أنا على استعداد للمراهنة بأن الناس حتى صباح 19 يوليو لم يسمعوا أبدا باسم شركة «كراود سترايك» للأمن السيبراني والتي تتخذ مقرها في أوستن بالولايات المتحدة. فقط بعدما دفعت الشركة بتحديث سيىء الى حواسيب «ويندوز» وتسببت بذلك بأكبر كارثة تقنية معلومات على الإطلاق أدرك معظمنا الى أي حد يعتمد جزء كبير من حياتنا عليها.

أو مدى صعوبة حل تلك المشكلة.

من الطبيعي أن نسأل كيف يمكن أن يحدث هذا وكيف يمكننا أن نتأكد من عدم حدوثه مرة أخرى. لكن هنالك سؤال آخر يلزم أن يحظى بالأولوية وهو: الى أي حد نحن على استعداد للتضحية من أجل الحماية من هذا الخطر؟

في اللحظة الراهنة قد يبدو هذا سؤالا عبثيا. فبالنسبة للناس الذين تقطَّعت بهم السُّبُل بإلغاء الرحلات الجوية أو فقدوا مواعيد مراجعة الأطباء من المفيد إنفاق أي شيء تقريبا لتجنب الفوضى التي عصفت بخطوط الطيران والمشافي وباستجابات فرق الطوارئ والخدمات الحيوية الأخرى.

لكن هذا يبدو مثل القول بأن المفيد تأمين سيارتك عند أعلى حد ممكن بعد أن تتعرض لحادثة كبرى. فالعديد من أصحاب السيارات يقررون عدم شراء وثيقة التأمين الأكثر سخاء لأن تغطيتها الـتأمينية تنطوي أيضا على دفع أقساط أعلى.

كذلك الأمر مع التأمين عند الحد الأقصى ضد الأعطال الكارثية المماثلة للفوضى التي أحدثتها كراود سترايك. فالقيام بذلك يتطلب دفع ثمن يتمثل في التقليل من الكفاءة. (تقصد الكاتبة الكفاءة الاقتصادية والتي تعني تحقيق أفضل أداء بأقل قدر من الموارد أو النفقات وتقليلها يعني ضمنا استخدام المزيد من الموارد أو النفقات- المترجم.) لذلك علينا أن نقرر نوع المقايضات التي نحن على استعداد للقيام بها.

ليكن واضحا أن تجنب هذه الكارثة بالتحديد قد لا يكلف أموالا كثيرا. لكن كراود سترايك حالة واحدة فقط من عدد لا يُحصى تقريبا من حالات الفشل المحتملة في اقتصادنا المعولم والرقمي. فخلال ما يزيد على خمسين سنة، سَعْيُ السوق الذي لا هوادة فيه وراء الكفاءة الاقتصادية والتمدُّد جعل مثل هذه الأعطال في نقاط الربط الجماعية أكثر تواترا. وزاد من احتمال كارثيَّتِها وصعوبة رصدها قبل وقوعها. ومن جهة أخرى يتيح لنا حراك السوق هذا تواصلا فوريا بكل ثقافات العالم ومعظم معلوماته إلى جانب الحصول على سلع وخدمات أكثر وأرخص وأفضل ويمنحنا اقتصادا عالميا ينتشل في كل عام ملايين الناس من وهدة الفقر.

بلغتُ سِنَّ الرشد في التسعينيات عندما كان هذا التحول لا يزال في أيامه الأولى نسبيا. كانت شبكة الإنترنت قد بدأت لتوها وشرَعت التجارة العالمية في نقل الصناعة التحويلية من الولايات المتحدة إلى البلدان التي لديها ميزات في التكلفة مثل الصين والمكسيك أو تملك خبرة فنية خاصة كألمانيا واليابان.

في ذات الوقت كان الأمريكيون يستوردون فنون الإنتاج الأجنبية مثل نموذج «التصنيع عند الطلب» والذي أحلَّ المورِّدين المحليين المفتقرين إلى الكفاءة وقطع الغيار المكدسة بسلاسلِ توريدٍ نائية ولكنها مبسَّطة قدمت المدخلات المطلوبة عند الحاجة إليها بالضبط.

كان هذا في أحيان كثيرة صعبا على الناس الذين يعملون للصناعات المحلية. لكنه نعمة للعاملين في البلدان الفقيرة وللمستهلكين الأمريكيين. قارنوا أي منتج استهلاكي اليوم بمنتج مكافئ له في عام 1990 وغالبا ما ستجدون إما تحسنا مثيرا في نوعيته كما في السيارات أو هبوطا حادا في السعر كما في الملبوسات. وفي حالة التلفزيونات ومنتجات عديدة أخرى ستجدون كلا الميزتين (تحسن النوعية وانخفاض الأسعار.)

عززت الإنترنت هذا الاتجاه لأن آثار شبكتها (ازدياد عدد مستخدميها وبالتالي ارتفاع قيمة خدماتها) واقتصاديات حجمها الكبير (مزايا تكلفتها) غالبا ما تدفع بالأسواق إلى أحضان قلة من الشركات الكبيرة. فهذه الصحيفة مثلا (واشنطن بوست) كانت واحدة من بين آلاف الصحف المحلية التي تتنافس كلها على اجتذاب القراء في سوق محدودة جغرافيا. أما الآن فهي تسعى إلى أن تكون من بين قلة من المطبوعات الإخبارية اليومية التي تخدم البلد بأكمله، بل ربما حتى كل العالم الناطق باللغة الإنجليزية.

توسيع الأسواق ووضع المزيد من البيض في سلال أقلّ لهما فوائد حقيقية. إذ يمكن لعدد قليل من الصحف الكبيرة تغطية المزيد من المجالات المهمة وبعمق أكبر من عدد كبير من الصحف الصغيرة. لكن لها أيضا جوانبها السلبية الحقيقية. فهنالك احتمال كبير في أن تغفل كل تلك الصحف القليلة بعض الأخبار وخصوصا المحلية أو تخطئ خطأ جسيما في أحدها.

على نحو شبيه بذلك وكما اتضح أثناء الجائحة يمكن لسلاسل التوريد العالمية «حسب الطلب» تعريض الشركات وزبائنها لمتاعب عندما تغلق الحكومات الحدود وتلجأ الى تخزين المواد بالغة الأهمية لمصلحة مواطنيها.

في حالة شركات البرمجيات من الجيد تماما بمعايير الكفاءة الاقتصادية أن تخدم شركة واحدة عددا كبيرا من الزبائن المُهمّين وذلك على نحو ما تفعل «كراود سترايك» أو حتى عمليا أن تخدم كل الزبائن كما هي الحال مع البحث على الإنترنت.

على نحو ما، تركُّز الخدمة هذا في عدد قليل من الشركات قد يتيح قدرا أكبر من الموثوقية لأنها تطور خبرة واسعة بخدمة مستخدمين عديدين. ويمكنها استثمار المزيد في البحث والتطوير والأمان بأكثر مما يمكن أن تفعل أية شركة برمجيات محلية.

لكن عندما تحدث الأعطال فإنها، كما يبدو، تشمل الجميع في كل مكان وفي نفس الوقت وتترك المستخدمين بدون بدائل.

إذن ماهي أفضل طريقة لمحاولة تدبير المقايضة بين الكفاءة الاقتصادية وبين الاستغناء عن نظم احتياطية أو مكونات إضافية لتأمين استمرارية الخدمة؟ (المقايضة بين تعظيم الإنتاجية وتقليل الهدر وبين تضمين عناصر وعمليات قد تكون غير ضرورية للنظام لكنها تحوطية ويمكن اللجوء إليها عند تعرض النظام إلى أعطال- المترجم.)

هذا سؤال صعب ينتظر الإجابة في يوم آخر. أما الشيء المهم الآن فهو الإقرار بأنه سؤال مطروح ولا سبيل للتخلص منه.

ربما كان يلزمنا إمعان التفكير في مثل هذه المقايضات أثناء فترة الاندفاع الكبير نحو تحقيق الكفاءة الاقتصادية. علينا الآن أن نفكر فيها بقدر أكبر من الجدية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الکفاءة الاقتصادیة کراود سترایک

إقرأ أيضاً:

وزير الخارجية: نسعى لضخ المزيد من الاستثمارات الكويتية والاستفادة من الفرص الواعدة

أكد د. بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة، عن تطلع الجانب المصري لضخ المزيد من الاستثمارات الكويتية من أجل الاستفادة من الفرص الاستثمارية الواعدة بمصر.

