بلال فضل: لكي تظل في حكاياتك اللذيذة
تاريخ النشر: 24th, July 2024 GMT
لا نلمح كثيرًا تصنيف «حكايات» على أغلفة الكتب. لا يبدو تصنيفًا مشجّعًا، إذ يبدو وكأنه أدنى من التصنيفات المكرّسة في القصة أو الرواية أو المقالة. تصنيف ضبابي، مثله مثل تصنيف «نص». ولو تذكّر القرّاء ما ابتُلوا به من كوارث صُنّفت على أنها «نصوص»، لن نلومهم لو انفضّوا عن هذه التصنيفات العجائبية. ولكن لو صبرنا قليلًا لنميّز، لا بد من محاولة تعريف هذه التصنيفات.
يستند فضل في حكايات كتابه الجديد (الذي سبقه كتاب في الجنس الأدبي ذاته: «ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟») إلى تجربته الحياتية، وخبراته الصحفية، وحصيلة قراءات كبيرة وغنية، لينتج حكايات تنطلق من الصحافة من دون أن تكون قصصًا صحفية بالمعنى الضيق للمفردة، وتنهل من أساليب السرد التخييليّ في القصة لتقدّم خلطة فريدة لا مثيل لها عربيًّا. ثمة تجارب «مشابهة»، ولا بد من إدراج المزدوجين هنا، فالتشابه شكليّ، بيد أن المضمون والبراعة لا يقارنان أبدًا. ثمة من تنقصه الخبرة، وثمة من تنقصه الحنكة، وثمة -وهم الغالبية- من تنقصه خفة الظل التي يقدّمها فضل في جرعة لا تزيد ولا تنقص عما هو مطلوب لإنجاح هذه الطبخة الحكائية. نجد منغّصات قليلة في هذه الطبخة، حين يقدّم لنا فضل ما نعرفه أساسًا، لا بمعنى مضمون الحكاية، بل بمعنى حكاية تندرج ضمن تصنيف القصة الصحفية في الغالب. لا مشكلة في القصة الصحفية بطبيعة الحال، إلا أن هذا الكتاب يطرح نفسه بكونه مغايرًا لا بكونه محض تجميع لقصص صحفية لها جمهورها وسياقها، وكتبها. نجد الحكايات «التقليدية» (بمعنى التزامها القواعد المكرّسة في الكتابة الصحفية) في كتابه السابق أيضًا، ولكن بدرجة أقل.
لو أردنا اقتباس فضل نفسه، نتذكّر توصيفه الثاقب لمسلسلات الراحل أسامة أنور عكاشة الأحدث التي يرى فضل -محقًّا- أنها أقل مستوى من أعمال عكاشة الأقدم. تصلح المقارنة ذاتها هنا بين الحكايات التقليدية (القليلة بطبيعة الحال) وبين الحكايات البلالية التي تبدو أبهى وأفضل وأبرع بدرجات كبيرة. ولكن، مجددًا وباقتباس المقارنة نفسها، نحن نتحدث هنا عن مستوى بلال فضل الذي لا يشبهه أحد، كما هو عكاشة في سيناريوهاته (رواياته التلفزيونية) البديعة. في تلك الحكايات القليلة، تتعزّز قوة وأهمية وجمال الحكايات البلالية الأخرى، إذ يعجز فضل عن بلوغ مستوى فضل، ولكن -في نهاية المطاف- ليس في وسع الكاتب أن يكتب كل يوم حكايات من مستوى «السيدة ليف وما فعلته بالراهب المتعبد»، و«شيء عفن في الزبداني»، و«ملك الجبال وسيد التلال»، و«في كابوس واحد» (من هذا الكتاب)، أو «ماذا صنع الله بعزيزة بركات»، و«عن العم صلاح وتلفزيونه اللعين»، و«لكي تظل في ضلالاتك اللذيذة» (من كتاب «ماذا صنع الله بعزيزة بركات»).
