الترجمة عن الروسية: أحمد م الرحبي -
ذهب الشرطي يجيفيكين إلى والد زوسيا للتباحث معه في مسألة الزواج. كان الأبُ من سُكان تولا، وقد قدِم خصيصا من هناك ليرى بأم عينه الأيدي الغريبة التي سيأتمنها على ابنته الصغرى. إن كلّ المواصفات الموجزة التي وردت من زوسيا عن أبيها ضبابية جدا ومنافية للمنطق. ما اتضح منها فقط هو أن الوالد بلحية طويلة سوداء، وحزازة خلف الأذن، وشغف لا يتزعزع بفطائر الملفوف، كما أن مزاجه يسوء كثيرا حين لا ينال كفايته من النوم بعد الغداء.
- ما عليك إلّا أن تحظى بإعجابه من فورك -بحماس قالت زوسيا بالأمس مشجعة يجيفيكين- ماذا سيكلفك هذا؟
تنهد يجيفيكين محزونا:
- لا أعرف كيف أعجبُ من فوري... هذا أمرٌ لا يستقيم عندي.
فأصرت عليه زوسيا:
- ها إنك تكذب! فكيف أعجبْتني من فورك إذن؟ هذا يعني أنك لا ترغب فعل ذلك.
وبالطريقة نفسها تنهد يجيفيكين معلنا موافقته:
- حسنا، سآتي غدا وأعجبه. ولكن عن ماذا بوسعي أن أتحدث معه؟ مع أبيكِ.
- الأمر بسيط جدا. قل له: أنا، بصراحة، أحبُ ابنتكم الصغرى، زوسيا. وسيقول لك: «هكذا إذن!» وهي، بصراحة، تحبّني. ويقول لك: «هكذا إذن!» هذا كلّ شيء، ولا أظنه صعب!
-بسيط- بمرارة في الفؤاد وافق يجيفيكين، ولسبب ما أضاف: قبل أمس اصطدمت شاحنة تزن طنا ونصف بعربة، كان ذلك معاناة أيضا وقد انتشر الأذى في كلّ مكان..
الآن، حين اقترب يجيفيكين من بيت زوسيا، بدا له أن الاختبار الحقيقي لصلابته وقدرته على التحمّل قد بدأ للتوّ. لم يحدث أن ارتعشت يده قطّ، فكان يرفع الصفّارة إلى فمه بجسارة حين تضايق سياراتُ الأجرة الشاحنات عند تقاطع شارعين، وحين تعلق العربات بين قطاري ترام، وعند اندفاع قطار الإطفاء نحو السيارات والعجلات المتكدسة، ناهيك عن المُشاة، الرصناء منهم والرعناء، وهم يتسربون، كحبر مسكوب، إلى كلّ الفراغات المُتاحة. أبدا، لم يهزمه مخالف واحد في نقاش على ناصية الطريق، عن سبب منعه من التعلّق في الترام، وإلزامه، حين يُنزل منه، بدفع الغرامة. أمّا دفتر حسن السير والسلوك، فقد استقر مطمئنا في جيب يجيفيكين الجانبي منذ أمد طويل.
لكنه يشعر الآن بقدميه ثقيلتين كالرصاص، وبرعب غريزيّ في روحه.
راح يفكّر بمُحاورِهِ المُقبل: «فليُطعِموهُ بالفطائر حتى يبشم، فليُترك غاطًا في النوم بعد الغداء.. مثل هؤلاء الآباء يجب سحقهم...» وكانت زوسيا هي من فتح الباب.
همست بقلقٍ وهي تُدني خدها لتنال قبلة وتحرر يجيفيكين من علبة حلوى الفاكهة.
- إنه ينتظر، اذهب إليه!
دفعت يجيفيكين إلى الغرفة. في الزاوية المعتمة جلس رجل ضئيل الحجم أصلع بلحية سوداء طويلة، كان يرتدي سترة قطنية ويطلق شهاقا.
تمتمت زوسيا مبتهجة:
- أبي، أعرّفك على فاسيتشكا، فاسيتشكا، هذا أبي.
مدّ الأبُ يده وشهق، ناظرا إلى يجيفيكين من الأسفل، ثم سأل بشيء من القنوط:
- شرطي إذن؟
- شرطي - أجاب يجيفيكين بخجل.
- اجلس. زوسيا، اشعلي الضوء ودعيني ألقي نظرة على خطيبك.
