عَوْدٌ على بَدْء للحديث حول معشوقتى الصحافة فى حالتها الورقية، التى باتت فى موقع تنافس لا تحسد عليه أمام القفزة العالمية والمحلية للمواقع والصحف الإلكترونية، الأمر الذى أصبح له انعكاساته السلبية الخطيرة على الصحف الورقية خسائر مادية على عدد هائل من البشر من المتعاملين والعاملين فى مجال الصحافة الورقية، رغم محاولة الأخيرة جاهدة الصمود فى المواجهة لتبقى على قيد الحياة بعد أن ابتلع الإنترنت أغلب العائدات التى كانت تحققها.
ولا ننكر أن العديد من الصحف الورقية «حتى تلك التى كان لها تاريخ مؤسسي عريق فى عالم الصحافة» اضطرت إلى الإغلاق أو التحول الإلكترونى، نتيجة اضطراب الأوضاع المالية وتغيير عادات القراء، واختطاف الإنترنت لأغلب- وإن لم يكن كل- الخدمات التى كانت تقدمها الصحف الورقية بما فيها الإعلانات المبوبة، والتى كانت تعتمد عليها كمورد مالى متواصل، لأنها إعلانات تتعلق بخدمات مجتمعية لا تنتهى أو تتوقف، مثل الوظائف، السيارات، والعقارات، إعلانات عن بيع أشياء محددة أو الرغبة فى شراء أشياء، وهكذا، ومن سوء حظ الصحف الورقية أن شركتا جوجل وفيسبوك فتحت المجال لتقديم الإعلانات مجانًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتضرب إعلانات الصحف الورقية فى مقتل، وتوجه ضربة قاسية لصناعة الصحف عامة.
وقد تسبب رحيل النسبة العظمى من الإعلانات للإنترنت، والتنافس الإلكترونى فى الطرح الإخبارى اللحظى بما فى ذلك التغطيات السريعة، والفيديوهات المصورة من موقع الحدث، والبث المباشر، تسبب فى زعزعة مكانة المنتج الصحفى الورقي، وتراجع أعداد القراء حتى الذين اعتادوا على الصحيفة الورقية، خاصة بين الفئات العمرية التى تقل عن خمسين عامًا، وتركز انتباههم على المواقع التى تقوم بتحديث الأخبار أولًا بأول، ولعل الصحف الورقية أسهمت بنفسها فى توجيه صفعة لنفسها،عندما أصبحت تنشر صفحاتها «بى دى إف» على موقعها الإلكتروني، أو تنشر نفس المادة الصحفية الورقية على الموقع الإلكتروني، وبالتالى أصبح القارئ عازفًا عن شراء النسخة الورقية، طالما استعاض عنها بموقع الصحيفة الإلكترونى، لأن أخبار النسخة الورقية فى نظره «بايته» كما يقولون أو قديمة.
رغم ذلك اضطرت العديد من الصحف الورقية إلى إنشاء مواقع إلكترونية لها لتواكب متطلبات العصر، ولتنافس بنفسها منتجها الورقي، ما أدى إلى انهيار نسب التوزيع حتى فى كبريات الصحف، لأن موقعها الإلكترونى أدى لانصراف القارئ عن الورقى غالبًا، وحلت ماكينات البحث مكان النسخ الورقية، ففقدت صناعة الصحف بالتالى ضلعًا آخر من مواردها وهو دخل التوزيع، بعد فقدها مورد الإعلانات، وهو ما حذر منه الاتحاد لعالمى للصحف، والذى أعلن مبكرًا أن شركات جوجل وياهو وبعدها فيس بوك، تشكل تهديدًا صارخًا لإيرادات صناعة الصحف فى العالم.
يضاف إلى ما سبق مساحة الحرية التى تتمتع بها حركة الصحافة الإلكترونية مقارنة بالورقي، فمن السهل مصادرة أو منع أى صحيفة، أو حتى منع صدورها، أو التحكم فى مادتها من خلال الجهات الرقابية بأى دولة، وذلك على النقيض تمامًا من المواد التى تقدم عبر الإنترنت، والتى يصعب التحكم الرقابى بها إلى حد كبير، حتى وإن حدث تحكم ما بالحذف والإغلاق، يكون المنتج الصحفى قد انتشر بالفعل، وتم تداوله بسرعة رهيبة بين القراء، وهو ما يتعذر تمامًا مع المنتج الورقي، ومن هنا أصبحت الأفضلية للصحافة الإلكترونية أيضًا بالنسبة للقارئ، وللأسف أسهمت الكثير من الحكومات بالدول بشكل أو بآخر فيما حدث للصحافة للورقية من تراجع وتدهور، وخراب مؤسساتى انعكس بقسوة على الملايين من البشر فى العالم من العاملين والمتعاملين مهنيًا وحرفيًا مع الصحف الورقية.
وإذا كنت رصدت أهم الأسباب التى أدت إلى اهتزاز صناعة الصحافة الورقية فى العالم، فأنا أصل هنا إلى كيفية العلاج، ولن أقول الحلول القاطعة التى تنقذ المنتج الورقى مائة بالمائة، ولكن على الأقل وسائل تحول دون اندثارها ومن ثم اختفائها تمامًا من الوجود، وللحديث بقية.
فكرية أحمد
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فكرية أحمد صناعة الصحف الصحف الورقیة
إقرأ أيضاً:
بين الصحافة والسياسة
aloomar@gmail.com
بين الصحافة والسياسة جدارٌ من ورق. هناك صحافيون يمارسون المهنة بقناعات سياسية محددة بل انطلاقاً من انتماءات حزبية . لكن حتى الصحافي المنشغل مهنيا بمتابعة الشؤون السياسية يجد نفسه متورطا في السياسة. حتى ولو لم يلج المعترك السياسي إذ يجد نفسه قسرا مصنفاً سياسياً من قبل قراء غالباً أو ربما ساسة أحياناً. هذا التصنيف لا يعتمد بالضرورة على رؤاه الفكرية أو مواقفه المهنية. فغالبية التصنيفات تحملها أهواء تتراوح مصادرها بين التمجيد والتبخيس. لذلك قد تجد صحافيين انزلقوا إلى المعترك السياسي رد فعل لتصنيف ٍ ، بغض النظر عن كونه عادلاً أو ظالماً. في بعض هذه الحالات نخسر صحافياً ولا نربح سياسياً. في المقابل ثمة نشطاء سياسيون اقتحموا بلاط الصحافة في سياق شهواتهم للسلطة .ألا يصفون الصحافة بالسلطة الرابعة ؟حتى ولو كان في بلد لا توجد فيه غير سلطة واحدة؟! في مثل هذه الحالات لا نكسب صحافياً ولا نخسر سياسياً.
*****
تلك الحالات لاتتفي وجود صحافيين يغريهم بريق السلطة فيكسرون أقلامهم من أجل المناصب. رغم وجود صحافيين يكرسون أنفسهم من أجل خدمة الساسة إلا ان التكسب ليس غاية كل أولئك . فالتكسب المهني حرفة من ليس له أخلاقيات المهنة أو دافعه غايات سياسية وطنية . فبالاضافة إلى الصحافين المنشغلين بما يعرّف مهنيا بالصحافة السياسية ،يجرف التكسب بعضاً من صالات الصحافة الفنية -مثلا،- أو ميادين الرياضية . هذه الهجرة تعرّي كم هو ذلك الجدار الفاصل بين السياسة والصحافة سهل الاختراق. بل هو عند البعض جدار ٌوهمي. مثل هؤلاء المتكسبين أجهضوا حقوق رجال بذلوا بالتزامهم المهني عرقاً لا يقل غزارةً عن حبرهم وتحملوا كلفة تزيد من نبالة مواقفهم. من هؤلاء من أثبت للصحافة هيبة (السلطة الرابعة). منهم من رفع قلمه في وجه إغراءات المناصب .منهم من مارس السلطة بعقلية الصحافي فما احتملوا السلطة إو ضاق بهم محترفو المناصب.
*****
لعل محمد حسنين هيكل لا يجسد فقط أبرز الصحافيين العرب .بل هو كذلك أفضل من يمثل من استمسك بتعظيم القلم على المنصب . كماهو خير شاهد على عدم احتمال الصحافي البقاء في السلطة وضيق أهل السلطة بالصحافي .أبعد من ذلك ربما هيكل نفسه أحسن من كتب عن (العلاقة بين الصحافة والسياسة) في كتاب ممتع بهذا العنوان استعرض فيه سيرته المهنية. هيكل مزج بين الصحافة و السياسة في واحدة من أكثر تجليات تلك العلاقة وضوحاً و تأثيراً .لكأن صحيفة الاهرام كانت على أيامه إحدى مؤسسات رئاسة الدولة النافذة. لكنه في الوقت نفسه حافظ مهنياً على الجدار الفاصل بين الصحافة والسياسة على قدر ما حافظ على النأي بالاهرام من مأسسسةالدولة. رغم اعترافه في كتابه بأنها العلاقة الأكثر تعقيدا.هيكل عقّد تلك العلاقة على نحوٍ شكّل عقدة لكل من السادات ومبارك مثلما هو أيقونة في الصحافة المصرية استحال إعادة نسجها ممن حاولوا من مجايليه أو ممن مظاهيريه.
*****
لعل طارق عزيز يتميز بتألقه في السياسة أكثر من رصيده في الصحافة . رغم أنها هي منصة انطلاقته الأولى .فمن رئاسة تحرير (الثورة)الناطقة باسم حزب البعث صعد طارق عزيز وزيرا للاعلام ثم وزيرا للخارجية فغدا الناطق باسم العراق كله في جميع المنحنيات التاريخية إبان رئاسة صدام حسين خاصة سني حرب إيران وحرب الكويت .هو مجسد مواقف سيده المنافح وصوت سيده الفصيح لكنه وضع على لقاءاته الدبلوماسية والصحافية لمسات من ذاتيته الأنيقة المتعجرفة حتى لكأنه نسخة من شخصية رئيسه.
*****
مثل هيكل نال ونستون تشرشل شهرة على أعتاب الحياة مراسلا حربيا إذ تم تكليفه من قبل ( ديلي غرافيك )لتغطية صراع كوبا من أجل الاستقلال قبيل سفره إلى الجزيرة الكاريبية.كذلك حصل على تكليف من(مورننيغ بوست )بينما كان في مهمة في السودان ضمن جيش كيتشنر هازم الثورة المهدية.عقب عودته،كتب مؤلفه (حرب النهر) ليكتسب اهمية كأحد المراجع لتلك الحرب الاستعمارية. ثم اتجه تشرشل إلى جبهات التنافس السياسي فقاد بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية رئيسا للوزراء . هو لم يتألق فقط رجل دولة بل ظل يمارس الكتابة الصحافية مما جعله الكاتب الأعلى أجرا.
*****
في سياق الاستعادة لا يمكن تخطي يفغيني بريماكوف فهو رجل لا شبيه له في شرق اوربا.هو نسخة (سوفياتية) انسانية إذ ولد في اوكرانيا ثم تفتحت طفولته في جورجيا قبل الانتقال إلى روسيا يلتحق بجامعات ومعاهد موسكو. هوصحافي محترف في منصات واجهزة اعلامية متعددة.من ادارة القسم العربي في هيئة الاذاعة انطلق بريماكوف مراسلا ثم محررا قبل رئاسة القسم .من الصحافة المسموعة انتقل إلى المكتوبة في جريدة(برافدا) فتدرج كذلك فيها حتى اصبح مراسلا لها في الشرق الاوسط متخذاً من القاهرة مقرا دائما. في هذه المهمة امسى بريماكوف صحافيا معروفا على نطاق عالمي كما محاور اً. مألوفا لدى عدد غير قليل من الرؤوساء والسياسيين والقراء العرب.على صعيد الدولة شغل العديد من المناصب بينها رئاسة المخابرات الخارجية،رئاسة وفود بعثات روسية خارجيةقبل شغله منصب وزير الخارجية في ١٩٩٦ ثم رئاسة الحكومةبعد عامين.
*****
تيارات الهجرة من الصحافة إلى السياسة حملت العديد من الوجوه كماهي
في الاتجاه المعاكس .لكن كثيراً من الطحالب و العناكب غرقت بين الضفتين فذهبت كزبد البحر. لأن من طبع هؤلاء غزل خيوط في لزاجة بيوت العنكبوت بالكذب و التزلف والرياء على أي الضفتين وجدوا. غالبيتهم حاولوا العبور بوهم سهولة اختراق جدار الورق الفاصل بين الصحافة والسياسة.فامسوا فصيلا من المنبتين. الأنظمة الشمولية تهيء مواسم لتكاثر مثل هذه المخلوقات.
نقلا عن العربي الجديد