لم يحرك العدوان الإسرائيلي على منشآت مدنية يمنية صباح الأحد الماضي ساكنا في العالم العربي، حتى الإدانات المشهورة والتظاهرات الشعبية المهندسة والمحدودة التي كانت تكتفي بها الحكومات العربية في الماضي، والتي كنا نتندر عليها، لم تعد متاحة سوى في عدد قليل من العواصم العربية، وأصبحت محرّمة تماما خاصة في الدول المطبعة مع العدو الصهيوني أو تلك الباحثة عن التطبيع.
ما الذي أوصل تلك الحكومات إلى هذه المرحلة البائسة من الضعف، إلى درجة تجعلها تبلع ألسنتها الطويلة الموجهة فقط ضد مواطنيها ومعارضيها، وتتحاشى تماما إغضاب الصديقين الإسرائيلي والأمريكي، خاصة تلك التي تمتلك جيوش مليونية، وتنفق بسخاء منقطع النظير على الأسلحة الأمريكية والغربية؟
لم تزعج الهجمات التي طالت ميناء الحديدة ومخازن الواردات الغذائية لملايين اليمنيين ولا العنهجية التي سوق بها الإرهابي الصهيوني نتنياهو لها وقوله «إن هذه الضربات أوضحت لأعدائنا أنه لا يوجد مكان لا تصل إليه اليد الطويلة لدولة إسرائيل»، لم تزعج الدول العربية المتحالفة مع إسرائيل، تماما مثلما لم تنزعج من سقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين قتلى وجرحى وجوعى نتيجة التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل في غزة منذ تسعة أشهر أو بالأحرى منذ اندلاع الصراع العربي- الإسرائيلي أي منذ نكبة 1948.
يحق لنا أن نتساءل ونحن نشاهد هذه العنجهية الصهيونية، التي فاقت الوصف، عن سر هذا البرود العربي في مواجهة كل هذه الاستفزازات الصهيو- أمريكية، والصمت المريب المطبق على غالبية الحكومات العربية وكذلك جامعة الدول العربية.
إن البحث عن إجابة لهذا السؤال يتطلب منا أن نراجع الاحتمالات المطروحة سياسيا وإعلاميا، والتي تؤكد جميعها صحة ما يتردد عن دعم بعض الدول العربية إسرائيل بأشكال مباشرة وغير مباشرة دون أي شعور بالخجل، بل وصحة ما يقال عن أن نفس الدول تطالب إسرائيل بعدم إنهاء عدوانها على غزة قبل أن تقضي تماما على أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية في القطاع المنكوب. ويؤيد هذا الاستخلاص استجابة هذه الدول للدعوة الأمريكية الإسرائيلية الخبيثة بتشكيل قوة ردع عربية تتولى مهام إدارة قطاع غزة في اليوم التالي للحرب وبعد القضاء على المقاومة.
لم يكن أشد المتشائمين من الواقع العربي الحالي يتوقع أن يأتي اليوم الذي تصمت فيه الدول ووسائل الإعلام العربية عن جرائم الصهيونية العالمية بهذا الشكل المخزي، وأن تفشل هذه الدول في إيصال المساعدات الغذائية والأدوية ومتطلبات الحياة الآدمية إلى غزة في الوقت الذي تقيم فيه جسور الإمدادات إلى العدو الإسرائيلي.
هنا أتوقف قليلا أمام أداء المنصات الإعلامية العربية التي تجاهر بالعداء للمقاومة والتأييد المبطن لعصاب الصهاينة سواء في الولايات المتحدة أو داخل الأراضي العربية المحتلة. لقد ظل الإعلام العربي حتى بعد توقيع أول اتفاق تطبيع عربي مع إسرائيل في العام 1979 ينظر إلى الدولة العبرية كعدو، ولم ينتج عن اتفاقيات السلام العربية- الإسرائيلية التي وقعتها دولتان من دول الطوق العربي سوى سلام بارد لا طعم ولا لون له. وكانت أي محاولة لتقارب فعلي ودافئ تواجه بغضب شعبي وإعلامي. التحول الأكبر تمثل في دخول دول عربية من خارج دول الطوق في مسار التطبيع وتوقيع الاتفاقيات مع إسرائيل وتبادل المصالح والسفراء معها، إرضاء لها وللولايات المتحدة من جانب، والاستعانة بهما في تحجيم الخطر الإيراني المتوهم.
