ولاية الجزيرة: حيث الفظائع المنسية (تقرير عن العنف الجنسي المرتبط بالنزاع)
تاريخ النشر: 23rd, July 2024 GMT
ولاية الجزيرة والفظائع المنسية، تقرير صيحة
ولاية الجزيرة: حيث الفظائع المنسية (تقرير عن العنف الجنسي المرتبط بالنزاع)
استولت قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023 على ولاية الجزيرة وغرب وشمال سنار، مِمَّا عرض سكان تلك المناطق لصنوف من التعذيب والعنف والفظاعات. وقد أثّر دخول الدعم السريع إلى مناطق وقرى الجزيرة تأثيراً كبيراً على السودان، لا سِيَّمَا في إعاقة العملية الزراعية وبالتالي وصول السودانيين إلى الغذاء، وأسهم في أوضاع المجاعة الحالية.
ومع استمرار موجات العنف المتوحشة والتي يصاحبها نهب للممتلكات وتدمير للبنية التحتية المتواضعة والتي يعتمد عليها سكان الجزيرة مثل المراكز الصحية والبنوك والمدارس والقنوات المستخدمة في الري والحقول ومخازن الغلال والأسواق وغيرها من المرافق كلها تعرضت للنهب والتدمير. كل ذلك نتج عنه صدمة عميقة وواسعة النطاق وأدَّى إلى تعطيل جميع جوانب الحياة. ومع نزوح ما يقرب من 11 مليون شخص في مختلف أنحاء البلاد، لا يزال هناك الملايين من السكان عاجزين عن الفرار من مدنهم وقراهم في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، نسبة للظروف الاقتصادية وغياب الموارد وسيطرة الدعم السريع على المخارج والمداخل للعديد من الولايات وبالتالي تعرض المواطنين لعمليات الابتزاز والنهب والعنف الممنهج في الطرق السفرية. إضافة إلى الفظاعات التي يرتكبها فقد أدى دخول الدعم السريع إلى عسكرة الولاية بالكامل وتجنيد الشباب والأطفال والعمال الزراعيين من قبل الدعم السريع ومن قبل الجيش السوداني، الأمر الذي سيكون له تبعات عميقة في تشظي النسيج الاجتماعي وانتشار العنف الذي قد يصبح من سمات الولاية التي كانت آمنة وتحظي بقدر عالٍ من التسامح والتنوع السكاني.
وعلى الرغم من تأخر وصول أخبار الجرائم والفظائع بسبب الطبيعة الريفية لولاية الجزيرة وانقطاع شبكة الاتصالات منذ شهر فبراير، إلا أن المعلومات لا تزال تصل وإن كانت تأخذ فترة زمنية طويلة، مما يشكّل خصمًا على الضحايا وسلامتهن/م. ووفقاً لبيان صادر عن لجان مقاومة ود مدني في 18 أبريل 2024، فقد قُتِلَ ما يزيد عن 800 شخصٍ حتى وقت إصدار ذلك البيان، وأُصِيب الآلاف بجروح، بالإضافة إلى تعرض مئات الآلاف من القرويين وأهالي المجتمعات الزراعية للترهيب والتعذيب والنهب والاستغلال والأعمال الشاقة الذي ترقي في بعض الحالات إلى الاسترقاق. وقد ورد في شهادات سكان قرى الجزيرة أنه تم احتجاز النساء والأطفال رهائناً مقابل تسليم المدخرات. وفي الوقت نفسه، نُهِبَت المنازل بشكل كامل والمحاصيل الزراعية وأُجبر مئات الآلاف على مغادرة منازلهم.
وفي يوم الأربعاء 5 يونيو 2024 وردت الأخبار في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عن وقوع مجزرة وجريمة حرب مكتملة الأركان في قرية ود النورة إثر هجوم قوات الدعم السريع عليها مرتين في ذات اليوم. وفي حالة ود النورة ووفقًا لمقاطع الفيديو التي وثقت للمجزرة فقد استخدم أفراد الدعم السريع أسلحة ثقيلة ومتطورة يتم استخدامها بين الجيوش المتحاربة وليس مقابل السكان العزل في قراهم ومنازلهم. ومع أنّ العدد الكلي للقتلى لا يزال غير مؤكدٍ حتى الآن، فمن الواضح أنّ قوات الدعم السريع قتلت ما يزيد عن 180 شخصٍ في القرية، مع وجود الكثير من الروايات التي تشير إلى وفيات غير مسجلة. وقد تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لعشرات الجثامين المجهزة للدفن في مقبرة جماعية . ومع أنّ المعلومات عن هذه المجزرة بالذات لا تزال تتوالى، فقد وصلت إلينا معلومات تفيد أنّ قوات الدعم السريع قد ارتكبت أيضاً أعمال عنف جنسي أثناء اجتياحها للقرية، وعادة ما يأخذ توثيق جرائم العنف الجنسي في الجزيرة وقتًا طويلاً نسبةً لصعوبة الاتصال وصعوبة مغادرة الضحايا للولاية.
وفي صبيحة 13 يونيو ارتكبت مليشيات الدعم السريع مجزرة أخرى في قرية الشيخ السماني جنوب الجزيرة وقامت بالتدوين على المدنيين داخل القرية مما أدى لمقتل 20 من مواطني القرية وعدد غير معروف من الجرحى والمصابين بينهم العديد من الأطفال والنساء. وتشير وحشية القتل التي سادت الجزيرة في الأسابيع الأخيرة إلى امتلاك المليشيات أسلحة فتاكة ومسيرات يتم استخدامها بكثافة ضد مواطني الجزيرة بغرض تهجيرهم، مما يمكن الميلشيا في الغالب من ممارسة النهب والاستيلاء على ممتلكات المواطنين. هذا إضافة إلى العديد من المجازر التي ارتكبت من قبل الدعم السريع على امتداد قرى ولاية الجزيرة والتي قُتل فيها أعداد كبيرة من المدنيين في إطار النهب والانتهاكات التي تحدث بشكل ممنهج على امتداد الولاية. وقد تم توثيق العديد من حالات العنف الجنسي التي طالت النساء والفتيات في أعقاب دخول الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة، وكذلك بين النساء اللواتي أجبرن على الفرار من الولاية.
وتُظهر الأحداث الأولية في الفترة من 19 ديسمبر 2023 إلى أوائل يناير 2024 التكتيك الثابت والمعروف لقوات الدعم السريع والمتمثل في إطلاق النيران بطريقة عشوائية في الشوارع ومداهمة المنازل في غضون ساعات بعد الاستيلاء على المنطقة واستخدام العنف الجنسي لترويع السكان وإجبارهم على إخلاء منازلهم؛ مِمَّا يتيح لقوات الدعم السريع نهب المنازل بلا عوائق. وتنشر هذه التكتيكات الرعب بسرعة كبيرة بين الأهالي؛ مِمَّا يضمن هيمنة الدعم السريع على الموقع الذي تجتاحه.
يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على ازدياد جرائم العنف الجنسي المرتبط بالنزاع في ولاية الجزيرة، حيث تؤكد جميع المؤشرات إلى الحقيقة الراسخة حول توسع رقعة جرائم العنف الجنسي مع توسع دائرة الانتهاكات في ولاية الجزيرة، وعلى الرغم من حجم الانتهاكات التي تحدث في الجزيرة فإنها لم تجد بعد القدر الكافي من الاهتمام أو تسليط الضوء. إذ لم يتم تناول حالات العنف الجنسي -بما في ذلك الاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي- تناولاً كافياً تحديدا من قبل منظمات حقوق الانسان او في التقارير الصحفية أو على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد تعرضت العديد من قرى ولاية الجزيرة لمزيج من العنف الجنسي والقتل والنهب. ولا شكّ أن العنف الجنسي يمارس بشكل منهجيّ في ولاية الجزيرة، فالواقع أنّ الغالبية العظمى من حالات الاغتصاب المُشَار إليها في هذا التقرير هي إفادات عن حالات اغتصاب جماعي، مِمَّا يشير إلى أنّ هذه ليست مجرد حالات فردية لجنود يتصرفون من تلقاء أنفسهم، بل هي جزء من حملة ممنهجة تهدف إلى بثّ الرعب، وجعل العنف الجنسي أمرًا طبيعيًا، لضمان السيطرة والإخضاع الكامل.
أساليب العنف ووسائل الاخضاع:
من الواضح أنّ أساليب العنف الجنسي التي يستخدمها الدعم السريع لضمان السيطرة على المناطق التي يجتاحها تتخذ عدة أنماط، ولا ينبغي النظر إلى تلك الأنماط على أنّها مرتّبة ترتيباً دقيقاً، بل تعتمد على مدى سيطرة الدعم السريع على القرية أو المدينة المعينة وعلاقتهم مع السكان المحليين. ففي حالات تماهي السكان مع الدعم السريع يمكن أن تقل في البداية حالات العنف الجنسي إلا ان ذلك لا يضمن استمرارية الامتناع عن ارتكاب الجرائم، ففي مناطق عديدة رغم محاولات السكان المحليين التفاوض مع المليشيا إلا أننا وثقنا حالات للعنف الجنسي في تلك المناطق بعد حين. ومن الواضح أن رجال المليشيا ليس من أولياتهم كسب ود أهالي المناطق التي يسيطرون عليها بقدر ما هم مهتمون بالإخضاع المطلق والنهب المنظم والذي في أثناء حدوثه تًرتكب جرائم العنف الجنسي.
ومن الواضح أنّ العديد من أنماط العنف لا تزال تُرتكب في الجزيرة ومناطق ولاية سنار في هذا الوقت، حيث تحاول قوات الدعم السريع تعزيز سلطتها.
النمط الأول:
يعتمد هذا النمط من العنف الجنسي على الصدمة في المقام الأول، ويحدث غالبًا في الساعات أو الأيام الأولى عند اجتياح بلدة أو منطقة معينة، ويرتبط بفرض السيطرة. إذ عادةً ما يطلق الجنود الأعيرة النارية في الهواء ويبدؤون في عملية النهب، بدءاً من الأسواق، والمتاجر، والمجمعات التجارية، والمخازن والمرافق الحيوية مثل البنوك إذا وجدت، ومن ثم الانتقال إلى البيوت واحداً تلو الآخر. وهم يدخلون هذه البيوت عنوة لتفتيشها بحثاً عن جنود القوات النظامية أو غيرهم من المقاتلين، ومن ثم وإمعاناً في الترويع يستخدمون العنف الجنسي على النساء والفتيات داخل البيوت، ويصاحب ذلك قتل أفراد الأسر من الرجال والشباب وفي بعض الأحيان الصبية في حالة تدخلهم لمقاومة الاعتداء الجنسي على النساء والفتيات. ووفقاً للعديد من كوادر الدعم السريع في مناطق سيطرتهم أنهم لا يرون غضاضة في ارتكاب العنف الجنسي باعتبار أن النساء جزء من الغنائم التي يحق لهم الحصول عليها حسب شهادات السكان المحليين.
وقد وثقت شبكة صيحة عددًا من الحالات التي تتبع هذا النمط. إذ وصفت إحدى الشهود في الخامس من مارس، وهي نفسها ضحية للنهب والتهجير من مدينة (المدينة عرب)، هذا النوع من الحالات بوضوح:
"تعرضنا لهجوم في المنزل على يد نحو 10 رجال مسلحين، دخلوا منزلنا قائلين إنّهم يبحثون عن جنود نظاميين وهددونا بالاغتصاب، قائلين: (ليس لديكم جيش لحمايتكم، وسنستخدمكم كيفما نشاء. لماذا لم تغادروا سلفاً؟) وبعد المغرب سمعنا صوت صراخ من منزل جارنا. وذهبنا لإنقاذهم فوجدنا أنّهم اغتصبوا الأم وبناتها الثلاث. وكان وضعهنّ سيئاً للغاية ورفضن مغادرة المنطقة، قائلات: (لقد تعرضنا للاغتصاب فما الفائدة من المغادرة الآن بعد اغتصابنا؟) وقررنا مغادرة (المدينة عرب) في الساعة 7 مساءً، وخلال تنقلنا في الحي، سمعنا صراخ النساء والفتيات وهنّ يتوسلن إليهم أن لا يغتصبوهنّ، وسمعنا جنود الدعم السريع يأمرون النساء بخلع ملابسهنّ".
كانت هذه الحالة مشابهة بالفعل لحالة أخرى من المدينة عرب في 11 مارس، حيث تعرضت أم تبلغ من العمر 38 عامًا وابنتاها القاصرتان للاغتصاب الجماعي داخل منزلهم بطريقة مماثلة.
وفي حالة أخرى في 17 أبريل، في مدينة الحصاحيصا شمال مدينة ود مدني، اقتحمت قوات الدعم السريع منزل بائعة شاي نازحة كانت خارج البيت للعمل، ولمّا لم يجدوا في البيت ما يكفي للسرقة، ضربوا ابنتها البالغة من العمر 17 عاماً وأهانوها واغتصبوها جماعيا، وكانت هذه الحادثة مؤلمة ومدمّرة للعائلة؛ إذ سرق المغتصبون بعد اغتصاب الفتاة كل ما تملك الأسرة المتواضعة. وفي أعقاب الجريمة الشنيعة اضطرت الأم للبقاء في المنزل مع ابنتها التي تعاني من وضع نفسي سيء للغاية، مما أجبر الصبي الصغير الذي لا يتجاوز العاشرة من الانخراط في العمل وقد قررت الأسرة لاحقًا العودة إلى أم درمان.
النمط الثاني:
يحدث بعد أن تجتاح مليشيات الدعم السريع منطقة ما وتضمن أنّ لها قدراً من السيطرة على المنطقة. ففي هذه المرحلة، يبدو أنّ العنف الجنسي يحدث في ظروف مختلفة، وفي هذه الحالات، ينطوي عنف قوات الدعم السريع على مفاوضات مستمرة مع السكان المحليين. وقد يبدو أنّ هدف قوات الدعم السريع في هذا السياق هو التعايش وتحقيق قدر من السيطرة لسلطة الدعم السريع. ويشمل هذا النمط في الغالب عمليات اختطاف وزواج قسري أو مقايضة الفتيات مقابل المال الذي يدفعه أفراد المليشيا للأسر التي لا تمتلك حق الرفض.
وقد وردت لصيحة تقارير تشير إلى أنه خلال أشهر مارس وإبريل قد تم إجبار أعداد كبيرة من الفتيات على الزواج من أفراد الدعم السريع -الكثير منهن من الطفلات- في مناطق مدينة ود مدني وضواحيها. وهناك تقارير تشير إلى العديد من حالات الاختطاف والاسترقاق الجنسي تحدث ضمن تلك المرحلة. وفي إحدى الحالات التي وثّقتها صيحة، دخلت قوات الدعم السريع منزل امرأة في الحصاحيصا وعندما قاومت المرأة تم اختطافها واحتجازها لمدة خمسة أيام. ثمّ عُثِر عليها خارج منزلها، مصابة بجروح بالغة تشير إلى أنّها تعرضت للاغتصاب مراراً على يد عدة جناة.
وفي حالة مماثلة في الحصاحيصا في منتصف شهر مارس وردت تقارير لاختفاء فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، وامرأة تبلغ من العمر 29 عاماً. اتضح لاحقًا أنهما تم اختطافهن من قبل الدعم السريع واحتجِازهن لأربعة أيام، تعرضن خلالها للاغتصاب الجماعي والتعذيب. وقد اتخذت النساء تدابيرًا مختلفة في محاولة للحفاظ على سلامتهن في خضم النمطين الأول والثاني من العنف، نمتنع عن ذكرها حفاظاً على سلامة النساء والفتيات في ولاية الجزيرة.
وأفاد مصدر آخر لشبكة صيحة عن علمه بمجموعة من 40 امرأة يبتن معاً في منزل واحد، منذ أن سمعنّ روايات عن دخول قوات الدعم السريع إلى المنازل ونهبها واغتصاب النساء الموجودات فيها. وهؤلاء النسوة يتفرقنّ كل صباح للاختباء من قوات الدعم السريع. وقد أفادت إحدى هؤلاء النساء لمصدر صيحة أنّها سمعت عن امرأة في مجتمعها أجبرتها قوات الدعم السريع على المغادرة معهم، وعندما عادت في وقت لاحق، عادت مصابة بكدمات وتورُّم، وذكرت أنّ هناك أعدادًا كبيرة من النساء والفتيات محتجزات لدى قوات الدعم السريع ويتعرضن للاغتصاب الوحشي والتعذيب.
النمط الثالث:
يماثل إلى حد ما النمط الثاني حيث يحدث في أعقاب استقرار المليشيا في المنطقة، إلا أنه ينطوي على استهداف نساء محددات مثل النساء بائعات الأطعمة والشاي والنساء في المساحات العامة، وهو نمط مصحوب بقدر أقل من التفاوض والتنسيق مع السكان المحليين.، ويبدو أنّ قوات الدعم السريع تشعر في هذه المرحلة بأنّ لديها قدرة أكبر على ممارسة أعمالها دون موافقة السكان المحليين، ومن ثمّ لا تكون بحاجة إلى التفاوض. ولذلك ينطوي هذا النمط على أعمال انتقامية تستهدف العائلات وعمليات اختطاف وزواج القسري أو استهداف نساء بعينهن. وفي إحدى الحالات التي أُبلِغت بها صيحة في الأسبوع الأول من شهر إبريل تعرضت امرأة في ود مدني للاغتصاب تحت تهديد السلاح على يد ثلاثة جنود من قوات الدعم السريع أمام زوجها بعد أن هدد الجنود بقتل زوجها ما لم تخضع لهم. وفي نهاية المطاف، نزحت تلك المرأة مع زوجها إلى سنار في 29 إبريل، حيث طلّقها زوجها في مدينة سنار. ويوضح هذا الاعتداء الطُرق التي يُستخدم بها العنف الجنسي وسيلةً للامتهان وتمزيق النسيج الاجتماعي. مع الأخذ في الاعتبار أن العنف الجنسي يهدف إلى بثّ الرعب في نفوس السكان وجعلهم أكثر خضوعاً للمليشيا فإن استمرار موجات العنف الجنسي تصاحبها متغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة قد تستمر لأجيال عديدة.
استهداف العاملات في مجال الرعاية الصحية والعاملات في القطاع غير الرسمي:
استهدفت قوات الدعم السريع العاملات في مجال الرعاية الصحية والعاملات في القطاع غير الرسمي بمعدلات أكبر في أنماط العنف هذه داخل ولاية الجزيرة وخارجها. وهذا العنف ذو طبيعة انتهازية وإجرامية تعكس بشكل واضح نهج المليشيا في اهانة كرامة النساء وبالتالي ممارسة صنوف من العنف ضدهن؛ أيضاً يعكس هذا النمط في استهداف النساء البائعات تجليات إرث نظام المؤتمر الوطني الذي كان يمارس العنف بانتظام ضد النساء والنساء الفقيرات وبائعات الأطعمة والشاي والنساء في المساحات العامة، وهو النظام المسؤول عن انتاج المليشيات بشكلها الحالي. فالنساء العاملات في القطاع غير الرسمي والعاملات في مجال الرعاية الصحّية يعملن في أماكن عامة، ويتعاملن مع الكثير من الأشخاص على مدار اليوم ويكنّ ظاهرات بدرجة كبيرة.