أدارت زوسيا مفتاح الضوء. حين أضيئت الغرفة، أقبل الأبُ بوجه ناعس إلى يجيفيكين، بينما شَعَّ الكدرُ من عينيه الصغيرتين، وعلى حين غرّة سأل بصوت حاد وعال:
- أنت؟
- أنا، يا والدي -همس يجيفيكين مضطربا- لا حيلة لي فهو عملي.
- إليّ بالروبلات الثلاثة! -قال الأب مُهددا بهدوء- هاتها هنا، في هذا المكان!
فتدخلت زوسيا قلقة:
- أي ثلاثة روبلات يا أبي، وما علاقاتها بالمسائل الأسرية؟
قال الأبُ مُحتدا:
- إنه يعرف.
فردّ يجيفيكين بحزم وقام عن الكرسيّ:
- أعرفُ أنني أعرفُ يا والدي. كما أنني لا آخذ الروبلات الثلاثة لنفسي. فعندما يُصفَّرُ لك، عليك أن تنزل، لا أن تختبئ داخل الترام. إنني أحبُّ ابنتكم الصغرى، فلا داعي لاستخدامها والمطالبة باستعادة الروبلات الثلاثة.
سألت زوسيا باستحياء:
- هل أخذت منه؟
فتنهد يجيفيكين:
- أخذت! كان يركض عبر الشارع واندفع للتشبث بالترام، وعندما أطلقتُ الصفّارة، غاص في الداخل واختبأ بوقاحة وسط الركّاب.
همس الأبُ مستهزئا:
- شكرا على الكلمات الطيّبة! يأتي الأبُ لزيارة ابنته الصغرى، ويندفع من المحطّة إلى الترام مثل كلب مبللّ، فيطلق العريس صفّارته ويحصل على ثلاثة روبلات من قريبه المستقبلي. شكرا على الكلمات الطيبة!
فانتحبت زوسيا:
- متى حدث هذا؟
-بالأمس- ردّ الأب ساخطا – لقد صبّحني بغرامة مقدارها ثلاثة روبلات. فشكرا لك يا ابنتي الصغيرة، شكرا على تعريفي بفاسيتشكا.
قال يجيفيكين مُستاءً وهو ينهض عن كرسيّه مُجددا:
- لا علاقة لزوسيا بالأمر يا والدي. ولعلني سأدوس على حبي وأقوم بتغريم زوسيا نفسها إن رأيتها تتعلق بالترام أو تجري على قضبانه.
فقطعت زوسيا نحيبها:
- لا تتفلسف وتثرثر كثيرا!
وانبرى الأبُ مُحرضا:
- أمثاله يفعلون أيّ شيء. لقد منحوهم الحريّة لذلك! بل إنه سيجّر أمك نفسها من قدمها.
- وماذا لو فقد أحدهم قدمه؟ -تنهّد يجيفيكين- لقد وُضِعتُ لأجل حفظ النظام. إليكم مثالا على مواطن يسير، وها هو يطأ بقدمه على سكة الحديد...
فقاطعه الأبُ بغلظة:
- لا تخطب لنا عن الأقدام أيها الفتى! أقدامنا ونفعل بها ما نشاء. ولكن، بما أن الحديث قد وصل إلى الأقدام، فلا ينبغي لكل قدم أن تطأ عتبتي. لا أريد أن تكون بين أسرتي قدم لأيّ كان! وداعا على أي حال، بإمكانك الزواج من ابن عرس، أما زوسيا فلن تراها، كما لا ترى أذنيك.
خرج يجيفيكين من الغرفة بخطوات ثقيلة، وبمفرده قام بارتداء ملابسه في الردهة. كان بإمكانه سماع طنين الأب الغاضب وبكاء زوسيا. نزل السلّم ببطء، وعندما وصل إلى آخر درجة، سمع بابا يُفتح في مكان ما في الأعلى، وعند قدميه، على درجات السلّم القذرة، سقط شيء ثقيل. كان ذلك علبة حلوى الفاكهة، فشعر يجيفيكين ببرودة حادة تخترق قلبه..
مرّت الكثير من القُبعات الحُمر، وطيلة الأيام الخمسة الماضية، كان يجيفيكين يبحث تحت كلّ قبعة منها عن وجه زوسيا وخصلة الشعر الأشقر المنسدلة على جبينها. لكّن زوسيا لم تكن بين آلاف القبعات الحمر التي مرّت أمام يجيفيكين خلال مناوبته عند تقاطع شارعين طويلين صاخبين. راح يُنظّم حركة المرور بكآبة وكدر. وبإصرار أكبر، أخذ يراقب كلّ من يحاول الالتفاف على إشارة المرور. كما ازداد إصراره على انتزاع الأشخاص من ذوي القبعات الرمادية والحقائب المنتفخة من درجات الترام وتسليمهم إيصالات الغرامة. ولكن صدْعًا قد انشقّ في حياته، وأصبح مجرد ظهور قبعة حمراء في الحشد، سببا في اضطرام ذلك الصدع، تماما مثل الجرح حين يُقطّرُ عليه بالكولونيا.
وكان يجيفيكين عائدا إلى منزله في باكورة مساء خريفي لكي يجترّ أشواقه لزوسيا، حين وجد على طاولته بطاقة بريدية حوت سطورا لا تنسى: «فاسيتشكا! تعال اليوم في التاسعة. قبلاتي. زوسيا».
مسح يجيفيكين على البطاقة البريدية بحنان، ولكنه تمالك نفسه على الفور وهمس بحزم:
- لن أذهب.
كرر هذا الوعيد المهيب مرّة أخرى وفي الحال باشر في ارتداء ملابسه.
بعد نصف ساعة كانت زوسيا تفتح الباب على أربع دقات مِلحاحة.
- هل دعوتني، زوسيتشكا؟ - فرحًا سأل يجيفيكين بهمس.
فتمتمت زوسيا مرتبكة:
- دعوتك، فاسيتشكا. تعال!
ولكن يجيفيكين سألها بقلق:
- هل الوالد هنا؟ لن أذهب إليه، زوسيا.
- لقد طلبك بنفسه... هيّا، فاسيتشكا، هيّا يا عزيزي..
كانت الغرفة تفوح برائحة اليود والمطهرات وروائح طبية أخرى. وعلى أريكة واطئة موشاة بأزهار زرقاء، رقد الأبُ برأس مُضمّد. من تحت الشاش الأبيض بزغت جزّة من لحية سوداء، وعين يسرى ضيقة، وقطعة أنف.
سأل يجيفيكين باحتراس:
- أين جاءك كل هذا يا والدي؟
- في المكان الذي أستحقه – تأوه الأبُ وأردف: زوسيا، اذهبي وجهزي الشاي. لدينا ضيف كما ترين.
حلّت بعد خروج زوسيا لحظة صمت طويلة ومحرجة.
غمغم يجيفيكين:
- أتمنى أن لا تعتب يا والدي على ما حدث في المرّة الماضية.. ربما لا ينبغي أن نُغرّم شخصا مستعجلا..
فرفع الأبُ رأسه المُضمّد:
- ماذا يعني أن يكون الشخص مستعجلا؟ وكيف لا يُغرّم مثل هؤلاء إن كانوا يقفزون في العربات على طول الطريق مثل قطط رثة؟
وبحرص عقّب يجيفيكين:
- أقصد الأشخاص المستعجلين جدا.
فأبدى الأبُ رأيه بامتعاض:
- وعلام العجلة؟ تتعجل حتى تؤذي قدمك أو رأسك؟ لذا فأنا أتفهم عملك أيها الشاب.
- لا تغضب يا والدي، فأنا أتحدث عمّا إذا كان شخص ما، ربما من خارج المدينة، لا يعرف القواعد بعد...
ردّ الأبُ بثقة:
- إذن، ما عليك إلّا أن تجازي هذه القطّة النجسة بثلاثة روبلات. دعها تتعلّم عبر تغريمها ثلاثة روبلات. فالعجلات لا تفرّق بين من تدهس، إن كان من المدينة أو من خارجها.
- ولكن هناك من يعبر الشارع وهو هائم في أفكاره..
فقال الأبُ بخشونة:
- لا يجب أن تفكّر وأنت تمشي على القضبان. وعلى كلّ حال ليس هناك ما يدعو لأن تقف في صفّهم. فلو ترك هؤلاء لهواهم، سيصبح السير في الشوارع مستحيلا.
- مستحيل- وافقه يجيفيكين.
- وهذا ما أتكلم عنه، قال الأبُ وهو يتوجع: أوه، اللعنة،هذا مؤلم! منذ متى وانت في الخدمة؟
- منذ أربع سنوات.
- بمعنى أنك استوفيت الكثير من الغرامات؟
فأيّد يجيفيكين كلامه خائفا:
- الكثير يا والدي.
