كشف الستار عن حَالة ظفار للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (12)
تاريخ النشر: 24th, July 2024 GMT
تحقيق - ناصر أبوعون
- قال الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(ذِكْرُ "حِصْنِ ظَفَار"؛ فَهُوَ حِصْنٌ حَسَنُ الْبِنَاءِ بِهِ عَشْرُ غُرَفٍ وَأَمَاكِنُ لِلطَبْخِ وَأَمَاكِنُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُحِيْطُ بِهَذَا الْحْصْنِ سُوْرٌ بِهِ عِدَّةُ مَسَاكِنَ لِخُدَّامِ الْحُكُوَمَةِ وَبِدَاخِلِ هَذَا السُّورِ سُوْقُ الْبِلَادِ وَمَسْجِدٌ لِلصَلَاةِ وَبَيْنَ الحِصْنِ والسُّوْرِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ.
*****
"ظفار ما بين الطائي وثيسجر ولوريمر"
- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ذِكْرُ "حِصْنِ ظَفَار"؛ فَهُوَ حِصْنٌ حَسَنُ الْبِنَاءِ بِهِ عَشْرُ غُرَفٍ وَأَمَاكِنُ لِلطَبْخِ وَأَمَاكِنُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُحِيْطُ بِهَذَا الْحْصْنِ سُوْرٌ بِهِ عِدَّةُ مَسَاكِنَ لِخُدَّامِ الْحُكُوَمَةِ وَبِدَاخِلِ هَذَا السُّورِ سُوْقُ الْبِلَادِ وَمَسْجِدٌ لِلصَلَاةِ وَبَيْنَ الحِصْنِ والسُّوْرِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ)].
وبمطالعة وصف (حصن ظفار) الذي أملاه الشيخ عيسى الطائيّ على الناسخ عيسى بن عبدالله البوشريّ نجد تطابقًا في الأغراض الإنشائية والتخطيط العمرانيّ، والهندسة المعمارية مع سائر الحصون والقلاع العُمانية في جميع الولايات، فضلا عن توظيف المواد الخام المحلية في تشييد جدرانه من صخور جيرية صُلبة تُشتَهر بها محافظة (ظفار). ويضم هذا الحصن "منشآت عديدة، وتقسيمات وأبراج ومخابيء ومداخل للأغراض العسكريّة والإداريّة على الطراز العربيّ والإسلاميّ شكلا وتصميما وزخرفةً"(1)، ويقارب وصف الشيخ عيسى الطائيّ الذي بدأ بالتكوين المعماريّ الداخلي وصولا إلى محيطه الخارجيّ مع وصف (لوريمر): في قوله: "وهو على مسافة 100 ياردة عن الشاطيء، عند نقطة على مسافة نصف ميل غرب الحافة، وميل ونصف الميل جنوب شرق صلالة، وهو الحصن الرئيس لسلطان عُمان في ظفار وأشرف على تشييده الوالي سليمان بن سويلم، ومساحته فدان واحد، وبه مبنى من ثلاث طبقات ومدخله من الجهة الشرقية، ويوجد خارج الحصن سوق بها ستُّ حوانيت بقربها أكواخ قليلة"(2)؛ لكن تأتي إضافة جليّة وذات دلالة اجتماعية من (ويلفريد ثيسجر) بقوله:"قصر السلطان ذو طلاء أبيض ناصع، وهو أكثر الأبنية ظهورًا وعظمة، وتحيطه البيوت المتواضعة ذات السقوف المنبسطة.. وفي طريقي إلى القصر مررتُ بالمسجد، وقد قامت إلى جانبه، أبنيةٌ قديمة من الحجر، ومقبرة واسعة، وفي السهل حول المدينة انتشرت بعض آثارها، وهي بقايا ماضٍ لمدينة (أوفير) التي ورد ذكرها في التوراة"(3).
"رمزية المسجد والسوق والميدان"
- وفي قول الشيخ عيسى الطائيّ [(وَبِدَاخِلِ هَذَا السُّورِ سُوْقُ الْبِلَادِ وَمَسْجِدٌ لِلصَلَاةِ وَبَيْنَ الحِصْنِ والسُّوْرِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ)]. وهنا إشارة من الشيخ عيسى الطائيّ إلى مدار الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي مازالت ديدن المواطن العُماني في (ظفار) حيث تدور حياتهم في أفلاك ثلاثة؛ فأمّا (المسجد)، ففيه إشارة إلى العقيدة الدينية الراسخة منذ بزوغ فجر الإسلام على عُمان، وامّا مفردة (الميدان) ففيها رمزية إلى الأمكنة المخصصة للاحتفالات الشعبية والتجمعات القبليّة والاستعراضات التراثية في المواسم والأعياد والاحتفالات وهي إحدى وسائل التساند المجتمعيّ، وأمّا مفردة (السوق) فتشير إلى النشاط الاقتصادي السائد ودلالة على أنّ الظفاريين أهل تجارة واقتصاد منذ مطلع تدوين التاريخ.
"سوق الحصن في ذاكرة التاريخ"
أمّا عن "سوق الحصن فقد كان يضم قديما زهاء 12 دكانًا، ولكنه كان أفضل مراكز للتسوّق بين صور وحضرموت على مسافة 800 ميل"(4). وهذا "السوق يعود تأسيسه إلى عهد السلطان تيمور، وذكر أحد تجار السوق القديم أنه اشترى محلا تجاريا في سوق الحصن من أحد المواطنين بمبلغ 100 ريال فرانصة. وأغلب المحلات في السوق القديم مبنية من قِبَل التجار بعدما سمحت لهم الحكومة بذلك؛ بدليل أن أغلب تجار السوق لايعطون إيجارا للدولة نظير استغلالهم لتلك المحلات"(5)، وقد "شهد سوق الحصن منذ إنشائه العديد من التوسعات والإضافات "وأن انتعاش هذا السوق وتوافد التجار إليه من البلاد المجاورة راجع إلى مميزات منها: كثرة الممرات والمخارج المحيطة به، وتعدد السكك، وكثرة الدكاكين، وتخصص بعض المحلات في بيع سلع معينة ووفرة المخازن المحيطة بالسوق وقربها من مبنى الجمارك والبندر"(6).
"الصراع الاستعماريّ على ظفار"
- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(والْبَانِي لِهَذَا الْحِصْنِ وَالسُّوْرِ والسُّوقِ الْوالي عَالِي الهِمَّةِ سُلَيْمَانُ بِن سُوَيْلِمٍ بِن سَالْمِين خَادِمُ سَّلَاطِيْن (مَسْقَطِ) أَصْحَابِ الْفَخَامَةِ أَبْنَاءِ (الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِن سَعِيْدٍ)].
أمّا قول الشيخ عيسى الطائيّ [(والْبَانِي لِهَذَا الْحِصْنِ وَالسُّوْرِ والسُّوقِ الْوالي)] فمقصوده الإشارة إلى الوالي الذي أشرف على بنائه وتشييده، وليس بانيه على نفقته الخاصة، وهو (سليمان بن سويلم بن سالمين)؛ وكانت شخصيته مثيرة للجدل وارتبط اسمه بمحاور الصراع السياسيّ؛ الذي كانت تديره في السر والعلن قوى خارجية تمثّلت في (الباب العالي في اسطنبول، وبريطانيا، وأمراء مكة والحجاز)؛ في محاولا يائسة لبسط نفوذهم على الموقع الاستراتجيّ جنوب شرق الجزيرة؛ لكن الظفاريين أفسدوا كل المخططات الاستعماريّة؛ ولنا أن نشير هنا في جملة اعتراضية إلى الدور البريطانيّ في الصراعات الداخلية العُمانية من عبارة وردت في تقرير الوكيل البريطانيّ (وينجيت) في يوم الـ 20من تشرين الأول سنة 1920 تعليقًا على مفاوضات اتفاقية السيب قائلا: "لم نأخذ في الاعتبار إلا مصلحتنا؛ لقد تمكَّنا من عزل الداخل، ومنعنا السلاطين من إعادة بسط سلطتهم على البلاد"(7).
"ظفار لاتقبل بغير البوسعيديين"
وفي هذا المقام وَجَبَ التأكيد على أنّ سلطة البوسعيديين كانت محيطة بـ(ظفار) قبل سنة 1880بعد الميلاد بزمن طويل، ولهم جذور ضاربة في أعماق التاريخ السياسيّ وتشير كثير من المصادر إلى استحكام سيطرتهم على تلك البقاع من قبل ومن بعد نشأة الدولة البوسعيدية الأولى. لكن في هذه السنة تحديدًا "ظهر على المسرح (السيد فضل بن علويّ المولود بمليبار سنة 1240هـ)، وقد بنى ادعاءَه بحقه في حكم (ظفار) على أساس تفويض حصل عليه من العُثمانيين. وكان من نتيجة ذلك أن قرر أهل ظفار اللجوء إلى البيت الحاكم في مسقط في عهد السلطان تركي، يعرضون عليه أن يتولّى حكمهم. وسرعان ما تطور نفوذ آل البوسعيد في هذه المنطقة تطورا كبيرا. ولقد رحّب أهل ظفار بهذا القرار أيّما ترحيب"(8)؛ فأرسل لهم السلطان تركي قائد قواته المسلحة (سليمان بن سويلم بن سالمين)، و"كان من بين حاشية السلطان، وموضع ثقته، ولمنزلته تلك فقد جعله مستشارا خاصا، وقائد جيشه، وكان يتمتع بمركز مرموق في أوساط القبائل العُمانيّة - قبيل انتقاله إلى ظفار حاكما عليها -، لِمَا كان يتميز به من الصفات النادرة، إذ كان نزيها وشجاعًا وقوي الشكيمة، ولم تكن هناك شخصية أصلح من سليمان هذا لتوطيد النفوذ العُمانيّ في ظفار؛ فضلا عمّا يلقاه من التأييد من حكومة مسقط، ولكل هذه الاعتبارات ارتأى السلطان تركي أن يضعه حاكما على ظفار ونائبا عنه فيها، فسار إليها في ثمانية عشر مقاتلا واستولى على الحصن المركزيّ قبل أن تصل إليه الحامية الرئيسية"(9).
"غدرة مساعد تنهي مستقبل سليمان"
وهنا نشير إلى أنّه في سنة في سنة 1887م، قام (الوالي سليمان بن سويلم بن سالمين) استفزّ أهل ظفار من الأرض برفعه قيمة الضرائب المقررة، وزاد الطين بِلّة حين تعرَّض لبعض رجالات قبائلهم بسوءٍ؛ فخرجوا ثائرين، وحاصروا الحصن وأعلنوا رفضهم لولايته عليهم ، "فأرسل السلطان تركي وَلَديه (فيصل وفهد) وعددًا من وُجهاء عُمان على رأس مئتي محارب وأعادوا سليمان إلى الولاية نائبا للسلطان وحاكما على (ظفار). وبعد وفاة السيد تركي خلفه ابنه (السيد فيصل)، وانقضت سبع سنوات هادئة، ثم حدث أقوى وأعنف تمرد من الظَّفاريين إثر إقدام الوالي سليمان بن سويلم على اعتقال عددٍ من شيوخ قبيلة بني كثير سنة 1895م، فهاجمت القبيلة حصن الوالي، مما أسفر عن انسحاب بقية الحامية العسكرية وخروج عائلة الوالي إلى (مرباط) تحت حماية قبيلة آل عمر(العمري) دون أن تُمَسَّ بسوء – اعتدادًا بالأخلاق العربية والإسلامية-، وتُعرَف هذه الحادثة في التاريخ الشعبيَ المرويَّ بـ(غدرة مساعد)، وقُتِلَ في الهجوم على القلعة ابن الوالي (علي بن سليمان بن سويلم) وابن شقيقه المدعو(مسعد بن سويلم)، ومعهم 11 جنديا من الحامية العسكرية في الحصن، وكان السبب المباشر للتمرد سوء تصرفات الوالي سليمان بن سويلم المتميز بالسُّخرة والعمل الإجباريّ وجمع الضرائب، ثم انتهى التمرد باستدعاء السلطان لواليه سليمان بن سويلم وتولية السيد سيف بن يعرب عليهم"(10)
"مؤسس دولة البوسعيد الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِن سَعِيْدٍ"
أمّا قول الشيخ القاضي عيسى الطائيّ [(سَّلَاطِيْن (مَسْقَطِ) أَصْحَابِ الْفَخَامَةِ أَبْنَاءِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِن سَعِيْدٍ)]. ففيها دلالة على تواصل الامتداد التاريخيّ لحكم البوسعيديين دون انقطاع، وتعريج بالإشارة إلى الجَد والمؤسس الأول لدولة البوسعيد؛"أحمد بن سعيد بن أحمد بن محمد بن خلف بن مبارك البوسعيدّ الأزديّ العتكيّ، - نسبة إلى عتيك - بن الأسد بن عُمران بن عمرو (مزيقيا) بن عامر بن (ماء السماء) بن حارثة بن امريء القيس بن ثعلبة بن مازن (زاد الركب) بن الأزد - ويُنسَب البوسعيد - إلى (سعيد المُهلّب بن أبي صفرة)، وكان مولد [(الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِن سَعِيْدٍ)] في ولاية (أدم) يوم الأحد 25 من شهر رجب سنة 1105هجرية. فلمّا أنْ شبَّ وظهر نبوغه وصلاحه في عهد الإمام سيف بن سلطان (الثاني)؛ أسند إليه ولاية صحار وتوابعها، واستمرَّ حكمه على مسقط والرستاق وصحار وحصون الباطنة ابتداءً من سنة 1156هجرية. وبعد وفاة الإمام سلطان بن مرشد، واندحار الجيش الفارسيّ وإجلائه انعقدت بيعة الإمامة على عُمان كلها لـ[(أَحْمَدَ بِن سَعِيْدٍ)] في حصن الرّستاق أوائل سنة 1162هجرية، وأصبح الحاكم المطلق لها بلا مُنازع، وهذا التاريخ نفسه المتداول والمُعتمد للتأريخ بنهاية دولة اليعاربة، وظهور دولة البوسعيد"(11).
"السبلة ماضٍ والمجلس حاضر"
- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [وَقُدَّامُ الحِصْنِ سُوْرٌ صَغِيْرٌ بَيْنَ السُّوْرِ الْكَبِيْرِ وَالحِصْنِ فِي دَاخِلِهِ سَبْلَةٌ وَاسِعَةٌ قُدَّامُهَا (بَنْدٌ) مَرْكُوزٌ فِي الأرضِ عَالٍ جِدًّا يَخْفُقُ بِأَعْلَاه (الْعَلَمُ الأَحْمَرُ السُّلْطَانِيُّ)].ففي عبارته:[(وَالحِصْنِ فِي دَاخِلِهِ سَبْلَةٌ وَاسِعَةٌ)]، إشارة منه إلى سِمْت عُماني ذي خصوصية مجتمعية انفرد بها أهل عُمان في سائر الولايات ولاتُختص ظفار بها وحدها. و"مصطلح (السبلة العمانية) ماضٍ ومصطلح (المجلس العام) حاضر ولكنهما يتداخلان في مضمون كليهما المجتمعي وأدوارهما المشتركة المؤدية إلى خدمة مجتمع محيط بهما. و(السبلة) بالمفهوم العام ليست (البرزة) المعروفة في نظام الحكم العماني القديم إذ الأولى جل حضورها من أهل القرية أو المحلة غالبا دون سبق تنسيق، بينما (البرزة) هي بروز أو ظهور أو جلوس حاكم أو ممثله في حضرة قاض شرعي يقضي بين المتخاصمين بعد أن يحيل إليه الحاكم أومن يمثله كالوالي الذي يتولى إحالة القضايا لأهل الرأي والحكمة من أفراد المجتمع بغية الوصول إلى صلح بين المتخاصمين قبل الإحالة إلى القضاء ويجلس في مكان معلوم من الحصن أو القلعة التي تمثل السلطة المركزية ومباح حضور العامة به في أوقات معلومة من اليوم"(12).
"الدور الوظيفيّ للسبلة العُمانية"
ويتابع الشيخ محمد المسروريّ: و(السبلة) كانت لها أدوار متعددة ففي المجال الاقتصادي كانت تسهر من خلال حكمائها على رسم السياسات العامة للأسواق في البيع والشراء وتسيير القوافل وابتعاث الممثلين التجاريين إلى الولايات الأخرى بل وإلى الدول المتلقية للبضائع المحلية، وكانت ترسم حقوق المساهمين في الفلج وفق نظام دقيق لتقسيم المياه بين الملاك، ورسم سياسة تنظيم الأسواق المحلية وتحديد مقدار الرسوم على بعض البضائع وتصنيفها والتصرف بالعائد منها، وكانت السبلة ملتقى العلماء وموئل الأدباء ومحط رحال الشعراء ومركز إعلام وتواصل ومصدر استجلاء المعرفة، وحاضنة لأخلاق المجتمع وتخلقه، ومكانا للتعارف بين الأجيال والتحاجج بين المتحدثين، والسبلة فوق ذلك وما بعد مصدر الهام للشباب للاضطلاع بمهام الحفاظ على الوطن والذود عن حياضه"(13).
"عَلَم عُمان الأحمر فوق البَنْد"
وأما قول الشيخ عيسى الطائيّ: [(قُدَّامُهَا (بَنْدٌ) مَرْكُوزٌ فِي الأرضِ عَالٍ جِدًّا يَخْفُقُ بِأَعْلَاه (الْعَلَمُ الأَحْمَرُ السُّلْطَانِيُّ)]، ففيها إشارتان تاريخيتان؛ فأمّا[(البند)]: فهي كلمة فارسية معرّبة، ومعناها: (العلم)، وجمعها (بُنُود)(14) ، وقال الفراهيديّ عنها: لفظ دخيل(15)، وشاهدها الشعريّ في قول عنترة:(إذا عادت بنو الأعاجمِ تهوي// وقد ولّت ونكَّستْ البنودا)(16) ، وأمّا الإشارة إلى [(الْعَلَمُ الأَحْمَرُ السُّلْطَانِيُّ)]، فتدعونا إلى التأريخ لمسيرة ونشأة (علم سلطنة عمان) عبر الأعصر الماضية؛ ففي عام 750 للميلاد، كان العلم الوطنيّ للامبراطوريّة العُمانيّة يتكوّن من (لافتة ملونة باللونين الأحمر والأبيض)، وفي منتصف القرن 18 الميلادي ظهر تصميم الشّعار السلطانيّ لـ(سلالة السادة السلاطين من آل سعيد البوسعيديين)، ويتكوّن من وحدة فنية تجمع داخل نسقها (الخِنجَر السَعيديّ في غِمده والحزامٍ مُرَكّبين على سيفين عُمانيين مُتقاطعين)، ثُمَّ في مرحلة تاريخية لاحقة اتخذ العُمانيون (اللون الأبيض) عَلَمًا لهم في الفترة من 1868م- 1871م، ثم تحوّل لونه من (الأبيض) إلى (الأحمر) في الفترة من 1871م– 1970م.
"تاريخ التلغراف البرقيّ"
- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَبْعَد وُصُولِنَا بِيَوْمَينِ وَصَلَ (تِلِغَرَافٌ بَرْقِيٌ) بِالْبَارِجَةِ الإنكليزيّةِ بِأَنَّ السَّفِينَةَ الشِّرَاعِيَّةَ الْتِي خَرَجَتْ قَبْلَ خُرُوجِنَا مِنْ (مَسْقَطَ) بِشَهْرٍ قَاصِدَةً (ظَفَارَ) بصُحْبَةِ السَّفِيْنَةِ الَّتِي وَجَدْنَاهَا بِـ(مِرْبَاط) رَجَعَتْ إِلَى (مَسْقَط) بِمَنْ فِيْها مِنَ الرِّجَالِ والذَّخَائِرِ بَعْدَمَا كَابَدَتْ أَنْوَاعَ الْمَشَّقَةِ والتَّعَبِ؛ لِأَنَّ (بَحْرَ ظَفَار) لايُمْكِنُ قَطْعُهُ إِلَّا فِي المَوْسِمِ الْمَعْلُومِ فَحَمَدْنَا اللهَ عَلَى سَلَامَةِ مَنْ فِيْهَا. {وَرَبُّكَ يفعل ما يشاء ويختار})].
أمّا قول الشيخ عيسى الطائيّ [(وصل تِلِغَرَافٌ بَرْقِيٌ بِالْبَارِجَةِ الإنكليزيّةِ)]، ففيه إشارة منه إلى المخترعات الحديثة، وأسرع سائل التراسل حول العالم، المسماةُ (التلغراف البرقيّ)، والتي كانت تَبُثُّ الرسائل حول العالم عبر (الرقم 3655) من خلال موظفين يقومون بدور (البدَّال) فيسجّلون رسائل الزبائن وإعادة إرسالها إلى المستلمين على شكل برقيات إلى (البريد) أو (التلفون الأرضيّ السلكيّ). وهذه الخدمة "ظهرت في فرنسا عام 1879م من موقع (باري سنت ميشل)، وكانت شركة (فرانس تلكوم) صاحبة الامتياز وأول مُشغِّل للخدمة، ثم انتقلت مليكيتها لاحقا إلى شركة أورانج. الجدير بالذكر أنّ اختراع (البريد الإلكترونيّ) و(رسائل SMS)، و(فيسبوك) و(تويترX) و(واتساب)، و(تلغرام) أحالت (التلغراف البرقي) إلى التقاعد في الساعة 23 و59 دقيقة من 30 مارس/آذار 2018م وكانت آخر برقية مرسلة من كريستوف آندي (17)
"مُنَاخ ظَفار في الإكليل والنطح"
وقول الشيخ عيسى الطائي: [(بَحْرَ ظَفَار) لايُمْكِنُ قَطْعُهُ إِلَّا فِي المَوْسِمِ الْمَعْلُومِ)] إشارة إلى الأيام التي يكون فيها البحر هائجا والموج فيه كالجبال، ولا تقلع السماء عن الهطول بالأمطار الكثيفة، و"إنّ المواسم الخطرة التي يتجنّب فيها سكان (ظفار) السفر تتمثل في شهر مايو من كل عام تحديدا في نجم (الإكليل) الشلي، وهو نجم خطير تحدث فيه فيضانات وأعاصير استوائية، ويبدأ هذا النجم من 19 مايو ويستمر إلى 30 مايو، كما يتجنّب المسافرون نجم (النطح - الحيمر) الذي يبدأ من 22 أكتوبر إلى 3 نوفمبر وموسم الخريف يبدأ من يونيو إلى نهاية سبتمبر، ومن خلال ذلك توصّل الأقدمون إلى معرفة فصول السنة وقسموها إلى أربعة فصول: (شتاء وصيف وخريف وصرب/الربيع)، كما قسَّموا كل فصل إلى نجوم، وكل نجم 13 يومًا، ووفقًا لهذا التقسيم تعامل الظفاريون مع مناخ العام وانتظمت حركة التجارة والزراعة والأسفار(18).
"الكاف والقيظ وحساب البحر"
- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَبَحْرُ (ظَفَار) لايَزَالُ فِي اِضْطِّرَابٍ لَاسِيَّمَا فِي وَقْتِ قَيْظِ عُمَانَ. وَأَهْلُ ظَفَار يَسَمُّوْنَهُ (الْخَرِيْفَ)، وَيَبْقَى هَكَذَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً وَتَنْقَطِعُ السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ عَنْهَا كُلَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا تَسْتَطِيْعُ أَنْ تَعُوْمَ فِي بَحْرِهَا أَبَدًا)].
أمّا قول الشيخ عيسى الطائيّ: [(وَبَحْرُ (ظَفَار) لايَزَالُ فِي اِضْطِّرَابٍ لَاسِيَّمَا فِي وَقْتِ قَيْظِ عُمَانَ)]؛ فمقصوده بـ(قيظ عُمان) إشارة إلى (فصل الصيف) في الفترة من (21 مارس – 21 يونيو)، وفي هذا الفصل يتوجّه غالب سكان أقصى سواحل الجنوب الشرقيّ لشبه الجزيرة العربية على عمومهم وليس خاصًا هذا التوجّه بسكان إقليم ظفار فقط إلى "الجبال طلبًا للرزق، وبحثًا عن المراعي وزراعة الأراضي"(19). إلا أنّ خصوصية المجتمع الظَفاريّ تمثّلت في تقسيمهم سائر شهور السنة إلى 14 موسمًا وِفْقَ التقويم القمريّ، ومنها (موسم القيظ) الذي يتوزّع عندهم على(6 نجوم) وِفْقَ (حساب البحر)، والذي يشيع عندهم باسم (حساب مرباط)، ويُقال إنّ (عبدالله بن علي الشاذليّ الكاف) هو الذي وضع جداوله وتقسيماته الزمنيّة وخصص مصطلحاته. ويبدأ الصيف(قيظ عُمان) عند الظفاريين بـ(نجم العواء)؛ حيث تبدأ هبّات الهواء الساخن تلفح وجوه المارّة، ثم ينتقلون إلى (نجم الغفر)، وفيه تحطُّ أسراب طيور الزّميم على جبال ظفار، ثم يتبعه (نجم الزّبان) وفيه تبدأ الحراثة والزراعة وتتفتح الأزهار، وتتورّد الثمار وتعشوشب الجبال، ثم تتنزّل الأمطار مع (نجم الكليل) أو كما يسمونه (حَيْمَر وشيلة)، ومع ظهور نجم (القلب) تشتد وتتابع موجات الحر، وبعدها ينزل نجم (الشول) فتتراجع درجات الحرارة إيذانًا ببداية موسم الخريف(20).
"خريف ظفار فردوس مُقيم"
وفي قول الشيخ عيسى الطائيّ: [(وَأَهْلُ ظَفَار يَسَمُّوْنَهُ (الْخَرِيْفَ)، وَيَبْقَى هَكَذَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً)]، إشارة منه إلى خصوصية إقليم ظفار عن سائر أقاليم شبه الجزيرة بموسم الخريف الذي ينشأ ويوافق "ظاهرة هبوب الرياح الموسميّة القادمة من الهند المحملة بالمياه، والتي تصطدم بسلاسل جبال (ظفار) المرتفعة إلى نحو ثلاثة آلاف قدم على امتداد سواحلها من الشرق إلى الغرب، فتسبّب هطول أمطار غزيرة على قممها وتغطي سماءها مُزن الخير التي تسّاقط رذاذًا منعشا، وتجري في سهولها أنهارا وأخاديد، لتحيلها إلى فردوس مقيم، وتتكاثر على هضابها أشجار اللبان التي يرجع لها الفضل في شهرة هذه المنطقة؛ فهذا المحصول القيّم مصدر رخاء لمنطقة ظفار"(21).
"غُبّ القمر بين الشحر وظفار"
- وقوله الشيخ عيسى الطائيّ: [(وَتَنْقَطِعُ السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ عَنْهَا، وَلَا تَسْتَطِيْعُ أَنْ تَعُوْمَ فِي بَحْرِهَا أَبَدًا)] في هذا المقطع من رحلته ينوّه الشيخ عيسى الطائيّ إلى أهمية موانيء (ظفار) رغم ما يعتريها من أنواء وأعاصير عاصفة في بعض أوقات السنة، حيث "كانت سواحل ظفار محطات مهمة للسفن التجارية والعابرة، وكان العبور في هذه السواحل يستدعي إجراء حسابات فلكية دقيقة؛ إذ أنّ أجواء المنطقة في بعض المواسم خطرة جدًا، وكانت الممرات المائية مثل (بحر حاسك)، و(رأس نوس)، و(غبّة فرتك) تحتضن هذه الأنواء الخطرة في مواسم الأعاصير"(22). وهناك الكثير من السفن التي واجهتها أنواء مناخية سيئة أدت إلى غرقها في ظفار، "ففي سنة 1920 غرقت سفينة صورية بالقرب من مرباط لصاحبها محمد بن خميس العلويّ، إذ صادفتها تقلبات مناخية أدت إلى غرقها وموت جميع ركابها"(23)، ومن المواقع الساحلية الخطرة في أقصى جنوب عُمان والتي تخشاها السفن مكان يُقال له: "غُبّ القمر، وهو موضع بين الشحر و(ظفار)، وهو المعروف اليوم بـ(عِشّة القمر)، وهو موضع إذا سقطت إليه السفن قلَّ أن تسلم"(24).
يتبع...
المراجع والإحالات:
(1) أثر السياحة على التنمية الاقتصادية، د. مسلم العوائد، مجلة العلوم القانونية والاجتماعية، جامعة زيان، الجزائر، مج:5، ع: مارس 2020، ص:393
(2) دليل الخليج، القسم الجغرافي، ج:2، لوريمر، ص: 580
(3) الرمال العربية، ويلفريد ثيسجر، ص:30
(4) دليل الخليج، القسم الجغرافي، ج2، لوريمر، ص:580، وانظر أيضا المرجع السابق: الرمال العربية، ص: 30
(5) تاريخ ظفار التجاريّ، حسين بن علي المشهور باعمر، 2009، ص: 58، نقلا من مقابلة مع الشيخ فضل بن علوي ، سالم الذيب باعمر، سوق الحصن، صلالة: 07/06/2008
(6) تاريخ ظفار التجاري، ص: 58، 59
(7) نقلا عن الوثائق البريطانية، في كتاب (الدولة والمجتمع في عُمان)، منصور المحرزيّ، فتوى المعارف، بيروت، 2014، ص:66
(8) برترام توماس، البلاد السعيدة، ترجمة: محمد أمين عبدالله، 1981ص: 26، 29
(9)الرمال العربية، مرجع سابق، ص:30
(10) دليل الخليج، ج، ج، لوريمر، القسم التاريخي، ج2، تاريخ العلاقات الفرنسية العمانية، سلطان بن محمد القاسمي، منشورات الشارقة، ص: 909 - 911
(11) الطالع السعيد نبذٌ من تاريخ الإمام أحمد بن سعيد، الشيخ سيف بن حمود البطاشيّ، ط2، الناشر مكتب المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية، 2014، ص: 13، 16، 20
(12) شرح المصطلحين نقلا عن وكالة الأنباء العمانية 04/09/2017، وكتاب "المجالس العامّة ودورها في تعزيز القيم ” محمد بن حمد بن علي المسروري، الناشر: مركز الدراسات والبحوث بمؤسسة عمان للصحافة، 2015
(13) المرجع نفسه، نقلا عن وكالة الأنباء العمانية 04/09/2017
(14) المعرّب، الجواليقي،ص: 201
(15) العين، الخليل الفراهيدي، تحقيق: مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائيّ، دار ومكتبة الهلال، القاهرة، د.ت. 8/52
(16) شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزيّ، (ت،502)، وقدّم له ووضع هوامشه وفهارسه: مجيد طراط، دار الكتاب العربيّ، بيروت، ط1، 1992، ص: 50
(17) قناة الجزيرة 2/5/2018 نقلا عن الليموند الفرنسية https://www.lemonde.fr/les-decodeurs/article/2018/05/03/le-dernier-telegramme-a-bien-ete-envoye-le-30-avril-mais-ce-n-est-pas-celui-qui-a-circule-sur-internet_5294014_4355770.html
(18) تاريخ ظفار التجاريّ، حسين بن علي المشهور باعمر، 2009، ص: 65
(19) الحياة العلمية في عمان خلال القرنين (9-10هـ)(15- 16م)، د. خليل العجمي، الآن ناشرون 2022، ص: 64
(20) بتصرف: الأعراف والعادات الإجتماعية و الثقافية في ظفار، سعيد بن مسعود محمد المعشني، 2003م- “النطح”،”البلدة”، “النعايم”، حسبةٌ عُمانيةٌ للنجوم اتبعها الأجداد، إعداد: محمد حاردان، صحيفة أثير 13 يونيو 2020
(21) البلاد السعيدة، برترام توماس، ترجمة: محمد أمين عبدالله، 1981، ص: 22
(22) تاريخ ظفار التجاريّ، حسين بن علي المشهور باعمر، 2009، ص: 64
(23) التاريخ الملاحي وصناعة السفن في مدينة صور العمانية، حمود الغيلاني، صور (سلطنة عمان) : د ن، 2006 م. ص: 417
(24) إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، السيد عبد الرحمن بن عبيد السقاف، دار المنهاج، ط1، 2005، ص: 74
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إبراهيم عيسى: فيروز عنوان للوجدان العربي وجمعت القلوب العربية بصوتها الرائع
أحيا الإعلامي إبراهيم عيسى، ذكرى الاحتفال بعيد ميلاد فيروز الـ90 قائلًا: "وسط الدمار والقتال في لبنان يبقى الاحتفال بعيد ميلاد فيروز وهي صوت ملائكي رائع وموحد للبنان وعنوان للأمل في مواجهة الدمار وعنوان المستقبل في موجهة حاضر قاتم مؤلم محير ومفجر للآلام والأحزان".
وأضاف إبراهيم عيسى، خلال تقديم برنامج "حديث القاهرة"، المذاع على قناة القاهرة والناس، أن فيروز استطاعت بصوتها ووجدانها وصدارتها على أن تكون كل قلوب لبنان مجمعة عليها وموحدة حولها وهي صوت ورمز يجعل من لبنان لبنان التي كنا نعرفها ونتمناها، مؤكدا أن فيروز عنوان للوجدان العربي وجمعت القلوب والعقول العربية بصوتها الرائع.
وتابع: "فيروز استطاعت أن تجمع كل القلوب والعقول العربية حول نار المدفئة في الشتاء أو جليد الجبال وهي أنعشت القلوب والنفوس بإحساس الانتماء الوطني وهي فوق الطائفية اللبنانية والصراعات السياسية"، مؤكدًا أنها نموذج والأمل بحق وتقدم فن يعلن قيمة التوحد الإنساني.