شتاء 1998 كنا نقطع الطريق مشيا في قريتنا بولاية صحم. عمي وأنا وأختي، توجهنا لبيت عمتي تحت نور قمر مكتمل، ظننت طيلة الوقت أنه يتبعني. لكن شيئا انتزعني من حلم اليقظة ذاك عندما ردد عمي كلمات أغنية كان يعيد سماعها في الأيام الماضية عشرات المرات في بيتنا المشترك. كانت تلك هي المرة الأولى التي أتعرف فيها على محمد عبده وأنفر منه.
هذه ليست كتابة أنطولوجية عن محمد عبده وتجربته الفنية التي كُتب عنها الكثير. بل هي عن الاشتباك الشخصي مع ما مثله محمد عبده في حياتي الشخصية، معرفة الذات من خلال ومضة الاكتشاف، الإيماءة الصغيرة أو التنهيدة عندما تقرأ شيئا كنت تعرفه منذ زمن بعيد، لكن لم ينتظم معك في كلمات، أو ظننت أنها فكرة لم يفكر بها غيرك وأنها غير جديرة بالاهتمام. أحيانا أشعر أثناء سيري بسيارتي في الشارع العام في مسقط، وتلاقي أشعة الشمس مع خضرة الأشجار بلحظة متوهجة من الحياة قبضتُ عليها براحتي يدي، حررتني من كل شيء، هذه اللحظات النادرة عندما تواجه صحوة ما، والتي تتألق بالوضوح إنها اللحظات التي تقول عنها باميلا نيوتن: اللحظة التي تتفرق فيها الغيوم فجأة، اللحظة التي تكون فيها متقدما على ما تقرأه أو ما تسمعه بخطوة واحدة أو متأخرا بخطوة واحدة للحاق به، أو أن لحظة الذهول تحدث معه في اللحظة نفسها. لقد كبرت مع محمد عبده، تغيرت، وتأملتُ في التنويعات التي يقدمها في أغانيه وعبر صوته حول الحب والشوق والدفء واللقاء، واللوعة، والانتظار، والمسافة.
***
ليس هذا فحسب، علمني عبده درسا مهما حول الأسلوب، الشيء السحري الذي لا يمكن القبض عليه، النبرة التي أكتب بها، لماذا تختلف كتابتي عن الآخرين؟ لا أقصد حتى بالمعنى الإيجابي أو السلبي، أقصد ما الذي يجعل كتابة كاتب ما، هي كتابته بالفعل، لا استعارة عن صوت آخر، وبمجرد قراءتها تستطيع أن ترى كاتبها أمامك. إنها ما يمكن أن نسميه انفعال الصوت الخاص، حدته المميزة، أو ما يطلق عليه فرديناند سيلين أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرا «القوة الداخلية للكتابة، النقاء التصويري والكوميديا السوداء عندما تنفجر مندفعة داخل النبرة الإيقاعية للنص».
وإذا سحبنا هذا من الكتابة لعوالم الفنون الأخرى استدعي هنا كتاب «ميسي تمارين على الأسلوب» لـلكاتلوني جوردي بونتي الذي فكر في معنى «الأسلوب» بقراءة السحر الذي يلعب به ميسي ومحاولة تسميته، محاولة دفع اللغة لحدودها الأقصى التي تمسك فيها بالسحر، المنهمر الضاري والشبحي وصولا إلى حد اختراع كلمة جديدة في القاموس اللغوي «المسّية». يكتب في السياق نفسه الشاعر البرتغالي العظيم فيرناندو بيسوا في «اللاطمأنينة»: فكّرت اليوم، أثناء لحظة إحساس معيّنة، في شكل النثر الذي أستعمله. حقًا، لابدّ من التساؤل: كيف أكتب؟ لقد كانت لديّ، مثل الجميع، تلك الرغبة المفسدة في امتلاك نظام وقاعدة بهذا الشأن. أكيد أنني مارست الكتابة قبل امتلاك أيّة قاعدة أو نظام، وأنا لا أختلف بذلك عن الآخرين. وقد اكتشفت بتحليل ذاتي قمت به هذا المساء، أنّ نظام الأسلوب عندي يرتكز على أساسين ينبنيان بدورهما حسب الطريقة المثلى للكلاسيكيين الجيدين على الأسس العامّة لكل أسلوب، وهما: أن أعبّر عما أحس تمامًا وفق ما أحس - بوضوح، إن كان ما أحسه واضحًا، وبغموض، إن كان ما أحسّه غامضًا، وملتبسًا إن كان ما أحسّه ملتبسًا بالفعل - وأن أدرك أنّ قواعد النحو هي أداة فحسب وليست قانونًا. لنفترض أنني أشاهد أمامكم فتاة ذات سلوك ذكوري. إذًا، هناك شخص عاميّ سيقول عنها: البنت تبدو ولدًا. ثمّ شخص آخر سيقول، إنما بصيغة أقرب إلى الوعي بأن الكلام هو التعبير: هذه البنت ولد. شخص ثالث واعٍ هو الآخر بمتطلبات التعبير، لكنه مدفوع بنزوة الاقتضاب الذي هو التجسيد الحي لشبقيّة الفكر، سيقول: ذلك الولد. أما أنا فسأقول على الفور: تلك الولد، منتهكًا أكثر القواعد النحويّة أساسيةً وهي الملزمة بتوفير تطابق في الجنس والعدد والنعت والمنعوت. إذا فحصنا الاستعمالات اللغويّة، نجد النحو يضع تقسيمات مشروعة وزائفة. فهو مثلا يقسّم الأفعال إلى لازمة ومتعدية، لكن الإنسان الذي يجيد التعبير عمّا يحس ينبغي عليه أحيانًا كثيرة أن يحوّل فعلا متعديًا إلى لازم حتى يصوّر بالضبط ما يحسّه. يُحكى عن سيجموند، ملك روما، أنّه أجاب بعض من نبهه إلى خطأ نحوي ارتكبه أثناء إلقائه إحدى خطبه: «أنا ملك روما، وملك النحو كذلك». والتاريخ يروي أنّه عرف خلال حكمه باعتباره سيجموند «السوبر نحوي». رمز عجيب بلا شك. كل من يعرف قول ما يقول هو ملك روما بطريقته الخاصّة. أفهم كل هذا بشكل خاص، ويقنعني لأنني أعرف محمد عبده قبلها بوقت طويل. الأمر يشبه التفكير في «الراديكالية» الذهاب للجانب المتطرف من الإيمان، لا يحدث هذا في لحظة تحول وحيدة يستطيع الإنسان تحديدها في تاريخه الشخصي، لكنها تربة تبقى منفتحة ومستعدة لتجدد العشب عليها، يهمدُ أو يتمدد، بالضبط أنا هي الأرض التي بقت مستعدة وكان قوس قزح محمد عبده فوقها يهمسُ لها بما تعنيه كلمة «الأسلوب «دون أن تعرف أن له اسما حتى. فعبده لا يغني الأغنية نفسها مرتين، لا أستطيع أنا التي تلاحق النسخ العديدة من أغنية واحدة أن أقول بأنها الأغنية نفسها، حتى بتُ أطلب حفلة بعينها لأغنية أريد الاستماع إليها، محمد عبده أيضا يتلعثم في الكثير من أغانيه وينسى بعض الكلمات، مؤخرا يعتمد في حفلاته على «الآيباد» لقراءة كلمات أكثر أغانيه شهرة، وبطريقة ما أعدُ هذا ساحرا لسببين، الأول افتتاني بالسهو واللعثمة كممارسة سياسية، وثانيهما التأكيد على أن هذا السحر لا يأتينا من محمد عبده الإنسان نفسه الذي يخرج بتصريحات منفرة وبمواقف سياسية بائسة وحزينة، كأنما هو وسيط فحسب لنقل تلك العبقرية الفائقة.
***
سأسافر برا صيف 2008 نحو مكة. في حافلة نقل وطني كبيرة، بجانبي أختي فقط، بينما خالي «المحرم» يلقي محاضرات دينية في مقدمة الحافلة، وتعليمات تتعلق بالإحرام والطواف. وما إن نام الجميع ليلا، خصوصا وأننا قضينا في المسير إلى هناك يومين كاملين، حتى بقيت لوحدي تقريبا – هذا ما أظنه لأنني لم أكن أصل لجميع الركاب لضخامة الحافلة، لكن جميع من كن بقربي نائمات. كنتُ أحب لحظات السكون هذه، خصوصا عندما تتقاطع مع القفار الممتدة، المدى الشبحي للصحراء، السعة التي يمنحها انعدام الأفق، الامتداد اللانهائي للأرض البكر غير المأهولة، كما لو أنها الحالة الأولى للعالم، الحالة النقية، التي تشبه قصيدة عفوية، منطلقة. فكرت بمحمد عبده فورا ورددت بعض أغانيه مازال صدى «إن حكت غنت سنابل من رضى والسكوت إن صار نيران وغضى» يتوهج في روحي بالقوة نفسها، وجدتُ في التلاقي بين صوته وذلك الطريق ليلا مع الأضواء المطفأة أحيانا والخافتة أحيانا أخرى حلا للغز لا أعرف ما اسمه بعد، وقد لا أعرفه أبدا، وهذا ما يجعلني أتعلق به، سحرّيته، عدم تطابقه مع الواقع، عدم قدرتنا على الرغم من كل ما امتلكناه من لغة أن نحبسه في كلمة واضحة مباشرة إلا إذا اخترعنا موازيا لـ«المسّية». سأقرأ بعدها بعقد تقريبا أن هذه المقاربة كتبها عبد الله حبيب عن فنان سعودي آخر هو «طلال مداح» في كتابه «صخرة عند المصب» بأن مداح ليس صوت الأرض فحسب، بل صوت أرضنا نحن.
بعدها بعام واحد فقط، سأقرأ رواية محمد حسن علوان «طوق الطهارة» الصادرة 2008 ويمسني بشدة حضور محمد عبده الخاص في الرواية التي وجدتها آنذاك عذبة في غنائيتها العالية، وشعرية لغتها الخارجية، فيكتب عن الحبيبة المولعة بمحمد عبده هي تحب محمد عبده كما تحب المطر والغيوم، وأتذكر دائما أن مقالها في الجريدة جاءت فيه العبارة التي دفعتني مرة أن أهدي إليها مجموعته الموسيقية الكاملة، وعليها توقيعه شخصيا، «أغنياته أثرت في تشكيل السلوكيات الرومانسية لجيل كامل من البلد، مدرسة ثقافية كبيرة من الغناء لأجل الحب والوطن». ولهذا لوّنت كل حبّنا بأغنياته، حتى لم يبق لنا ذكرى لم يشاركنا فيها هذا الرجل، ويقتسم معنا كل الوقت الحميم، وكل اللحظات الخاصة، ولذلك صرتُ أؤرخ زماننا بصوته، وأربط الموقف بالأغنية، والأحزان بالألحان، حتى تداخلت في ذاكرتي كمية هائلة من الكلمات والنغمات، نسجت لي شجنا طويلا جدا. الآن، جفّ هذا الشجن، وتحوّل إلى غابة من الأعواد الجافة، يمكن أن تحترق في أي لحظة، وتحت رحمة أي مذياع، وأصبح محمد عبده، بالعشرات من أشرطته التي كانت تملأ الغرفة والسيارة، جلادا أليما، لا أجرؤ أن أبعثه من قمقمه، ولا أحتمل أن أتعثر به في قناة تلفزيونية أو جريدة». كانت لحظة هذه القراءة هي لحظة الصحوة التي تحدثت عنها في بداية هذه الكتابة، فتحت لي كلمة «تشكيل السلوكيات الرومانسية» بابا واسعا ما كنت لاطاه لولا هذه الكتابة. الكثير من الأفكار التشعبية لمعت في رأسي، أسئلة عن الذاكرة الجمعية، عن الذين يجمعنا طيلة الوقت بمن هم حولنا، عن التاريخ وامتدادنا إليه، كنتُ في مرحلة الصبا، أحاول بتردد أن أمسك بيدي شيئا من هذا العالم، قبل أن تمكنني كلمات كهذه- حتى وان بدت بسيطة –لا لمحاولة الإمساك بشيء بل لانتزاعه عنوة، سيكتب محمد حسن علوان في رواية لاحقة «القندس» 2011 الرياض. مسحت أرضية الحمام بمنظفات وجدتها في زاوية مظلمة في المطبخ وأفرغت ما بقي من قارورة عطر بعشوائية، وخرجت من نفس الباب إلى الشارع مرة أخرى وأنا لا أدري لماذا رحت أردّد دون وعي أغنية محمد عبده «حياتي كلها صبر وجلادة».