وشدد عبد العاطي على استعداد الجانب المصري لتقديم كافة سبل الدعم للمجلس لتعزيز التعاون التجاري والاستثماري بين رجال الأعمال في البلدين، وكذا استعداد الشركات المصرية العاملة بقطاع البنية التحتية للمشاركة في المشروعات التنموية بالكويت.

وأضاف أن مصر تخطو خطوات ثابتة وسريعة نحو تطوير الأداء الاقتصادي المصري، مما أسفر عن زيادة تنافسية الاقتصاد الوطني، وتمكين القطاع الخاص، وحشد مزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

جاء ذلك خلال اللقاء الذي عقده د. بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة، اليوم، مع رئيس وأعضاء الجانب الكويتي لمجلس التعاون المصري الكويتي، وذلك خلال الزيارة التي يقوم بها إلى دولة الكويت الشقيقة.

 وأشار وزير الخارجية إلى أهمية الإعداد لعقد منتدى الاستثمار المصري الكويتي في أقرب فرصة، مبديًا التطلع لقيام أعضاء مجلس الأعمال المصري الكويتي بزيارة القاهرة للبناء على نتائج زيارتهم الأخيرة عام ٢٠٢٢.

واستعرض الوزير ما اتخذته الحكومة المصرية مؤخرًا من إجراءات طموحة لتحسين مناخ الاستثمار، وتعزيز دور القطاع الخاص، وتذليل العقبات التي تواجه المستثمرين، وتطوير بيئة الأعمال في مصر، بجانب اعتماد "الاستراتيجية الوطنية للاستثمار ٢٠٢٤-٢٠٣٠"، والتي تهدف إلى زيادة نسبة الاستثمارات الخاصة، وكذا زيادة معدل النمو السنوي للاستثمارات المباشرة.

 كما شدد على مواصلة الدولة المصرية جهودها في تطوير العديد من القطاعات الحيوية الاتصالات لجذب مزيد من الاستثمار في تلك المجالات، بالإضافة إلى الاستمرار في تنفيذ مشروعات البنية التحتية العملاقة، وبناء المدن الجديدة والذكية، وتطوير منظومة النقل والمواصلات والموانئ في مختلف أنحاء البلاد، بما يتسق مع خطط الدولة وأهدافها الطموحة لتعظيم الاستفادة من الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمصر.

كما أعرب الوزير عبد العاطي عن تطلع الجانب المصري لضخ المزيد من الاستثمارات الكويتية من أجل الاستفادة من الفرص الاستثمارية الواعدة بمصر.

ونوه إلى الدور الهام الذي يضطلع به المستثمرون الكويتيون في توطيد أواصر العلاقات الثنائية الوثيقة بين البلدين الشقيقين، كونهم أحد الركائز المهمة لتطوير أوجه التعاون الاقتصادي والاستثماري بين مصر والكويت، مؤكدًا الدعم الذي تقدمه الدولة المصرية للمستثمرين، وذلك في إطار ما يمثلونه من أهمية اتصالًا بدعم الاقتصاد المصري.

مقالات مشابهة

  • الخطيب: مصر تمتلك كافة الإمكانات لجذب المزيد من الاستثمارات السعودية
  • الصدر يوعز بعد اجتماعه بالقائمين على مضيف آل الصدر في لبنان ببذل المزيد من الجهود خدمة للنازحين
  • خبير يطرح تساؤلات جادة حول الأسباب الكامنة وراء بطئ تطور صناعة الدواء بالمغرب
  • ما بعد قرار محكمة الجنايات.. المزيد من العزلة “لإسرائيل”
  • وزير الخارجية: نسعى لضخ المزيد من الاستثمارات الكويتية والاستفادة من الفرص الواعدة
  • بالإنفوجراف.. قرارات محافظ الأقصر لوقف فوضى الحنطور
  • انضباط مروري.. قرارات محافظ الأقصر لوقف فوضى الحنطور
  • لضمان الكفاءة والسلامة.. توجيه مربي الإبل لاستخدام معالف متينة
  • الحاسية: ليبيا تعيش في فوضى وتواجه تيار ديني يريد الهيمنة على زمام الأمور
  • وزير الإسكان يتفقد أعمال التطوير ورفع الكفاءة بمركز مارينا العلمين السياحي