لجريدة عمان:
2025-02-02@21:14:23 GMT

شاطئ ثالث للبحر

تاريخ النشر: 23rd, July 2024 GMT

شاطئ ثالث للبحر

هل يمكن لنص روائي، أن يُظهر قوة الأدب المذهلة وأن يجعلنا نسمع أصواته المتعددة؟ هل يمكن له أن يساعدنا على اكتشاف مدى آخر عبر القصص التي يرويها في مواجهة عنف العالم وثقل الماضي وإيجاد ذاكرة مشتركة عبر هذا السرد المتخيل؟ هذا ما يبدو عليه الأمر في رواية الكاتب البرتغالي أنطونيو لوبو أنطونيش الأخيرة «ضفة البحر الأخرى» (الصادرة مؤخرا في ترجمة فرنسية عن منشورات بورجوا)، التي تمثل مرحلة جذرية، متقدمة، في عمل هذا الكاتب الكبير؛ إننا ببساطة أمام كتاب مدهش فعلا عن العالم الاستعماري الذي يشكل موضوعا مفضلا لدى الكاتب البرتغالي.

نقرأ أنطونيو لوبو أنطونيش - (التي تُرجمت بعض رواياته إلى العربية عن «منشورات الجمل»)- كما لو أننا نحلم، كما لو أننا نجمع عناصر الواقع المتناثرة التي تجد فجأة معناها، لا، نظامها، في نسيج النوم؛ كما لو أن أحاسيسنا تصاب بذهول غريب، لنعلق معها في زمن متناقض، يتقدم ولا ينقضي، كأنه في نوع من انعدام الوزن، وكأن أعيننا قد انفصلت عنّا. نقرأ رواياته وننغمس فيها؛ وفجأة، نرى، ندرك ما هو مفقود، وما لم يُقل، وما لم يُكتب، كأننا نقوم بعملية تجميع لصورة خريطة هائلة تنقصها بعض القطع الصغيرة. وخلال عملية القراءة هذه، تكتسب القصص التي يرويها الكاتب- من خلال قوة الأصوات الفوضوية التي تنتقل من كائن إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى ثان- تماسكًا يبدو مستحيلًا، أي تكتمل الصورة أمامنا، وتكتمل اللوحة، ربما لذلك تبدو كتبه وكأنها مكتوبة في بُعد آخر للغة، في مدة أخرى، بكلمات تنفصل من ليل مبهم.

في كلّ مرة أقرأ لهذا الكاتب المتفرد، أشعر بالقلق، بعدم التوازن. ربما لأنني أتساءل، بداية، عمّا سوف تتحدث عنه روايته، متى حدثت هذه الأشياء، من يروي القصص، أين هو هذا المكان الذي تحتله هذه الشخصيات -الحاضرة/ الغائبة في الوقت عينه بشكل غريب- ما الذي تقوله لبعضها البعض. وذلك لأن القصة تتغير دائمًا، وتتحول إلى ما لا نهاية. إزاء ذلك، يختبر القارئ لغة متحولة تمامًا، ومتغيرة تمامًا. ولكي نفهم ذلك، وندرك إلى أي مدى تكون كتاباته غير عادية، أو شبه إعجازية، علينا فقط أن نثق بالأصوات نفسها التي تحمل القصص، كلها معًا، مثل الخطوط أو المنحنيات التي تتقاطع أو تتجاهل بعضها البعض في مساحة لا نهاية لها.

الأهم في ما يكتبه الروائي البرتغالي، هي هذه الأصوات، تصميمها، أصداؤها، انحرافاتها التي لا نهاية لها. لكي نعرف ما تتحدث عنه هذه الكتب، علينا ببساطة أن نستمع إليها، أن نضيع في داخلها، أن نترك أنفسنا تنجرف بعيدًا. بهذه الطريقة، يخبرنا كتاب «ضفة البحر الأخرى»، رعب بدايات الحرب الاستعمارية المرعبة التي شنتها البرتغال في أنغولا. تعود الأحداث إلى العام 1961، حين ينتفض العمال، بقيادة أنطونيو ماريانو، فيسحقهم الجيش بوحشية لا تصدق. لكن من الواضح جدا أن لوبو أنطونيش لا يكتب رواية تاريخية تحكي لنا، بكلّ البُعد الأخلاقي الذي نتخيله، بدايات النضال من أجل الاستقلال، بل إنه ينقل إلينا ذاك الرعب الخلفي، تلك الأحداث التي لا تجري على خشبة المسرح، بل في الكواليس، كأنها ضوضاء تأتي من الوراء لكي تلوث كل شيء في نوع من التراجع المرعب.

من قرأ سابقا بعض أعمال أنطونيش، يعرف بالتأكيد المكانة التي تحتلها هذه الحرب الأنغولية في عمله الأدبي -(حيث أمضى هناك خدمته العسكرية كطبيب)- فهي حاضرة بدءا من نصوصه الأولى المستوحاة من هذه التجربة: «فادو ألكساندرينو»، «إست يهوذا»، «معرفة الجحيم»، «بهاء البرتغال»، «مساء الخير أيتها الأشياء التي في الأسفل»، «حتى تصبح الحجارة أكثر ليونة من الماء»، «رسائل من الحرب» وغيرها- ومع ذلك، فإن هذه الرواية الجديدة ليست قصة حرب، بل هي قصة إلغاء العالم الاستعماري. وهكذا، فإن الشخصيات في «ضفة البحر الأخرى» لا تروي مباشرة أهوال القتال والقمع وأسبابه، مثلما لا تروي العنصرية المروعة التي تنضح من كلّ الخطابات، بل إنها تخبرنا، بحزن ووضوح رهيبين، ما قد فقدته مع نهاية العالم، ما فكرت فيه، وشعرت به، وأدركته في ذلك الوقت، كانت قبلا قد فقدت حياتها وذكرياتها الأكثر حميمية وهي الآن تفقد وجودها في «الما بعد...». شخصيات، لا تروي لحظة واحدة من التاريخ وإنما كيف يقلب التاريخ حياتها، وكيف يقلب العنف مشاعرها رأسًا على عقب، وكيف تبحث في نوع من اليأس المخيف عن «شاطئ ثالث من البحر لن يتمكن أحد منّا من تحقيقه».

ثلاث شخصيات تتحدث هنا: ابنة أحد المستوطنين التي عادت إلى لشبونة مع خادمتها، لتروي فقدان حياتها السابقة ومصائر عائلتها والفزع من العيش في مكان آخر مع الذكريات فقط. ثم مسؤول صغير، فقد كلّ شيء، يعيش مع امرأة سوداء في نوع من المنفى الداخلي، ليتذكر بدوره عائلته وما يدفع البشر إلى ترك كل شيء والرحيل، وأخيرًا، ذلك العقيد الذي أرسل إلى هناك لإخماد التمرد، حيث نجده يفكر في إخفاقاته وفي زواجه الذي يتفكك وهواجسه الجنسية ومخاوفه الطفولية. هذه الكائنات المشوشة -الضائعة على جانب أو آخر من البحر الذي يتقدم «إلى الأمام والخلف ويسرق منّا ما يسارع إلى إعادته إلينا مقابل ما كنّا عليه»، والذي يبدو لانهائيًّا- لا تقول أي شيء بشكل لا لبس فيه. إنها لا تحكم على الحدث التاريخي، بل تختبر ما يتغير ثقله في حياتها، وما يجبرها على العودة إليه.

في الواقع، لا يركز الكتاب على التاريخ -الذي لا يحظى باهتمام كبير من الروائي- بل على طبيعة نهاية العالم. لذا فإن ما يرويه لنا الكتاب، يتجاوز الواقع التاريخي، والحكم الذي سنصدره عليه، ليقدم لنا هذا الاضطراب الذي يسببه هذا التاريخ بالذات في نفسية الكائنات التي يلغي عالمها. ثمة بعدٌ آخر في الكتاب: قوة التفكير في الفقدان والاقتلاع والعنصرية والعنف والسيطرة والطبيعة وثقل الماضي في الحاضر، والعودة الأبدية إلى الطفولة، وهموم الأبوة والعنف الأسري، والمكان والجنس، وعنف العلاقات بين الرجل والمرأة، ورعب الليل الداخلي الذي يسكننا ونكافح جاهدين ضده، محاولين أن نتقاسمه مع آخرين.

«ضفة البحر الأخرى» كتاب كبير عن الذاكرة، عن الوجود، عن غير المرئي، عن الصور، عن الكتب أيضًا. كتاب يلغي السرد من نظامه، عن طريق تشتيت انتباهه إلى أقصى الحدود. يخترع أنطونيو لوبو أنطونيش أصواتًا للتعبير عن تعقيد الكون وتناقضاته وثباته، ليخرج مادة تشبه الذاكرة المشتركة إلى حدّ كبير؛ لأن هذا هو المكان الذي يكمن فيه جزء من «عبقرية» الكاتب -تحويل فوضى الأصوات الفردية التي تتعقد وتكمل بعضها البعض بشكل لا نهائي إلى مساحة ذاكرة من التجارب التي تتجاوزها وتندمج في القارئ. من دون شك، قليلون هم الكتّاب الذين حققوا هذا الإنجاز الفعلي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی نوع من

إقرأ أيضاً:

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. بَرَكَةُ التوقيت

بَرَكَةُ التوقيت

من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي

نشر بتاريخ .. 31 / 10 / 2016

لا أحد يفرح بتأخير الساعة 60 دقيقة مثلي ومثل “المكوّعين” أدناه – شروا السامعين- وآل “عواطلية” الكرام الذين يفرحون بتمديد ساعة اضافية لليل من اجل انجاز ما لم يتم انجازه من نقل المخدّات ذات اليمين وذات الشمال و”طرق” الشاي بالميرمية ومطّ الرجلين من طول الجلوس وسماع “طقطقة” الركب أثناء “الثني و”الكفّ”..

مقالات ذات صلة القسام تسلم أسير أمريكي مزدوج الجنسية / شاهد 2025/02/01

شخصياً أحب جداً #التوقيت_الشتوي لأجد لنفسي مبرراً مقنعاً بقلة الانجاز النهاري وممارسة الكسل الجميل ، وكلما سألني أحدهم أو عاتبني لمَ لم تنجز هذه المهمّة؟ أستمتع وأنا أقول له: “ما بيش نهارات”، “لدّ، مهو صار يوذّن المغرب ع الخمسة” وغيرها من جمل الانقلاب الشتوي المدعومة ببرهان ودليل..

لاحظوا كيف يبدو مذيع أخبار الساعة الثامنة ، عيناه ذابلتان “من النعس” وصوته متقطع ويتثاءب بين الموجز والتفصيل أكثر من عشرين مرة ، طاقم التصوير وهندسة الصوت جميعهم “مستويين من النعس” أما المخرج فــ”نياعة تشلّخن” وهو يتثاءب منتظراً زميله حتى يقول عبارته المنتظرة: ” دمتم في رعاية الله”…حتى يطفئ أضواء الاستديو ويرمي الجرابات “على طول أيده” …حتى أصحاب الكافيتريات والمطاعم الشعبية ، صاروا يدخلون مقلى الفلافل ، ويشطفون المحل ، ويجمعون الكراسي بالتزامن مع دخول الدجاجات إلى الخم وما جاوره..

هناك بَرًكَة حقيقية في “التوقيت الشتوي” بحيث تستطيع أن تقوم بكل ما تريد القيام به في شبابك ، لا أدري كيف تغفل الدول النامية عن هذا التوقيت ولا تستغله في نموها العام ..أمس مثلاً، صلينا المغرب وقمنا بجولة على بيوت العزاء ، وذهبت إلى الحلاق ، ورددت على رسائل الأصدقاء، وحضرت مقال اليوم التالي ، وتفقدت الخزان ، وحضرت ما وراء الخبر، وقرأت عشرات الصفحات من رواية وقعت بين يدي ، وتعشيت …وقرّينا البنات ، و حجّيت، وعمّرت للأولاد بحوش الدار، وجوّزتهم ، وطوّبت لأم العيال ربع دونم من شغلة حلال حرام..وما زالت الساعة 7:20 مساء..

مرحبا بالتوقيت الثقيل، مرحبا بالشتاء الجميل…ما أجمل أن تكون #عباءة_الليل أطول بكثير من أرجل الأحلام المؤجلة…أما الناتج القومي فــ”الله يجبر”.

عن “المكوّعين” أدناه:

احمد حسن الزعبي

ahmedalzoubi@hotmail.com

مقالات مشابهة

  • انقذوا شاطئ العذيبة!
  • رئيس مدينة مرسى علم يكرّم المشاركين باحتفال العيد القومي للبحر الأحمر
  • «الأرصاد» تكشف طقس نهاية الأسبوع: منخفض جوي يضرب سطح البحر المتوسط
  • الخريطة المرورية بعد إزالة كوبرى الجيزة المتجه للبحر الأعظم
  • لماذا عادت المانيا للبحر الأحمر بعد ان غادرته ..! 
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. بَرَكَةُ التوقيت
  • هذه هي أولى السفن المحظورة التي تسمح لها صنعاء بعبور البحر الأحمر 
  • قناة السويس: مؤشرات على عودة الاستقرار للبحر الأحمر
  • هذا الكاتب أكل في أفخم مطاعم العالم وهذه أفضل الوجبات التي تذوقها
  • قيء حيوان يعود إلى 66 مليون سنة اكتُشف على شاطئ في الدنمارك