جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-31@00:54:05 GMT

الفكرة ومحيطها

تاريخ النشر: 23rd, July 2024 GMT

الفكرة ومحيطها

 

عيسى الغساني

الأفكار لا تنشأ من فراغ، بل هي نتاج تنشئة وتفاعل دائم بين الفرد والمجتمع والبيئة المحيطة، وبقدر حالة المجتمع الثقافية والفكرية ومنظومة القيم والمبادئ الأخلاقية المشتركة، تكون العلاقة جاذبة أو طاردة، وينشأ فراغ يسدُّ بأكثر القوى فاعلية في محيط التأثير والتأثر. وفي حياة الأفكار، تعدُّ التجارب الشخصية أكثر العناصر التي تسهم في بناء الأفكار، وفي العمر المبكر المناشط الاجتماعية رياضيًّا وفكريًّا ليست رفاها أو عبثًا بل تأسيس وتهذيب للإنسان السوي، وتنقية اللغة بالأدب الرفيع والهادف وإقصاء كلمات ومفردات وعبارات التباين والتفوق، تحت أي مسمي: منهجًا وتطبيقًا، لا يقل أهمية عن بناء معرفة العلوم بشتى جوانبها.

فالإنسان يُراقب العالم حوله ويلاحظ الأنماط والتفاعلات، فيقبل أو يرفض، وهذا القبول والرفض يولد أفكارًا جديدة؛ سواء في السياق الاجتماعي أو في مجال العلوم، فكل الاكتشافات والاختراعات كانت وليدة الملاحظة والتجربة. فالحياة الثقافية للمجتمع وبما ينتجه من روايات وقصص وشعر ونثر وكتب في العلوم الاجتماعية والطبيعية، تُشكل المعين الذي به تحيا المجتمعات وتتشكل، وعند غياب الحالة الثقافية المجتمعية ينشأ الفراغ الذي يُسدُّ بآخرين لهم رؤى وغايات تسخر الجميع لخدمتها؛ فحصانة الثقافة سد منيع لا يجب إغفاله وتركه بملف النسيان.

إنَّ حالة الوعي الإنساني حالة فكرية نشطة، وليست حالة خاملة؛ فالفكر لا يعرف الخمول، فهو لك أو لغيرك، وربما عندما يكون لغيرك يكون بدون وعي منك.

إنَّ حالة ترابط الأفكار بمحيطها ربما تتشكَّل في العقل اللاواعي عند غياب الحالة الفكرية والثقافية الصحية لمجتمع ما، إنَّ دراسة الحالة الثقافية وتقييمها ومن ثم تصحيحها إن اقتضى الأمر لهو رهان على الحاضر وبناء للمستقبل، فالنهوض حالة ثقافية دافعة تمضي للأمام وتكون في حالة تطور معرفي واستنارة وتنوير واعتراف بالنقص والقصور وسد مكامن الوهن التي تعيق الفرد بأن يقدم أفضل ما لديه، وهذه الحالة هي ثقة بالحاضر وأمل واثق بمستقبل مشرق، وبعبارة أخرى صناعة الأمل فبالأمل يحيا الإنسان، ويتَّقد ذهنه ووجدانه.

وفي منطق الأفكار لا توجد مشكلة بدون حل، إذا ما استنفرت خزائن الأفكار، فكلنا مودعون لنقرأ ونكتب ونبدع لوحة أو لحنا عذبا أو برنامجا تقنيا، فهل نقرأ لكي لا نسلِّم أنفسنا للجهل بمحض إرادتنا؟

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الرّوايـة التّـاريـخيّــة: الفـرد والجمـاعـة

لـعلّ واحـدا من أكـثـر الأسباب أثـرا في تداوليّـة أيّ سرديّـة أو في شيوعـها في المجتمع والثّـقـافة، أو في حقـبة زمـنـيّـة مّـا، مقـدرة صانعها على إحسـان صنـعـتها وخـلْع أردية الجاذبيّـة عليها. معنى هـذا، ابتـداء، أنّ السّـبـب الأساس في ذلك الشّـيوع لا يـردّ إلى وفـرة الإقـبال عليها من الجمهـور المتـلـقّي، فحسب وكما يـشيع الاعـتـقـاد عند الأكـثـر، بـل يـردّ إلى نـوعيّـة تكويـنـها كسرديّـة وإلى مـن يـقـوم بفـعـل التّـكويـن ذاك. نعم، ما مـن شـكّ في أنّ لشـدّة الإقـبال عليها أثـرا في فـشـوّها؛ وما من شـكّ في أنّ لتـداوليّـتـها - في هـذه الحـال - عـلاقـة بقـوّة التّـأثـير والجاذبيّـة فيها، وبـقـدرتها الإقـناعيّـة وبـديـع حبكتها التي تصنـع لها في النّـاس تلك الهالة التي لها فيهم. مع ذلك، أليس هذا بشيء لا يمكنه أن يستـقـلّ بـذاته عن فعـل فاعـل يقـف خلفـه؛ أليس يرتبط ذلك كـلّه بـدور مركـزيّ يعود إلى عامـل التّأليـف والتّـركيب الذي يـكوّنـها فيصوغها في شكـل سرديّـة؟ بعبارة أخـرى، أليس تعـود شـدّة أثـر السّرديّـة في متـلـقّـيها إلى مستوى مؤلّـفها/مؤلّـفيـها وإلى ما يـحْـرزه/يحرزونـه من نجاح في مضـمار إتـقان صنعـة التّـأليف والتّـركيب: أعني صـنْـعـة السّـرد ونـظْـمـه؟