- ولكنه قليل! -فجأة ضرب الأبُ بقبضته على الأريكة- لو كنت مكانك لاستوفيت من ذوي القوائم الأربع هؤلاء بطريقة مختلفة! والآن اذهب، اذهب أيها الشاب فزوسيا تنتظرك هناك. أوه، رأسي يتحطم!..
بهدوء خرج يجيفيكين إلى الممر.
- أبشر! استقبلته زوسيا بوجه متهلل.
- لم أفهم شيئا. -قال يجيفيكين بهدوء- لعل الضربة أثرت على رأسه!
- أثرت، أثرت، فاسيتشكا!، همست زوسيا مبتهجة، إننا محظوظان، فاسيتشكا! كان أبي يركض عبر الشارع... انطلقت خلفه صفّارة الشرطي، فيما اندفع أبي للأمام.. وهنا وقعت المصادفة السعيدة، شاحنة ضربت بطرفها رأس أبي. ما إن وصل إلى البيت وقمت بتضميده ثم استلقى حتى بدأ بالصراخ.. «نادي عليه» يقول لي. «من يا أبي؟». «شرطيّكِ الذي كان هنا، فاسيتشكا... فلماذا قمتُ بالسخرية منه؟ ألأنه كان حريصا على أقدامنا ورؤوسنا؟ فلو أنّ واحدا كشرطيّك كان حاضرا لما ترك الشاحنة لتصطدم بي. مع ذلك فقد حفظت رقم الشاحنة: ستمائة وثلاثة وعشرون».
- سأسجل هذا، قال يجيفيكين بنبرة جادّة وأخرج الدفتر، سيأتي الردّ لاحقا.
همست زوسيا بعذوبة:
- سجّل، سجّل رقمنا السعيد! ستمائة وثلاثة وعشرون. سأظل أحفظه لقرن كامل.
ارتدى يجيفيكين معطفه وقال محرجا:
- في المرّة السابقة أُسقطت عليّ هنا علبة من حلوى الفاكهة.
- هذا غير ممكن! استدارت زوسيا وقد احمّرت خجلا.
- إذن فقد تهيأ لي. لذلك أحضرت علبة جديدة. كُلي بالصحة والعافية. وقدمي منها للوالد فالحلوى مفيدة للمريض.
وقد عزز الهمسُ البهيجُ في الردهة، السعادةَ التي تصدعت من قبل.
1935
• فاسيتشكا، اسم التحبب لفاسيلي، وهو اسم البطل، أمّا يجيفيكين فلقبه العائلي (المترجم)
أركادي بوخوف كاتب روسي ساخر (1889-1937).
أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قال الأب
إقرأ أيضاً:
مَتّى المسكين.. راهب مصري عارض البابا شنودة واعتزل في مغارة بالصحراء
راهب قبطي مصري، ولد عام 1919 في أسرة متدينة، وعندما بلغ الـ29 من عمره باع أملاكه واختار "السير في طريق الله"، فاعتزل في دير ناء وفقير في الصحراء. أنشأ تيارا إصلاحيا في الكنيسة القبطية، ويوصف بأنه أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ الكنيسة المصرية.
كان يدعو إلى فصل الكنيسة عن الدولة، ويرى أن مهمتها الأولى والوحيدة هي التركيز على التربية الروحية، لذلك انتقد الخدمات الاجتماعية التي تقدمها للناس واعتبر ذلك منافسة للدولة وابتعادا عن رسالة المسيح الأساسية وهي دعوة العصاة.
انتقد الطائفية والتعصب الديني واعتبرهما مرضا فرديا وجماعيا، ووباء في الكنيسة يفسد جوهرها.
رُشح مرتين للبابوية لكن تم استبعاده بسبب عدم انطباق الشروط عليه، إذ لم يتم احتساب سنوات اعتزاله ووحدته ضمن سنوات الرهبنة.
حوّل دير الأنبا مقار بوادي النطرون -الذي كلف بالإشراف عليه عام 1969- من دير متهالك منسي إلى دير منتج للعديد من المنتجات الزراعية والصناعية، إذ كان يعتقد أن على سكان الأديرة تأمين متطلباتها الحياتية بأنفسهم وعدم الارتباط بعطايا الناس وهباتهم.
الميلاد والنشأةولد يوسف إسكندر يوسف في 20 سبتمبر/أيلول 1919 بمدينة بنها (تبعد 45 كيلومترا شمال القاهرة)، في أسرة كبيرة العدد ومحبة للعلم تتكون من 7 إخوة.
كان والده إسكندر يوسف موظفا في السكة الحديدية، وكانت له شخصية مهيبة في العائلة وفي العمل.
أما والدته فكانت متدينة جدا، إذ كانت تدخل غرفة خاصة وتظل تصلي ساعات طويلة، وعلّمت ابنها منذ الصغر أن يصلِّي ويحافظ على عباداته.
وقد أصيبت بشلل نصفي وظلت طريحة الفراش 7 سنوات، ورغم مرضها لم تتوقف عن الصلاة حتى في جوف الليل وهي جالسة على السرير، وتوفيت عام 1934.
قبل وفاة أمه انتقل يوسف إسكندر يوسف للعيش في الإسكندرية مع شقيقه الأكبر نجيب، وقضيا هناك 3 سنوات.
كان يوسف لا يملك مصروفا ولا ألعابا، وعاش منعزلا، وعندما دخل المدرسة كان يقضي فترة الفسحة وحده، بينما كان باقي الأطفال يذهبون إلى المقصف لشراء الحلويات والطعام.
الأب متّى المسكين قاد تيارا إصلاحيا للكنيسة القبطية في مصر (الصحافة المصرية) المسار التعليميدرس المرحلة الابتدائية في مدرسة المنصورة الأميرية ثم أكمل التعليم الابتدائي والكفاءة بالإسكندرية.
في عام 1935 التحق بمدرسة شبين الكوم الثانوية، وكان يسافر كل يوم من منوف إلى شبين الكوم في القطار، إذ كان يتوفر على اشتراك سنوي مجاني لأن والده كان موظفا في السكة الحديدية.
اشترك في الفرقة الموسيقية للمدرسة، واشترى آلة الكمان، وظل يتابع تعلم الموسيقى طيلة فترة الدراسة الثانوية، كما اشترك في فرقة الرسم وبرع فيه.
التحق بكلية الصيدلة في جامعة فؤاد الأول في القاهرة عام 1938 وتخرج منها عام 1944، وكان والده يرسل له 5 جنيهات شهريا لأجل مصاريف السكن والطعام وشراء الكتب.
صيدلي ناجحبعد تخرجه من الجامعة عين بالتكليف العسكري في مستشفى الملك بجوار القصر العيني، ثم بعدها انخرط في العمل الحر، فأدار صيدلية في الإسكندرية، ثم أنشأ أخرى خاصة به في دمنهور، وحقق نجاحا في عمله.
طريق الرهبانيةكان في شبابه حائرا بين الحياة الدنيوية بما فيها من ضغوط وانشغالات، وبين "الانطلاق في رحاب الله ومعرفته والقرب منه"، فحسم أمره بأن باع كل أملاكه وقرر المضي في طريق الرهبانية.
ذهب إلى دير الأنبا صمويل بصحراء القلمون، وقد اختاره لأنه أفقر وأبعد دير عن العمران، وكان أول شاب متعلم جامعي يَلِج طريق الرهبانية في جيله، وذلك عام 1948.
كان يمضي الليل كله في الصلاة، وقضى 3 سنوات على هذه الحال إلى أن أصابه مرض في عينيه، فتوجه إلى دير السريان للعلاج، فوظفه أسقف الدير قسا في 19 مارس/آذار 1951 باسم "مَتّى المسكين"، على اسم القديس، مَتّى المسكين الذي أسس ديرا بأسوان في أوائل القرن الثامن الميلادي.
استأذن من رئيس دير السريان ليصبح راهبا متوحدا (يقبع في الوحدة والعزلة)، فحفر مغارة تبعد عن الدير حوالي 40 دقيقة مشيا على الأقدام في الصحراء واعتزل فيها 3 سنوات، قبل أن يعينه البابا يوساب الثاني وكيلا لبطريركية الأقباط الأرثوذكس بالإسكندرية عام 1954، وتم إعفاؤه من هذا المنصب عام 1955 ليعود إلى مغارة وادي النطرون ومنها إلى دير الأنبا صموئيل مرة أخرى وظل به 3 سنوات.
الأب متّى المسكين ولد في مدينة بنها المصرية (مواقع التواصل الاجتماعي)في عام 1957 رُشح للكرسي البابوي لكن تم استبعاده لعدم انطباق شروط الترشح عليه، ثم أنشأ بعدها بعام بيتا للشباب الراغبين في الخدمة بحدائق القبة ثم في حلوان.
عزله البابا كيرلس السادس من الرهبانية والكهنوت عام 1960 فقرر التوجه إلى صحراء وادي الريان هو ومن كان معه من الرهبان، وحفروا مغارات وعاشوا فيها 9 سنوات في عزلة ووحدة، وكان بعض معارفهم يرسلون لهم الطعام كل شهرين على قوافل من الإبل.
في عام 1969 أرسل إليه البابا كيرلس يدعوه للقائه ولإجراء مصالحة وإعادته للرهبانية، وتم إلحاقه و12 راهبا كانوا معه بدير الأنبا مقار بوادي النطرون، الذي أنشئ في القرن الرابع الميلادي ويقع في منتصف الطريق بين القاهرة والإسكندرية، وتم تكليفه بمهمة تعمير الدير وإحياء التعبد فيه من جديد.
كانت مباني الدير متهالكة ولم يكن فيه حينها سوى 5 رهبان كلهم من المسنين والمرضى، فعمل الأب متى المسكين على إصلاحه وإجراء توسعة عمرانية وزراعية فيه إلى أن أصبح عدد الرهبان فيه حوالي 130، كما اتسعت مساحته إلى 6 أضعاف المساحة الأصلية، واستزرع أزيد من 2000 فدان من الأرض الصحراوية بعد أن اشتراها بالطرق القانونية وضمها إلى الدير، وأنشأ مزارع نموذجية لتربية المواشي والأبقار.
رشح مرة ثانية للكرسي البابوي في عام 1971 ولم يتم اختياره بسبب اقتطاع الفترة التي قضاها في العزلة الاختيارية من حياته في الرهبانية، وانتخب البابا شنودة في هذا المنصب.
أفكار مَتّى المسكينشكلت أفكار الأب متى المسكين خطا إصلاحيا مغايرا للخط الكنسي الأرثوذكسي السائد، خاصة فيما يتعلق بدور الكنيسة وأولوياتها وقضايا الطائفية والتعصب.
وكان يرى أن الدور الرئيسي والوحيد للكنيسة هو التربية الروحية، لذلك انتقد أسلوب الخدمة الاجتماعية الذي تنتهجه الكنيسة حين ترعى الشباب اجتماعيا وتقيم النوادي والمعسكرات وتنظم المؤتمرات وتقيم الملاجئ والمستشفيات والجامعات، معتبرا أنها بهذا الأسلوب تنازع الحكومة في كل الميادين، وهو ما قد يتسبب في الصدام بينهما.
في نظره، فإن أخطر ما يهدد الكنيسة بالانحلال هو أن يهتم المبشرون بحياة الإنسان الاجتماعية عوض إعطاء الأولوية لمهمة ورسالة المسيح الأساسية وهي دعوة العصاة.
وحذر الكنيسة من تشجيع الناس على الاستهتار بواجباتهم إزاء النظام السياسي أو الدولة بدعوى أن الخضوع والولاء لله فقط، ومن ثم للكنيسة، لأنهم بذلك يدخلون في أذهان المؤمنين أن المسيحية عدو للنظام وللدولة الوطنية.
دير الأنبا مقار بوادي النطرون أحد الأماكن التي تعبد فيها الأب متّى المسكين (غيتي)والمسيحية، كما يرى، ليس لها اتجاه خاص في أنظمة الحكم، فلا تمالئ أي نظام ولا تقاومه، ولكن لأتباعها الحرية الكاملة في التصرف في أمور الدنيا حسب أصول الدنيا.
بالمقابل، انتقد لجوء الكنيسة للدولة للاستقواء بها، وكان يرى أنها عندما تستمد قوتها من الملوك فإنها تفقد قدرتها الروحية وتضل الطريق.
ويعتقد الأب متّى ألاّ خلاص للخاطئين إلا بالتوبة الحرة بشكل إرادي، ويعتبر غيرها من الوسائل مثل ترغيب الناس بالهدايا أو الملابس أو غيرها وسائل غير مشروعة، لذلك يعد كل محاولة لاستخدام السلطة الدينية أو التهديد أو الوعيد أو العقوبة لإجبار العصاة على التوبة، استعبادا للناس ومشيئاتهم باسم الدين والكنيسة.
وكانت للأب مَتّى المسكين نظرته الخاصة لموضوع التعصب والطائفية، خاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين حين شهدت مصر أحداث فتنة طائفية.
وكان يرى أن الطائفية والتعصب يقومان على أساس وجود أعداء حقيقيين أو وهميين، في حين أن المسيح جاء ليهدم هذا الأساس ويلغيه.
فالتكتل الطائفي في نظره غريب عن المسيح ولا علاقة له مع الروح والروحانيات، بل هو مرض اجتماعي يعترض النمو النفسي للفرد والجماعة.
وحذر من التعصب الديني، معتبرا أن القادة والمعلمين هم المسؤولون عن هذا التعصب لأنهم لا يراعون المستوى النفسي للمتدين ويلقنونه الحقائق الإيمانية دون نقاش.
أما المسؤول الثاني عن التعصب في نظره فهم المتعصبون أنفسهم، وذلك في طريقتهم لتقبل المبادئ الإيمانية، فبعضهم يستخدم عاطفته فقط في قبول الحقائق الإيمانية دون أن يستخدم قوى الحكمة والتمييز في تفهمها والتعمق في معانيها، فتعلو العاطفة شيئا فشيئا لتسيطر على قوى الفهم وتطغى على قوى التمييز وتلغي عمل الحكمة.
أما البعض الآخر فهو متعصب لا عن فهم ولا عن عاطفة ولكن عن ادعاء، وأدعياء التعصب يلجؤون إلى الظهور بمظهر المتعصبين للدين المدافعين عن الإيمان حتى ينالوا بعض الحقوق وسط الجماعة أو يحتفظوا بمظهر المتدينين لمركبات نقص خاصة عندهم.
واعتبر أن هذه المسألة هي بمثابة وباء في الكنيسة سيفسد جوهرها ويظهرها بمظهر لا يتناسب إلا مع كنيسة العصور الوسطى في الغرب.
المؤلفاتأثرى الأب مَتّى المسكين المكتبة المسيحية بمؤلفات كثيرة تجاوزت 180 كتابا، ترجم العديد منها إلى اللغات الحية. هذا إلى جانب العديد من المقالات المنشورة في الصحف والدوريات، والتي تزيد على 300 مقالة.
وكان أول كتاب صدر له هو "حياة الصلاة الأرثوذكسية"، وكتبه حين كان في بداية رهبانيته في دير الأنبا صموئيل في صحراء القلمون، شمال محافظة المنيا بمصر.
ومن أهم مؤلفاته تفسيره وشروحه لمعظم أسفار العهد الجديد وصدر في 16 مجلدا، وكتاب "العنصرة" و"الكنيسة الخالدة" وكتاب "المواهب الكنسية"، الذي تعرض لانتقادات كثيرة وأرسلت شكوى من مطرانية القدس إلى الباب كيرلس تنتقد بعض ما جاء فيه، خاصة فيما يتعلق بعدم وجود فرق بين الأسقف والقس في الكنيسة الأولى، وقال منتقدوه إنه استعان بأفكار بروتستانتية لتحرير الكتاب.
وفي عام 1976 صدر له كتاب "الكنيسة والدولة"، وضمّن فيه أفكاره بشأن علاقة الكنيسة بالدولة، ونظرته للطائفية والتعصب.
تعرضت بعض كتبه لانتقادات واسعة، وكانت الكنيسة ترى أن بها أخطاء عقدية، ووصف الأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ والبراري بعضها بالهرطقة، وقال إن 48 من كتبه تحتوي على أخطاء عقدية، ورد الأنبا بيشوي والبابا شنودة على بعض تلك الكتب في مؤلفات مثل مجموعة "اللاهوت المقارَن"، وكتاب "بدع حديثة".
الخلاف مع البابا شنودةجمعت علاقة صداقة بين الأب متّى والبابا شنودة قبل ترسيمه في منصب البابوية، ففي خمسينيات القرن الماضي كان الراهب أنطونيوس السرياني (البابا شنودة) ضمن الرهبان الذين رافقوا القمص متّى المسكين من دير السريان إلى صحراء دير الأنبا صموئيل في منتصف عام 1956.
غير أن خلافا فكريا بين الطرفين جعل التلميذ أنطونيوس يترك معلمه ومرشده الروحي ويعود إلى دير السريان في عام 1957، واستمرت الخلافات العقائدية بين الطرفين إلى وفاتهما وامتدت إلى تلاميذهما.
