المهمة الأساسية للفلسفة هي تمييز المفاهيم، أي البحث في معاني الظواهر والأشياء؛ وبذلك فإن الفلسفة هي السؤال عن «الما» the «what»، أي عن «الماهية»، بينما العلم هو البحث في أسباب الظواهر وتفسيرها، وبذلك فإنه يكون سؤالًا عن «لماذا» the «why»، وهكذا فإن الفلسفة هي بحث في معاني الأشياء أو الظواهر التي يسلم بها العلم أو يتركها من دون توضيح أو تساؤل.
لعل المقدمة السابقة تكون مفيدة فيما أود إيضاحه هنا. فعلى النحو السابق نفسه، ينبغي أن نميز مفهوم الإبداع الذي نتناوله هنا. ذلك أن الإبداع له مستويات عديدة يمكن التمييز بينها، ويجوز لنا أن نتساءل: عن أي إبداع نتحدث؟ هل نتحدث عن الإبداع الإلهي مثلًا، أم عن الإبداع البشري، وهما أمران مختلفان؟ وإذا كنا نتحدث عن الإبداع البشري، فهل نحن نتحدث عن الإبداع في العلم أم في الفن، وهما أيضًا أمران مختلفان؟! وحتى إذا كنا نتحدث عن الإبداع في الفن، فهل نتحدث عن الإبداع الأدبي أم عن الإبداع في الفنون التشكيلية أم في فن الموسيقى؟! فلا شك في أن هناك تفاصيلَ دقيقة تميز الإبداع في كل حالة من هذه الحالات. ومع ذلك، فإن هناك خصائصَ عامة تصدق على كل نمط من أنماط الإبداع؛ ومن ثم فإننا نستطيع أن نتحدث عن خصائص عامة تميز الإبداع الفني، بل تصدق على كل إبداع بشري، بما في ذلك الإبداع الفكري أو الفلسفي. وعلى هذا يمكن القول بأنني هنا أتحدث عن شروط الإبداع بإطلاق.
وفي هذا أقول: إن أول شروط الإبداع وأكثرها عمومية تتلخص في كلمة واحدة: الحرية. ذلك أنه من دون الحرية لا يمكن تصور إمكانية تحقق أي إبداع، سواء في مجال الفن أو في مجال الفكر. ولا شك في أن قوة حضور هذا الشرط أو الخصيصة الملازمة للإبداع تتفاوت من حيث أهميتها وقوة حضورها بحسب مجال الإبداع، وبحسب موضوع الإبداع في إطار هذا المجال. إن الصلة بين الإبداع الفني والحرية تبدو أمرًا بديهيًّا، حتى إن بعض الفلاسفة قد فهموا طبيعة الفن باعتباره حرية أو تحررًا من الواقع. فها هو ذا سارتر Sartre يرى الفن باعتباره موضوعًا متخيلًا يوجد وجودًا لا واقعيًّا، فالفنان من خلال الإبداع يتحرر من أسر الواقع ويتخيل الموضوع الواقعي على هواه؛ ومن ثم فإنه لا يكون ملتزمًا بهذا الواقع كما هو حال الشاعر الذي يكون مختلفًا عن حال الناثر. وها هو ذا هربرت ماركوزه Marcuse لا يريد أن يختزل طبيعة الفن في مفهوم الجميل أو الجمال، ويرى الفن باعتباره عملية تحرر اجتماعي تسعى إلى التمرد على النظم القمعية التي تريد أن تفرض قيمها ومعاييرها. وعلى هذا يمكننا القول إنه عندما تنتفي الحرية تنتفي طبيعة الفن.
ومع ذلك يمكننا القول إن الفن يكون لديه غالبًا هذه القدرة على التحرر حتى حينما يوجد الفنان في إطار مجتمع مليء بالقيود السياسية والاجتماعية؛ لأن إبداع الفنان يكون له دائمًا القدرة على المناورة واللامباشرة في التعبير عن رؤية الفنان. أما في مجال الإبداع الفكري، فإن هذه القدرة تكون محدودة حينما تزداد القيود السياسية والمجتمعية؛ ولذلك فإنه في حالة الاستبداد السياسي المقيد للحريات يمكن للإبداع الفني أن يواصل وجوده في نوع من المقاومة، بينما الإبداع الفكري يتقلص دوره إلى أبعد مدى؛ لأن المفكر أو الفيلسوف يكون ملتزمًا بواقعه المعيش في إطار عالم إنساني شامل؛ ومن ثم فإنه لا بد أن يقول شيئًا ما ويعبر عن موقف ما إزاء واقعه هذا، وقد يضطر إلى دفع ثمن باهظ حينما يمارس حريته في التعبير عن موقفه هذا، وقد يكون هذا الثمن هو حريته نفسها كإنسان يتم التضييق على معاشه وحياته، وقد يُلقى به في السجن في الدول القمعية المستبدة. وأود أن أختم مقالي بما قاله لي في هذا الصدد أستاذنا المفكر الكبير فؤاد زكريا - رحمه الله - ضمن ما قاله في حواري معه المنشور في مجلة إبداع (في يونيو 2000)، فحينما سألته عن أسباب غياب الإبداع عن واقعنا الثقافي، قال: «الشرط الأول للإبداع- كما يعلم كل المشتغلين بالفكر- هو الحرية. وأخشى أن أقول إن هناك قيودًا على الحرية فُرضت على المفكرين طوال الفترة الحديثة من تاريخنا. وهذه القيود اتخذت أشكالًا متعددة: كانت هناك قيود السلطة السياسية القائمة، كما كانت هناك قيود السلطة الدينية....، وهذا كله لا يؤدي إلى نوع من الإبداع؛ لأنك عندما تفكر وتريد أن تعبر عن نفسك تجد أنك تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقتك الذهنية في طريقة التعبير وليس في مضمون التعبير حتى تتجنب أذى الجماهير الجاهلة والجماعات التي تترصد لأي فكر مجدد...» رحم الله المفكر المبدع فؤاد زكريا الذي ناله ما نال من نكران وجحود الصغار الذين حجبوا عنه جائزة الدولة التقديرية، وهذا هو المصير الذي ناله أيضًا غيره من الكبار حقًّا الذين أعرفهم في مجالات أخرى عديدة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإبداع فی الإبداع ا إبداع فی فی مجال
إقرأ أيضاً:
أسرى الدفعة السابعة من الأسرى يعانقون الحرية.. معظمهم من غزة (شاهد)
أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن الدفعة السابعة من الأسرى الفلسطينيين،في إطار ختام المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
ووصلت 12 حافلة وعدد من سيارات الإسعاف إلى مدينة خانيونس فجر الخميس، وعلى متنها 445 أسيرا فلسطينيا، جرى إطلاق سراحهم ضمن استحقاقات وقف إطلاق النار، بعد مماطلة إسرائيلية.
وإلى رام الله، وصل 37 معتقلا إلى مدينة رام الله، حيث كان مئات المواطنين وذوو المعتقلين في استقبالهم أمام قصر رام الله الثقافي وساحة متحف محمود درويش، فيما وصل 5 معتقلين من المفرج عنهم إلى مدينة القدس المحتلة.
من جهة أخرى، قال مصدر في حركة حماس ووسائل إعلام مصرية، إن الاحتلال الإسرائيلي سلم 97 أسيرا فلسطينيا إلى مصر، من المبعدين خارج فلسطين.
وفرضت قوات الاحتلال طوقا شاملا في محيط سجن عوفر، لمنع أي تواجد لعائلات الأسرى الفلسطينيين، وحرمانهم من استقبالهم، فيما اقتحمت قوات الاحتلال منازل عدد من الأسرى الذين سيطلق سراحهم، للتأكد من منع أي مظاهر للاحتفال.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
لحظة وصول الحافلات التي تقل الأسرى الفلسطينيين المحررين إلى مدينة #رام_الله.
التفاصيل مع، مراسلة #الميادين، سنرين سلمي????#فلسطين pic.twitter.com/2EGKZvqdUV — قناة الميادين (@AlMayadeenNews) February 26, 2025
وفي القدس المحتلة، انتشرت قوات الاحتلال في محيط سجن المسكوبية، وذلك بهدف منع أي تواجد لعائلات الأسرى في المكان، بالتزامن مع الإفراج عنخمسة من الأسرى.
تواجد قوات الاحتلال أمام سجن المسكوبية بالقدس المحتلة قبيل الإفراج عن الأسرى ضمن صفقة المــقاومة pic.twitter.com/Jz2SVYMQQb — شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) February 26, 2025
وفي مستشفى غزة الأوروبي، احتشد مئات الفلسطينيين لاستقبال الأسرى الذين سيفرج عنهم، رغم البرد القارس الذي يشهده قطاع غزة في هذه الأوقات.
وقال "مكتب إعلام الأسرى"، إن حافلات ومركبات تابعة للصليب الأحمر توجهت إلى حاجز "كرم أبو سالم" جنوب شرق رفح؛ تمهيداً لاستلام الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم، ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل.
رغم البرد القارس ..
أهالي الأسرى، ينتظرون الإفراج عن أبنائهم، في مستشفى غزة الأوروبي شرق خان يونس. pic.twitter.com/8n0AEfDS0s — وائل أبو عمر ???????? (@WaelAboOmer) February 26, 2025
من جانبه، قال مكتب إعلام الأسرى التابع لحركة حماس، إن توزيع الأسرى الذين سيتحررون في الدفعة السابعة للمرحلة الأولى من صفقة طوفان الأحرار وعددهم 620 أسيرا، كالتالي، 151 أسيرا من المؤبدات والأحكام العالية موزعين على 43 أسيرا أفرج عنهم إلى الضفة والقدس، 97 أسيرا إبعاد إلى خارج فلسطين، 11 أسيرا من غزة قبل السابع من أكتوبر.
إضافة إلى 445 أسيرًا من معتقلي غزة بعد السابع من أكتوبر، إضافة إلى 24 من الأسيرات والأسرى الأطفال، فيما بقية أسماء الدفعة من الأطفال والنساء من أسرى غزة بعد السابع من أكتوبر سيتم نشرها لاحقا.
يأتي ذلك بعد إعلان حماس التوصل إلى اتفاق لإنهاء خرق الاحتلال، الذي قام بتأخير الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين الذين كان يجب إطلاقهم في الدفعة السابعة والأخيرة.
وكان من المفترض أن يتم إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين بشكل متزامن مع جثامين الأسرى الإسرائيليين المتفق على تسليمهم خلال المرحلة الأولى.
وقالت الحركة في بيان لها، في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء، إن هذا الإفراج سيتضمن ما يقابلهم (جثامين الأسرى) من النساء والأطفال الفلسطينيين.
وأضافت أن "وفد قيادة حركة حماس برئاسة خليل الحية اختتم زيارته إلى القاهرة، حيث التقى مع المسؤولين المصريين، وجرى التباحث في مجريات تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، واستشراف مفاوضات المرحلة الثانية منه".
وضمن الدفعة السابعة لصفقة التبادل، سلمت حركة حماس السبت الماضي الاحتلال الإسرائيلي 6 أسرى أحياء، وقبلها بيومين سلمت 4 جثامين لأسرى آخرين.
ومن المفترض في مقابل ذلك أن تطلق "إسرائيل" سراح 620 من الأسرى الفلسطينيين، بينهم 50 محكوما بالمؤبد، و97 تقرر إبعادهم للخارج، و23 طفلا اعتقلهم جيش الاحتلال من غزة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وفي 19 كانون الثاني/ يناير الماضي، بدأ سريان اتفاقية وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين حركة حماس ودولة الاحتلال الإسرائيلي بوساطة قطرية ومصرية وأمريكية.
ويتكون الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بعد 15 شهرا من العدوان الإسرائيلي، من ثلاث مراحل مدة كل منها 42 يوما، يتم خلالها التفاوض لبدء مرحلة ثانية ثم ثالثة، وصولا إلى إنهاء حرب الإبادة.
وكانت دولة الاحتلال الإسرائيلي شنت حرب إبادة جماعية على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، ما أسفر عن 160 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على الـ14 ألفا تحت الأنقاض.