الفلسفة ودورها في المجتمعات العربية المعاصرة.. صوت العقل في زمن التحولات
تاريخ النشر: 23rd, July 2024 GMT
أ.د. الزواوي بغورة: الفلسفة الاجتماعية ضرورة لمواجهة تحديات المجتمع العربي المعاصر -
أ.د. شريف طوطاو: في العالم العربي نحتاج إلى تطوير جذري لتجاوز أزمة التعليم وتحقيق التنمية -
أ.د. عبد الله ولد أباه: تجربتنا العربية المعاصرة بحاجة إلى تجاوز التقليد وتقديم إسهامات أصيلة في الفكر العالمي -
د. رضا اللواتي: الفلسفة ضرورة لبناء مجتمع عربي متطور قائم على الحوار وقبول الآخر -
د.
تلعب الفلسفة دورًا محوريًا في تشكيل وعي المجتمعات وتطوير أدوات التفكير النقدي لدى أفرادها، وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، تبرز أهمية إعادة النظر في مكانة الفلسفة ودورها في المجتمعات العربية المعاصرة.
في هذا الموضوع، نستطلع آراء نخبة من المفكرين والأكاديميين العرب حول واقع الفلسفة في العالم العربي وآفاقها المستقبلية، ويناقش المشاركون قضايا جوهرية مثل علاقة الفلسفة بالمجتمع، ودور التعليم الفلسفي، وتحديات الفكر الفلسفي العربي المعاصر، وإمكانيات تطوير فلسفة عربية أصيلة قادرة على المساهمة في مواجهة التحديات الراهنة. ومن خلال هذه الرؤى المتنوعة، نسعى لاستكشاف سبل تعزيز الوعي الفلسفي في مجتمعاتنا، وتفعيل دور الفلسفة كأداة للتفكير النقدي والإبداعي في مواجهة تحديات العصر.
بداية يقول المفكر والباحث والمترجم الجزائري الأستاذ الدكتور الزواوي بغورة أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت إنه لا يكاد ينحصر النقاش في موضوع علاقة الفلسفة بالمجتمع، في سؤال يُطرح بصيغ متعدِّدة: ما دور الفلسفة في المجتمع؟ أو ما الذي يمكن أن تقدِّمه الفلسفة للمجتمع؟ أو ما وظيفة الفلسفة في المجتمع؟...إلخ. ومع أنّ تغيير الصيغة التعبيرية، ينجم عنه تغيير في التحليل والإجابة، وذلك بحكم أنَّ اللغة مبنية على الاختلاف، و تتضمَّن مقاصد معلنة وخفيّة، فإنَّ النقاش العام يكاد يُماهي ويُماثل بين صيغ السؤال المختلفة التي تركز على الفائدة، والجدوى، وذلك لأسباب كثيرة، ليس أقلّها أنَّ الإنسان بما هو إنسان يطلب المنفعة ويتجنب المضرة. ثم إنَّه إذا كانت الفنون تفيد في المتعة، والأديان تفيد في التقوى، والعلوم تفيد في العمران، فإنَّ فائدة الفلسفة ليست واضحة بهذا القدر في أذهان الكثير من الناس، بل إنَّ بعضهم يرفض الفلسفة ويناصبها العداء لهذا السبب، ويمنع تدريسها أو تعليمها، ليس فقط بحجة عدم جدواها، وإنّما أيضًا لكونها مبهمة المقاصد والغايات.
الحق، إنَّ النظر في تاريخ الفلسفة، والاطلاع على أعمال الفلاسفة وسيرهم، يسمح بالردّ على تلك الدعوى، وإقامة البيان على جدوى الفلسفة للإنسان والمجتمع على حد سواء، ذلك لأنَّه إذا كان هنالك خلاف حول طبيعة الفلسفة بما هي محبّة للحكمة، سواء بين الفلاسفة أنفسهم، أو بين نقّادهم، فإنَّ ثمة إجماعا على أنَّها معرفة إنسانية، تعتمد على العقل والمنطق، وتبحث في 3 مجالات كبرى: الوجود، والمعرفة، والقيم، وأنَّه إذا كان المبحث الأول والثاني يشكلان مباحث خاصة، تتصف بقدر من التجريد، والتعقيد، مثلها في ذلك، مثل بقية الفنون والمعارف والأديان التي لها مباحثها وشروطها ومعاييرها الخاصة، فإنّ المبحث الفلسفي الثالث المعني بالقيم يتّصل اتصالًا مباشرا بالمجتمع أيًّا كان مفهومنا للمجتمع، ونعني بذلك القيم السياسية كالحريّة والعدالة والمساواة والديمقراطيّة، والقيم الأخلاقية كالخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والسعادة والمسؤوليّة الفرديّة والجماعية، وكذلك القيم الجمالية كالجميل والجليل والقبيح، والذوق الجمالي، والحكم الجمالي.