وأميل هنا إلى تبني رؤية نشرها المركز العربي في واشنطن تقول: «إن الحكومات العربية حاولت الاستجابة للأبعاد السياسية والإنسانية والجيو- استراتيجية للحرب في غزة، غير أنها كانت في كثير من الأحيان استجابات متناقضة مع بعضها البعض». لقد كان على الحكومات أن تراهن على خيط رفيع، وتختار بين أربعة اعتبارات مهمة هي: كيفية دعم القضية الفلسطينية، التي يتردد صداها بعمق لدى شعوبها؛ وكيفية القيام بذلك دون تعزيز حركة المقاومة «حماس» وغيرها من الحركات الإسلامية التي تعتبرها معظم الأنظمة العربية تهديدا لها. وكيفية انتقاد الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى لدعمها غير المشروط والمبالغ فيه لإسرائيل لتمكينها من تدمير غزة دون إغضابها أو دفعها إلى تقليص دعمها المالي والأمني الوجودي للعديد من الدول العربية؛ وكيفية تقديم المساعدات الإنسانية لأكثر من مليوني مدني أعزل في غزة تُعمل فيهم إسرائيل آلة قتل فتاكة بطريقة إبادة جماعية.
صحيح أن بعض الدول العربية أمام الضغوط الشعبية أو خشية تعرضها لمثل هذه الضغوط قدمت دعما خطابيا ودبلوماسيا لأهل غزة والقضية الفلسطينية الأوسع عبر البيانات والتصريحات والخطب في الهيئات الدولية، فإن هذا الدعم ظل غير محسوس جماهيريا لغياب أي رادع عربي لإسرائيل ووسائل الضغط التي كان يمكن أن تمارسها بعض الدول على إسرائيل كقطع العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء الصهاينة وتجميد كل صور التطبيع.
في ظل هذا الوضع بقيت الأنظمة العربية عاجزة عن الحد من الهجمات الإسرائيلية العنيفة على غزة وجنوب لبنان واليمن أو وقفها، أو تزويد أهل غزة بالمساعدات الكافية وضمان دخولها عبر معبر رفح، أو ضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع.
لقد نسف الكنيست الإسرائيلي ما بنى عليه العرب من وهم السلام الزائف مع العدو الصهيوني بعد أن تبنى مساء الأربعاء الماضي قرارا ينص على رفض إقامة دولة فلسطينية، وذلك للمرة الأولى في تاريخ المجلس، وهو ما كان مبررا لدى الدول المطبعة للدخول في اتفاقيات سلام مع إسرائيل، ويمثل رسالة واضحة، تؤكد رفض إسرائيل فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقبلا، أو أي مفاوضات قد تؤدي إلى ذلك». فماذا أنتم فاعلون أيها العرب؟، إنكم - رغم كل الجرائم التي ترتكب بحق إخوانكم في غزة ولبنان واليمن- ما زلتم ترحبون بالعدو، وتتطوعون لدعمه وهو في غنى عنه، وتدافعون عنه في وسائل إعلامكم.
لم يعد الأمر يتحمل هذا البرود في التعامل مع عدو العرب الأول. وليس من الحكمة الآن أن نُدر لإسرائيل خدنا الأيسر بعد أن ضربتنا مرارا على خدنا الأيمن، أو ألا نمنعها ثوبنا بعد أن أخذت رداءنا؟.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدول العربیة مع إسرائیل فی غزة
إقرأ أيضاً: