خلال الأسابيع القليلة السابقة، وبينما نتعرض في عالمنا العربي وعدد من المناطق حول العالم إلى موجة حر ضارية لا تكاد تتوقف أو تهدأ، وتتكسر فيها الأرقام القياسية كموجة بحر على الصخر، انتشرت أنباء متناثرة عن نشاط شمسي مرتفع حاليا، وعواصف شمسية تضرب الأرض بكثافة، ما دفع البعض للربط بين الأمرين، وكعادة وسائل التواصل الاجتماعي فإن هذا الربط حدث في سياق "نظريات المؤامرة"، فبات من الطبيعي أن تصطدم من حين إلى آخر بمنشور يؤكد لك أن نهاية العالم قد اقتربت، والدليل أن الشمس اقتربت من ذروة نشاطها وتتسبب في موجات حارة غير معتادة.

على سطح الشمس

ولفهم الأمر دعنا نبدأ من تركيب الشمس، فهي تتكون بالأساس من "البلازما"، وهي حالة للمادة تنفصل فيها إلكترونات الذرات عن أنويتها، يجعلها ذلك تمتلك صفات مغناطيسية خاصة تُنتج أشكالا لا نعهدها على الأرض، ومنها تلك الحلقات الهائلة ذات المنظر الآسر التي تسمى بالوهج الشمسي، وهي ضخمة لدرجة أن الواحدة منها قد تسع أكثر من ثلاث كرات بحجم كوكب الأرض.

بعض الأحيان قد تنفجر واحدة من حلقات الوهج الشمسي هذه مُطلِقة كمًّا هائلا من الطاقة والمادة إلى الفضاء بسرعات كبيرة جدا، وهو ما نسميه بـ"الانفجار الشمسي". (شترستوك)

في بعض الأحيان قد تنفجر واحدة من حلقات الوهج الشمسي هذه مُطلِقة كمًّا هائلا من الطاقة والمادة إلى الفضاء بسرعات كبيرة جدا، وهو ما نسميه بـ"الانفجار الشمسي"، في أحيان أخرى يكون الانفجار أكثر قوة بفارق شاسع فيسمى "الانبعاث الكتلي الإكليلي"، ورغم الاختلافات بين الحالتين فإن كلًّا منهما يصنع ما نعرفه (1) باسم "الرياح الشمسية" (Solar Wind)، وهو اصطلاح مجازي يعبر عن تلك الكميات من المادة والطاقة التي تسافر من الشمس بسرعات هائلة وتصل إلى كواكب المجموعة الشمسية بما في ذلك الأرض، وتتفاعل مع أقطابها المغناطيسية لتصنع إحدى أجمل الظواهر التي يمكن أن نراها، وهي "الشفق القطبي".

ولكن رغم أن التوهجات الشمسية وما يرتبط بها من أنشطة أخرى يمكن أن تقصف الغلاف الجوي الخارجي للأرض بكميات هائلة من الطاقة، فإن معظم هذه الطاقة تنعكس مرة أخرى في الفضاء بواسطة المجال المغناطيسي للأرض من طبقة الثرموسفير، حيث تصطدم تلك الجسيمات المشحونة بثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروجين، المركبات التي تمتص الطاقة ثم تعيد إشعاع الحرارة إلى الفضاء. (2)

طبقة الثرموسفير (3) أو المتكور الحراري هي الطبقة الرابعة من الغلاف الجوي، التي يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 500 كيلومتر و750 كيلومترا، ومن أهم خصائص هذه الطبقة احتواؤها في أجزائها السفلى على ما يُعرف بالمناطق المتأينة (أيونوسفير) التي تتسبب في حدوث الشفق القطبي عبر التفاعل مع الرياح الشمسية.

تُمتص الكثير من الأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية من الشمس في هذه الطبقة من غلافنا الجوي، وعندما تكون الشمس نشطة للغاية وينبعث منها المزيد من الإشعاع عالي الطاقة من القذف الكتلي الإكليلي أو العواصف الشمسية، فإن زيادة الإشعاع الممتص في الغلاف الحراري يمكن أن يتسبب في زيادة سخونة هذه الطبقة وانتفاخها.

التوهجات الشمسية أو أيًّا من صور النشاط الشمسي لا تتسبب في حدوث موجات حرارية على الأرض، لكن لها تأثيرات أخرى على كوكبنا، منها الشفق القطبي. (NASA)

وبناء على ما سبق، فإن التوهجات الشمسية أو أيًّا من صور النشاط الشمسي لا تتسبب في حدوث موجات حرارية على الأرض، لكن لها تأثيرات أخرى على كوكبنا، منها الشفق القطبي كما أسلفنا، كما يمكن أن يؤدي النشاط الكهرومغناطيسي المتزايد بسبب العواصف الشمسية أيضا إلى تعطيل شبكات الطاقة والاتصالات اللاسلكية، وقد يتعرض ركاب الطائرات التجارية التي تطير في مسارات قطبية إلى زيادة الإشعاع الكهرومغناطيسي.

مثلا في 25 أبريل/نيسان 2022، أعلنت منصة "سبيس ويذر" أن اضطرابا شمسيا هائلا تسبَّب في عدد من الانقطاعات بالاتصالات الراديوية في قارتَيْ آسيا وأستراليا، وقبلها في 8 فبراير/شباط الفائت، أعلنت شركة "سبيس إكس" (SpaceX) عن سقوط أكثر من 40 قمرا صناعيا تابعا لمشروع "ستارلينك" من مداره في الفضاء إلى الأرض، وذلك بعد 5 أيام فقط من إطلاقها، بسبب عاصفة جيومغناطيسية قوية ارتبطت بانفجار هائل على سطح الشمس أطلق نحو مليار طن من الجسيمات المشحونة إلى الفضاء باتجاه الأرض. (4)

الدورة الشمسية

الآن دعنا نتعرف إلى "الدورة الشمسية" (Solar cycle)، وهي تعني (5) تغير النشاط الشمسي مع الزمن، إذ يبدأ ضعيفا، ثم يرتفع شيئا فشيئا حتى يصل إلى قمته، ثم ينخفض مرة أخرى، وهكذا دواليك في دورة مدتها 11 سنة. يعرف العلماء عن تلك الدورة بتتبع البقع الشمسية، وهي مناطق على سطح الشمس تكون عادة أقل في درجة حرارتها من محيطها بقدر صغير، لكن فارق الحرارة يُنتج وهما بصريا بالنسبة لأعيننا، فنرى تلك البقع وكأنها داكنة تماما.

يرتفع عدد البقع على سطح الشمس في حالة النشاط الشمسي الأقصى. (NASA)

حينما تكون البقع الشمسية كثيرة وقريبة الأقطاب فإن هذا يعني "ذروة النشاط الشمسي" (Solar Maxima)، أما حينما تكون قليلة وقريبة من المنتصف فإن ذلك يشير إلى "أدنى نشاط شمسي" (Solar Minima)، وحاليا نحن نقترب من ذروة نشاط الشمس في الدورة الشمسية الحالية (التي تسمى الدورة 25)، ومن المتوقع أن تحدث الذروة بحلول منتصف عام 2025، وهذا بدوره يتسبب في ارتفاع عدد الانفجارات الشمسية، حيث بِتنا نسمع عنها كل عدة أيام تقريبا. (6) لكن أول ما يجب لفت الانتباه إليه في هذا السياق أن ما يحدث طبيعي، ويتكرر كل دورة شمسية، ولا توجد مخاطر من ذلك، وكل ما في الأمر أن الناس أصبحوا أكثر وجودا على وسائل التواصل الاجتماعي وبالتبعية يتعرضون لأخبار الشمس أكثر من أي وقت مضى.

الدورة رقم 25 للشمس

والواقع أن العلماء يتفقون على أن الدورة الشمسية وما يرتبط بها من تغيرات قصيرة المدى في الإشعاع لا يمكن أن تكون القوة الرئيسية الدافعة للموجات الحارة، أو التغييرات في مناخ الأرض التي نراها حاليا (7)، لسبب واحد وهو أن ناتج طاقة الشمس يتغير فقط بنسبة تصل إلى 0.15% على مدار الدورة، أي أقل مما هو مطلوب لفرض التغيير في المناخ الذي نراه. أضف إلى ذلك أن العلماء لم يتمكنوا من العثور على دليل مقنع على أن دورة الـ11 عاما تنعكس في أي جانب من جوانب المناخ خارج طبقات الجو العليا.

عند تلك النقطة عادة ما يثار الجدل حول اصطلاحي "منخفض موندر" (Maunder Minimum)، و"منخفض دالتون" (Dalton Minimum)، وهما يشيران إلى فترتين من تاريخ رصدنا للشمس كان فيها عدد البقع الشمسية قليلا جدا في حالة النشاط الشمسي الأعلى، الأولى استمرت بين عامي 1645-1715، والثانية وقعت نحو عام 1800، تزامن الانخفاضان (8) مع ما نسميه بـ"العصر الجليدي الصغير" (The Little Ice Age)، وهو فترة من تاريخنا المعاصر واجهت انخفاضا ملحوظا في درجات الحرارة، انقسمت إلى ثلاث موجات باردة بشكل خاص: واحدة بدأت نحو عام 1650، وأخرى نحو عام 1770، والأخيرة في عام 1850، فصلت بينها فترات من الاحترار.

"العصر الجليدي الصغير" (The Little Ice Age) هو فترة من تاريخنا المعاصر واجهت انخفاضا ملحوظا في درجات الحرارة، انقسمت إلى ثلاث موجات باردة بشكل خاص. (مواقع التواصل)

لكن ما حدث في تلك الفترة بحسب العلماء في هذا النطاق هو ارتباط لا يعني السببية (9)، بمعنى أن هناك بالفعل افتراضات تقول إن انخفاض النشاط الشمسي إلى هذا المستوى كان مرتبطا بانخفاض في متوسط حرارة الأرض، لكن الفرضية الأكثر قبولا حاليا هي أن سبب هذا الانخفاض كان متعلقا بكثافة النشاط البركاني في تلك الفترات، خاصة حينما نعرف أن الطقس البارد في أوروبا كان قد بدأ بالفعل قبل وصولنا لمنخفض موندر بنحو 50 سنة. من جهة أخرى، فإن الصيف بين موجات البرودة القاسية في العصر الجليدي الصغير، وهو اصطلاح أدبي أكثر من كونه علميا، كان في بعض الأحيان لا يختلف كثيرا عن الأوقات السابقة.

بالطبع هناك افتراضات تقول إن التغير في كم الإشعاع الشمسي أثناء الدورة الشمسية لا بد أن له تأثيرا على مناخ الأرض، لكن التأثير المتوقع لانخفاض النشاط الشمسي -الشديد- على حرارة الأرض، إن كان موجودا، فسيكون فقط في حدود 0.2-0.3 درجة مئوية في المتوسط، الأمر الذي اجتازته بالفعل المتوسطات العالمية الحالية، لأننا بالفعل نمر بأكثر فترة احترار في تاريخ كوكبنا منذ الثورة الصناعية، وفي المقابل فإن أي زيادة محتملة في النشاط الشمسي لن تضيف كثيرا إلى كارثة الاحترار العالمي القائمة بالفعل.

يُعتقد أن التغير المناخي هو المتسبب الرئيسي في تطرف حالات الشذوذ المناخي حول العالم مثل موجات الحر الشديد التي نمر بها حاليا، إلى جانب موجات الجفاف أو العواصف والأعاصير الاستثنائية. (شترستوك)

كانت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية قد أوضحت (10) بالتعاون مع وكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا)، قبل عدة سنوات على خلفية ادعاءات شبيهة، أن النسبة المئوية لقدرة التغير في الإشعاع الشمسي خلال الدورة الشمسية على إحداث تغير في المناخ طفيفة للغاية ولا تكاد تُذكر، وإن كان لها تأثير ما -وهو أمر لا يزال موضع دراسة- فلا بد أنه سيكون مترافقا مع تأثيرات أخرى أقوى.

التغير المناخي

لكن ذلك لم يمنع بعض الباحثين من الافتراض (11) أن تأثير النشاط الشمسي على مناخ الأرض يمكن أن يكون أكبر من المتوقع، فمثلا يقترح فريق من العلماء أن الجسيمات الشمسية النشطة والأشعة الكونية يمكن أن تقلل من مستويات الأوزون في طبقة الستراتوسفير من الغلاف الجوي، وهذا بدوره يمكن أن يغير سلوك الغلاف الجوي تحتها، كأن يدفع بالعواصف على السطح بعيدا عن مسارها، ما قد يزيد من التباين في درجات الحرارة بين المناطق المدارية والمنطقة القطبية.

يرى بعض العلماء أن التباين في درجات الحرارة بين طبقة الستراتوسفير وطبقة التروبوسفير العليا، يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار تدفق الغلاف الجوي. لكن تظل تلك الافتراضات موضع جدل. (شترستوك)

وعموما يرى هؤلاء العلماء أن التباين في درجات الحرارة بين طبقة الستراتوسفير وطبقة التروبوسفير العليا، الذي يحدث بسبب النشاط الشمسي، يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار تدفق الغلاف الجوي. لكن حتى الآن تظل تلك الافتراضات موضع جدل، ولم تثبت بالدلائل التجريبية القطعية أو حتى الترجيحية بعد.

وإلى جانب ذلك، فإنه حتى مع احتمالات وجود تلك التأثيرات، فإن العلماء يُجمعون أنها ستكون ضعيفة التأثير على المدى الطويل مقارنة بالتغير المناخي، الذي يُعتقد أنه المتسبب الرئيسي في تطرف حالات الشذوذ المناخي حول العالم مثل موجات الحر الشديد التي نمر بها حاليا، إلى جانب موجات الجفاف أو العواصف والأعاصير الاستثنائية، وغيرها.

__________________________________________

المصادر:

1- The solar wind 2- Do solar storms cause heat waves on Earth? 3- The Thermosphere 4- سقوط أقمار صناعية وانقطاعات راديوية في قارتين.. ما الذي يحدث للشمس هذه الأيام؟ 5- solar cycle 6- Time-lapse of Solar Cycle 25 displays increasing activity on the Sun 7- FAQ: How Does the Solar Cycle Affect Earth’s Climate? 8- What Was the Little Ice Age? 9- Is the Sun causing global warming? 10- What Is the Sun’s Role in Climate Change? 11- Tiny Solar Activity Changes Affect Earth’s Climate

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی درجات الحرارة الغلاف الجوی إلى الفضاء أکثر من یمکن أن

إقرأ أيضاً:

اختلاف سطوع المريخ في سماء الأرض لهذه الأسباب

المناطق_متابعات

يُرصد في سماء العالم العربي صبيحة اليوم، اقتران هلال القمر المتناقص بكوكب المريخ، حيث سيفصل بينهما 4 درجات في ظاهرة ستشاهد بالعين المجردة.

وأفاد رئيس الجمعية الفلكية بجدة المهندس ماجد أبو زاهرة، أن القمر والمريخ سيُرصدان قبل 3 ساعات و30 دقيقة من شروق الشمس باتجاه الأفق الشرقي، ونظرا لأن المسافة الظاهرية بين القمر والمريخ واسعة فلن يظهرا سويا في مجال رؤية التلسكوب، ولكن يمكن ذلك من خلال المناظير، مشيرا إلى أن رصد ومتابعة لمعان المريخ أسبوعيا في غاية الأهمية لرصد كيفية تغيره بشكل كبير من الآن وحتى يوم التقابل منتصف يناير 2025، وهذه التغييرات هي جزء من سبب روعة مشاهدة المريخ في سماء الليل، ولفهم سبب اختلاف سطوع المريخ كثيرا في سماء الأرض، يجب أن ندرك أن المريخ ليس كوكبا كبيرا جدا، إذ يبلغ قطره 6.790 كيلومتر فقط.

أخبار قد تهمك الصين تطلق صاروخاً لنقل عينات التربة القمرية إلى الأرض 3 مايو 2024 - 7:42 مساءً كوارث وأمراض.. راصد الزلازل الهولندي يحذر من مشروع لتعتيم الشمس 20 أبريل 2024 - 9:32 صباحًا

وقال: «إن السبب في أن الكوكب الأحمر (المريخ) ساطع في بعض الأحيان هو أن الأرض تستغرق عاما لتدور حول الشمس مرة واحدة، بينما يستغرق المريخ نحو عامين للدوران مرة واحدة، ويحدث تقابل المريخ – عندما تمر الأرض بين المريخ والشمس – كل عامين و50 يوما، لذا فإن سطوع المريخ يتضاءل ويزداد في السماء كل عامين تقريبا، لكن هذه ليست الدورة الوحيدة للمريخ التي تؤثر على سطوعه، فهناك أيضا دورة مدتها 15 عاما من حالات التقابل الساطعة والخافتة».

مقالات مشابهة

  • بالفيديو.. الزعاق يوضح سبب تغير المسافة بين الأرض والشمس
  • إنترناشيونال أس أو أس" تحثّ الشركات على اتخاذ التدابير اللازمة لضمان سلامة القوى العاملة وسط موجات الحر الشديدة
  • لماذا يُعد يوليو/تموز أكثر الشهور حرارة كل عام؟
  • بحث جديد: معدل التأثير النيزكي المفاجئ على المريخ يمكن أن يكون بمثابة "ساعة كونية"
  • عاصفة شمسية ضخمة تتجه نحو الأرض خلال ساعات.. ماذا تحمل؟
  • مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للتخلص من البقع الشمسية
  • أستاذ بترول: استخدام الطاقة الشمسية في حفلات مهرجان العلمين رسالة إيجابية
  • فيديو يخطف الأنظار لمحطة الفضاء الدولية تمر أمام الشمس الغاضبة
  • بلدية العين تطلق مبادرة السلامة في الحر
  • اختلاف سطوع المريخ في سماء الأرض لهذه الأسباب