هل يمكن لنص روائي، أن يُظهر قوة الأدب المذهلة وأن يجعلنا نسمع أصواته المتعددة؟ هل يمكن له أن يساعدنا على اكتشاف مدى آخر عبر القصص التي يرويها في مواجهة عنف العالم وثقل الماضي وإيجاد ذاكرة مشتركة عبر هذا السرد المتخيل؟ هذا ما يبدو عليه الأمر في رواية الكاتب البرتغالي أنطونيو لوبو أنطونيش الأخيرة «ضفة البحر الأخرى» (الصادرة مؤخرا في ترجمة فرنسية عن منشورات بورجوا)، التي تمثل مرحلة جذرية، متقدمة، في عمل هذا الكاتب الكبير؛ إننا ببساطة أمام كتاب مدهش فعلا عن العالم الاستعماري الذي يشكل موضوعا مفضلا لدى الكاتب البرتغالي.
نقرأ أنطونيو لوبو أنطونيش - (التي تُرجمت بعض رواياته إلى العربية عن «منشورات الجمل»)- كما لو أننا نحلم، كما لو أننا نجمع عناصر الواقع المتناثرة التي تجد فجأة معناها، لا، نظامها، في نسيج النوم؛ كما لو أن أحاسيسنا تصاب بذهول غريب، لنعلق معها في زمن متناقض، يتقدم ولا ينقضي، كأنه في نوع من انعدام الوزن، وكأن أعيننا قد انفصلت عنّا. نقرأ رواياته وننغمس فيها؛ وفجأة، نرى، ندرك ما هو مفقود، وما لم يُقل، وما لم يُكتب، كأننا نقوم بعملية تجميع لصورة خريطة هائلة تنقصها بعض القطع الصغيرة. وخلال عملية القراءة هذه، تكتسب القصص التي يرويها الكاتب- من خلال قوة الأصوات الفوضوية التي تنتقل من كائن إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى ثان- تماسكًا يبدو مستحيلًا، أي تكتمل الصورة أمامنا، وتكتمل اللوحة، ربما لذلك تبدو كتبه وكأنها مكتوبة في بُعد آخر للغة، في مدة أخرى، بكلمات تنفصل من ليل مبهم.
في كلّ مرة أقرأ لهذا الكاتب المتفرد، أشعر بالقلق، بعدم التوازن. ربما لأنني أتساءل، بداية، عمّا سوف تتحدث عنه روايته، متى حدثت هذه الأشياء، من يروي القصص، أين هو هذا المكان الذي تحتله هذه الشخصيات -الحاضرة/ الغائبة في الوقت عينه بشكل غريب- ما الذي تقوله لبعضها البعض. وذلك لأن القصة تتغير دائمًا، وتتحول إلى ما لا نهاية. إزاء ذلك، يختبر القارئ لغة متحولة تمامًا، ومتغيرة تمامًا. ولكي نفهم ذلك، وندرك إلى أي مدى تكون كتاباته غير عادية، أو شبه إعجازية، علينا فقط أن نثق بالأصوات نفسها التي تحمل القصص، كلها معًا، مثل الخطوط أو المنحنيات التي تتقاطع أو تتجاهل بعضها البعض في مساحة لا نهاية لها.
الأهم في ما يكتبه الروائي البرتغالي، هي هذه الأصوات، تصميمها، أصداؤها، انحرافاتها التي لا نهاية لها. لكي نعرف ما تتحدث عنه هذه الكتب، علينا ببساطة أن نستمع إليها، أن نضيع في داخلها، أن نترك أنفسنا تنجرف بعيدًا. بهذه الطريقة، يخبرنا كتاب «ضفة البحر الأخرى»، رعب بدايات الحرب الاستعمارية المرعبة التي شنتها البرتغال في أنغولا. تعود الأحداث إلى العام 1961، حين ينتفض العمال، بقيادة أنطونيو ماريانو، فيسحقهم الجيش بوحشية لا تصدق. لكن من الواضح جدا أن لوبو أنطونيش لا يكتب رواية تاريخية تحكي لنا، بكلّ البُعد الأخلاقي الذي نتخيله، بدايات النضال من أجل الاستقلال، بل إنه ينقل إلينا ذاك الرعب الخلفي، تلك الأحداث التي لا تجري على خشبة المسرح، بل في الكواليس، كأنها ضوضاء تأتي من الوراء لكي تلوث كل شيء في نوع من التراجع المرعب.
من قرأ سابقا بعض أعمال أنطونيش، يعرف بالتأكيد المكانة التي تحتلها هذه الحرب الأنغولية في عمله الأدبي -(حيث أمضى هناك خدمته العسكرية كطبيب)- فهي حاضرة بدءا من نصوصه الأولى المستوحاة من هذه التجربة: «فادو ألكساندرينو»، «إست يهوذا»، «معرفة الجحيم»، «بهاء البرتغال»، «مساء الخير أيتها الأشياء التي في الأسفل»، «حتى تصبح الحجارة أكثر ليونة من الماء»، «رسائل من الحرب» وغيرها- ومع ذلك، فإن هذه الرواية الجديدة ليست قصة حرب، بل هي قصة إلغاء العالم الاستعماري. وهكذا، فإن الشخصيات في «ضفة البحر الأخرى» لا تروي مباشرة أهوال القتال والقمع وأسبابه، مثلما لا تروي العنصرية المروعة التي تنضح من كلّ الخطابات، بل إنها تخبرنا، بحزن ووضوح رهيبين، ما قد فقدته مع نهاية العالم، ما فكرت فيه، وشعرت به، وأدركته في ذلك الوقت، كانت قبلا قد فقدت حياتها وذكرياتها الأكثر حميمية وهي الآن تفقد وجودها في «الما بعد...». شخصيات، لا تروي لحظة واحدة من التاريخ وإنما كيف يقلب التاريخ حياتها، وكيف يقلب العنف مشاعرها رأسًا على عقب، وكيف تبحث في نوع من اليأس المخيف عن «شاطئ ثالث من البحر لن يتمكن أحد منّا من تحقيقه».
ثلاث شخصيات تتحدث هنا: ابنة أحد المستوطنين التي عادت إلى لشبونة مع خادمتها، لتروي فقدان حياتها السابقة ومصائر عائلتها والفزع من العيش في مكان آخر مع الذكريات فقط. ثم مسؤول صغير، فقد كلّ شيء، يعيش مع امرأة سوداء في نوع من المنفى الداخلي، ليتذكر بدوره عائلته وما يدفع البشر إلى ترك كل شيء والرحيل، وأخيرًا، ذلك العقيد الذي أرسل إلى هناك لإخماد التمرد، حيث نجده يفكر في إخفاقاته وفي زواجه الذي يتفكك وهواجسه الجنسية ومخاوفه الطفولية. هذه الكائنات المشوشة -الضائعة على جانب أو آخر من البحر الذي يتقدم «إلى الأمام والخلف ويسرق منّا ما يسارع إلى إعادته إلينا مقابل ما كنّا عليه»، والذي يبدو لانهائيًّا- لا تقول أي شيء بشكل لا لبس فيه. إنها لا تحكم على الحدث التاريخي، بل تختبر ما يتغير ثقله في حياتها، وما يجبرها على العودة إليه.
في الواقع، لا يركز الكتاب على التاريخ -الذي لا يحظى باهتمام كبير من الروائي- بل على طبيعة نهاية العالم. لذا فإن ما يرويه لنا الكتاب، يتجاوز الواقع التاريخي، والحكم الذي سنصدره عليه، ليقدم لنا هذا الاضطراب الذي يسببه هذا التاريخ بالذات في نفسية الكائنات التي يلغي عالمها. ثمة بعدٌ آخر في الكتاب: قوة التفكير في الفقدان والاقتلاع والعنصرية والعنف والسيطرة والطبيعة وثقل الماضي في الحاضر، والعودة الأبدية إلى الطفولة، وهموم الأبوة والعنف الأسري، والمكان والجنس، وعنف العلاقات بين الرجل والمرأة، ورعب الليل الداخلي الذي يسكننا ونكافح جاهدين ضده، محاولين أن نتقاسمه مع آخرين.