ووفقاً لشهود عيان، تتعرض بائعات الأطعمة والشاي في أسواق الحصاحيصا والمعيلق والدباسين والمحيريبا لوحشية وانتهاكات قاسية، ويتم إجبارهنّ على تقديم الطعام والشراب مجاناً، مع تقديم الخدمات لجنود المليشيا. وقد كانت هؤلاء البائعات يتعرضن للمضايقة والتعذيب والضرب في الأماكن العامة في الأسواق المحلية إذا عصين أو تجاهلن أوامر جنود قوات الدعم السريع.
وثقّت شبكة صيحة حالات متعددة استهدفت فيها قوات الدعم السريع العاملات في القطاع غير الرسمي، إذ تلقّت صيحة في 17 أبريل خبراً عن حادث وقع في مارس، يشير إلى تعرُّض بائعة شاي تعول أسرتها في الحصاحيصا للتعذيب بالضرب المتواصل والاعتداء عليها بواسطة جنود قوات الدعم السريع على جانب الطريق.
كما رصدت شبكة صيحة حادثة لبائعة شاي تعرّضت للاغتصاب الجماعي في الشارع في 26 فبراير عندما قاومت محاولات أفراد الدعم السريع تم اختطافها وإخفائها قسريًا. كما وردت تقارير عن حالة اغتصاب جماعي لبائعة شاي في الشارع العام وضرب ونهب في 8 مارس في مدينة الحصاحيصا.
وقد نشرت صحيفة الجريدة في 15 مارس 2024، تقريراً ذكر أنّ نقابة الأطباء السودانيين أصدرت بياناً يدين استخدام قوات الدعم السريع للعنف الجنسي وذكر التقرير أنّ قوات الدعم السريع اغتصبت اثنتين من النساء المرافقات لأطفالهن في مستشفى الحصاحيصا للأطفال وممرضة واحدة في المستشفى . ووفقاً لشهود عيان أدلوا بشهاداتهم في وقت لاحق أن أفرادًا من الدعم السريع اعتدوا جنسيًا على امرأتين جاءتا إلى المستشفى ترافقان مرضى، وعندما حاولت الممرضة التدخل جرى احتجازها واغتصابها هي أيضاً. وفي 25 مارس، تعرّضت عاملة رعاية صحية أخرى للاعتداء والاغتصاب أثناء عودتها من العمل من أحد مرفق للرعاية الصحية في مدينة الحصاحيصا.
وهذه الأفعال واضحة للغاية لأنّها تقع على نساء ويشاهدها الكثيرون يومياً، وهي تعكس منهجية العنف الذي يمارسه الدعم السريع على النساء والفتيات بشكل مستمر، وهو عنف يهدف إلى نشر الرعب على نطاق واسع، ويؤدي إلى إخضاع السكان بشكل كامل. كما أنّ استهداف العاملات في مجال الرعاية الصحية على وجه الخصوص يعمل أيضاً على تقليل عدد الأشخاص الذين يطلبون خدمات الرعاية الصحية ومن ثمّ إمكانية تجمع سكان المنطقة في مواقع مركزية وتواصلهم، مما يؤدي إلى فرض أسوار من العزلة والخوف وعدم المقدرة على القيام بأي نوع من المقاومة والاحتجاج، حيث يصبح السكان المحليون غير قادرين على اللجوء إلى المؤسسات للحصول على الخدمات الأساسية ويظلون حبيسي منازلهم وأحياءهم السكنية.
تبُيّن هذه الحالات الضرر المعقد والدائم الذي تسببه أساليب العنف التي تستخدمها قوات الدعم السريع على الضحايا والعائلات والمجتمعات. ومع أنّ الاغتصاب والعنف الجنسي وكذلك الاستغلال الجنسي والاستعباد الجنسي هي الأنماط الرئيسية للعنف ضد النساء والفتيات، فإنّ أنماط الاستغلال الأخرى التي تعرّضت لها النساء اللواتي يتواجدن في الأماكن العامة تشمل الإجبار على الخدمة والطهي لجنود المليشيا وتلبية احتياجاتهم. وقد أفادت لشبكة صيحة نساء فوق سن 70 عاماً، كنّ قبل الحرب قد شكلنّ مجموعة جدات (حبوبات) في جنوب أم درمان، أنّهنّ أُجبِرن على تقديم الخدمات للدعم السريع، وبعد ذلك يجبِرنّ على الرقص في حين كان أفراد الدعم السريع يطلقون الرصاص في الهواء ويضحكون عليهنّ. وتحدثت إحدى المصادر من مدينة ود مدني في الثمانينات من عمرها عن تعرّضها للملاحقة واللمس غير اللائق من جنود الدعم السريع في أثناء سيرها للحصول على الطعام. وفي المناطق الريفية، كثيراً ما تُجبر النساء اللاتي بقينّ في القرى على جني المحاصيل لصالح قوات السريع دون أجر أو مقابل القليل من المال أو الطعام.
العنف الجنسي في الطرق السفرية:
وتنتشر الانتهاكات ضد النساء والفتيات في حالات السفر، إمّا بمفردهنّ أو في مجموعات. ففي إحدى الحالات التي وثقتها شبكة صيحة، غادرت امرأة تبلغ من العمر 28 عاماً وهي أم لثلاثة أطفال مدينة ود مدني في أواخر فبراير للبحث عن زوجها الجندي في طريق الفاو. ومع أنّ أفراد الأسرة التي تمكنت شبكة صيحة من التواصل معهم لم يكونوا على دراية بتفاصيل ظروف رحلة المرأة، فقد أشاروا إلى أنّ الإصابات التي لحقت بها والأشياء التي ذكرتها عند وصولها إلى مدينة سنار تشير إلى أنّها تعرّضت للتعذيب والاغتصاب الجماعي قبل أن تصل إلى عائلتها في سنار في 3 مارس. وقد أخبرت الأسرة شبكة صيحة أنّه قد حُلِق شعرها بأداة حادّة وأنّها عانت من جروح متعددة وتورُّم في جسدها ودم مع البول. وقد رفضت الضحية أن تتلقى الرعاية الطبية ثُمّ توفيت في 5 مارس 2024. ومع أنّ وفاتها لم تسجل على أنّها حالة انتحار، فقد وصفت شقيقتها، وكذلك الممرضة التي تابعت الحالة، بأنّها حالة انتحار، لأنّ الضحية أعربت عن رغبتها في الموت مرارًا وتفاقمت حالتها الصحية مع رفضها للعلاج والرعاية الطبية.
ومع استمرار العنف في ولاية الجزيرة وشمال سنار تزداد جرائم العنف الجنسي، وقد أشار تقرير سابق لشبكة صيحة صدر في يناير، إلى حالة أربع نساء تعرّضنّ للاغتصاب في طريق المناقل، كنّ قد فررن من مدينة ود مدني في اليوم الثالث لاجتياح قوات الدعم السريع للمدينة في 21 ديسمبر 2023. وبعد مدة وجيزة، في 15 يناير، أوقفت قوات الدعم السريع بص ركاب سفري متجه من الجزيرة إلى الفاشر، في الطريق ما بين مدينة تندلتي ومدينة الأبيض، وقامت بنهب الركاب واغتصبت 4 من النساء اغتصاباً جماعياً كما رَوَت شاهدة عيان كانت في الباص:
"في البداية عندما اوقفونا ظننا هذا مجرد تفتيش عادي، سينزلون الشباب كما يحدث في أي ارتكاز. فجأة قالوا: نريد النساء فقط، وبينما كانوا يتفحصون النساء كانوا يتلفظون بألفاظ نابية، أستحي أن أقولها... وتم ايقاف الرجال في جانب والنساء في جانب اخر، وبعدها بدأوا في النهب ... الرجال سلموا أغراضهم بدون مقاومة، بعد ان أخذوا أغراضهم وقالوا لهم اركبوا... ركب الرجال وتركونا مع افراد الدعم السريع، وبعد ذلك أتوا نحونا نحن النساء وقالوا لنا اليوم ستكون نهايتكن. الرجال كانوا ينظروا الينا من الشبابيك.. وظلوا يهددونا ويقولون لنا اذهبوا وراء الباص واخلعوا ملابسكن... كانت هناك بنت حاولوا معها كثيراً لكنها قاومت، كانت تمسك في باب البص وتضرب بأرجلها في الأرض، ومهما حاولوا معها كانت تقاوم، وبعد 10 دقائق ضربها أحدهم بظهر سلاحه في يدها لكنها ظلت ممسكة بالباب، وفي النهاية لكمها بقبضة يده على وجهها وكسر لها ضرسين ومع ذلك لم تترك الباب... السائق الرجل الوحيد الذي لم يركب وظل معنا، هو الوحيد الذي كان عنده نخوة وظل يقول لهم أتركوا بنات الناس، ديل أخواتكم.. في النهاية ركض أحدهم نحوه بالسكين وهدده، المهم ظل السائق صامداً إلى أن اصيب بجراح بالغة في يديه...
نحن كنا في رعب شديد... بعضنا يبكي وبعضنا يسبّح الله ويدعوه ويستغفره، كما لو أننا في مواجهة الموت.. قالوا لنا حان دوركم.. نطقنا بالشهادة، ونحن نبكي وامي التي كانت ترافقني خبأتني خلفها وترجتهم قائلة "انا مريضة سرطان وابنتي أيضاً مريضة" فتركونا ... واقتادوا أربعة بنات وراء البص ومعهم سيدة كبيرة في رفقة مريض وكن يصرخن ويبكين، وحالتهن سيئة! ونحن ما قادرين نعمل اي شيء.. الرجال ما قدروا يعملوا شيء فماذا سنعمل نحن؟! في النهاية اغتصبوهن الأربعة...
الخالة الكبيرة رجعت. أتى واحد منهم يلاحقها يريد أن يقتادها، كانت تحلف وتصرخ بأعلى صوتها قائلة: (والله يا ولدي أنا مريضة عندي إيدز). فقال أحدهم للآخر:(اتركها هذه مريضة) وبعد أكثر من ساعتين أخذوا الحقائب وغادروا وتركوا الأربعة بنات مرميات وراء البص.. بعد ذلك قال الرجال: (هناك بنات مفقودات)، وأنا قلت لهم: (البنت التي كانت تجلس جواري مفقودة)، وهناك أخرى قالت إن البنت التي كانت تجلس جوارها مفقودة.. نزل الرجال ورفعوا البنات اللاتي كُنَّ لا يستطعن المشي.. كل من في البص كان يبكي ونشعر بالعجز والمهانة والناس صامتة حتى وصلنا إلى الأبيض ووجد كل شخص منا ركناً جلس فيه".
وقد ساعدت هذه الشاهدة النساء على الإبلاغ عن جريمة الاغتصاب لدى شرطة الأبيّض وتلقين العلاج في مستشفى الأبيّض. ولكن الضحايا ظللن في حالة سيئة للغاية، فكانت إحداهنّ تتقيّأ طوال الوقت دون توقف.
نهب الممتلكات والتهجير:
وبالإضافة إلى ترويع أهالي الجزيرة وإخضاعهم، استخدمت قوات الدعم السريع العنف وسيلةً أساسيّةً لنهب الموارد وتجنيد المزيد من الجنود. فقد قامت قوات الدعم السريع بحملات تجنيد في ولاية الجزيرة، حيث استفادت من نقص الغذاء في التهديد المزدوج بالعنف وحجب الغذاء أو حجب وسائل الحصول على الغذاء إذا لم "توافق" المجتمعات المحلية على تقديم شبابها إلى قوات الدعم السريع للتجنيد . وقد صار ذلك ممكناً إلى حدٍّ ما بسبب نشاط أبو عاقلة كيكل ، وهو ضابط سابق في القوات المسلحة السودانية كان مواليًا للبشير وحزب المؤتمر الوطني، وقد ظهر سابقاً في محادثات جوبا للسلام يزعم أنّه يمثّل ولاية الجزيرة. وقد اضطّلع كيكل منذ انضمامه إلى الدعم السريع في أغسطس 2023 بدور حاسم في تمكين الدعم السريع من الوصول إلى أرياف الجزيرة والمجتمعات الزراعية ونهب المدن والمرافق العامة، إضافة إلى الدور الذي لعبه في عسكرة المنطقة وتجنيد أعداد من الشباب لصالح المليشيا.
وفي الوقت نفسه، شنّت قوات الدعم السريع حملةً ممنهجةً لاقتحام المنازل والمرافق المدنية والبنوك ومؤسسات البنية التحتية التي تم نهبها بشكل منظم، ولا سِيَّمَا في المناطق الحضرية مثل ود مدني. فقد وردت تقارير مطوّلة من شهود عيان لأعمال النهب والعنف. إذ أفاد أحد الشهود بأنّ قوات الدعم السريع اقتحمت منزله وأخبرته أنّهم سيعودون ليلاً "لزيارة بناته خاصّةً". فخرج هو وبناته الأربع المراهقات ومشوا أكثر من 40 كيلومتراً حتى ينجوا. وأخبرت امرأة تبلغ من العمر 75 عاماً شبكة صيحة أنّها تعرّضت للضربّ المبرّح لأنّ لديها سيارات اقاربها متوقفة في منزلها. طالبها أفراد من قوات الدعم السريع بمفاتيح لتحريك السيارات، ولكون السيارات ملكًا لأقربائها فهي لا تملك مفاتيحها، فعذبوها لأكثر من 24 ساعة وهم يطالبونها بتسليم المفاتيح. وحتى بعد انتهاء التعذيب، عادوا مراراً لمحاولة تحريك السيارات.
ولا يقتصر نهب قوات الدعم السريع على البيوت التي فَرَّ منها سكانها، بل طالُ النهب منذ أواخر شهر إبريل وشهر مايو بيوت الأشخاص الذين لم يغادروا منازلهم. فقد تلقّت شبكة صيحة تقارير تفيد بأنّ أفراد الدعم السريع يداهمون المساكن المأهولة في مدينة ود مدني ويسرقون أيّ شيء ذي قيمة. وتستهدف هذه المداهمات النساء على وجه التحديد لابتزاز أسرهنّ والحصول على مبالغ كبيرة من المال أو الذهب. وتذكر تقارير من أوائل مايو أنّ أفراد الدعم السريع اقتحموا بيوتاً في حي (المدنيين) وحي (الجامع الكبير)، مطالبين النساء بتسليم حليهنّ الذهبية أو أموالهنّ قبل الاعتداء عليهنّ وضربهنّ بوحشية. ومن لا يسلّمن المقتنيات الثمينة في حملات النهب هذه يتعرّضن للتعذيب، الذي يفضي أحياناً إلى الموت، على يد أفراد الدعم السريع، الذين يصرون على أنّ السكان يخفون المقتنيات الثمينة.
ويقترن النهب بتدميرٍ لكل ما هو موجود مما يشير إلى استراتيجية تشريد السكان ونزع أراضيهم ومنازلهم. فقد أفاد شاهد عيان في شمال الجزيرة باستخدام قوات الدعم السريع لأكياس المحاصيل جسراً لعبور قنوات المياه، ليس فقط للسرقة من أصحاب الحواشات، ولكن أيضاً إتلافاً للغذاء وحضاً على تشريد المزارعين ونهب ممتلكاتهم.
وغالباً ما تستمر حملة نهب الممتلكات هذه حتى بعد إجبار السكان على مغادرة منازلهم؛ إذ لا يزالون يتعرضون للهجوم والسرقة أثناء فرارهم بحثاً عن الأمان. وقد تلقّت شبكة صيحة إفادات عن قيام الدعم السريع بمطاردة الحافلات وإيقافها وتفتيشها وإخضاع الركاب للضرب والإذلال عند سرقة ممتلكاتهم، بل وقتلهم في أثناء ذلك.
ففي يوم الأربعاء 15 مايو، نهبت قوات الدعم السريع حافلة متجهة من البشاقرة إلى شندي، وضربت الركاب ضرباً مبرّحاً. وفي أثناء هذا الضرب، أطلق الجنود النار من أسلحتهم وقتلوا سماح متوكل، البالغة من العمر 23 عاماً، من قرية (أم مغد). وقد أفادت وسائل إعلام سودانية بمقتل الفنانة أماني إبراهيم وشقيقتها التوأم اللتان قتلتا برصاص جنود الدعم السريع أثناء سفرهما بالحافلة من رفاعة إلى القضارف بشرق السودان . فحسب ما ورد في الصحف، طاردت قوات الدعم السريع حافلة النقل ثمّ فتحت النار على الركاب عشوائياً، مِمَّا أسفر عن مقتل الفنانة وشقيقتها على الفور وإصابة آخرين. وتمثّل هذه الأحداث نمطاً متكرراً يشير إلى استخدام العنف العشوائي ليس فقط في نهب البيوت، ولكن أيضاً في نهب الأشخاص الفارين.
وقد حشدت المجتمعات المحلية في المناطق التي كانت في السابق جزءاً من مشروع الجزيرة الزراعي جهوداً أكبر لمقاومة هجمات قوات الدعم السريع على قراهم، بما في ذلك تسليح مواطني القرى . إلا أن حجم المقاومة لا يتسق في كل الأحوال مع إمكانات التسليح الكبيرة التي تتمتع بها المليشيا. ففي تلك المناطق لم يؤدِّ النزوح والدمار الناجم عن هجمات قوات الدعم السريع إلى تجريد المزارعين من أراضيهم فحسب، بل أضرَّ أيضاً بالبنية التحتية ذات الأهمية الشديدة لاقتصاد الولاية واقتصاد السودان، مثل أنظمة الريّ، وسرقة التقاوي وتدمير مركز الأبحاث الزراعية، الشيء الذي سيجعل استعادة المجتمع للمنظومة الزراعية أمراً صعباً للغاية، ممّا يسبب مخاطر طويلة الأجل على المزارعين الذين يعيشون من المشروع. هذا وقد ينتج من هذا الدمار للمنظومة الزراعية جراء جرائم الدعم السريع إلى تسريع عمليات تشريد المزارعين ونزع ملكية الأراضي الزراعية من المزارعين التي بدأت بالفعل على مدى السنوات الثلاثين الماضية من خلال الاستيلاء على الأراضي من قبل المؤتمر الوطني وبذل الجهود في إضعاف الحركة النقابية للمزارعين في الجزيرة.
المجاعة وانعدام الأمن الغذائي:
سيتسبب تشريد المزارعين في عواقب أكثر خطورة في جميع أنحاء البلاد فيما يتعلق بانعدام الأمن الغذائي، الذي تفاقم في جميع أنحاء السودان خلال الأشهر الماضية. وقد أثّر اجتياح الدعم السريع لولاية الجزيرة والعنف المستمر، في خلق "فجوة في وفرة محاصيل الحبوب" في جميع أنحاء البلاد؛ إذ لم يتمكن المزارعون من زراعة الحبوب التي لا يقتصر نفعها الغذائي على سكان الجزيرة وحدهم، إنمّا يشمل معظم أنحاء البلاد . ويواجه ما يقرب من ثمانية عشر مليون شخص في جميع أنحاء السودان انعدام الأمن الغذائي الحادّ، مع وجود خمسة ملايين شخص يواجهون خطر المجاعة . وحتى المناطق ذات الانتشار الغذائي الأكبر نسبياً تواجه مشكلة ارتفاع الأسعار وصعوبات في الحصول على التغذية الكافية، حيث تعاني معظم ولاية الجزيرة ندرةً غذائيةً ترقى إلى تصنيف "أزمة" وفقاً لتوجيهات النظام المتكامل لتصنيف مراحل الأمن الغذائي (IPC) .