ما تقدّمه هذه الحكايات البلالية لنا الإمتاع والمؤانسة كما يشير بلال فضل دومًا، وهي تقدّم لكلٍّ منا ما يكمّل نقصه، ويُعينه في لحظات الشدائد التي تتضاعف كل يوم. ثمة جرعات كآبة عالية في الحكايات لا نجدها في نصوص بلال القديمة حين كان ما يزال في مصر ولا يزال يضحك، بل يقهقه، ويضحكنا معه. كآبة لا تعني زيادة غمّ القارئ، بل تنجح الحكايات ببراعة غريبة آسرة في حفر مكان لهذه الكآبة الجديدة بعد أن تُزيح أختها القديمة، ولكن لا بد من ألم جديد يترافق مع الكآبة الجديدة. ألم جديد علينا حين نتلقّى الحكايات، وعلى بلال حين يدخل عالمًا لا يبتعد كثيرًا عن عالمه القديم في براعة الحكي، وينأى -في الوقت نفسه- كثيرًا عن العبث اللذيذ الذي كان يسم كتاباته القديمة. ولذا ربما تبدو الحكايات التقليدية القليلة ناتئة عما سواها، بخاصة حين يكتب بلال عمّا لا يعرف تمام المعرفة. لا نجد تقليدية أو تعثّرًا في الحكايات المصرية، بل في الحكايات «الأمريكية» على الأخص.. يكتب بلال هنا بعين السائح وإن كان مقيمًا، يكتب (من دون قصد على الأغلب) بعين العابر الذي يحاول تلخيص كل شيء في عجالة، على عكس الذكريات التي بدا واضحًا أنها مشغولة بإتقان أكبر، بل ومكتوبة على دفعات، بخاصة في الحكاية المرعبة من فرط جمالها: «على هامش المشمشية»؛ نص مكتوب بدفقات الحنين من دون أن تكون نوستالجيا مكرورة، مكتوب بدفقات تنقيح المشاعر التي يبدو فضل وكأنّه يقلّم ألمها وألمه وألمنا فيها، غير أنها تُفلت من قيوده وتوجع أكثر.
يمنّ الله على بعضنا بكمّ قراءات واسع، ويمنّ على آخرين بموهبة الحكي، ويُفرِد لقلة قليلة نعمة القراءة والحكي في آن. بلال أحد هؤلاء القلة الذي يبرعون في الحكي عمّا يحبّون فيحبّبون المستمع بما أحبّوه. حكاية مثل «السيدة ليف وما فعلته بالراهب المتعبد» مثال عن تلك الحكاية الكاملة التي لا سبيل إلى تغيير حرف فيها تعديلًا أو زيادةً أو حذفًا. تضم الحكاية جميع توابل بلال المتنوّعة التي تُنكّه سرده البارع، من دون أن ينسى فيها موهبته الأخرى في القراءة، وفي الحكي عن القراءة، وفي دفع القارئ إلى عالم لا يعرفه، أو إلى عالم يعرفه ولكن من زاوية مختلفة. حكاية كهذه تدفع المرء إلى التعرّف أكثر إلى ليف أولمن، وإلى إنغمار برغمان، وأنا أحد الذين لم يشاهدوا فيلمًا لبرغمان أو أولمن ولم أقرأ مذكراتها، ولكني سأفعل لأسباب غير تلك التي اعتدت القراءة من أجلها. سأقرأ من أجل قطرات الطحينة المندلقة على لحية بلال وثيابه وهو يلتقي أولمن للمرة الأولى، ثم يمهّد بافتتاحية عابثة قبل أن يدخلنا إلى عالم مذهل تتداخل فيه الذكريات بالكتب بالأفلام بصالات السينما بوجع تقدّم العُمر، إذ يتذكّر بلال ويذكّرنا أنّ العمر ينقضي. في هذه الحكاية تذكير آخر بمهارة بلال في العبث اللذيذ الذي بقي جوهره، وإن تغيّرت سماته، إذ يترك القارئ معلّقًا حين يريد القارئ المزيد، ولكن يدرك بلال -مرة أخرى- أن وصفة الحكاية البلالية ستنكسر لو قال أكثر وحكى أكثر، وأن المزيد الذي يريده القارئ طمعًا سيثقل السرد والخفّة والبهاء.
يظن المرء أحيانًا أنه وصل إلى مرحلة قناعة مغرورة، بخاصة حين يكون من أهل الكتابة والقراءة، تتمثّل في الجملة التي لا تُقال كثيرًا: «أتمنى لو كنتُ كاتب هذا العمل». لا نقولها إلا عن كتب مضت، إذ ندرك (بدافع من وهم أو يأس) أن ما فات فات، وأن ما هو آت لن يُبهرنا إلى درجة نطق تلك الجملة. ولكن بلال موجود وحاضر ونشيط ويحرّضنا في كلّ حكاية بلالية مكتوبة أو منطوقة على التلفظ بالجملة، وبشتائم بدافع المحبّة بطبيعة الحال. ثمة ما سيتلاشى مع مرور الأيام، بخاصة حين يكون الكاتب غزير الإنتاج، وهذا أمر طبيعي يدركه فضل قبل سواه، ولكن ثمة ما يبقى ليؤسِّس جنسًا أدبيًا مستعادًا. لا نصادف يوميًّا كتابة بارعة مُؤسِّسةً، ومن هنا ندرك جمال حضور بلال فضل في هذه الأيام الموجعة.
يزن الحاج كاتب ومترجم سوري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من دون أن کثیر ا
إقرأ أيضاً:
«أتوبيس الكفالة» يصل محطته الأخيرة بمحافظة أسيوط ضمن حملة «اعرف الحكاية.. للتوعية»
أعلنت وزارة التضامن الاجتماعي أن الحملة الميدانية "اعرف الحكاية.. للتوعية بالكفالة" وصلت إلى المحطة الأخيرة، بمحافظة أسيوط، وذلك من خلال مشروع "أتوبيس الكفالة 2024" و المُنفذ من قبل مؤسسة "يلا كفالة " بالتعاون مع هيئة إنقاذ الطفولة.
وقالت الوزارة - في بيان اليوم، الجمعة، إن "أتوبيس الكفالة" قام ضمن فعاليات الحملة بزيارة لمحافظات الجمهورية لدعم الأسر الكافلة وإزالة الوصمة المجتمعية والتعريف بشروط الكفالة والإجراءات الواجب اتباعها، وقد بدأ رحلته من محافظة الدقهلية وصولاً لبني سويف حتى تكتمل رحلته بمحافظة أسيوط، وذلك خلال 3 شهور.
وأكد رئيس الإدارة المركزية للرعاية الاجتماعية الدكتور وائل عبد العزيز أن حملة " اعرف الحكاية" تهدف إلى زيادة الوعي تجاه الكفالة خاصة أن عدد الأسر الكافلة للأطفال الأيتام يبلغ 12 ألف أسرة علي مستوى الجمهورية، وأن عدد الأطفال المكفولين قد بلغ 12336 ألف طفل، موضحا أن الهدف من الحملة هو نشر الوعي حول مفهوم الكفالة في المجتمع المصري، وتغيير الصورة النمطية السلبية والمفاهيم الخاطئة المرتبطة بها.
وأوضح أن الحملة تسعي إلى تحفيز المجتمع نحو تبني الكفالة كحل إيجابي ومستدام لرعاية الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية، وتوفير المعلومات الضرورية للأسر المحتملة لتسهيل عملية الكفالة بما يضمن قبول مجتمعي أكبر لنظام الكفالة، مشيرا إلى أن التعريف برحلة الكفالة من أجل توفير الرعاية الأسرية للأطفال فاقدي الرعاية وضمان حقوقهم.
وأضاف أنه يجب أن تتوافر في الأسرة طالبة الكفالة أو الفرد الصلاحية الاجتماعية والنفسية والصحية للرعاية وإدراك احتياجات الطفل محل الرعاية وأن يكون مقر الأسرة في بيئة صالحة تتوافر فيه الشروط الصحية وأن يكون دخل الأسرة كافياً لسد احتياجاتها.
وأشار رئيس الإدارة المركزية للرعاية الاجتماعية إلى أن الفئات المستهدفة من الحملة بأنشطتها التوعوية الأباء والأمهات غير الكافلين والشباب والأطفال علي السواء، مؤكداً أن من مخرجات الحملة تثقيف الجمهور، وتعزيز المواقف الإيجابية، وتوفير بيئة داعمة للأسر الكافلة وأطفالهم، وكذلك للأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية أسرية.
كما ذكر أن من نتائجها المرجوة تحقيق التأثير التعليمي وتثقيف المجتمع حول الفروقات والتشابهات بين الكفالة والتبني وتعريف الأسر المقبلة على الكفالة بالمتطلبات والتحديات والمكافآت المرتبطة بالكفالة، وتثقيف المجتمع حول تصحيح المفاهيم الخاطئة والصور النمطية المتعلقة بالكفالة.