1-الوصفة السحرية
«لا يجرؤ بعض الناس أن يكونوا ملوكا حتى في أحلامهم»
أمين معلوف
صار له أكثر من أسبوع وهو يعيش حالة تيه لم يستطع التخلص منها. لكنه أقسم واعدا نفسه أن تكون الليلة هي ليلة التحرر تلك، قال: «ليل الخميس، والكل في العادة خارج الشقق». سيخلع ملابسه كلها وسيغني ويرقص.
من ماذا أريد أن أتحرر؟ يسأل نفسه ويجيب: التردد والخوف والخجل.
لا يفهم لماذا أبوه لا يرفع المصر عن رأسه إلا حين يذهب للنوم؟ يظل بين أولاده وبناته رابطا رأسه، حتى أنه يرفض ارتداء الكمة وهم حوله.
قرر كخطوة أولى للتحرر التدريجي من كل ما اكتسبه من عادات -التي يجزم أنه لو خُيّر فيها منذ البداية لرفضها- أن ينام ليلته عاريا على سريره الصغير في غرفته المقفلة عليه. سيكون الأمر سهلا، فلا أحد يشاركه الغرفة، ولن تتمكن عين أحدهم من مشاهدته. سيبدأ وستكبر في داخله الشجاعة ومعها ستبدأ الأشياء المتكدسة في عقله بالتشظي والتلاشي. ابتسم ابتسامة قصيرة.
لكنه فشل، كما حصل في كل الليالي الماضية. شعر بأن ثمة مراقبا يتربص به، يتحين الفرصة لزلته وفضحه. كم ممن يعرفهم فضحوا وشُهرّ بهم!
لم يستطع كذلك رفع صوته في الغناء خشية أن يسمعه أحد. قال: «غدا الجمعة، وكل من يسكن البناية من أبناء جلدته سيكونون في بلدانهم، وعندها أستطيع أن أفعل ما أريد».
مساء الجمعة استطاع خلع إزاره، على الأقل لدقائق معدودة، لكنه لم يشعر بالراحة النفسية التي كان يتمناها، فالإحساس بالخجل وأن هناك من يراقبه لم يبرح كاهنه.
أعاد لف الإزار حول خاصرته. حاول الغناء مجددا، لكنه خشي مرة أخرى أن يسمعه أحد، ويتهمه بالميوعة والتفسخ.
قرر أن يسافر ليفعل ما يشاء وهو بعيد عن كل تلك الهواجس. فتح الجهاز وحجز تذكرة وابتسم من جديد. فكر في البداية أن يتصل بصديق له ليوصله إلى المطار قبل أن يتراجع خشية أن يحكي الصديق عن سفرته للآخرين، هو يريدها سرية للغاية، أسماها بينه وبين نفسه «سفرة التحرر الكبير»، سيطلب تاكسي في الصباح. ذلك أسلم. عاد إلى السرير، هذه المرة كانت ابتسامته واسعة جدا، فلقد عثر أخيرا على «الوصفة السحرية».
2-الجرعة
الأب السبعيني المريض لا يتوقف عن تكرار جملته لابنه «لعنة الله عليك». يُخرج زفيرا بائسا يسمعه كل من في الجناح. يتنهد محاولا النهوض من استلقائه. «الممرضات يقلن: لازم ما تتحرك حتى يخلص الدواء»، ينصحه الابن. فيثور الأب، يرتفع صوته أكثر «لعنة الله عليك وعلى الممرضات وعلى الطبيبة، خليتوني أمرض وأنا ما فيّ شي، ما أريد هذا الدواء، بيقتلني وأنا بخير».
يستمر في لعناته، بينما يحاول الابن تهدئته، وحين ييأس من محاولاته، كما يفعل في كل مرة، يتركه يقول ويفعل ما يشاء «على راحتك باه».
مشهد يتكرر كل أسبوع تقريبا، لأكثر من شهرين على الأقل، منذ أن بدأت في أخذ الجرعة الأسبوعية، مثله، مرة كل أسبوع، أقضي الليلة على مضض تحت الأضواء التي لا تطفأ، وعلى سماع الشخير والسعال وأحاديث الممرضات وحركتهن التي لا تتوقف وهن يستجبن لنداءات المرضى وأجراسهم المزعجة التي يصعب النوم معها.
لكنه كان الأكثر إزعاجا من بين كل الأشياء المزعجة حولي، تضايقت بسببه كثيرا بداية الأمر، خصوصا وأنه ينام في السرير الذي على يميني مباشرة، ضمن ستة أسرة لا يفصل بينها سوى ستائر قماشية خفيفة هرمت وبهتت ألوانها، فصوته دائما مرتفع وحديثه لابنه بالكاد يتوقف دقائق طوال الليل. لكنني بعدها شعرت بالشفقة عليه، وصرت أتضايق لأجله خصوصا حين يشتكي من تأثير الكيماوي «أيش هذا بو يعطوني إياه؟ أحسه كما النار تحرق عروقي»، «بنعطيك دوا يخفف الألم» ترد عليه الممرضة، فيتأفف ويعاود اللعنات.
***
«نفسي في صحن عيش وسمك مقلي ورأس بصل وطماطم»، طلب من ابنه في تلك الليلة. «باه، الساعة وحدة بعد نص الليل، من هين أجيب لك سمك الحين؟ نام والصباح بروح أجيب لك اللي تباه». فيتأفف الأب.
في الثالثة فجرا عاود طلبه، ثم كرره في الخامسة، لكن هذه المرة حدد نوع السمك «ولدي، أريد السمك يكون سمك كنعد طازج» وأردف: «لا تجيب لي من مطعم، ما أريد، أكلهم خايس، خلي أمك تطبخ لي؟»
«باه، كنعد الساعة خمسة الفجر؟!! الله يهديك»
«ما تريد تسمع كلامي، أنا أبوك اللي رباك، أنا قايل، محد حيقتلني غيرك»
ثم نام، ولم يستيقظ بعدها.
يونس الأخزمي كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: