24 يوليو، 2024

بغداد/المسلة الحدث:

علي المؤمن

الخطاب الديني النظري التقليدي الذي اعتادت عليه الأدبيات الحركية الإسلامية العراقية؛ بات بحاجة ماسة، أكثر من أي وقت سابق، الى ثورة فكرية تعالج الفصام الذي حصل بين التجربة الواقعية التي يخوضها الإسلاميون العراقيون منذ العام 2003 من جهة، والفكر السياسي الذي نظّروا له منذ خمسينات القرن الماضي، وخاصة ما يرتبط بمفاهيم العمل الدعوي والتبليغي، ونظرية الدولة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة، التي كانت تمثل فلسفتهم في التأسيس، وغايتهم في التحرك من جهة أخرى، إضافة الى المفاهيم الضاغطة الواقعية؛ كالدولة المدنية والدولة الوطنية، واستخدام أدوات الديمقراطية في مجالات هيكلية النظام السياسي والحقوق والحريات، وصولاً الى التعامل مع الديمقراطية والليبرالية في بعديهما الآيديولوجي والفلسفي، من جهة ثالثة.

هذه المراجعة الشاملة لها علاقة بنوعية الخطاب الفلسفي والآيديولوجي للإسلاميين، أو ما يمكن تسميته برؤيتهم الكونية وغاياتهم النهائية. ويدخل ذلك في جدليات وثنائيات قديمة ـ جديدة، سبقهم إلى الخوض فيها الإسلاميون المصريون والإيرانيون والأتراك، وتتمثل في جدلية التنظير والتطبيق، أو ثنائية الآيدولوجيا والأصالة وضغوطات الواقع والمعاصرة، أو سجال الوجوب والحرمة والإباحة في التماهي مع فلسفات وآليات المذاهب الاجتماعية الوضعية وغيرها.

وقد ظل النهوض الحضاري الذي شهده واقع المسلمين، منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن؛ يفرز جملة من التحديات، مصدرها التجارب الإسلامية الجديدة على مستوى التطبيق من ناحية، والعامل الخارجي الذي يسعى لإفشال هذه التجارب من ناحية أخرى. ولعل القابلية الذاتية التي يمتلكها الفكر الإسلامي التجديدي التفاعلي تؤهله بمستويات معينة لمواجهة هذه التحديات، على الصعيدين النظري والعملي.

وأبرز عناصر خلق تلك القابلية: المرونة والشمولية والتوازن والواقعية والحركية التي يتميز بها الفكر الإسلامي التجديدي التفاعلي؛ بالصورة التي تجعله قادراً على ضمان أصالته، وفي الوقت نفسه تمكّنه من استيعاب حاجات العصر ومتطلباته، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم “تجديد فكر الواقع”، الذي يطوِّع حركة الواقع ويخضعها للثوابت العقدية والشرعية، كما يطوِّع المتغيرات الشرعية لمتطلبات الواقع. وبمعزل عن هذا التجديد، ستبقى تلك التحديات قائمة، بل تزداد عمقاً ورسوخاً.

ولعل تجربة الإسلاميين العراقيين الصعبة والملتبسة بعد العام 2003 هي في مقدمة التجارب التي ينقصها التكييف الفقهي الواقعي والفكر العملي المعمق؛ بالنظر لكونها تجربة تشاركية فريدة، ليس على مستوى شراكة السلطة، بل على مستوى الشراكة في عقيدة الدولة ومنظومتها القانونية.

ولا يقتصر هذا التكييف والتنظير على الفكر السياسي الإسلامي وحسب، بل ينبغي أن يستوعب كل تفاصيل الفكر الاجتماعي ونظرية الدولة والبناء الإسلامي الحضاري لحياة الأمة.

والتجديد الفكري الذي يعبّر عن الطموح ليس تأسيساً لفكر جديد أو إحياءً لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي في إطار منظومة فكرية قائمة، لإعادة اكتشافها وتطويرها من جهة، وتجديد الفهم الذي أنتجها بمرور الأزمان من جهة أخرى، فيكون فهم الأصول المقدسة فهماً زمانياً ومكانياً يعي حاجات العصر المتغيرة والواقع العراقي الملتبس، أي أنه لا ينطلق من فراغ، بل إن له منهجه ومرجعيته وثوابته.

وفي النتيجة؛ سيتحول التجديد إلى خطاب نهضوي يستهدف البنية الفكرية، ليجعلها تلبي جميع حاجات الفرد والمجتمع والدولة، في الحاضر والمستقبل، ويهدف أيضاً إلى صياغة المشروع الإسلامي الحضاري الذي يخضع له الواقع طوعاً، ولا يتعارض مع أسس الشراكة مع الآخر المختلف فكرياً وعقدياً.

والحقيقة؛ أن التطور السريع جداً الذي يشهده العالم على كل المستويات: الأفكار والنظريات، الاكتشافات، النظم العالمية السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، والذي ينبئ بقفزات نوعية كبرى في العقود القادمة، ذلك التطور المرعب يفرض أن يكون المسلمون بمستواه، قد يتجاوزهم، وهو أمر يتعارض مع قوة الشريعة وقابليتها الهائلة على استيعاب عملية التطور والاحتكاك مع العصر. وإذا كان خطاب الإسلاميين وأداؤهم يعجزان عن تلبية بعض أهم الحاجات الواقعية للناس؛ بل يعجزان عن إقناع حواضنهم الاجتماعية؛ بما يمكن توصيفه بأنه إخفاق مركب في المطابقة بين المبادئ والأداء من جهة، وفي إنشاء خطاب ديني واقعي متجدد من جهة أخرى؛ فكيف يمكن حينها الحديث عن استباق المستجدات واستدعاء مخرجات الفكر الإسلامي للاستجابة لمتطلبات المستقبل؟؛ خاصة وأن العالم بات يعيش في المستقبل.. تشوّفاً وتخطيطاً وتحضيراً.

هذه الحقائق المدخلية تتطلب ـ ابتداءً ـ خطاباً إسلامياً أصيلاً في مضمونه، وعصرياً في شكله، وواقعياً في مخرجاته، وقادراً على الحوار والتفاعل والإقناع والاستقطاب، في خضم الكم والنوع الهائل من التحديات والمشاكل النظرية والواقعية؛ بالشكل الذي يمكِّنه ـ في الحد الأدنى ـ من إيقاف توسع الفجوة بين الواقع الداخلي العراقي، والحضارات والثقافات والأفكار الخارجية المتفوقة مادياً ومدنياً.

ولعل قدرة الخطاب الإسلامي العراقي المعاصر على الإقناع؛ هي المهمة الأصعب التي تواجهه، لأنها تتطلب مشروعاً فكرياً واقعياً عميقاً؛ يطرح الإسلام بمضمونٍ يحفظ له أصوله ويرسّخها في عمق المشروع، وبصيغ تؤمن له التقنيات والآليات العصرية، كما تتطلب أداءً يثبت عملياً إمكانية تطبيق ذلك المشروع بأكثر الصور مقبولية.

ولعل بعض الصيغ الناجحة التي تطرحها حركات إسلامية في تركيا وتونس وإيران؛ يمكن أن تكون نماذج للدراسة والاستعارة والاستفادة؛ بما ينسجم مع الواقع العراقي.

أما الاستمرار في حالة الجمود الفكري، والخطاب المنفعل، والإخفاق العملي في بلوغ الأهداف النظرية؛ فإنه يعمِّق الفجوة مع الواقع الملتبس المتحرك، ويطيح بكل الآمال والأحلام والطموحات التي بقيت الأمة تنتظرها قروناً طويلةً مظلمة، ولن ينفع حينها خطاب العاطفة لتسكين الألم والعوز الروحي والفكري والمادي للحواضن الاجتماعية للإسلاميين.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

المصدر: المسلة

كلمات دلالية: من جهة

إقرأ أيضاً:

لاكوريدا.. مجموعة قصصيّة تصوّرُ غربة المثقّف في عصر العولمة

الجزائر "العُمانية": يعود الكاتب، بشير عمري، إلى قُرّائه بمجموعة قصصيّة بعنوان " لاكوريدا" (200 ص)، صدرت عن دار الأوطان للنشر بالجزائر.

تتناول هذه المجموعة القصصيّة العديد من الثيمات المتعلّقة بالسياسة، والهُويّة، والعروبة، والانسحاق الاجتماعي، كما تُصوّر غربة المثقف في عصر العولمة، إلى غير ذلك من الموضوعات.

ومن أبرز قصص هذه المجموعة: "العودة من سرير الشرق"، و"في زحمة النهايات"، و"لغز المنظار"، و"خارج الحساب"، و"العودة من الأشلاء"، و"مجرّد مخدرات"، و"هواجس العاهة السرية"، و"الرقص بالنار"، و"لاكوريدا" و"زهرة نيس"، و"شرف الحداء"، و"المهراس".

وتعني كلمة " لاكوريدا"، التي تحمل هذه المجموعة القصصيّة اسمها، "لعبة مصارعة الثيران"، وتضمُّ قصصًا طويلة أبدع فيها الكاتب، بشير عمري، بنبض روائيّ شاعريّ؛ فكانت كلُّ قصّة عبارة عن محطة انطلاق لرواية سردية جوارية ينتهي الزمان ولا تنتهي تفاصيلها. وقد مارس القاصُّ والإعلامي، بشير عمري، الكتابة الإبداعية ردحًا من الزمن، وتمرّس بغوايتها، وصال وجال في ساحاتها ودروبها فأصبح سندبادها والقابض على نواصيها.

ويرى بعض النقّاد أنّ تجربة، بشير عمري، القصصيّة، امتازت، منذ مجموعته الأولى "ريح آخر اللّيل"، التي تعد من عطر البواكير، وصولا إلى مجموعته الثّانية "سائل العمر"، التي نشرت في ترجمتها إلى اللُّغة الفرنسية، يلمح الدّارس لهذا القاصّ هويّته السّردية الممعنة في التّجريب وتحطيم أسوار السّرد التقليدي الذي يحايث الحكي على حساب الفكرة، حيث ينظر بشير عمري بعمق إلى حركة الواقع ملتقطا المفردات المهملة أو الهامشية في وقائع سيرورة المعيش لينجز منها بهاء سرديًّا ماتعًا، كما هو الحال في قصّة "عمّن كانت تغلق الأبواب"، التي يجعل فيها موضوعة الحب تتموضع بالتّوازي اختلافا مع أطرافه، أي الحبيبين البيولوجيين، فيقيم التّماثل بين الحبيبين وبَابيْ بيتيهما اللّذين يشكلان في تقابلهما موقفا غزليا، ينفتح على اللّقاء نهارا، وينغلق على الفراق ليلا، فتحيل العملية السّردية على نوع من الأنسنة لعناصر الواقع، بما فيها الجمادات، وبالتّالي يتفجّر المكان في القصّة من فكرة التشظي الوحداتي لمفاعيل الحركة في الواقع/ المكان، والتي مآلها إلى القلوب التي تآكلت نبضاتها فخمد بريق التلاقي في حامليها، وأُهمل المكان في خضم الواقع المتحوّل بسرعة رهيبة.

وفي قصّة "أنيس وزهرة نيس" يستمرُّ بشير عمري في إنجاز هيكل المتاهة السّردية التي تحاصر الممرّات كلّها لتضع العلامة المميّزة عند كل انعطافة سردية، ويشكّل النصُّ على المستوى الفنّي في إنتاجية المعنى على هامش موضوعة الزّهرة وعلاقة المجتمع بها كقيمة جمالية، ذلك الإحساس المغيّب والغائب في علاقة المتلقّي بالجمال، فهو ابتداء يقرن البحث عن زهرة نيس بالجدار.

يُشار إلى أنّ بشير عمري من مواليد 1970 بولاية بشار (جنوب الجزائر)، وسبق أن أصدر العديد من الأعمال، أبرزُها "حول السقوط وأزمة الخطاب السياسي" (منشورات الاختلاف، الجزائر 2002)، و"العودة من بعيد.. في التاريخ الرياضي" (دار هومة للطباعة والنشر، 2003)، و"ريح آخر اللّيل" (رابطة إبداع، الجزائر، 2005).

مقالات مشابهة

  • لاكوريدا.. مجموعة قصصيّة تصوّرُ غربة المثقّف في عصر العولمة
  • وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا.. 16 قافلة دعوية ببني سويف لتعزيز الفكر الوسطي
  • حماد: سنبذل كامل جهودنا في سبيل تغيير الواقع المرير الذي يعيشه أهالي الجنوب
  • حكاية الهامش والتهميش
  • ‏خطاب القائد عبدالملك مرة أخرى
  • ما الذي يمكن أن تغيّره زيارة السيسي الأولى لتركيا في الملفات الشائكة؟
  • ما الذي يمكن أن تغيّره الزيارة الأولى للسيسي إلى تركيا في الملفات الشائكة؟
  • نقابة الصَّحفيين السُّودانيين تنعي المصور التلفزيوني حاتم مأمون الذي مات متأثراً بإصابته في حادث المسيرة التي استهدفت منطقة “جبيت” العسكرية
  • كيف يمكن التغلب على التحديات التي تواجه الشركات عند توظيف المواهب المستقلة؟
  • كيف يتحرر المسلمون من سيطرة الغرب؟