وبمحمد عبده أيضا أستطيع أن أرسم شجرة للأدب الذي أحب والذي أستطيع أن أقول وبكل ثقة على طريقة كافكا الأدب هو هويتي، وفي علاقتي معه أعكسُ علاقتي بالعالم لا العكس. لا في تشكيله لرؤيتي حول معان عديدة فحسب، بل لأنني سأبدأ بنقل أي مقطع يرد فيه اسمه من الأعمال التي أفضلها إلى مذكراتي، ومع مرور الوقت سألهو بها، إذ أحاول اكتشاف الخيط الخفي الذي يجمعها وما إذا كان الناس في شبه الجزيرة العربية مثلا يتلقونه بطريقة تختلف عن الطريقة التي نتلقاها به.
في الكويت، حيث بدأت دراستي الجامعية سألتقي بالكاتب السعودي منصور العتيق، هادئا ومنطويا في جلسة لقراءة الشعر العربي، درجت على حضورها في بيت سدرة في الكويت العاصمة، بيت أثري منعزل، تمكنتْ معلمتي أستاذة الفلسفة في جامعة الكويت من الحصول على إذن لعقد لقاء غير معلن عنه لقراءة شعر من التراث العربي، بين مجموعة محدودة من الأصدقاء، قضينا الليالي الشتوية الباردة ونحن نشوي حبات الكستناء في مصطبة موضوعة في منتصف الطاولة التي التففنا عليها ونحن نقرأ الشعر. أثار العتيق اهتمامي فبحثت عنه وتمكنت من شراء نسخة مهملة من مجموعته القصصية «إيقاظ الموتى» (2009) والمهداة بالمناسبة إلى طلال مداح. أعجبتُ بالمجموعة جدا حتى أنني سجلتُ نص: «وقائع مختصرة لسجود طويل» قبل نحو عشر سنوات من كتابتي لهذا النص ونشرته على حسابي على ساوند كلاود وما زال حتى لحظة هذه الكتابة متاحا للاستماع. كتب العتيق عن محمد عبده: «قالوا لي أن الغبار هناك مختلف وأن أقرب بلدة تبعد أغنيتين كاملتين من أغاني محمد عبده القديمة». وفي مقطع آخر «كنا نقطع الطريق الترابـي الطويل صامتين إلا من صوت الوانيت وأغنية لمحمد عبده، ما الذي دعانا للحديث الآن» وهكذا نعرف أن محمد عبده هو رفيق الطرق، يلازمها، ويصبحُ مرجعا في فهم المسافة، وفي أحلام اليقظة المرتبطة بالنقطة التي ينبغي أن يصل إليها المسافر.
صيف عام 2016 في ليلة زفافي، فكرتُ بأنني لن أنتظر عريسي كما درجت العادة في كرسي يقع في مركز مقدمة صالة الأفراح. بل أن يسبقني إلى هناك، وأن أدخل بعده، وكنتُ قد قررت مع منظمي الصالة أنني سأغني، صوتي هادئ ومتردد، أستطيع تأدية بعض الأغاني دون أن أسبب إزعاجا ملحوظا من الذين رماهم حظهم السيئ في طريقي- خصوصا أنني عُرفت في السكن الجامعي بـ«البنت اللي تغني»- ترى ما الأغنية التي غنيتها له؟ ما أتذكره الآن هو أنها لمحمد عبده بلا شك، لكن الكلمات تلاشت من ذاكرتي مع مرور الوقت كما تطايرت هذه التجربة وانتهت تاركة في القلب جرحا يشبه قصيدة روكي دالتون هذه تماما:
«منتصف العمر
تنقضي سنواتُ الأسلوبِ المتوثِّب
تنقضي السنوات التي تُنطَقُ فيها
كلماتٌ معينةٌ باحتقار:
الصنوبرات، الهرب، السوداوية
تحملُ عطشكَ أمام المرآة
وتتساقطُ فوقَك الأشواك:
لليقين رائحةٌ عطِنة
أنتَ في النهاية السيدُ المهذَّبُ الوحيد
الذي خشِيتَ أن تكونَه، الذي أبعدتَهُ
من جانبِكَ ببعض التهكم
كَنَسيٌّ وصموتٌ، إذا شاءوا
أقلُ ميلا إلى الدموع، أشدُّ صلابة
مثل خبزِ الربِ الطيب
بقدر ما يبتعدُ عن الفُرن»
الموسيقى عالم انتهى، أقفلْ. تختلف عن بقية الفنون، من الصعب أن تجري «مونولجا» معها، وربما تكون فرصتنا الوحيدة لفلق هذه الجوزة، أن نغنيها. لكن المجادلة داخلها لا تصبح متكافئة عند كل فنان، بالنسبة لي هي ليست كذلك عندما يتعلق الأمر بأغاني عبده. إنها أخذ ورد، تراشق ناعم، كما لو أن الجرح يمكن أن يتأجج بالنسيم أو بوردة بدلا من الملح.
في تجربة الكاتب السعودي أحمد الحقيل يحضر محمد عبده كفضاء عادي تتحرك فيه الأفعال والهواجس، إنه هناك، حتى لو لبس الضجر الشخصيات، في لحظات التبطل الرائعة والعادية في الوقت نفسه. يظهر بديهيا، وعدم إعطائه ثقلا بصورة تقريرية في كتابة الحقيل، يمنحه ثقلا من نوع آخر، يخبرنا عن محمد عبده وحضوره في الحياة اليومية لدى الناس على اختلافهم، وبأن أغانيه استطاعت أن تشكل مناخا لحركة الحياة داخلها. يكتب في روايته طرق ومدن (٢٠١٩)» جلس حتى منتصف العصر تقريبا، حلقة المسلسل في الحاسوب من جهة، والتلفاز بلعبة «أنتشارتد» الجزء الثالث من جهة أخرى، متزامنتان، وهو جالس في مكانه، والضوء يثقل أكثر مع صفاء الجو، وتزداد الغرفة صفرة لامعة وساطعة، ويصل في مرحلة ما إلى حالة استلقاء، مركزا على جواله، موقفا اللعبة ومنتهيا من الحلقة الخامسة، ومن حاسوبه تُسمع أغنية «تدلل» لمحمد عبده جلسة حائل، تعيد نفسها في مشغل البي إس بلاير، من مقطع «ولك في خيال العاشق المهتوي ميعاد، ومجلس على غيمة وليلة قمر نجدي»، مرورا بـ«رسَمتك ضحوك الفجر يا فرحة الأعياد، ولمعة شعاع ينغمس في ندى وردي»، وحتى «واشوفك مطر هتان لا برق لا رعّاد، من الوسم يبعث بالصحارى زهر ودي»، بالصوت الفتي المسترخي والكمنجة المستلجة والعود والقانون المتداخلين والصفقات الخلفية في إيقاع مرتخ يشوبه ارتجالُ الجلسات الطربية المزاجية. يشيّك على محادثاته التي قلت مع مرور الوقت في باث وانستجرام تحديدا. أخيرا وضع جواله على جنب، والغرفة قد عادت غائمة وداكنة، ومطر الديمة عاد للهطول، والأغنية ما زالت تعيد نفسها، «أسافر معك لبلاد وانزل معك لبلاد، ومن غيمة لغيمة ولا للسما حدي». نهض أخيرا ولبس ثوبه وأخذ فروته ونزل ليخرج». وفي روايته «أيام وكتب» (2022 يكتب الحقيل: «الشمس هي الشمس، والطرق هي الطرق، والناس هي الناس. إذن الأشياء في نهار السبت مثل الأشياء في أي يوم. فكر في نفسه مبتسما وهو يمسك طريق سدير القديم، متجها إلى بلدة حَرمة، في ظهر السبت الذي لم يخرج فيه منذ زمن. الجو جيد، وهنالك غيم مشتت. أدار المكيّف وفتح «الدريشة» في الوقت ذاته، واتكأ بمرفقه في الهواء، ومحمد عبده يغني في جلسة: «على البال، كل التفاصيل على البال» تمنى لو أنه يدخن. لطالما أحس أن المدخنين يستمتعون أكثر شيء بالدخان في الطرق. يتذكر خالد ورحلاتهما إلى الشرقية، حينما كان يشعل «زقارة» كل ثلث ساعة، ويبدو في غاية الاستمتاع. تمنى لو أنه يدخن، لو أن لديه هذه المتعة. ما متعه في الحياة غير الكتب وكرة القدم؟ لا يدخن، ولا يسكر، ولا يغازل، ولا يترفّه. «مدري إلى اليوم، وإلا الزمان أنساك، يا قلبها قلبي». مرفقه في الهواء الساخن، والسبحة السوداء ملفوفة على رسغه، مثل السّوار». وفي مقطع آخر من الرواية نفسها: «البخور، والقهوة، ودهن العود. الشمغ المنشّاة، والثياب المكوية، والصفوف الكثيرة على غير عادة أيام السنة. بلغ الإمام سورة التوبة، ولكن صوت أبا نورة يداهمه ويجعله يبتسم بخجل: «كل شي حولي يذكرني بشي». ويشرد مفكرا في أن المآسي بارعة في قدح الذاكرة، حين ترى في كل شيء إحالة إلى آخر. البخور والقهوة ودهن العود تذكره بوالديه وطفولته، وأمسيات التراويح في رمضان».
بدأت علاقتي بالأدب العماني متأخرة جدا ولم أجد في مذكراتي ما يشير لمحمد عبده مما قرأت عدا اقتباس وحيد من رواية حرير الغزالة (٢٠٢١) لجوخة الحارثي قالت فيه: «ترى عينيْه، مهما حدّقت فيهما لا تفهم. كلّ ما تراه في عينيْه هو عجزها عن الفهم، تحاول أن تغوص في عمقهما، تفكِّر فيهما مغمضَتيْن لحظة وصوله إلى الحياة، مفتوحتَيْن في عيني أمِّه الفرحة، متدرجتي الألوان في طفولته وصباه، باكيتيْن؟ لا. لم تر عينيْه دامعتيْن، على الرَّغم من أنَّه قال لها مرَّة إنَّ أغنية محمد عبده «الأماكن كلّها» تدمع عينيْه». ويبدو أن شيئا ما فطريا تفتقده كتابتنا عن عبده هنا، الأمر الذي يدفعني للتفكير في الترجمة، إذ أن استعارتنا لمحمد عبده هي ترجمة أيضا، وعلى الرغم من سحرها، إلا أننا في آخر الأمر لا نتذوق كل حرف، ونكتفي عوضا عن طعمها الكامل بدغدغة تتمدد في القلب ببطء. لهذا لن أتخيل مثلا أن تكشف لي رواية عمانية، أو حتى أن أكتب أنا نفسي نصا يحضر فيه عبده بأغنية ليست من روائعه ذائعة الصيت، ولا أن تسمى لي حفلة مغمورة عزف فيها الأغنية على عوده فقط.
يُشعرني محمد عبده وأي عمل أدبي وفني في الخليج على عكس أي شيء آخر، بداية من السياسة ووصولا للتقاليد الاجتماعية بأنني أنتمي للجانب القوي من العالم. وأن جرحا ما لا يمكن أن يفهم الا في سياق جرح آخر، أو ما أسميته في بداية هذا النص بمعادلة الأرض المزروعة بالعشب. هنالك توتر تستمر الكتابة في صناعته، لا كل ما يكتب، بل تلك التي يمكنها أن تمتلك أسلوبا، وأنا كنتُ أحاول مبارزة محمد عبده هنا، بالمعنى الجمالي والاحتفالي أيضا، على الرغم من أنني بعيدة عن ملعبه السحري بعد الأرض عن السماء كما أعتقد.
.....
أخيرا: إلى عمي علي: لقد كبرت.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لمحمد عبده محمد عبده یمکن أن عینی ه ما أحس
إقرأ أيضاً:
الإجرام الذي لن ينتهي بشهادة الأعداء
الحق واضح ومعلوم يدركه الجميع حتى الكاذب يعرف أنه يكذب ويخالف الحقيقة والواقع؛ وهي سنة من سنن الله في المجتمع البشري والإنساني لكي يتميز الناس ويدرك العقلاء حسنات الصدق وتبعاته وعواقب الكذب ومآلاته.
الله سبحانه وتعالى أنزل في القرآن الكريم تسلية للنبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم حينما كذّبه قومه وأخبره أنهم لا يكذبونه ولكنهم جاحدون وظالمون قال تعالى ((قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون))الانعام-33.
العرب الأصلاء كانوا يرون الكذب نقصاً في الرجولة لا يليق ومن أمثالهم “ان الحق ما شهدت به الأعداء”، أما اليوم فالمواجهة مع الأعداء من صهاينة العرب والغرب، وهم يعتمدون على الأكاذيب والإشاعات كسلاح مدمر إلى جانب الأسلحة الإجرامية التي يريدون من خلالها إبادة الضحايا على أنهم مجرمون واجب قتلهم وإبادتهم بدون حياء ولا خجل.
في الحرب الإجرامية العدوانية على غزة وفلسطين اتفقت تصريحات قادة ومسؤولي الدول الغربية على الالتزام بتسويق دعايات الإجرام الصهيوني وهو أمر ليس بجديد ولا غريب عليهم، لأنهم لم يتعلموا في مدرسة النبوة المحمدية، بل درسوا في مدرسة “الميكيافلية” و”الغاية تبرر الوسيلة”.
لن نستعرض كل تلك الأكاذيب التي تحتاج إلى مجلدات لتوثيقها، بل سنورد بعضا منها فيما يخص معركة طوفان الأقصى في قضية الأسرى .
فمثلا لوبي الحكم في البيت الأبيض السابق “بايدن وشلته” في بداية المعركة أشاعوا أن المقاومة قتلت الأطفال وقطعت رؤوسهم وسرت الأكاذيب في وسائل الإعلام اليهودية والمتيهودة كالنار في الهشيم، رددها الرؤساء ورؤساء الوزراء في الغرب وفي الشرق وفي الهند والسند، ومن يدعمون الكيان المحتل بدون التأكد منها، ولما اتضح زيفها وكذبها؛ نشروا التكذيب ولكن بعد أن نسجوا كذبة أخرى حتى يشغلوا الناس عن معرفة أكاذيبهم الإجرامية.
ولا يختلف الأمر فيما يخص لوبي الحكم الحالي، إلا من حيث أن الأول قاتل ومجرم قد يكثر الصمت وهذا قاتل ومجرم له صوت عالٍ وغطرسة بلا حدود؛ فمثلا تصريحه القائل (ان الرهائن عادوا وكأنهم آتون من المحرقة أجسادهم هزيلة مثل الناجين من الهلوكست؛ تم إطلاقهم وهم بحالة سيئة-وتم التعامل معهم بقساوة مروعة من خرجوا سابقا كان شكلهم أفضل؛ لكن من الناحية النفسية والعقلية هم عانوا، لا يمكن أن أتحمل ذلك في مرحلة معينة سنفقد صبرنا، لقد كانوا محاصرين لا يأكلون لأكثر من شهر)، ترامب لا يهمه حصار غزة ولا الإجرام الذي تعرض ويتعرض له الأسرى الفلسطينيون فذلك لا يعنيه، بل ما يهتم له ويعنيه، هو أمر القتلة والمجرمين الذين ينفذون سياسة الحلف الصهيوني الصليبي (صهاينة العرب والغرب).
العالم كله شاهد الإجرام الفظيع الذي تعرض له الأسرى الفلسطينيون في سجون كيان الاحتلال، منهم من فقد عقله ومنهم من قطعت أطرافه ومازالت آثار التعذيب على أجسادهم، اما من قتل تحت التعذيب فلم يخرج، وتقارير المنظمات الحقوقية واعترافات الصهاينة موثقة، لكن ترامب وفريقه الإجرامي لا يكترثون لذلك.
الناشط الأمريكي “دان بليزيريان” تحدث في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية واعترف؛ أن الإسرائيليين من المقبول لديهم الاغتصاب الجماعي للسجناء الفلسطينيين، وفي اعترافات مجندة إسرائيلية “أن وحدة من الجنود الصهاينة اقتادوا طفلا من الفلسطينيين وتناوبوا على اغتصابه وهي وزميلتها تشاهدان ذلك” دان قال: إن أمريكا تمول جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها جنود الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ترامب قد يبدو حريصا على عدم تمويل الجرائم من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، لذلك استعان بالمال السعودي والإماراتي وغيرهما من الممولين في العالمين العربي والإسلامي، –السعودية تكفلت بتريليون دولار والإمارات صحيح أنها لم تعلن عن مساهمتها، لكنها لن يقل سخاؤها عن منافستها، فقد تكفلت بدعم ضحايا اليهود وأسرهم وسيَّرت الجسور الجوية والبرية، ولولا الحصار اليمني لفاقت وتصدرت الدول الأخرى في إمداد الإجرام الصهيوني لإكمال جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية؛ بالإضافة إلى مصر وغيرها من الداعمين للإجرام الصهيوني الصليبي؛ لأنهم يريدون إبادة المقاومة ويعتبرونها كفرا.
لن نعيد تكرار الحديث عما نقلته وسائل الإعلام وعدسات المصورين في عمليات التبادل لكي نبين ونؤكد كذب ترامب وكل المجرمين المتضامنين مع الإجرام الصهيوني، وسأكتفي بإيراد اعترافات مجندة إسرائيلية تم استدعاؤها عقب طوفان الأقصى لأداء الخدمة تقول : تم استدعائي وأجري الفحص الطبي الشامل بما في ذلك فحص العذرية الذي لم يكن من بين بنود الفحص الطبي؛ لم اعترض لكن تقرب منها أحد الضباط وكسب ثقتها وشعرت بالأمان معه وفي يوم من الأيام دس لها مخدرا في شرابها ولعب بها، وبعد ذلك تم استدعاؤها إلى مكتب مسؤول رفيع واخبرها انه سيتم الإعلان عن اختفائها وانها لدى المقاومة وبعد أن يتم إطلاق سراحها في عملية التبادل، سيجري لها فحص العذرية وتحميل المقاومة المسؤولية عن ذلك؛ مع أنه تم وضعها في منشأة سرية في عاصمة الكيان المحتل؛ وأن كل شيء كان معدا ومخططا له مسبقا؛ وأكدت أن هناك الكثير من الفتيات تم التلاعب بهن من أجل اتهام المقاومة، وذلك جزء من الحرب الإعلامية التي لا تقل إجراما عن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وقالت: إن الناس في غزة طيبون، لكن علينا تنفيذ الأوامر.
إسرائيلية أخرى روت أن رجال المقاومة لم يمسوها بسوء مع أنها خافت حينما انكشفت أجزاء من جسمها أمامهم، فقد حافظوا عليها وعلى كرامتها .
التحالف الإجرامي اليهودي الصهيوني يشن حملاته الإجرامية، مستخدما كل الأكاذيب والإشاعات ليغطي جرائم الإبادة والجرائم التي يرتكبها، لأنه لا شرف له ولا كرامة وإلا لو كان يمتلك ذرة من ذلك لما عمل ويعمل على إبادة الأطفال والنساء والشيوخ بلا رحمة ولا شفقة، فقد قصف مستشفى السرطان في صعدة وقال إنه استهدف قيادات الحوثي.
أسيرة صهيونية محررة أطلق عليها رجال المقاومة “سلسبيل” كانت تعتقد حسب اعترافاتها أن المقاومة سيقيدونها لديهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك وكانت تخاف من عدم إجراء صفقات التبادل “صحيح أنهم كانوا يراقبوننا- لكنهم قالوا لنا سنحميكم حتى لو قتلنا معا- وفعلا كانوا يحموننا من القصف بأنفسهم ويقدمون لنا الطعام والماء ولم يلمسوننا حتى ونحن نمارس الرياضة معهم وضعوا مناشف على أيديهم –لانهم يعتبرون المرأة لديهم كالملكة؛ يتمتعون بعزيمة وإرادة لا تقهر ومهما فعلنا فلن يحنوا رؤوسهم لنا بل يتجهزون لتحرير وطنهم”.
المقاومة الفلسطينية أعلنت أنها تريد تحرير الأسرى لدى سلطات الاحتلال مقابل الأسرى الأحياء والأموات، لكن الإجرام لا يفهم غير لغة الإجرام، فعاود ارتكاب جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية في غزة واليمن؛ رفض قادة الاحتلال تنفيذ بنود وشروط عمليات التبادل، لأنها كشفت بعضا من جرائمهم واتجهوا لاستكمال مشاريعهم الإجرامية بدعم وتأييد من صهاينة العرب والغرب.
الجامعة العربية أصدرت قراراتها والإجرام كان رده عمليا وعلى أرض الواقع، لأن من جملة القرارات تكفلها بإعادة إعمار غزة، بمعنى أن عليهم ان يستكملوا جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وهي سترسل الأكفان أما الإغاثة وإيقاف الإجرام فليس بمقدورها فعل أي شيء وعلى الأشقاء الفلسطينيين أن يواجهوا قدرهم، إما الموت جوعا أو أن يتكفل شذاذ الآفاق بإبادتهم، وحسب تصريح “نتن ياهو” يعودون إلى غزة، لأنه ليس لهم بديل وسيقبلون اذا أعطيناهم منازل في منطقة آمنة، لن تكون هناك حماس تقتلهم وتهددهم وتعذبهم، إما ما ارتكبه الإجرام الصهيوني فهو الرحمة والرأفة بعينها، ولا يختلف الأمر لدى المجرمين من الساسة الداعمين للحلف الصهيوني الصليبي، لأنهم بلا أخلاق ولا قيم ولا مبادئ، أما صهاينة العرب فقد أضافوا وجمعوا إلى ما سبق السفالة والانحطاط والعمالة والنفاق.