ومع تفاقم أزمة الغذاء في الجزيرة تصبح النساء والفتيات عرضة على نحو متزايد للاستهداف بالاستغلال الجنسي والإكراه في العمالة. وقد تلقّت شبكة صيحة بالفعل روايات عن نساء وفتيات في الجزيرة يُشترط لحصولهن على الغذاء استعدادهن للسكوت على العنف الجنسي من قبل الدعم السريع. وستزداد هذه الاتجاهات سوءاً كلما صار الغذاء أقل توفراً وصارت المجتمعات أشدّ فقرًا.
صعوبة جمع المعلومات:
تظل عملية جمع المعلومات عن الوضع في الجزيرة وغرب سنار مسألة شاقة ومعقدة للغاية بسبب انقطاع الاتصالات وعزلة المناطق الريفية وغياب المنظمات الحقوقية من المنطقة. هذا وتفاقم تضاريس ولاية الجزيرة وغرب سنار من صعوبة التواصل مع الضحايا، حيث ينتشر السكان على نطاق أوسع في البلدات والقرى الصغيرة، في ظل غياب جمعيات المجتمع المدني من تلك المناطق، مما يجعل من مسألة الاستجابة لعنف الدعم السريع وتوثيق ونشر الانتهاكات أمراً عسيراً، كما يصعب الوصول إلى السكان المعرضين للعنف، ومساعدتهم. كما أن غياب خدمات الاتصالات يعني أن التواصل يأخذ زمناً طويلاً، والطريقة الوحيدة التي يمكن استخدامها للاتصال بالإنترنت هي أنظمة الأقمار الصناعية ستارلنك (Starlink)، التي غالباً ما يكون التحكم فيها لقوات الدعم السريع، وهي مكلّفة للغاية؛ إذ تظهر التقديرات الأخيرة أنّ سعر استخدام الإنترنت مدة 10 دقائق يقرب من 3000 جنيه سوداني. وهذا يعني أنّ المعلومات التي تم الإبلاغ عنها مباشرة من داخل ولاية الجزيرة جاءت من أفراد يتجشّمون مخاطر كبيرة ويتحمّلون نفقات باهظة لإيصال هذه المعلومات. وعليه، فإنّ الإبلاغ عن الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، وغالباً ما يتأخر أو لا يحدث على الإطلاق، ممّا يتسبب في وجود شح كبير في المعلومات.
وفضلاً على ذلك، تتفاقم هذه التحديات بسبب أنّ المجتمع المدني في الجزيرة وغرب سنار أقلّ خبرة وتأهباً نسبةً لعدم تلقي التدريب والموارد الكافية. ففي دارفور وجنوب كردفان، احتشد النشطاء ردهاً من الزمن لتعزيز أصواتهم وأصواتهن والإبلاغ عن الانتهاكات بفضل السرديات السياسية والظلامات التاريخية والتفاعل طويل الأمد مع المجتمع الدولي. أمّا سكان الجزيرة وشمال كردفان وأجزاء كثيرة من ولاية النيل الأبيض فليس لديهم سوى آليات قليلة للإبلاغ، وخبرات متواضعة وموارد محدودة في التوثيق والعمل المدني ذلك على الرغم من الانتشار الحالي لجرائم الحرب الخطيرة في تلك المناطق.
ولهذا السبب، يستخدم هذا التقرير مصادر متعددة، وأهمها أنّ شبكة صيحة تعتمد على التقارير الواردة من النازحين مؤخراً من الجزيرة وغرب سنار، الذين يمكنهم التحدث عن الوضع والإدلاء بشهاداتهم. وتتوافق التقارير التي تلقيناها من النازحين مؤخراً مع الحالات التي أبلغت عنها مصادر أخرى من داخل الجزيرة وغرب سنار. وأخيراً، يعتمد هذا التقرير على مواد من مصادر علنية مأخوذة من وسائل التواصل الاجتماعي حقق فيها فريق شبكة صيحة للتأكد من صحة ومصداقية المعلومات. هذا وتشير جميع المعلومات التي جمعتها شبكة صيحة إلى وجود وضع مأساوي؛ إذ يواجه سكان الجزيرة العنف الجنسي الممنهج المرتبط بالنزاعات والتعذيب والنهب في صمت مطبق وعزلة مأساوية.
الخلاصة:
إنّ العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات والنهب والتعذيب ونزع ملكية الأراضي والممتلكات أساليب متعمّدة واستراتيجية لجمع الموارد وإخضاع السكان المدنيين لمليشيات الدعم السريع. وكما تكرر في هذا التقرير، فإنّ هذه الجرائم لها تأثير في تعزيز السيطرة، وضمان الخضوع للقوة الضاربة، وضمان عدم وجود مقاومة بينما تقوم قوات الدعم السريع بتشريد سكان ولاية الجزيرة وتجريدهم من ممتلكاتهم ونهبهم، وفي خضم ذلك تطرد المجتمعات الزراعية المزدهرة والمكتفية ذاتياً وتحيلهم إلى نازحين.
تدرك قوات الدعم السريع تماماً آثار العنف الجنسي على المجتمعات، فهي قد ظلت تستخدمه عقوداً من الزمن لتهجير المجتمعات المحلية قسراً والحصول على الأراضي والممتلكات. فقد استخدم الجنجويد (وهم النواة التي تشكلت منها قوات الدعم السريع) تكتيكات مماثلة في دارفور منذ العام 2003 عندما سلّحتهم الحكومة المركزية، تحت قيادة القوات المسلحة السودانية وفي ظلّ نظام البشير والمؤتمر الوطني، من أجل شنّ حرب دموية على السكان في دارفور. آن ذاك استخدموا العنف الجنسي لترويع المجتمعات المدنية والاستيلاء على الأراضي والممتلكات في معارك استخدِم فيها الاغتصاب سلاحاً للحرب، وفقاً لتقارير عديدة ، فالفظائع التي ارتكبتها الميليشيات المسلحة في دارفور دعماً لنظام البشير تتكرر الآن في الجزيرة.
