مفهوم الدولة والمواطنة في الفكر الفلسفي
تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT
آخر تحديث: 25 يوليوز 2024 - 11:57 صحسن الكعبي
في كتابه المهمّ “الجماعة السياسية والمواطنة” يراجع الدكتور عبد الإله بلقزيز مفهوم الدولة والمواطنة ضمن جذورها الفلسفية، وينطلق في سياق هذه المراجعة والمساءلة لهذه المفاهيم من تحذيرات جان جاك روسو من خطورة تفشي النزعات الفردانية في المجتمعات الحديثة باعتبارها تهديدًا كبيرًا في مسار بناء الدولة، ومن ثم فإنَّ الفردانية بوصفها مفهومًا يحيل إلى العزلة وعدم الانتماء والانفصال فإنها تسهم في تفكك الدولة وتتنزل تلك النزعات ضمن النرجسيات الانفصالية عن الدولة، وبحسب روسو فإنه “حالمًا يقول أحد عن مصلحة الدولة ما شأني بها؟ عندئذ فإنَّ الدولة تكون في عداد الفقدان”.
إنَّ تصور روسو للدولة ينطلق من مفهوم ميكروفيزيائي، كما عند ميشيل فوكو، الذي يرى أنه “لا يمكن اختزال السلطة في أجهزة الدولة أو في نظام النخبة على اعتبار أنَّ السلطة مشتتة في كل الجسد الاجتماعي”، بمعنى أنَّ الدولة لا تنفصل عن المجتمع، فالدولة هي المجتمع منظمًا، ومن أفق هذا التصور يحضر مفهوم المواطنة باعتباره- على حد تعبير عبد الإله بلقزيز- “علاقة سياسية بين أفراد المجتمع، و(بين) دولة يشاركون في شؤونها العامة”. فالمواطنة في هذه الحال هي التعارض مع النزعات الفردانية ومن ثم فهي كناية عن المشاركة والانتماء والالتزام بالتشريعات، الأمر الذي يضمن سلامة الجسم السياسي وانسجام عناصره، على اعتبار أنَّ حقوق المواطنة لا تنفصل عن حقوق الوطن، فكلما كان الوطن مُوحدًا ومدمجًا لمواطنيه في وحدة الجماعة السياسية، كانت هناك إرادة للرقي بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم بناء دولة متماسكة لا يمكن أن يطالها الفساد المدني الذي يعتبره بلقزيز النتيجة الحتمية لطغيان الفردانية في تغليبها للمصالح الشخصية.
إنَّ النزعة الفردانية هي التهديد الكبير الذي يطول المواطنة في المنظومات الاجتماعية لكنها- حسب بلقزيز- تظل مصدرًا من مصادر الضغط على مفهوم المواطنة ضمن محيطها الغربي في حين أنَّ التهديد الكبير والضغط على مفهوم المواطنة في المجتمعات العربية يتأتى إضافة إلى الفردانية من البنى الجماعوية الكابحة، التي يصدر عنها الولاء للعرق والقبيلة وللتشكيلات الحزبية أكبر من ولائها للدولة، أو أنَّ الولاء للعرق أو للتشكيلات الحزبية، يكون هو الولاء الوحيد ومفهوم الدولة تأسيسًا على هذا التصور، يقترن بكونها منظومة قمع لا يصدر عنها إلا الشر ومن منطلق هذا المفهوم تنشأ معارضة الدولة ومحاولة تفكيكها من الداخل. وكما يشير بلقزيز فإنَّ هذا هو شأن “المجتمعات المفككة التي تخترقها الطائفية والقبلية من كل اتجاه، والتي ترفع شعار الأمن أولًا، وتؤجل فكرة إصلاح أحوال المواطنين بشكل دائم عملًا بمنطق الأولويات”.
في سياق هذا التعارض فإنَّ مفهوم الدولة يتحول في المخيال الاجتماعي كنموذج ذهني يختزل الدولة وينمطها كرمز للقهر والعنف والتسلط، وهذا النموذج تسرب للمخيال الجمعي عن تصورات فلسفية وفكرية كما عند ماكس فيبر الذي يرى أنَّ بين “الدولة والعنف علاقة حميمة جدّا”.إضافة إلى الأيديولوجيات السياسية التي تحمل هذه النظرة السلبية للدولة، التي انتقدها بلقزيز ومنها المفهوم الليبرالي الذي يرغب في تحجيم سلطة الدولة وتوسيع دائرة حريات الأفراد، إلى جانب المفهوم الماركسي الذي يعتبرها تعبيرًا عن مصلحة الطبقة المالكة، ويغلب عليها مفهوم مصلحة البروليتاريا ومصالحها على حساب مصالح الطبقات، وفي سياق ذلك يتراجع مفهوم الدولة.
يحاول بلقزيز نقد النموذج الذهني الذي يحتجز مفهوم الدولة ويختزلها ضمن مفردات القمع والعنف والتسلط، مؤكدًا أنَّ “وجود الأجهزة القمعية في دولة من الدول، لا يعبر دائمًا عن رغبة هذه الأخيرة في التسلط والهيمنة وفي تضييق الحريات الفردية، وإنما هو واقع يقتضيه منطق الدولة؛ أي منطق قيام اجتماع سياسي منظم يحصل فيه التعايش بين الأفراد والجماعات، ويتحقق فيه السلم والمدنية”؛ إذ من الطبيعي أن توجد في مقابل النزعات الطبيعية العدوانية والتدميرية للإنسان مؤسسات تعمل على ترويض الجسد وأخرى تضطلع بدور تهذيب السلوك. إنَّ أهمية التربية تحظى باهتمام بلقزيز في بناء الدولة، ولذلك فهو يراهن عليها كما راهن فيلسوف العقد الاجتماعي في العصر الحديث على التربية التي تُعلم الفرد احترام القوانين إلى جانب الالتزام بالدين المدني الذي يجعل “من الوطن موضوع عبادة من طرف المواطنين، ويعلمهم أنَّ خدمة الدولة تعني خدمة الإله الحافظ”.
ولذلك فهو يؤكد أنَّ “استتباب أمر المواطنة كاستتباب أمر الديمقراطية وقف على إحراز نجاح حقيقي في التربية عليها؛ في ازدراع قيمها في النفوس والأفعال؛ في ترسيخها كثقافة عميقة؛ في تمنيعها من أي كابح يفضي إلى تهشيشها”، ويمكن التعويل في مقاومة هذه الكوابح والتأسيس لمجتمع مواطن على دور كل من الأسرة والمدرسة؛ فهما المصنع الاجتماعي الأول للتنشئة والتكوين، أو المشتل الذي يحدد السمات الجوهرية للكائنات السياسية التي لا تخرج من أرحام الأمهات، وإنما من أرحام المؤسسات، لذلك ينبغي العمل على إعادة تأهيل هاتين المؤسستين، حتى تتحررا من حالة التهالك والسلبية التي تلقي بظلالها على المجتمع بأسره.
بعد مراجعة مفهومي المواطنة والدولة ضمن أصولهما النظرية والفلسفية ضمن المستويات التصورية والإجرائية، يتعرض لوظيفة الدولة كما برزت في فلسفة العقد الاجتماعي، التي بنت فكرة الدولة على أساس الحق الطبيعي للفرد الذي لا ينبغي التنازل عنه بشكل مطلق للدولة (إذا ما استثنينا تصور هوبس) الذي يحدد وظيفة الدولة ضمن وجوب ضمان حرية الأفراد وحماية ممتلكاتهم، وهو التصور الذي عمل بلقزيز على نقده من منطلق أنه لا وجود للفرد إلا في نطاق الدولة، التي لا تتعارض سيادتها مع سيادة الشعب. فرغم تشديد التصور الليبرالي على مبدأ حرية التملك الذي ينبغي للدولة أن تحميه قدر الإمكان، إلا أنه يمكن حسب بلقزيز تكييف مبدأ الملكية الخاصة مع مبدأ سيادة الدولة، من أجل إنتاج نوع من المواءمة بين منطق سيادة الدولة، ومفهوم حقوق المواطنة، بين مبدأ الدولة ومبدأ الفرد، القانون والحرية.
إنَّ نظرية الحق المستندة إلى العقد الاجتماعي في تصورات بلقزيز بحاجة إلى المراجعة من أجل كسب معركة العدالة، كما راهن عليها كل من جون راولز وأمارتيا صن، إذ من الضروري حسب بلقزيز ربط العدالة الاجتماعية بنظرية الحق على اعتبار أنَّ الحقوق الاجتماعية- الاقتصادية وجهان لعملة واحدة هي حقوق المواطنة.
يخلص بلقزيز إلى ضرورة تشريح الخلفية الفكرية الموجهة لعمل المجتمع المدني، والتي رغم كونها ترتدي قناعًا مدنيًا/ تنويريًا/ إنسانيًا، إلا أنَّ أنشطتها في الواقع ذات حمولة سياسية؛ أي إنها في الأصل تناضل من أجل تحجيم دور الدولة، وهذا يعني أنها تمارس سياسة مضادة للسياسة الرسمية.كما أنه يشدد على ضرورة توجيه النقد للمجتمع المدني في نسخته العربية وكشف تحكمات الجهل المسيطر عليه، في سياق تمثله للمفهوم “النظري للمجتمع والدولة، على السواء، ولعلاقات الترابط بينهما كما قامت وتطورت، وكما وعتها فلسفة السياسة والفلسفة الاجتماعية، والعلوم الاجتماعية الحديثة”. فالتمثل الخاطئ لمثل هذه المفاهيم كما يؤكد بلقزيز وخاصة لدى النخب والقادة، إلى جانب إسقاطها على واقع لا يناسبها، كما هو الشأن للواقع العربي، فهو في تصور بلقزيز يضع مصير الدولة والمجتمع على كف عفريت، ويجعل الدولة أمام اختبارات سياسية واجتماعية مفزعة. يمكن أن تؤدي إلى هلاك الدولة والمجتمع على حد سواء.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: مفهوم الدولة المواطنة فی مفهوم ا فی سیاق
إقرأ أيضاً:
تعزيز مفهوم العمل المشترك.. مصر والسودان تؤكدان ارتباط الأمن المائى للبلدين كجزء واحد لا يتجزأ
انعقد اليوم الاثنين، الموافق ٢٤ فبراير ٢٠٢٥م، في العاصمة المصرية القاهرة، أعمال الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية والري بجمهورية السودان وجمهورية مصر العربية، بمشاركة الخبراء الفنيين من الجانبين وجرت المباحثات في جو ودي وإيجابي اتسم بالتفاهم المتبادل.
استعرض الجانبان مجالات التعاون المائي وسبل تعزيزها بما يخدم مصالح الشعبين الشقيقين، حيث اتفقا على تعزيز مفهوم الأمن المائي والعمل المشترك للحفاظ على حقوق البلدين المائية كاملة وفقًا للاتفاقيات المبرمة بينهما وقواعد القانون الدولي واجبة التطبيق، وتنسيق المواقف في مختلف المحافل الإقليمية والدولية سيما المرتبطة بالحقوق المائية للبلدين وضرورة الالتزام بكافة الإتفاقيات والأطر الإقليمية والدولية.
ارتباط الأمن المائي السوداني والمصري كجزء واحد لا يتجزأشدد الجانبان على ارتباط الأمن المائي السوداني والمصري كجزء واحد لا يتجزأ، والدعوة لامتناع كافة الأطراف عن القيام بأية تحركات أحادية من شأنها إيقاع الضرر بمصالحهما المائية، كما أكدا على استمرار سعيهما المشترك للعمل مع دول مبادرة حوض النيل لاستعادة التوافق وإعادة مبادرة حوض النيل إلى قواعدها التوافقية التي قامت عليها، والحفاظ عليها باعتبارها آلية التعاون الشاملة التي تضم جميع دول الحوض، وتمثل ركيزة التعاون المائي الذي يُحقق المنفعة لجميع الدول الأعضاء.
