بعد سنوات من سيطرة المتشددين على مناحي الحياة السياسية والاقتصادية في إيران، وصل إلى هرم السلطة الرئاسية في البلاد مسعود بزشكيان. طبيب جراح قادم من خارج مؤسسة الحرس الثوري الذي غالباً ما يصنع أو يكون له اليد الطولى في صناعة رؤساء إيران. ورغم مشاركته في الحرب العراقية الإيرانية 1 مقاتلاً وطبيباً ـ إلا أنه آثر البقاء بعد ذلك في العمل المدني المرتبط بالطب، من رئاسة جامعة تبريز إلى الوزارة إلى العمل النيابي، قبل أن يصل إلى هرم السلطة الرئاسية في إيران.
ونقول إلى هرم السلطة الرئاسية، لأن المرشد الإيراني علي خامنئي وحده هو المتربع على هرم السلطة السياسية والاقتصادية والدينية في البلاد، وفق تركيبة النظام الإيراني الذي يقوم على انتخاب رئيس لا يمتلك القرار، بحكم أن الدستور الإيراني يعطي حق اتخاذ القرارات الاستراتيجية للمرشد لا للرئيس، وفي هذه الحالة فإن بزشكيان ـ كغيره من رؤساء إيران ـ يأتون لمهام تنفيذية. إنه أشبه برئيس وزراء في نظام رئاسي، يتلقى تعليماته من الرئيس الذي هو ـ والحال تلك ـ المرشد علي خامنئي، الذي ربما رأى أن بزشكيان في هذه المرحلة ضروري لإطلالة إيرانية مختلفة على العالم.
سهّل علي خامنئي القابض على زمام السلطة والحاكم الفعلي لإيران بموجب الدستور الإيراني، سهّل ـ إذن ـ انتخاب وجه إصلاحي لرئاسة الجمهورية، لا لإحداث تغييرات في الداخل، ولكن لإرسال رسائل للخارج. الخارج في ذهن خامنئي أهم، مكتسبات الخارج أثمن، والقلق من الخارج أقوى، والهروب إلى الخارج هو سلوك معروف لدى النظام. الداخل مهم بالطبع، لكن ليس بأهمية الخارج، لأن الأخطار المتخيلة لدى النظام هي أخطار خارجية لا داخلية، وهذا ما يجعل النظام لا يعير أهمية لمعطيات الداخل ـ رغم أهميتها ـ قدر الأهمية التي يوليها للخارج.
لم يقبل مجلس صيانة الدستور أوراق ترشح بزشكيان في الانتخابات الرئاسية عام 2021، ولكنه عاد وقبل هذه الأوراق في انتخابات هذا العام. ربما رأى المرشد عدم قبول أوراق بزشكيان آنذاك، لكي تتاح الفرصة للرئيس الراحل إبراهيم رئيسي للفوز، وهو كان الشخص المقرب من المرشد حينها، ولكن بعد مقتل رئيسي ربما أراد خامنئي أن يغير كروت اللعب، بالسماح لرجل من خلفية إصلاحية للصعود، ولذا وافق «مجلس صيانة الدستور» على ترشح بزشكيان للانتخابات الرئاسية.
تم تمرير أوراق ترشح بزشكيان، لغرض في نفس المرشد، وكيلا يفهم الرئيس المنتخب المسألة بشكل خاطئ، أرسل خامنئي رسالة ذات مغزى، بالقول إن على بزشكيان أن يسير على نهج الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، وهي رسالة واضحة يقول فيها خامنئي لبزشكيان ومن وراءه إن خيوط اللعبة في يد المرشد، ضمن النظام الذي عُرف بديمقراطية غريبة، يُنتخب فيها رئيس دون أن يكون له سلطة اتخاذ القرار التي يعطيها الدستور للمرشد غير المنتخب.
على كلٍ، وصل بزشكيان إلى الرئاسة، وصل الطبيب والأكاديمي من جهة أخرى غير بوابة الحرس الثوري، رئيس قالوا عنه إنه منفتح على الحوار مع الغرب (أوروبا وأمريكا) ومستمر في تعضيد العلاقات مع الشرق (الصين وروسيا) ويريد مد يد الصداقة للجميع (المتشددون والمحافظون). وبانفتاحه على الحوار مع الغرب يريد بزشكيان أن يصل إلى رفع العقوبات، وصيانة مكاسب طهران الإقليمية، بالتفاهم مع الولايات المتحدة تحديداً، ويريد بالاستمرار في تعضيد العلاقات مع الشرق أن يطمئن الحلفاء الشرقيين، وأن يرسل رسالة للمرشد بأن سياسة طهران التقليدية في التوجه شرقاً لن تتغير، ويريد من «مد يد الصداقة للجميع» أن يرسل رسالة للمحافظين المتشددين الذين بإمكانهم تعطيل خططه، نظراً لسيطرتهم على البرلمان. وكأن الطبيب الجراح يريد أن يستعمل مشرط الجراحة في عصب داخلي وإقليمي ودولي بالغ الحساسية، لإنجاح عمليته المتمثلة فيما يرجوه من إصلاحات على مستوى العلاقات الخارجية والأوضاع الداخلية.