«ضفة البحر الأخرى» كتاب كبير عن الذاكرة، عن الوجود، عن غير المرئي، عن الصور، عن الكتب أيضًا. كتاب يلغي السرد من نظامه، عن طريق تشتيت انتباهه إلى أقصى الحدود. يخترع أنطونيو لوبو أنطونيش أصواتًا للتعبير عن تعقيد الكون وتناقضاته وثباته، ليخرج مادة تشبه الذاكرة المشتركة إلى حدّ كبير؛ لأن هذا هو المكان الذي يكمن فيه جزء من «عبقرية» الكاتب -تحويل فوضى الأصوات الفردية التي تتعقد وتكمل بعضها البعض بشكل لا نهائي إلى مساحة ذاكرة من التجارب التي تتجاوزها وتندمج في القارئ. من دون شك، قليلون هم الكتّاب الذين حققوا هذا الإنجاز الفعلي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی نوع من
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. ليلة واحدة فقط
#ليلة_واحدة_فقط..
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 1 / 10 / 2019
أفعلها كل شتاء ، أختار ليلة باردة وماطرة ، وأدعو الأولاد أن ننام في غرفة واحدة ، نعيد ترتيب “فرشات” الغرفة ، اجعلهم يقتربون من بعضهم أكثر ،ينامون على شكل سطور متلاصقة وأنا أختار مكاناً فوق رؤوسهم جميعاً حتى أكون مقسوماً على الجميع ، أطفئ الضوء العادي وأبقي على ضوء خافت ،أترك شقاً طفيفاً في الشباك لتحدث الريح صفيرها المعتاد..أمنع استخدام الأجهزة الاليكترونية او الهواتف في هذه الليلة..ثم أبدأ بسرد ما أحفظ من القصص والحكايا القديمة..وكلما زاد قذف المطر على الزجاج أسهبت في الحكاية وفي تفاصيلها وكأنني أشرك الطقس معي ليستمع مع باقي أفراد العائلة لأحداث الحكاية.. أحياناً أقوم بتقليدهم فرداً فرداً لأسمع قهقهات الصغار..أحاول جاهداً أن أصنع لهم ليلة مختلفة ، تبقى محفورة في روزنامة العمر ، تماماً كاستراحة وحيدة في طريق صحراوي طويل..
*
الأولاد مهما كبروا يبقوا أطفالاً، مهما ادعوا النضوج والاستقلالية الا أنهم في حنين دائم إليك إلى صوتك وملامحك ووجودك ،وأنت بأبويتك الصادقة، حاول أن تعيدهم إلى ذات الاحتياجات وذات الليالي القديمة وذات القصص ،لا لشيء ، لكن حتى لا تبعد المسافة بينك وبينهم أو تبعد فيما بينهم..الغرف المنفصلة برّدت العواطف، والهواتف الذكية عزلتنا عن أحاسيسنا تجاه بعضنا ، صار في البيت عوالم مختلفة في أمتار مربعة صغيرة ، أجساد متقاربة واهتمامات وأرواح متنافرة و”غرفة العيلة” أصبحت مجرّد “لوبي في فندق” ، ملتقى قصير للصاعدين والنازلين والمغادرين والقادمين يلتقطون فيها أنفاسهم ثم يذهب كل إلى وجهته..
مرّت بي أحداث كثيرة ونسيتها ،وأيام كثيرة ونسيتها، نجاحات واخفاقات ونسيت تفاصيلها، لكنني ما زلت أذكر ليالي الشتاء الماطرة ، وأذكر مكاني بين “الفرش” ، و الرسمات الطفولية على لحافي، وأماكن أشقائي واحداً واحداً، وأذكر مكان “السراج” وأماكن الدلف ، والأواني التي تتلقّى مطر السقف البطيء ، أذكر الحكايا والضحكات ، وصوت المزاريب ، واهتزاز الشباك الشمالي ،ورائحة الديزل النازل من “بطيحة” صوبة البواري..نسيت في العمر خصومات كثيرة واوجاع كثيرة وانجازات كثيرة..لكني لا أنسى غرفة من حجر وطين جمعتنا كلنا بمعجزة الأم والأب تحت سقفها ذات ليلة..قبل أن تهب علينا ريح الكهولة..
أيها الآباء أفعلوا مثلي..ليلة واحدة فقط ستزيّن العمر،أزيلوا الحواجز ،وجسروا الأرواح، كونوا بين أبنائكم ، صدقوني من هنا تصنع المحبة..
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#175يوما
#الحريه_لاحمد_حسن_الزعبي
#سجين_الوطن
#لأحمد_حسن_الزعبي