عقد ورشة عمل رفيعة المستوى بحضور المنظمات الإقليمية والدوليةومن هذا المنطلق، اتفق الجانبان على عقد ورشة عمل رفيعة المستوى بحضور المنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة لمناقشة موضوعات المياه وتأثيراتها على قطاعات مختلفة كتغير المناخ وأمن منطقة القرن الإفريقي.
تطرقت المشاورات إلى تطورات ملف السد الإثيوبي، حيث اتفق الطرفان على المخاطر الجدية المترتبة على الملء الأول الأحادي لسد النهضة، سيما تلك المتعلقة بأمان السد، وأكدا على أهمية تنسيق جهود البلدين على الأصعدة الإقليمية والقارية والدولية لضرورة التوصل لاتفاق شامل وعادل وملزم قانوناً حول ملء وتشغيل سد النهضة، ويؤكد الجانبان أن قضية السد الاثيوبى تظل مشكلة بين الدول الثلاث (مصر- السودان -اثيوبيا) دون استدراج لباقي دول الحوض للوقوع في هذه القضية، مع إصرار الدولتين على التوصل لحلول سلمية وسياسية.
أولويات وموجهات الدولة السودانية في عملية إعادة الإعمارتناولت المباحثات سبل تعزيز المشروعات التنموية بين البلدين بما ينعكس إيجاباً على التعاون القطاعي ومساعي ترقيته، وقدم الجانب السوداني شرحاً حول أولويات وموجهات الدولة السودانية في عملية إعادة الإعمار سيما القطاعات المرتبطة بالمياه كالزراعة والتوليد الكهربائي وتطلعه لدور مصري فاعل في إنفاذ قرارات الدورة 16 لمجلس وزراء المياه العرب الخاص بدعم قطاع المياه في جمهورية السودان وتحسين إمدادات المياه في بعض الولايات وإعمار البنية التحتية المائية التي دمرتها ميليشيات الدعم السريع المتمردة.
مصر تدعم جهود الدولة السودانية في عملية إعادة الإعماروفي هذا الصدد، عبر الجانب المصري عن دعمه لكافة جهود الدولة السودانية في عملية إعادة الإعمار، مؤكداً ترحيبه بالعمل المشترك لدعم القطاع في السودان، ودعم مساعي السودان في حشد الدعم العربي اللازم لإنفاذ قرار المجلس الوزاري العربي للمياه.
يثمن الطرفان مخرجات الاجتماع الاستثنائى للهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل الذى عقد في مكتب الهيئة بالقاهرة يوم 23 فبراير 2025 ويؤكدان على ما تم اتخاذه من توصيات للموضوعات ذات الاهتمام المشترك للجانبين وبصفة خاصة مبادرة حوض النيل و آليتها التشاورية للدول الغير منضمة للاطار التفاوضي، وتعتبر الهيئة - وفقا لاتفاقية ١٩٥٩ - هي الجهة المنوطة بدراسة وصياغة الرأي الموحد الذي تتبناه الدولتين في الشئون المتعلقة بمياه النيل.
استمرار التعاون التدريبي بين وزاراتي الري في البلدينكما اتفق الجانبان على استمرار التعاون التدريبي بين وزاراتي الري والموارد المائية في البلدين، ورحب الجانب المصري بتلبية الاحتياجات التدريبية العاجلة لكوادر وزارة الري والموارد المائية السودانية لارتباطها الوثيق بمساعي إعادة الإعمار في ضوء ما ستسفر عنه اجتماعات الفريق المشترك المعني بإعادة الإعمار.
وقد تطرقت المباحثات كذلك إلى مجمل العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، حيث أكد الطرفان على حرصهما على تعزيز وتعميق العلاقات الأزلية التي تربط بين شعبي البلدين.