قـد يكـون مؤلّـف السّرديّـة معـلومـا لدى قـرّائها وقـد يكـون مجهـولا، ولكـنّ معلومـيّـتـه والمجهوليّـة لا تـغـيّـران كـثيـرا في حقيـقـتها كسرديّـة، أي كبنيـة من القـول حاملـة لمعارف ورسائـل ودلالات قـابلـة لأن تـقْـرأ وتـسْـتـوعى ويـسـتـنْـبط منها ما يسْـتـنْـبط بمعـزل عمّا إذا كان مصدرها معلومـا أو مجهولا. نعـم، ليس مـن شـكّ في أنّـه كلّـما كان مـؤلّـفها معلومـا، كان إدراك النّـاس فحـوى السّرديّـة أيسـر؛ إذْ هـي تـعْـرف بـه، مـن جـهـة، أو مـن شـأن العـلْـم بـه، عنـد قارئـها، أن يـلـقـي بعـض الضّـوء على مـا غـمـض معـناه فيها وأبْـهـم أمـره؛ وهو قـد يـعْـرف بها على نحـو أفْـيض ممّا يـعْـرف بأثـر آخـر له، مـن جهـة أخـرى. أمّا في حـال كـون مـؤلّـفـها مجـهولا، فلا يعـدو الجـهْـل بـه أحـد احتـماليْـن: أن يكـون جـهلا مؤقّـتا أو انـتـقـاليّـا يمكن مغالـبـته بالتّـدقيق الرّصيـن في لغـة السّرديّـة وزمـنـيّـتـها والأحـداث والنّصـوص التي تحيـل إليها؛ وتلك، بالضّـبـط، حـال المخطوطات التي يـجْـهـل مؤلّفـوها فـيـنصـرف مـن يحقّـقها إلى درسـها، الدّرس الدّقـيـق، قصـد استخـراج اسم مـؤلّـفـها: إمّـا على وجـه التّـحقيـق أو على جهـة الرّجحـان؛ أو أن يكـون جـهـلا مزمـنـا يتـعـسّـر معـه، إنْ لم يـسْـتحـل، إمكان بيـان مـن تـنْـسب إليه السّرديّـة.

الغـالب على هـذا النّـوع الثّاني مـن السّرديّـات أن يـأخـذ شكـل سرديّـات شـفـويّـة شعـبـيّـة: خـرافـات أو قصص أسطـوريّـة وروايـات لا تـاريـخيّـة وما في معـنـاهـا من سـرديّـات تـؤلّـفـها الذّهـنـيّـة العامّـة المسكونة بالتّـفكـير الميـثـيّ والعجائبيّ. ولقـد يكون بـعض من هذا النّـوع من السّرديّـات الشّـفويّـة المجهـول مؤلّـفـها/مـؤلّـفوها مكـتوبا أو مـدوّنـا، لكـنّ تـدويـنـه كتابـة لا يجعـل منه أثـرا منسـوبا إلى التّـراث المكـتوب، ولا ينـزع عـنه طبـيعـتـه الشّـفـويّـة البـرّيّـة Sauvage التي تظـلّ تلازمـه بما هـو نـوع خاصّ من السّرديّـات غير المعـلوم مصـدرها. على أنّ أظْـهـر ما تـنـماز بـه هـذه السّرديّـات الشّـفـويّـة أنّـها تكـون مـن إبـداع الجماعـة لا الفـرد الواحـد، ويتـمـيّـز فـعْـل الإبـداع فيها بكـونـه فعـلا دائـما مستـمـرّا في الزّمـن؛ بحيث يـزاد فـيها ويـعـدّل ويـطـمـس ويـجـرّد المعطـى المتناقـل مـن جيـل لجـيـل، على نحـو يـخْـلع على السّرديّـة دلالات متـنـوّعـة مستـقـاة من قـيـم أزمـنـة وأمكـنـة عـدّة. وهـذا يـعـني، في مـقام استـنـتاجيّ، أنّ هـذا النّـوع من السّرديّـات المجهـول مـؤلّـفـها (المعلـوم مؤلّـفـها الجماعـيّ) هي بمثابـة مـصـبّـات أو أحـواض رمـزيّـة تـصـبّ فـيها شخـصيّـة الجماعـة أو الأمّـة التي نشـأت بيـن ظـهرانـيها تلك السّرديّـات فتصير مرآة لها.

كـثـيـر من السّرديّـات التّـاريخيّـة معـروف النّسبـة إلى مـؤلّـفـه الفـرد: إمّـا تصـريـحا منـه بذلك في النّـصّ أو استـنـتاجـا بالتّـحليل العلـميّ. مع ذلك، لا يمنـع الباحـث نـفـسـه مـن الشّـعور بالاستغـراب أو الحيْـرة أمام ظـاهـرة إلـغـاء المـؤلّـفـيـن ذواتـهـم وفـرديّـاتـهـم في مؤلّـفـات يعيـدون فيـها ما قـاله الأوّلـون في تـآليـفـهـم، لا يـزيـدون على ذلك أكـثـر مـن إثـبات سلسلـة إسنـاد ربّـما اخـتلـفـت حلْـقـات منها في مـؤلّـف هـذا ومـؤلّـف ذاك مـن غير أن تـختـلـف المصادر الأولى المرجعـيّـة للسّلسـلة. يكـاد مؤلّـفو السّرديّـات، على كـثـرتهم، يشـبـهون بـعـضهـم في هـذه الحـال حتّى لا نـقـول إنّـهـم يستحيـلون مـؤلّـفا واحـدا متـكرّر الظّـهـور في التّـاريخ؛ بحيث نـلفيـهـم يتعاورون على تدبيـج الرّوايـة عيـنـها وعلى ترسيـخ اليـقـيـن بها بطـرق في الإقـنـاع مشهـورة بينـهـم. هكـذا تصيـر روايـة الفـرد الواحـد روايـة الجماعة كلّـها تردّدهـا وتعيـد إنـتاجـها من غير مـلل وتـنشـرها في الآفـاق. ثـمّ ما تلـبـث هـذه أن تصبـح روايـة رسميّـة لـدى السّـلطـة الحاكمـة وأجـهـزتـها تحْـدب عليها وتحيـطـها بالـقـدْسـنـة Sacralization، وهكذا - أيـضا - تزيـد تـداولـيّـتـها مـن خـلْع الحـرْمـة عليها إلى حـدّ يصير معـه التّـشكـيـك بـها عـدوانـا على حقيـقـة الأمّـة والجماعـة والتّـاريخ.

انتـقـال الرّوايـة مـن الفـرد إلى الجـماعة ومن الجماعـة إلى السّـلطـة، والإنحاء عليها بالتّـكـرار والتّـدويـر والتّعالي بـها عـن الاشتـبـاه والتّـسْآل هـو ما يـضـعـها في مرتبـة ما ينـعـقـد عليه إجمـاع الأمّـة فيصـنـع لها، بالتّـالي، أسبـاب السّلطان الذي يصير لها في النّاس إلى حـدّ اليـقيـن الإيمانيّ بـها. ومـا مـن سبـيـل إلى الحـدّ مـن هـذه الأوْكـديّـة المـزفـوفـة بها تلك السّرديّـات، في الثّـقـافة الذّهـنيّـة العـامّـة، إلاّ بوضعها موضع فحـص نـقـديّ يعيـد النّـظـر في ركـام من الأوهـام التي أحيـطت بـهـا لأحقاب متطاولة.

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب

مقالات مشابهة

  • وزير الثقافة: نشر الوعي بمثابة الدرع الوحيد لمجابهة الأفكار السلبية
  • نهلة الصعيدي: المرأة القوية التي تحسن تربية الأبناء وتقدر على صنع المستحيل
  • الجولاني: أولويتنا ملء فراغ السلطة بطريقة شرعية وقانونية
  • الرّوايـة التّـاريـخيّــة: الفـرد والجمـاعـة
  • إزالة 20 حالة بناء مخالف وتعد على الأراضي الزراعية في الجيزة
  • إزالة 20 حالة بناء مخالف وتعدي على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالجيزة
  • إزالة 20 حالة بناء مخالف بالجيزة
  • ما البنود الإنسانية التي نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟
  • إزالة 13 حالة تعدٍ على الأرضي الزراعية في المنيا
  • آخر تطورات "الفكرة الترامبية" لتهجير الفلسطينيين من غزة.. عاجل