الترجمة عن الروسية: أحمد م الرحبي -
ذهب الشرطي يجيفيكين إلى والد زوسيا للتباحث معه في مسألة الزواج. كان الأبُ من سُكان تولا، وقد قدِم خصيصا من هناك ليرى بأم عينه الأيدي الغريبة التي سيأتمنها على ابنته الصغرى. إن كلّ المواصفات الموجزة التي وردت من زوسيا عن أبيها ضبابية جدا ومنافية للمنطق. ما اتضح منها فقط هو أن الوالد بلحية طويلة سوداء، وحزازة خلف الأذن، وشغف لا يتزعزع بفطائر الملفوف، كما أن مزاجه يسوء كثيرا حين لا ينال كفايته من النوم بعد الغداء.
- ما عليك إلّا أن تحظى بإعجابه من فورك -بحماس قالت زوسيا بالأمس مشجعة يجيفيكين- ماذا سيكلفك هذا؟
تنهد يجيفيكين محزونا:
- لا أعرف كيف أعجبُ من فوري... هذا أمرٌ لا يستقيم عندي.
فأصرت عليه زوسيا:
- ها إنك تكذب! فكيف أعجبْتني من فورك إذن؟ هذا يعني أنك لا ترغب فعل ذلك.
وبالطريقة نفسها تنهد يجيفيكين معلنا موافقته:
- حسنا، سآتي غدا وأعجبه. ولكن عن ماذا بوسعي أن أتحدث معه؟ مع أبيكِ.
- الأمر بسيط جدا. قل له: أنا، بصراحة، أحبُ ابنتكم الصغرى، زوسيا. وسيقول لك: «هكذا إذن!» وهي، بصراحة، تحبّني. ويقول لك: «هكذا إذن!» هذا كلّ شيء، ولا أظنه صعب!
-بسيط- بمرارة في الفؤاد وافق يجيفيكين، ولسبب ما أضاف: قبل أمس اصطدمت شاحنة تزن طنا ونصف بعربة، كان ذلك معاناة أيضا وقد انتشر الأذى في كلّ مكان..
الآن، حين اقترب يجيفيكين من بيت زوسيا، بدا له أن الاختبار الحقيقي لصلابته وقدرته على التحمّل قد بدأ للتوّ. لم يحدث أن ارتعشت يده قطّ، فكان يرفع الصفّارة إلى فمه بجسارة حين تضايق سياراتُ الأجرة الشاحنات عند تقاطع شارعين، وحين تعلق العربات بين قطاري ترام، وعند اندفاع قطار الإطفاء نحو السيارات والعجلات المتكدسة، ناهيك عن المُشاة، الرصناء منهم والرعناء، وهم يتسربون، كحبر مسكوب، إلى كلّ الفراغات المُتاحة. أبدا، لم يهزمه مخالف واحد في نقاش على ناصية الطريق، عن سبب منعه من التعلّق في الترام، وإلزامه، حين يُنزل منه، بدفع الغرامة. أمّا دفتر حسن السير والسلوك، فقد استقر مطمئنا في جيب يجيفيكين الجانبي منذ أمد طويل.
لكنه يشعر الآن بقدميه ثقيلتين كالرصاص، وبرعب غريزيّ في روحه.
راح يفكّر بمُحاورِهِ المُقبل: «فليُطعِموهُ بالفطائر حتى يبشم، فليُترك غاطًا في النوم بعد الغداء.. مثل هؤلاء الآباء يجب سحقهم...» وكانت زوسيا هي من فتح الباب.
همست بقلقٍ وهي تُدني خدها لتنال قبلة وتحرر يجيفيكين من علبة حلوى الفاكهة.
- إنه ينتظر، اذهب إليه!
دفعت يجيفيكين إلى الغرفة. في الزاوية المعتمة جلس رجل ضئيل الحجم أصلع بلحية سوداء طويلة، كان يرتدي سترة قطنية ويطلق شهاقا.
تمتمت زوسيا مبتهجة:
- أبي، أعرّفك على فاسيتشكا، فاسيتشكا، هذا أبي.