وتظل هناك أسئلة معلقة، من مثل: هل كان لتوقع عودة دونالد ترامب للمكتب البيضاوي دور في سماح المرشد بتمرير هدف في مرمى الأصوليين في إيران، على اعتبار أن المرشد في حاجة لكرت إصلاحي ـ هذه المرة ـ يعطي انطباعاً مختلفاً، ويستطيع التكيف مع إدارة أمريكية محتملة بقيادة قاتل قاسم سليماني؟
في تلك الحال، ليس لدى خامنئي ما يكفي من الوقت، قبل المجيء المحتمل لترامب للسلطة، وليس لدى المرشد المزيد من الخيارات كذلك، في التعامل مع رئيس دولة يفكر بالطريقة ذاتها التي يفكر بها خامنئي، ولكن بحسابات وأهداف مختلفة، ولذا لن يكون مرشح الأصوليين الإيرانيين سعيد جليلي مناسباً لإيران إذا عاد ترامب للبيت الأبيض، من وجهة نظر عقلانية. جليلي من عقلية خامنئي، وترامب إذا عاد للبيت الأبيض، فإنه يحتاج شخصاً مثل بزشكيان «منفتح على الغرب» حسب التوصيفات النمطية، ولذا سمح المرشد له بالمرور، تحسباً لمآلات الأمور في واشنطن.
ولكن، سيتحتم على بزشكيان أن يلعب بمهارة، فمن جهة هناك المحافظون الأصوليون المتربصون في الداخل، ومن جهة أخرى هناك رغبته في التواصل مع الولايات المتحدة، وفي هذه الحالة، سيحلو للمرشد أن يلعب بارتياح في ظل التجاذبات المختلفة التي تعطيه الفرصة للعب دور ضابط الإيقاع، مع معرفة الإيرانيين بأنه في الأول والأخير صانع السياسات في طهران.
مشكلة بزشكيان هنا أنه حتى الإدارة الحالية، لا يبدو أنها في وارد إضاعة المزيد من الوقت مع طهران في مفاوضات إنعاش الاتفاق النووي، بحكم أن الوقت المتوفر لها بالكاد يغطي جهود مواجهة دونالد ترامب.
في مقابلة مع مجلة نيوزويك قال وزير الخارجية الإيراني المكلف علي باقري كني إن طهران لا تزال «منفتحة على استئناف المفاوضات مع واشنطن نحو استعادة المشاركة المتبادلة في الاتفاق النووي» وتحدث عن محادثات نووية غير مباشرة تجريها بلاده مع واشنطن عبر سلطنة عمان. ولكن ورغم تلك التصريحات لوحظ ضرب من الفتور في واشنطن إزاء ذلك «الانفتاح» وقال ماثيو ميلر المتحدث باسم الخارجية في التعليق على تصريحات كني إن «الولايات المتحدة ليست مستعدة لاستئناف المحادثات النووية مع إيران في عهد رئيسها الجديد» لأن الانتخابات لن تؤدي إلى تغير جوهري في سياسات طهران، ذلك أن القرار النهائي بيد خامنئي.
وفوق هذا، أمام بزشكيان ملفات داخلية كبيرة، الاقتصاد المخنوق بفعل العقوبات وتغول لوبيات الفساد، وتحسين ظروف عيش المواطنين الذين يعيش أغلبهم تحت خط الفقر، وهو الأمر الذي أدى إلى أدنى نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية في تاريخ الجمهورية، بسبب فقدان الأمل في أي تغيير، وهذه معضلة سيتعين على بزشكيان التصدي لها، مع وجود مؤشرات قوية تفيد بأن السلطات العسكر-دينية في إيران لن تسمح بفعل ما يخطط له، لأنه لم يأت ليفعل ما يريد، بل جاء لتنفيذ إرادة المرشد، في إحداث تغيير شكلي، لا يتعارض مع ما تريده المؤسسات الدينية والعسكرية المهيمنة، ناهيك عن احتمالية عودة ترامب للبيت الأبيض، وهذه لن تكون فألاً حسناً للرئيس الإصلاحي «المنفتح على الغرب» رغم أن توقع عودة الرئيس الأمريكي السابق للرئاسة ربما كان فألاً حسناً، ساعد في تمرير أوراق ترشح بزشكيان عبر مجلس صيانة الدستور.
*نشر أولاً في الشرق الأوسط
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقفسلام الله على حكم الامام رحم الله الامام يحيى ابن حميد الدين...
سلام الله على حكم الامامه سلام الله على الامام يا حميد الدين...
المذكورون تم اعتقالهم قبل أكثر من عامين دون أن يتم معرفة أسب...
ليست هجمات الحوثي وانماالشعب اليمني والقوات المسلحة الوطنية...
الشعب اليمني يعي ويدرك تماماانكم في صف العدوان ورهنتم انفسكم...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الحرس الثوری فی إیران
إقرأ أيضاً:
عاجل:- مجلس الوزراء يقر زيادات جديدة في الأجور والعلاوات والحوافز بداية من يوليو 2025
وافق مجلس الوزراء خلال اجتماعه الأسبوعي، اليوم، برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي، على مشروع قانون جديد يقر زيادة العلاوات والحوافز للعاملين بالجهاز الإداري للدولة، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي بإعداد حزمة حماية اجتماعية جديدة تخفف الأعباء المعيشية عن المواطنين في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
علاوة دورية بنسبة 10% للمخاطبين بالخدمة المدنيةوبحسب مشروع القانون، تقررت علاوة دورية بنسبة 10% من الأجر الوظيفي للموظفين المُخاطبين بأحكام قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، وذلك اعتبارًا من 1 يوليو 2025، على ألا تقل قيمة العلاوة عن 150 جنيهًا شهريًا، وتُحتسب هذه الزيادة كجزء من الأجر الوظيفي للموظف.
عاجل - رئيس الوزراء مصطفى مدبولي يتفقد مشروعات جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة مدبولي: مشروعات "مستقبل مصر" توفر منتجات زراعية عالية الجودة بأسعار مناسبة للمواطنين علاوة خاصة بنسبة 15% لغير المخاطبين بالخدمة المدنيةكما وافق المجلس على منح العاملين من غير المخاطبين بالخدمة المدنية علاوة خاصة بنسبة 15% من الأجر الأساسي في 30 يونيو 2025، أو من تاريخ التعيين للموظفين الجدد، وبحد أدنى 150 جنيهًا شهريًا، على أن تُحتسب هذه العلاوة ضمن الأجر الأساسي بداية من يوليو 2025.
ويُستثنى من هذه العلاوة الهيئات التي تصرف بالفعل علاوات سنوية بنسبة 10% أو أكثر من الأجر الوظيفي أو الأساسي، حيث يحصل العاملون بها على قيمة الفرق فقط بين العلاوة المقررة في مشروع القانون وما يحصلون عليه.
زيادة الحافز الإضافي بقيمة 700 جنيه شهريًاكما نص مشروع القانون على زيادة الحافز الإضافي لجميع الموظفين، المخاطبين وغير المخاطبين بالخدمة المدنية، بمبلغ مقطوع قدره 700 جنيه شهريًا، اعتبارًا من يوليو 2025، ويُحتسب هذا الحافز ضمن الأجر المكمل أو المتغير، ويستفيد منه أيضًا الموظفون المعينون بعد هذا التاريخ.
منحة شهرية للعاملين بالقطاع العام وقطاع الأعمال العاموفي إطار دعم العاملين بشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، نص مشروع القانون على منحهم منحة شهرية تعادل الفرق بين نسبة العلاوة السنوية المُقررة لهم ونسبة العلاوة الخاصة الجديدة (15%)، ولا تُضم هذه المنحة إلى الأجر الأساسي، وتُصرف من موازنات الشركات.
وفي حال كان إجمالي ما يتقاضاه العامل أقل من 7000 جنيه شهريًا بعد الزيادة، يتم رفع الأجر ليصل إلى هذا الحد كحد أدنى، وتُحدد القواعد المنظمة لذلك بقرارات من الوزراء المختصين.
عدم الجمع بين العلاوة والمعاش.. وتسوية الفروقكما أقر القانون عدم جواز الجمع بين العلاوة الخاصة والمعاش المستحق اعتبارًا من يوليو 2025.
وفي حالة بلوغ العامل سن التقاعد، يتم منحه الزيادة في المعاش، وإذا كانت أقل من العلاوة، يُصرف له الفرق من جهة عمله، والعكس صحيح.
تطبيق القانون اعتبارًا من يوليو 2025وأوضح مشروع القانون أن وزير المالية سيصدر القرارات اللازمة لتنفيذه، كما يُصدر كل وزير القرارات الخاصة بجهته لتنفيذ أحكام المادة الخامسة الخاصة بالقطاع العام وقطاع الأعمال.
ويبدأ سريان القانون اعتبارًا من 1 يوليو 2025، ليُمثل خطوة جديدة في إطار تحسين دخول الموظفين والعاملين بالدولة.