ورغم فداحة الفظاعات في ولاية الجزيرة لم يتم الإقرار بجرائم العنف الجنسي المرتكبة فيها أو الاستثمار في توثيقها على نحو كافٍ منذ اندلاع الحرب في الولاية. وهذا الأمر ربما يعود إلى أن مجتمع وسط السودان الذي لم يراكم بعد الخبرات والوعي حول فداحة جرائم العنف الجنسي الممنهجة باعتبارها جرائم حرب لا يمكن السكوت عنها، بل ولا بُد من فضحها وإدانة المجرمين بشكل واضح. ويظل الأمر غير المفهوم هو إحجام النخب السياسية في السودان وتنصلها عن الإقرار بجرائم العنف الجنسي الممنهج الذي ترتكبه مليشيات الدعم السريع في الجزيرة أو حتى مناقشته وكشفة وتضمينه في الخطاب السياسي، وبالتالي في مطالبات العدالة والمحاسبة. ويعدُّ هذا التقرير خطوة أولى لتوضيح طبيعة هذه الجرائم، حتى تتمكن الناجيات أولاً من مواجهة الجناة مرتكبي الجرائم وتوجيه الاتهامات العلنية لهم، والاجتهاد في الوصول إلى العدالة والانصاف. والأهمّ من ذلك، حتى يصبح في الإمكان توفير الخدمات والدعم للناجيات وللمجتمع ككل، لوضع الأسس للتعافي المجتمعي؛ إذ مزّقت هذه الجرائم الممنهجة النسيج الاجتماعي للولاية وتسببت بصدمات عميقة لسكانها لا يمكن تجاوزها بالصمت وإنما بمواجهتها وتجنب حدوثها مرة أخرى.
التوصيات:
من المهمّ جداً دعم البرامج التي تساعد المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق النساء والفتيات وجمعياتهم/هن في ولاية الجزيرة وسنار وفي مختلف ولايات السودان. وبالإضافة إلى توفير الموارد لنشطاء العدالة من المحاميين/ات والناشطين والناشطات.
ينبغي توفير الحماية للمدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان في داخل السودان لضمان بقائهم/ن وقدرتهم/هن على الاستمرار في تقديم الخدمات في ظل صعوبة الظروف الحالية والعنف الدائر وتعرضهم/هن للاتهامات الجزافية والمراقبة والاعتقالات. ويظل من الأهمّية بمكانٍ الاستثمار في الأجيال الجديدة من المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان لمواجهة العسكرة وتطبيع جرائم الحرب، تحديدا جرائم العنف الجنسي.
توجد حاجة ماسّة لإنشاء نقاط لخدمات الاستجابة العاجلة والمراكز الشاملة الآمنة وعيادات الناسور في القضارف وكسلا، للضحايا اللواتي بحاجة ماسّة إلى الحصول على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية والنفسية والتوثيق.
ينبغي محاسبة أبو عاقلة كيكل وغيره من قادة قوات الدعم السريع المسؤولون بشكل مباشر عن هذه الانتهاكات المروّعة التي تحدث في ولاية الجزيرة محاسبة جنائية وفق محكمة جنائية خاصة يتم تشكيلها تحت سلطة الأمم المتحدة، مثل المحكمة الجنائية الخاصة التي تم تشكيلها في أعقاب مذابح رواندا، للنظر في جرائم الحرب والفظاعات التي ارتكبها الدعم السريع في ولاية الجزيرة وولايات السودان الأخرى؛ إذ تُظهِر الأدلة بوضوح مسؤوليتهم عن تلك الفظائع وجرائم الحرب.
على البعثة الدولية المستقلة لتقصّي الحقائق في السودان الوصول إلى المزيد من المجتمعات المحلية والمدافعين عن حقوق الإنسان والشهود من الجزيرة وتخصيص برامج توعية خاصة. كما يجب تمكين منظمات حقوق المرأة وحقوق الإنسان التي توثق وترصد انتهاكات حقوق الإنسان، وتدريبها على العمل مع بعثة تقصي الحقائق وغيرها من سلطات التحقيق.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: والمدافعین عن حقوق الإنسان قوات الدعم السریع على العنف الجنسی المرتبط ت قوات الدعم السریع من قبل الدعم السریع أفراد الدعم السریع جرائم العنف الجنسی المجتمعات المحلیة التواصل الاجتماعی فی ولایة الجزیرة الدعم السریع إلى السکان المحلیین النساء والفتیات الدعم السریع من الدعم السریع فی الرعایة الصحیة الدعم السریع ت الأمن الغذائی تبلغ من العمر فی جمیع أنحاء مدینة ود مدنی سکان الجزیرة الحالات التی أنحاء البلاد المناطق التی من الواضح أن تلک المناطق جرائم الحرب هذا التقریر الجنسی على الحصول على فی المناطق فی الجزیرة الوصول إلى ود مدنی فی التی کانت العدید من هذا النمط فی دارفور تشیر إلى فی مدینة فی أثناء فی أعقاب یشیر إلى من العنف کبیرة من أکثر من أفراد ا التی تم فی حالة ومن ثم على ید التی ی إلا أن ومع أن فی هذا إلى أن
إقرأ أيضاً:
تقرير أممي: امرأة تُقتل كل 10 دقائق على يد شريك أو قريب
كشف تقرير لهيئة الأمم المتحدة للمرأة ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الاثنين أن 85 ألف امرأة وفتاة قُتلن عمدًا في 2023، وهو ما يعني أن 140 امرأة وفتاة تفقد يوميًا حياتها بسبب العنف المنزلي أو العائلي، بينما تُقتل امرأة أو فتاة كل 10 دقائق على يد شريك أو قريب لها.
وأفاد بأن 51 ألفا و100 امرأة وفتاة قُتلن في العام 2023 على يد شركائهن أو أفراد من العائلة، مسجلا أن عدد جرائم القتل ضد النساء سجلت ارتفاعا مقارنة بالعام 2022.
وتُحيي بلدان العالم، في الخامس والعشرين من نوفمبر من كل عام، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة.
وشهدت القارة الإفريقية أعلى عدد من الضحايا في العالم، إذ بلغ مجموع النساء اللاتي تعرضن للقتل هنا 21 ألفا و700 شخصية، بمعدل 2.9 ضحية لكل 100 ألف نسمة،
ولا يقتصر القتل المرتبط بالجنس على الشركاء الحميميين، بل يمتد إلى العائلة. في فرنسا، على سبيل المثال، كانت 79 في المئة من جرائم قتل النساء ما بين 2019 و2022 ترتبط بالشركاء أو العائلة.
البيانات المتوفرة تشير إلى أن نسبة كبيرة من النساء اللواتي قُتلن كن قد أبلغن سابقًا عن تعرضهن لعنف جسدي أو جنسي أو نفسي من شركائهن.
وعلى سبيل المثال، تراوحت نسبة النساء اللواتي أبلغن عن العنف قبل مقتلهم في فرنسا وجنوب إفريقيا وكولومبيا بين 22 في المئة و37 في المئة.