن بُعد، هذا طبعًا مع افتراض أن هذه القصص بعيدة عن تجربته الشخصية، وإن كنتُ لا أستطيع الجزم بذلك. ولأنني ذكرتُ الثمانينيات مرتين -حتى الآن - خلال هذا المقال، فيجدر بي أن أشير إلى أنه ما من شك عندي أن هذا الكتاب سيحبّه كل من عاش طفولته في تلك الفترة من تاريخ عُمان، وأنا أحد هؤلاء. فهو عابق برائحة الثمانينيات وتفاصيلها، من ماكينة الخياطة، إلى جهاز المذيع الذي يُفصَّلُ له لباس خاص، إلى حوض الاستحمام في المزرعة وماكينة الريّ «اللندنية» التي تملأه بالماء، إلى ملعب كرة القدم البدائي بجذوع الشجر، وبدون شِباك، وليس انتهاء بأغاني تلك المرحلة، مثل «لمن السفاين» لسالم بن علي، و«ما علينا» لأبو بكر سالم، و«خليجية» لعباس البدري، وهذه الأغنية الأخيرة يمكن استعارة كلماتها إذا ما أردنا وصف حنيننا الجارف لتلك الحقبة المهمة: «زَرِي منثور / على ثوبك يا حورية / واشمّ عطور / كل ما أقرّب شوية». في كتابه السابق «الخضراء» اختار الصالحي لبعض النصوص تصديرًا شعريًّا قبل الدخول في سرد حكايتها، كما هي حال نص «الغول والترانشيب» الذي صدّره بأبيات للإمام الشافعي، ونص «راعي الحفري» الذي صدّره بشعر لغازي القصيبي، و«الغريب» الذي استبقه بأبيات للمعتمد بن عبّاد، و«الإسمنت الروسي والتاجر» الذي سبق سرد حكايته بشعرٍ لمظفر النواب، وحتى عندما اختار تصديرًا من التراث الشعبي العُماني لنصّ «العفريت» اختار أيضًا بيتين شعريَّيْن: «واخسارتك يو لوح لوشار / تقلبك موية سلامة / وتقلبك يمين ويسار / وتعقبك في بحر الظلامة».. أما في الكتاب الجديد («صائد النوارس») فقد اختار أن يُصدِّر الكتاب كاملًا بمقطع شعريّ من تأليفه هو هذه المرة: «شق المسا صوتي / ناديت يا حطاااااب / كسّر غصون العمر / طارن عصافيري»، وكأنه يريدنا ألّا ننسى أنه شاعر في المقام الأول. ولقد عرفتُه بهذه الصفة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ومع هذا فإنه لم يُصدر ديوانًا بعد، بل إن بعض نصوصه الشعرية ضاعت لأنه كان يكتبها على الورق، كما أخبرني صديقه الحميم الشاعر فيصل العلوي، (أفتح هنا قوسًا لأقول: إن للعلوي فضلًا كبيرًا في ظهور كتابَيْ الصالحي السرديَّيْن للنور، أعني «الخضراء: لؤلؤة النهار، وتغريبة المساء» و«صائد النوارس»). إن الضياع لهذه النصوص يدعم ما ذكرتُه في بداية هذا المقال بأن محمد الصالحي غير مكترث أن يكون كاتبًا، قدر اكتراثه بالتعبير العفوي عن خلجات نفسه في الشعر، وعن حكايات أهله في السرد. وإذا كان في أحد نصوص «صائد النوارس» قد ربط بين نوعين من الهدايا التي كانت تقدمها شركات المنتجات الغذائية في الثمانينيات، وهما كرة القدم الخاصة بحليب «نيدو»، والقلم الخاص بحليب «بوني»، معلّقًا على ذلك بالقول: إن هذا التنافس قد قسّم جيله إلى اثنين؛ جيل نشأ على حب كرة القدم، وآخر نشأ على حُبّ الكتابة، فإنه يمكن الاستنتاج بسهولة أن محمد الصالحي كان من الجيل الثاني؛ جيل حليب «بوني». ختامًا؛ فإنه يسعني القول: إن «صائد النوارس» يفتح نافذة على عالم غني بالتجارب الإنسانية والمشاعر الصادقة التي شكلت هوية جيل بأكمله. بين بحرٍ يفيض بالأساطير والذكريات، ومدرسة تتشابك فيها خيوط الطفولة والتعليم، وبين حكايات تمتد من الماضي إلى الحاضر، ينسج الصالحي عملًا أدبيًا يعبّر عن شغفٍ حقيقي بالحياة وبالقصص التي يشكلها الناس والمكان.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

مقالات مشابهة

  • «صائد النوارس».. عندما يسرد البحار روحه
  • هل يجوز للمريض جمع صلاتين؟.. الإفتاء تفند رأي المذاهب الأربعة
  • الوحدة و صراع التيارات الاتحادية إلي إين؟
  • التايب: هذا هو الهلال عندما يغضب.. فيديو
  • الشاي المر… عندما يصبح الرزق تهمة
  • أقوال بعيد العمال
  • جوجل تحتفل بظاهرة نصف القمر بلعبة تفاعلية تعليمية
  • النور حمد (نموذجاً): عندما يتحدث النخبوي عن نفسه بصفة (نحن عملاء)
  • فلكية جدة: هالة الشمس تُزيّن جنوب المملكة
  • حكم من ترك الجهر في الصلاة الجهرية.. هل يؤثر في صحتها؟.. أزهري يجيب