ويضيف « بغورة»: لقد تطوّر مبحث القيم في العصر الحديث، نظرا لما عرفه المجتمع البشري من تطوُّرات اقتصادية و تقنية وعقلية وروحية، وأدى إلى ظهور مبحث جديد باسم الفلسفة الاجتماعية يُعنى مباشرة بهذه العلاقة التي تتحدّد بثلاثة مستويات: يتمثّل المستوى الأول في الجانب التاريخي الذي يظهر في تلك المقدمات التاريخية التي تشتمل على الأقل، على ثلاثة مواضيع أساسية أولها دراسة أشكال الصراع والتعاون داخل المجتمع، وهو ما نقرأه على سبيل المثال لا الحصر عند ابن خلدون، وميكافيلي، وهيجل وماركس، وأعلام مدرسة فرانكفورت...إلخ. وثانيها الثورة الصناعية وما أحدثته وتحدثه من تغيرات اجتماعية متعدِّدة. وثالثها الثورة الاجتماعيّة، وبخاصة منذ قيام الثورة الفرنسية، وما أسفرت عنه من إمكانية تغيير الإنسان للمجتمع وتركيبته وقيمه. من هنا، يمكنني القول إنَّ الفلسفة الاجتماعية ترتبط بقضايا الحاضر أو الراهن في صورتها التجريبية والملموسة والتي تظهر في اهتمامها بالحركات الاجتماعية، والأقليات والمهمشين والمبعدين والمهاجرين، وبنوعية حياتهم، ومعاناتهم، وصراعاتهم، وتعمل من أجل مثال اجتماعي وسياسي يتمثل في العدالة الاجتماعية. وهي بذلك، تشكِّل خطابًا فلسفيا يتميز بطابعه التركيبي للبعدين المعرفي والأخلاقي، والوصفي والمعياري، والنظري والعملي، بحيث يتصل المستوى الأول بوصف أثر المؤسسات على التجارب الاجتماعية وحياة الأفراد. ويعمل المستوى الثاني على تقديم نوع من التقييم الذي يتميز بطابعه الملازم لحياة المجتمع. ويسعى المستوى الثالث إلى إحداث التغيير في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات. وبهذا المعنى، فإنَّ الفلسفة الاجتماعية ليست نوعًا من إبيستمولوجيا العلوم الاجتماعية، بما أنَّها لا تكتفي بالدراسة الوصفية للمبادئ العلمية، أو مجرد فلسفة تأملية للمجتمع، بما أنَّها لا تقتصر على دراسة الأنطولوجيا الاجتماعية، وإنّما هي مبحث فلسفي يتميّز بعملية الربط الذي تقيمه بين الوصف والتفسير، والمعيار الواقع، والنظرية والممارسة، وذلك من منظور نقدي يطمح إلى تحقيق قيم التنوير الأساسية.
تهميش الفلسفة آفة
وحول دور الفلسفة والتعليم في العالم العربي يقول الباحث والأكاديمي الجزائري الأستاذ الدكتور شريف طوطاو أستاذ الفلسفة بجامعة السلطان قابوس: وضع الفلسفة في منظومات التعليم العربية يختلف من بلد لآخر، ولكن عموما يمكن القول بأن حضورها حضور باهت، فبعض هذه البلدان لا تدرسها إطلاقا، وأما البلدان التي تدرسها، فتبدأ بتدريسها في التعليم الثانوي، حيث نجد تفاوتا كبيرا في الحجم الزمني المخصص لها بين الشعب الأدبية والشعب العلمية، وأما في التعليم الجامعي فيقتصر تدريسها على أقسام الفلسفة دون سواها، رغم أن هناك مباحث فلسفية يمكن تدريسها بل يجب تدريسها لكل التخصصات لحاجتها إليها، وأقصد هنا تحديدا مبحثي المنطق وفلسفة العلوم، وهو ما يدل على الخلل الذي تعاني منه منظومات التعليم العربية، ولكن ثمة سؤال يطرح ألا وهو: هل البلدان العربية التي تدرس الفلسفة أحسن حالا من غيرها؟ بمعنى: هل عادت عليها الفلسفة بالنفع؟ والجواب في نظري يكون بالنفي، وذلك راجع إلى خلل في تعليمية الفلسفة في هذه البلدان، بحيث إنّ ما يدرس في الغالب هو تاريخ الفلسفة، من دون أن يتعلم الطالب ويكتسب مهارات التفلسف، والمسألة الثانية، هي أن الفلسفة في البلدان العربية لم تؤتِ أكلها لأنها ظلت حتى الآن حبيسة جدران المؤسسات التعليمية دون أن تخرج إلى الفضاء العمومي لتصبح جزءا من ثقافتنا ووعينا الاجتماعي حتى نستفيد منها في ممارساتنا، وليس أدل على ذلك من أن ثقافتنا العامة لا تزال في الغالب ثقافة شعبية تفتقر إلى العقلانية والمنطق والوعي النقدي وغيرها من الخصائص التي ينطوي عليها التفكير الفلسفي.
أما في مسألة «الفلسفة والمجتمع العربي المعاصر» فيقول «أستاذ الفلسفة بجامعة السلطان قابوس»: تعاني مجتمعاتنا العربية من عدة آفات اجتماعية مَرَضية، ومنها ظاهرة التطرف وما تولّد عنها من مظاهر العنف، وفي تقديري، فإن تهميش الفلسفة في بلداننا العربية قد ساهم في تفشي مثل هذه الآفات، ومن ثم نرى أن إعادة الاعتبار للفلسفة في الفضاء الاجتماعي والثقافي العربي بإمكانه أن يحد من هذه الآفات، ذلك أن الفلسفة تعلمنا الحكمة والتفكير النقدي الذي يتسم بالعقلانية والنسبية والاستقلالية الفكرية، كذلك تعمل الفلسفة على تربية الفكر على قيم الحوار والاختلاف والغيرية، وبذلك تجنبنا آفات الدوغمائية والتعصب والانغلاق الفكري وغيرها من الآفات التي تقف وراء التطرف والعنف، وتعمل الفلسفة على إعادة بناء علاقتنا بالهوية على أساس عقلاني في إطار ثقافة العيش المشترك بعيدا عن التعصب والانغلاق والطائفية.
أما عن «الفلسفة والتحولات السياسية والاجتماعية» فيقول الأستاذ الدكتور شريف طوطاو: ليست الفلسفة نمطا من التفكير الميتافيزيقي المجرد كما يشاع عنها في الغالب، بل إن لها علاقة وثيقة بالواقع، بما في ذلك الجانب السياسي والاجتماعي، فقد كان للفلسفة الاجتماعية دور كبير في تحديث المجتمعات الغربية وفي بناء الدولة الحديثة، ومن هنا نستطيع القول إن بلداننا العربية التي تبحث عن تحديث دولها ومنظوماتها السياسية والاجتماعية أحوج ما تكون إلى الفلسفة لإنجاز هذا المشروع التحديثي الكفيل بحل الكثير من المعضلات السياسية والاجتماعية التي تتخبط فيها بلداننا، ومن هذه المشكلات مشكلة الديمقراطية التي كانت من المطالب الأساسية لحراك الشعوب العربية فيما اصطلح عليه بالربيع العربي، وذلك لتجاوز معضلة الاستبداد والفساد السياسي، ومن المؤسف أن ينتهي هذا الحراك إلى ما انتهى إليه من خراب ودمار دون أن يحقق الديمقراطية المنشودة، ذلك أن الديمقراطية ليست شعارات ترفع ولا خطابات تذكر، وإنما هي ممارسة تقتضي نمطا من الوعي والحرية والمسؤولية والمواطنة وهو ما يمكن تحقيقه عن طريق الفلسفة.
وفي الختام يقول الباحث والأكاديمي الجزائري الأستاذ الدكتور شريف طوطاو أستاذ الفلسفة بجامعة السلطان قابوس حول «الفلسفة العربية في سياق عالمي» إنه من المؤسف أن الفلسفة العربية لم تتبوأ المكانة المستحقة في سياق الفكر العالمي، لدرجة أن هناك من شكك ويشكك في وجود فلسفة عربية، وذلك راجع إلى افتقاد هذه الفلسفة إلى الاستقلالية والأصالة والكونية لغلبة جانب التقليد عليها، فالفلسفة العربية الكلاسيكية هي في الغالب فلسفة «مشائية» متأثرة بالفلسفة اليونانية. ومن المؤسف أن الفكر الفلسفي العربي المعاصر قد كرر نفس الخطأ، أعني خطأ التقليد، فلم يبدع لنا فلسفة عربية أصيلة بل راح يفكر في نطاق المذاهب الفلسفية الغربية، فأنتج لنا ماركسية عربية وفلسفة وضعية عربية ووجودية عربية وبنيوية عربية ومثالية عربية وغيرها. ومن هنا نقول، إذا أرادت الفلسفة العربية أن تكون لها مكانة في الفكر الفلسفي العالمي فلا مناص لها من اتباع طريق الاستقلال والإبداع، وأعتقد أن الفكر العربي يمتلك كل المقومات التي تؤهله لإبداع فلسفة عربية أصيلة ذات بعد كوني بإمكانها أن تساهم في مواجهة التحديات التي تواجهها الحضارة المعاصرة مثل التحدي التكنولوجي، وتحديات البيئة والقيم والتنمية وغيرها من القضايا التي تشغل الفكر الإنساني المعاصر، خصوصا في ظل الأزمة التي تعاني منها الفلسفة الغربية التي لم تعد قادرة على مواجهة مثل هذه المشكلات والتحديات.
تجاوز التقليد ضرورة
من ناحيته ركز الكاتب والباحث الموريتاني الأستاذ الدكتور عبدالله ولد أباه أُستاذ الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط بموريتانيا موضوعه حول «الفلسفة العربية في السياق العالمي» مشيرا إلى أنه رصد مسار الفلسفة العربية المعاصرة عبر 3 محطات كبرى قال عنها: أولا.. محاولات بناء صياغات عربية للمذاهب والتيارات الفلسفية الكبرى التي عرفها الحقل الفلسفي العالمي، من قبيل وجودية عبد الرحمن بدوي وشخصانية محمد عزيز الحبابي ووضعية زكي نجيب محمود.. كانت هذه المحاولات في عمومها هشة وهزيلة ولم تفض إلى نتائج نوعية، بل إن أصحابها سرعان ما نبذوها وبحثوا عن مسالك بديلة عنها، وثانيا.. اللحظة الأيديولوجية في الكتابة الفلسفية العربية، التي تمحورت أساسا في الخطاب الثوري الماركسي، وقد رصدها بدقة عبد الله العروي في كتابه الشهير «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» الصادر في نهاية الستينيات، إضافة إلى المحطة الثالثة التي تمثلت في اللحظة التراثية التي سيطرت على الفكر العربي منذ بداية الثمانينيات، وقد تمحورت حول النقد الإبستمولوجي لدى محمد عابد الجابري والتحليل الفينمونولوجي لدى حسن حنفي.
وقال «الأستاذ الدكتور عبدالله ولد أباه»: في كل المحطات السابقة كان للفلاسفة العرب دور رئيسي في بلورة الإشكالات والاهتمامات الأساسية للمثقف العربي. إلا أنه من الملاحظ أن إسهامات الفلاسفة العرب في السردية الفلسفية الكونية كان محدودا وهامشيا، وبالمقارنة مثلا مع الفلسفة العربية الكلاسيكية، لا أحد ينكر أن كتابات الفارابي وابن سينا وابن رشد وإن انطلقت من الإشكالات النظرية والعملية للمجتمعات العربية المسلمة الوسيطة، إلا أنها استخدمت الأدوات المفهومية والمناهج الأنطولوجية الكونية، سواء تعلق الأمر بفلسفة الوجود أو الميتافيزيقا أو تأويلية النص...بما يفسر الأثر الكبير الذي تركته في السياق الفلسفي العالمي... لا شيء من ذلك نراه واضحا في الكتابات الفلسفية العربية المعاصرة التي كانت في غالبها امتدادا للإشكاليات والهموم الأيديولوجية العربية السائدة.
وأضاف «أُستاذ الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط بموريتانيا»: بالنسبة للسؤال الإبستمولوجي، كانت نقطة الانطلاق في الغالب هي سبل استيعاب وامتلاك العلوم والتقنيات الحديثة في سياق مشروع التحديث والتقدم، أو التبشير بفلسفات العلم المسيطرة في الساحة الغربية، مثل وضعية أوغست كونت وتحليلية فيتغنشتاين ونقدية باشلار. وهكذا غابت الأسئلة الجوهرية المتعلقة بتصور الطبيعة ونمط الحقيقة التجريبية وتاريخية النظريات العلمية، فلم يكن للفلاسفة العرب إسهام حقيقي في تناولها.
في المنحى التأويلي الذي شغل الفلاسفة منذ الدخول في « المنعرج اللغوي»، كان تركيز الفلاسفة العرب محصورا إما في التعريف بالتيارات الهرمنوطيقية أو بتطبيق الأدوات والمناهج اللسانية والتداولية على النص التراثي، دون الإسهام في إشكالات المعنى والدلالة ونظام التشكيلات الخطابية ومسارات المعرفة والحقيقة. وهي الإشكالات التي نالت اهتمام الفلاسفة التأويليين المعاصرين.
وحتى فلسفة الدين التي استقطبت اهتماما واسعا في الفكر الفلسفي العالمي بعد كانط، أهملت إلى حد بعيد عربيا رغم مركزية المسألة الدينية في مجتمعاتنا الراهنة. ولقد قلصت النظرة الفلسفية للدين إما في جدل الإيمان اللاهوتي أو التوظيف الأيديولوجي، ولم نلاحظ إسهاما فلسفيا عربيا في موضوعات الاعتقاد والمقدس وأخلاقيات العيش المشترك. وهي الإشكالات الكبرى في فلسفة الدين المعاصرة.
وكان المرحوم محمد عابد الجابري يقول إن الفلاسفة العرب يوظفون مناهج النظر الغربي كمناهج مطبقة بدلا من أن تكون مناهج للتطبيق. والحال إنهم يرون في الفكر الفلسفي المعاصر مادة للحفظ والشرح لا أفقا للتأمل والتفكير.
الديمقراطية حالة ثقافية
حول «الفلسفة والتعليم في العالم العربي» يقول الدكتور رضا مهدي اللواتي المختص بالفلسفة: تمتاز النظم التعليمية بمختلف دول العالم في مدى ما يتعلمه الطالب في أوائل تحصيله العلمي وقبل تكوينه الفكري في استطاعته التفكير المستقل و بأحدث الأساليب والنظريات التي يستطيع من خلالها أن يفكر تفكيرا مستقلا و يكوّن لنفسه وجهة نظر في مختلف القضايا الخاصة والعامة ولذلك نجد أن بعض الأنظمة تحاول إدراج المواد الفلسفية والفكرية من الصفوف المتوسطة إلى الصفوف العليا حتى إذا ما تخرّج الطالب يكون مسلحا بسلاح التعقل و إعمال الفكر في قضاياه و بهذا يستطيع أن يساهم في القضايا السياسية الوطنية من خلال التصويت و الدخول في المناقشات العامة.
كان التعليم في السابق يتمحور حول عدة مواد منها اللغة والبلاغة والمنطق والفلسفة والرياضيات والهندسة لأهمية هذه المواد في التأسيس العلمي للطالب وتكوينه العقلي. ولذا من الأهمية إدراج هذه المواد الأساسية في المناهج التعليمية في مدارسنا إذا ما أردنا أن نواكب التطور العلمي والتقني و ركب الحضارة وإعادة الأمجاد العلمية في القرون الإسلامية الأولى.
فالمدارس الإسلامية القديمة كانت فيها العلوم العقلية حاضرة سواء المنطق أو الفلسفة أو الرياضيات والهندسة إلى جانب العلوم العربية والدينية على مختلف الأصعدة وفي مختلف الأقطار الإسلامية من المشرق العربي إلى أقصى المغرب الإسلامي.
وعن «الفلسفة والمجتمع العربي المعاصر» يقول «اللواتي»: الفلسفة تعلم الإنسان السؤال والحوار وهذه هي الطريقة المثلى لبناء الإنسان المعرفي ومن ثمّ إدراكه أن - فوق كل ذي علم عليم -، ومن النتائج العملية لهذه المعرفة التواضع العلمي والعملي وإلا سيصبح الإنسان متشددا ولن يعترف بالآخر ولن تكون لديه ثقافة الحوار وقبول الآخر وهذا هو أهم مطلب لاستقرار النظام الاجتماعي والنظامي السياسي في الدولة. ماذا ستكون حال المجتمعات والدولة إذا لم يتقبل الإنسان رأي الآخر ولم يحترم وجهات النظر الأخرى؟ من هنا تنبع أهمية تعليم أسس الحوار وقبول الآخر. وليست مسألة الهوية إلا قبول الهويات تحت مظلة الوطن ومن مقتضياته قبول الآخر وقبول دينه ومعتقده وهويته وقبوله كإنسان عاقل مفكر له هوية مستقلة عما اعتقد فيه أو ما تربّى عليه. ومن نتائج الفلسفة العملية التجليات في العمارة والفنون والموسيقى والفن. فالمعمار أخذ منعطفا جديدا عندما دخل الإسلام الأندلس وتقوْلب بقالب جديد وكذلك في الهند وتحديدا في العصر المغولي وفي إيران في العصر الصفوي وهكذا. نجد أن الهويات بقيت ولكن تأثرت بالفكر الإسلامي وتجلى ذلك في مختلف النواحي الثقافية والشعبية، فضلا عن الجوانب الفكرية.
أما عن «الفلسفة والتحولات السياسية والاجتماعية» فيرى الدكتور رضا اللواتي أنه لا يمكن للمجتمعات أن تتطور إلا بمحفز داخلي وقناعة مسبقة لقبول الآخر وبناء الدولة جماعيا وذلك لأن الحرية مطلب فطري والإنسان العاقل مجبول على إبداء رأيه، وبناء الأوطان يكتمل ببناء الإنسان، والديمقراطية هي حالة ثقافية فلسفية فكرية قبل أن تكون ممارسة سياسية، ويقول: ما شاهدناه خلال السنين المتأخرة من الغليان الشعبي كان نتيجة قمع الحرية وإسكات الإنسان العاقل وهذا الذي يولد التشنج والاحتقان في المجتمعات. وتطور الأمم مرهون بإعطاء الإنسان حريته الفكرية والعقائدية والسياسية حتى تنعم المجتمعات وتتطور البلدان وبالتالي يتطور الاقتصاد لأجل الوصول إلى مجتمع عادل ومنصف.
وفي الختام قال الدكتور رضا مهدي اللواتي المختص بالفلسفة: اهتمّ العرب بالفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى لمّا وجدوا فيها حلولا لأزمتهم الدينية والفلسفية والسياسية والعلمية. ولكن تركوها لأنها لم تتطور في مقابل التطور الذي حصل في الغرب فتخلوا عن الفلسفة الإسلامية - طبعا توجد هناك أسباب كثيرة - ولكن ما نجده من الاهتمام بالفلسفة الإسلامية في العصور المتأخرة لم تكن أهدافه معرفية وإنما كانت لأجل السيطرة والتوجيه والإدارة. السيطرة السياسية على الأوطان وتوجيه السياسات وإدارة المجتمعات فكريا واقتصاديا. فخلاصة التوجه الغربي وما تمخض عنه من دراسات استشراقية كانت الأهداف بعيدة كل البعد عن سياقاتها المعرفية وهذا واضح بأدنى قراءة للواقع المتأزم الذي تعيشه المجتمعات وكذلك الخلل السياسي في إدارة الأوطان والتكفير السائد في بعض المجتمعات الإسلامية. وما حصل في العقد الماضي من ظهور الحركات التكفيرية ليس إلا بسبب السياسات الغربية والتوجيه إلى نبذ الآخر.
الفلسفة شأن عام
من جانبها تقول الباحثة والأكاديمية الجزائرية الدكتورة شفيقة وعيل، الباحثة بمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية بجامعة نزوى: تنبّه صُنّاع المناهج المدرسية والأكاديمية في العالَم إلى أنّه لم يعُد من المجدي اليوم بناء فردٍ عارفٍ بالمعلومة التي لم يعد يفصله عنها إلّا ضغطة زرّ، وإنّما صار من الضروريّ بناء فردٍ قادرٍ على التفكير الناقد وتطوير أدواته للخروج من الأساليب المحنّطة إلى الإبداع الواعي. ولا يمكن الوصول إلى هذا الهدف بغير الفلسفة بوصفها الإطار الأعلى للتفكير والأقدر على تقديم رؤية كلية لمسارب النظر في القضايا الهامة التي تستدعي النقاش واتّخاذ موقف جذري. وعلى هذا الأساس، وخلال القرن الماضي، تبنّت المدارس الغربيّة هذا التوجُّه بينما بقي الجدل في الأكاديميات العربية حوله، ليس فيما يتعلّق بمشروعية دراسة الفلسفة فحسب ولكن أيضًا في فكرة التخصص. ذلك أنّنا إلى اليوم ما زلنا نعامل الفلسفة على أنّها تخصُّص يُعنى بتاريخيّة مناهج النظر وأصولها، لكن لم نطوّرها أدواتٍ للنّظر في كلّ العلوم والتخصّصات. ففلسفة العلوم وفلسفة الأدب وفلسفات الإنسانيّات وفلسفة الدّين ليست أقلّ جوهريّةً من تاريخ الفلسفة نفسه. بل إنّه من المهمّ اليوم تبنّي الفلسفة بوصفها شأنًا عامًّا لرفع مستوى الوعي بالقضايا الوجودية والحياتية وبضرورة تبنّي مواقف واعية بالمسؤولية فيها في ظلّ الهرج المعرفي السائد. فباتضاح فلسفةٍ للحياة يمكن بلا أدنى شكّ أن نستوعب الرؤية القيمية الكبرى التي تجمع الإنسان بربّه وبالإنسان وبالكون، وتجعله أقدر على إدارة شؤون حياته في ظلّ الهدف الأسمى لوجوده وهو عبادة الله وعمارة الأرض بها. وإذا قلتُ إدارة شؤون حياته وفق منظور فلسفةٍ للحياة، فإنّما أعني تمييزه بين الثوابت النفسية والمجتمعية والكونية التي لا يمكن أن يسمح بانهدامها وبين المتغيّرات التي تمكّنه من التكيّف مع التحوّلات السياسية والاجتماعية والسياسية.
وتضيف «وعيل»: هذا المنظور المتفائل والمثاليّ للفلسفة هو همٌّ مشترك بين المهتمّين بالثقافة في المجتمعات العربيّة عمومًا، لكنّ الذي أريد تدقيق النّظر فيه هو التحدّيات التي يرفعها تمكين الفلسفة في مجتمعاتنا العربيّة. أولا التحدّي الديني، ولا أعني به الدين نفسه بقدر ما أعني به فهم الدين. ذلك أنّه ما زالت هناك رؤية قديمة سائدة ترى أنّ الفلسفة ضرب من الزندقة والهرطقة، والواقع أنّ علم الكلام بحدّ ذاته هو فلسفة، وكان يمكن استثمار النظر فيه لبناء فلسفة قابلة لاستيعاب التعدّد والانفتاح على المعرفة الدينية المختلفة. التحدي الثاني هو التحدّي المعرفي، وأظن أنّه يشكّل خطرًا كبيرًا اليوم في ظلّ موجة التفلسف التي سادت في العشرية الأخيرة المجتمعات العربية والتي على ما فيها من إيجابيات، يعتريها الخطر من تعويم الفلسفة وعدم إخضاعها للمعايير المعرفية خاصةً في المجالات الأكاديمية وجعل التعاطي معها حالة من الهذر اللغويّ. التحدّي الثالث والذي أراه حجر الأساس في الفلسفة هو تحدّي تأسيس فلسفةٍ إنسانية للقيم والتي سيكون من شأنها أن تحرّك كلّ العلوم والمجالات وتدير كلّ أنواع العلاقات. وانفتاحنا اليوم على الذكاء الصناعي الذي فجّر ثورةً صناعيّة خامسة يجعلنا في مواجهة حالةٍ عارمة من الفوضى المعرفية والقيمية والوجودية، وبدون فلسفة للقيم تُرتِّب فوضى هذه الثورة، فإنّ الإنسان مهدَّد في وجوده وفي قيمته أيضًا. فإذَن، للخلاص لا بدّ من الفلسفة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیاسیة والاجتماعیة المجتمعات العربی العربیة المعاصرة فی العالم العربی الفلسفة العربیة الأستاذ الدکتور العربی المعاصر أستاذ الفلسفة فی المجتمعات فی المجتمع الفلسفة فی فی مواجهة النظر فی فی الفکر التحد ی من هنا ذلک أن
إقرأ أيضاً:
كان عاما مليئا بالإنجازات.. وبناء عُمان الجديدة
رغم التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية من حولنا والتي ستكون لها تأثيرات كبيرة متوسطة وبعيدة المدى إلا أن الأمر ليس بهذا السوء عند النظر إلى الدول كلٌ على حدة.
سلطنة عُمان على سبيل المثال حققت إنجازات كبيرة في بنائها الداخلي خلال العام الجاري الذي توشك أيامه على الانتهاء. لقد تحولت الكثير من الآمال والطموحات إلى حقيقة ماثلة على أرض الواقع بالعمل الجاد وليس بالمعجزات بدلالتها الدينية رغم أن بعض الإنجازات التي تحققت كانت أقرب إلى المستحيلات بالمعنى الحرفي للكلمة.
وبانتهاء أيام هذا الشهر تكون سلطنة عمان قد أكملت أربع سنوات من أصل خمس سنوات هي مدة الخطة الخمسية العاشرة التي انطلقت معها «رؤية عمان 2024». وللعام الثاني على التوالي تواصل سلطنة عمان تحقيق فوائض مالية حقيقية نتيجة خطة الإصلاح الاقتصادي والمالي التي قادها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- وجاءت بنتائج إيجابية بل إنها تجاوزت الطموحات الأولى نتيجة التحولات التي حصلت في أسعار الطاقة بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية وكذلك الخطط التي تبنتها مجموعة «أوبك بلس».
لكن كل هذا لم يكن ليجدي نفعا في سلطنة عمان التي كانت مع بداية الخطة الخمسية العاشرة تعاني من عجوزات مالية ضخمة ومديونية كبيرة وصلت إلى حدود خطيرة حين تجاوزت الخطوط الحمراء من حيث نسبة المديونية لمجموع الدخل الوطني. لكن كل ذلك ذهب إلى الحدود الآمنة في مدة زمنية محدودة.. وهذا مرده إلى القيادة الحكيمة إضافة إلى الإمكانيات التي تتمتع بها سلطنة عمان ومرونتها في التعامل مع الأزمات.
واستطاعت عُمان بفضل كل الإصلاحات الهيكلية إدارية ومالية من رفع تصنيفها السيادي إلى حدود مستقرة واستثمارية الأمر الذي وضع سلطنة عمان على خريطة الاستثمارات الدولية خاصة أن عُمان تشهد تحولات كبرى وجوهرية في مجال الاستثمار في الطاقة النظيفة الأمر الذي جعلها قبلة للاستثمارات العالمية.
لكن هذا الأمر تحقق أيضا نتيجة تنويع مصادر الدخل وتطوير منظومة القوانين التي تسهل دخول رؤوس الأموال وبناء استثمارات من شأنها أن تدوم مدعومة بالاستقرار السياسي والأمني في وسط مضطرب في المنطقة.
وشهدت القطاعات الرئيسية مثل السياحة والخدمات اللوجستية والطاقة المتجددة ومصايد الأسماك نموًّا قويًّا، بدعم من المبادرات الاستراتيجية التي أفرزتها «رؤية عمان2040». لقد ارتفعت تدفقات الاستثمار مع سعي سلطنة عمان بدأب إلى جذب المستثمرين الأجانب والمحليين من خلال الإصلاحات والحوافز. كما عززت مشاريع البنية الأساسية الكبرى والمناطق الحرة والمدن الصناعية مكانة عُمان بوصفها وجهة استثمارية تنافسية. وكان النمو المطرد في الشراكات بين القطاعين العام والخاص أساسية في كل هذه التحولات عبر الدفع بالابتكار وضمان التنفيذ الفعال لمشاريع التنمية.
لكن عُمان خلال هذه المرحلة لم تكتفِ بالدفع بالاقتصاد نحو الواجهة ولكنها اهتمت بشكل كبير بتنمية الموارد البشرية وذلك من خلال المبادرات التي تهدف إلى تعزيز التعليم وتطويره والرعاية الصحية والتدريب على المهارات في مختلف المجالات.
تستطيع سلطنة عُمان وهي تودع عاما جديدا أن تقول بشكل يقيني إنها أنجزت فيه الكثير والكثير وخطت خطوات واثقة نحو الأمام/ المستقبل في مجالات كثيرة.