وكانت أبرز القضايا العقدية التي يختلفان فيها ما يتعلق بمسألة "تأليه الإنسان"، و"عقيدة الكفارة والمبادلة الخلاصية"، و"النقد الكتابي والتشكيك في صحة أجزاء بإنجيل مرقس وبعض عبارات إنجيل متى"، و"دور الأعمال الصالحة في نوال الخلاص"، و"مفهوم الوحدة مع الطوائف الأخرى".
وكان الأب متّى يعتقد بإمكانية تحقيق الوحدة بين الكنائس عن طريق قديسي كل كنيسة وإلهامهم لبقية قادة الكنائس، فيما رفض الأنبا شنودة ومن معه هذا الاتجاه تماما ورأوا في هذه الأفكار خروجا عن الطريقة التقليدية، لذلك حين تولى كرسي البابوية منع تدريس أفكار وكتب متّى المسكين، ونشر كتبا للرد عليه.
لم ينحصر الخلاف بين الطرفين في المسائل العقدية، بل امتد إلى كيفية إدارة شؤون الكنيسة، والتي تطرق لها في كتابه "الكنيسة والدولة" حين انتقد الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الكنيسة.
ورأى البابا شنودة أن انتقاد الخدمات الاجتماعية هو تأليب للدولة على الكنيسة، واعتبر أن دوافع الأب متّى في ذلك هي نفسية وشخصية وليست روحية، وغرضها هو الهجوم على الأب صموئيل الذي تم ترسيمه أسقفا للخدمات الاجتماعية عام 1962، في حين لم يصدر أي قرار بترسيم مَتّى المسكين أسقفا.
وعلق شنودة على ما جاء في الكتاب بالقول إنه لم يحدث أن حارب أحد الكنيسة أو شتمها مثلما فعل مؤلف هذا الكتاب.
من جهته، كان الأب متّى يرى أن تعيين شنودة على رأس الكنيسة كان بداية المشكلة، واعتبر أنه بذلك "حل العقل محل الإلهام، والتخطيط محل الصلاة، واتجهت الكنيسة من سيئ إلى أسوأ بسبب سلوكه".
لم يلتق الرجلان منذ سبتمبر/أيلول 1981 إلى أن زال الجفاء بينهما إثر زيارة قام بها البابا لدير الأنبا مقار في نوفمبر/تشرين الثاني 1996 وتبادلا التحية، وحدثت بعدها زيارات مجاملة بينهما، إلا أن الخلاف العقائدي ظل كما هو.
العلاقة مع الساداتبدأت علاقة الأب مَتّى المسكين والرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1978، حين نجحت زراعة بنجر السكر وبنجر العلف لأول مرة في مصر في أرض الدير الصحراوية، فأرسل الأب متّى النتائج إلى الرئيس، الذي أهدى الدير ألف فدان من الأراضي الصحراوية المحيطة به لاستكمال التجارب الزراعية، كما أهداه جرارين زراعيين.
وكان أول لقاء بين الطرفين عام 1979 في معرض للمحافظة على الإنتاج الزراعي والحيواني، وأشاد الرئيس بمجهودات الدير في مجال استصلاح الأراضي وأمر بتعميم تجربة بنجر السكر.
وتدخل الأب مَتّى المسكين في الخلاف بين السادات والبابا شنودة عام 1981 بسبب اتفاقية كامب ديفيد. وكان البابا غير مرتاح لها، وهو ما اعتبره السادات معارضة لسياسته وجرا للكنيسة لتصبح قطبا سياسيا، فسحب قرار التصديق على تعيينه بطريركا للأقباط الأرثوذكس، وحدد إقامته في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون.
والتقى الأب متّى الرئيس السادات وطلب منه العدول عن قرار إحالة البابا شنودة إلى المحاكمة واقترح تشكيل لجنة خماسية لإدارة الكنيسة، وهو ما استجاب له الرئيس، واقترح على الأب متّى تعيينه على الكرسي البابوي فاعتذر قائلا "إنَّ قرار تعيين البابا من السماء، ووفقا لتقاليد الكنيسة، فإن خدمة البابا تبقى حتى وفاته".
الوفاة والدفنفي 8 يونيو/حزيران 2006 توفي الأب مَتّى المسكين عن عمر ناهز 87 عاما، ودفن في مغارة ضمن الأسوار المحيطة بالدير.
وكان قد اختار مكان دفنه قبل وفاته بـ3 سنوات، ونشر رهبان الدير في بعض الجرائد أنه ترك وصية بألا تصلي عليه أي قيادات كنسية، بل يصلي عليه فقط رهبان الدير.