مدّ الأبُ يده وشهق، ناظرا إلى يجيفيكين من الأسفل، ثم سأل بشيء من القنوط:
- شرطي إذن؟
- شرطي - أجاب يجيفيكين بخجل.
- اجلس. زوسيا، اشعلي الضوء ودعيني ألقي نظرة على خطيبك.
أدارت زوسيا مفتاح الضوء. حين أضيئت الغرفة، أقبل الأبُ بوجه ناعس إلى يجيفيكين، بينما شَعَّ الكدرُ من عينيه الصغيرتين، وعلى حين غرّة سأل بصوت حاد وعال:
- أنت؟
- أنا، يا والدي -همس يجيفيكين مضطربا- لا حيلة لي فهو عملي.
- إليّ بالروبلات الثلاثة! -قال الأب مُهددا بهدوء- هاتها هنا، في هذا المكان!
فتدخلت زوسيا قلقة:
- أي ثلاثة روبلات يا أبي، وما علاقاتها بالمسائل الأسرية؟
قال الأبُ مُحتدا:
- إنه يعرف.
فردّ يجيفيكين بحزم وقام عن الكرسيّ:
- أعرفُ أنني أعرفُ يا والدي. كما أنني لا آخذ الروبلات الثلاثة لنفسي. فعندما يُصفَّرُ لك، عليك أن تنزل، لا أن تختبئ داخل الترام. إنني أحبُّ ابنتكم الصغرى، فلا داعي لاستخدامها والمطالبة باستعادة الروبلات الثلاثة.
سألت زوسيا باستحياء:
- هل أخذت منه؟
فتنهد يجيفيكين:
- أخذت! كان يركض عبر الشارع واندفع للتشبث بالترام، وعندما أطلقتُ الصفّارة، غاص في الداخل واختبأ بوقاحة وسط الركّاب.
همس الأبُ مستهزئا:
- شكرا على الكلمات الطيّبة! يأتي الأبُ لزيارة ابنته الصغرى، ويندفع من المحطّة إلى الترام مثل كلب مبللّ، فيطلق العريس صفّارته ويحصل على ثلاثة روبلات من قريبه المستقبلي. شكرا على الكلمات الطيبة!
فانتحبت زوسيا:
- متى حدث هذا؟
-بالأمس- ردّ الأب ساخطا – لقد صبّحني بغرامة مقدارها ثلاثة روبلات. فشكرا لك يا ابنتي الصغيرة، شكرا على تعريفي بفاسيتشكا.
قال يجيفيكين مُستاءً وهو ينهض عن كرسيّه مُجددا:
- لا علاقة لزوسيا بالأمر يا والدي. ولعلني سأدوس على حبي وأقوم بتغريم زوسيا نفسها إن رأيتها تتعلق بالترام أو تجري على قضبانه.
فقطعت زوسيا نحيبها:
- لا تتفلسف وتثرثر كثيرا!
وانبرى الأبُ مُحرضا:
- أمثاله يفعلون أيّ شيء. لقد منحوهم الحريّة لذلك! بل إنه سيجّر أمك نفسها من قدمها.
- وماذا لو فقد أحدهم قدمه؟ -تنهّد يجيفيكين- لقد وُضِعتُ لأجل حفظ النظام. إليكم مثالا على مواطن يسير، وها هو يطأ بقدمه على سكة الحديد...
فقاطعه الأبُ بغلظة:
- لا تخطب لنا عن الأقدام أيها الفتى! أقدامنا ونفعل بها ما نشاء. ولكن، بما أن الحديث قد وصل إلى الأقدام، فلا ينبغي لكل قدم أن تطأ عتبتي. لا أريد أن تكون بين أسرتي قدم لأيّ كان! وداعا على أي حال، بإمكانك الزواج من ابن عرس، أما زوسيا فلن تراها، كما لا ترى أذنيك.
خرج يجيفيكين من الغرفة بخطوات ثقيلة، وبمفرده قام بارتداء ملابسه في الردهة. كان بإمكانه سماع طنين الأب الغاضب وبكاء زوسيا. نزل السلّم ببطء، وعندما وصل إلى آخر درجة، سمع بابا يُفتح في مكان ما في الأعلى، وعند قدميه، على درجات السلّم القذرة، سقط شيء ثقيل. كان ذلك علبة حلوى الفاكهة، فشعر يجيفيكين ببرودة حادة تخترق قلبه..
مرّت الكثير من القُبعات الحُمر، وطيلة الأيام الخمسة الماضية، كان يجيفيكين يبحث تحت كلّ قبعة منها عن وجه زوسيا وخصلة الشعر الأشقر المنسدلة على جبينها. لكّن زوسيا لم تكن بين آلاف القبعات الحمر التي مرّت أمام يجيفيكين خلال مناوبته عند تقاطع شارعين طويلين صاخبين. راح يُنظّم حركة المرور بكآبة وكدر. وبإصرار أكبر، أخذ يراقب كلّ من يحاول الالتفاف على إشارة المرور. كما ازداد إصراره على انتزاع الأشخاص من ذوي القبعات الرمادية والحقائب المنتفخة من درجات الترام وتسليمهم إيصالات الغرامة. ولكن صدْعًا قد انشقّ في حياته، وأصبح مجرد ظهور قبعة حمراء في الحشد، سببا في اضطرام ذلك الصدع، تماما مثل الجرح حين يُقطّرُ عليه بالكولونيا.
وكان يجيفيكين عائدا إلى منزله في باكورة مساء خريفي لكي يجترّ أشواقه لزوسيا، حين وجد على طاولته بطاقة بريدية حوت سطورا لا تنسى: «فاسيتشكا! تعال اليوم في التاسعة. قبلاتي. زوسيا».
مسح يجيفيكين على البطاقة البريدية بحنان، ولكنه تمالك نفسه على الفور وهمس بحزم:
- لن أذهب.
كرر هذا الوعيد المهيب مرّة أخرى وفي الحال باشر في ارتداء ملابسه.
بعد نصف ساعة كانت زوسيا تفتح الباب على أربع دقات مِلحاحة.
- هل دعوتني، زوسيتشكا؟ - فرحًا سأل يجيفيكين بهمس.
فتمتمت زوسيا مرتبكة:
- دعوتك، فاسيتشكا. تعال!
ولكن يجيفيكين سألها بقلق:
- هل الوالد هنا؟ لن أذهب إليه، زوسيا.
- لقد طلبك بنفسه... هيّا، فاسيتشكا، هيّا يا عزيزي..
كانت الغرفة تفوح برائحة اليود والمطهرات وروائح طبية أخرى. وعلى أريكة واطئة موشاة بأزهار زرقاء، رقد الأبُ برأس مُضمّد. من تحت الشاش الأبيض بزغت جزّة من لحية سوداء، وعين يسرى ضيقة، وقطعة أنف.
سأل يجيفيكين باحتراس:
- أين جاءك كل هذا يا والدي؟
- في المكان الذي أستحقه – تأوه الأبُ وأردف: زوسيا، اذهبي وجهزي الشاي. لدينا ضيف كما ترين.
حلّت بعد خروج زوسيا لحظة صمت طويلة ومحرجة.
غمغم يجيفيكين:
- أتمنى أن لا تعتب يا والدي على ما حدث في المرّة الماضية.. ربما لا ينبغي أن نُغرّم شخصا مستعجلا..
فرفع الأبُ رأسه المُضمّد:
- ماذا يعني أن يكون الشخص مستعجلا؟ وكيف لا يُغرّم مثل هؤلاء إن كانوا يقفزون في العربات على طول الطريق مثل قطط رثة؟
وبحرص عقّب يجيفيكين:
- أقصد الأشخاص المستعجلين جدا.
فأبدى الأبُ رأيه بامتعاض:
- وعلام العجلة؟ تتعجل حتى تؤذي قدمك أو رأسك؟ لذا فأنا أتفهم عملك أيها الشاب.
- لا تغضب يا والدي، فأنا أتحدث عمّا إذا كان شخص ما، ربما من خارج المدينة، لا يعرف القواعد بعد...
ردّ الأبُ بثقة:
- إذن، ما عليك إلّا أن تجازي هذه القطّة النجسة بثلاثة روبلات. دعها تتعلّم عبر تغريمها ثلاثة روبلات. فالعجلات لا تفرّق بين من تدهس، إن كان من المدينة أو من خارجها.
- ولكن هناك من يعبر الشارع وهو هائم في أفكاره..
فقال الأبُ بخشونة:
- لا يجب أن تفكّر وأنت تمشي على القضبان. وعلى كلّ حال ليس هناك ما يدعو لأن تقف في صفّهم. فلو ترك هؤلاء لهواهم، سيصبح السير في الشوارع مستحيلا.
- مستحيل- وافقه يجيفيكين.
- وهذا ما أتكلم عنه، قال الأبُ وهو يتوجع: أوه، اللعنة،هذا مؤلم! منذ متى وانت في الخدمة؟
- منذ أربع سنوات.
- بمعنى أنك استوفيت الكثير من الغرامات؟
فأيّد يجيفيكين كلامه خائفا:
- الكثير يا والدي.
- ولكنه قليل! -فجأة ضرب الأبُ بقبضته على الأريكة- لو كنت مكانك لاستوفيت من ذوي القوائم الأربع هؤلاء بطريقة مختلفة! والآن اذهب، اذهب أيها الشاب فزوسيا تنتظرك هناك. أوه، رأسي يتحطم!..
بهدوء خرج يجيفيكين إلى الممر.
- أبشر! استقبلته زوسيا بوجه متهلل.
- لم أفهم شيئا. -قال يجيفيكين بهدوء- لعل الضربة أثرت على رأسه!
- أثرت، أثرت، فاسيتشكا!، همست زوسيا مبتهجة، إننا محظوظان، فاسيتشكا! كان أبي يركض عبر الشارع... انطلقت خلفه صفّارة الشرطي، فيما اندفع أبي للأمام.. وهنا وقعت المصادفة السعيدة، شاحنة ضربت بطرفها رأس أبي. ما إن وصل إلى البيت وقمت بتضميده ثم استلقى حتى بدأ بالصراخ.. «نادي عليه» يقول لي. «من يا أبي؟». «شرطيّكِ الذي كان هنا، فاسيتشكا... فلماذا قمتُ بالسخرية منه؟ ألأنه كان حريصا على أقدامنا ورؤوسنا؟ فلو أنّ واحدا كشرطيّك كان حاضرا لما ترك الشاحنة لتصطدم بي. مع ذلك فقد حفظت رقم الشاحنة: ستمائة وثلاثة وعشرون».
- سأسجل هذا، قال يجيفيكين بنبرة جادّة وأخرج الدفتر، سيأتي الردّ لاحقا.
همست زوسيا بعذوبة:
- سجّل، سجّل رقمنا السعيد! ستمائة وثلاثة وعشرون. سأظل أحفظه لقرن كامل.
ارتدى يجيفيكين معطفه وقال محرجا:
- في المرّة السابقة أُسقطت عليّ هنا علبة من حلوى الفاكهة.
- هذا غير ممكن! استدارت زوسيا وقد احمّرت خجلا.
- إذن فقد تهيأ لي. لذلك أحضرت علبة جديدة. كُلي بالصحة والعافية. وقدمي منها للوالد فالحلوى مفيدة للمريض.
وقد عزز الهمسُ البهيجُ في الردهة، السعادةَ التي تصدعت من قبل.
1935
• فاسيتشكا، اسم التحبب لفاسيلي، وهو اسم البطل، أمّا يجيفيكين فلقبه العائلي (المترجم)
أركادي بوخوف كاتب روسي ساخر (1889-1937).
أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قال الأب
إقرأ أيضاً:
الأب أندراوس الأنطوني يهنئ مطران الكنيسة السريانية الأرثوذكسية بجبل لبنان بعيد الميلاد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
زار الأب أندراوس الأنطوني رئيس طائفة الأقباط الأرثوذكس بلبنان وسوريا المطران مار كريسوستوموس ميخائيل شمعون مطران الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لإبراشية جبل لبنان وطرابلس لتهنئته بعيد الميلاد المجيد
رافق الأب اندراوس الأنطوني النائب القضائي للكنيسة القبطية عبدلله مسلم والمحامي أتيان مسلم
جاء ذلك مساء اليوم بعد انتهاء قداس احتفالهم بميلاد المسيح.