‘‘وَاضرِبوهُنَّ’’ .. خلل الفهم وعدوانية الاستثمار (الحلقة الثانية)
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
أقول بعدئذ: ضبط الإسلام نظام العائلة، وجعله كيانًا متماسكًا منذ اختيار الزوجة إلى داوم العلاقة الزوجية أو انفصالها المُعبَّر عنها بلباقة اللفظ وجمال التعبير ﴿فَإِمساكٌ بِمَعروفٍ أَو تَسريحٌ بِإِحسانٍ﴾ [البقرة: 229]، فهو انتماء اختياري لا يقبل القهر والتسلط، وزُوِّد الزوجان مبكرًا بقيمتي (المودة والرحمة) الدالتين على وثوقية العلاقة، ومتانة الرباط والتماسك.
ترك أولئك مثاليات البناء الأسري الإسلامي، وكميات الحلول الإلهية التفصيلية الفريدة المودعة ثنايا النص القرآني، المقدمة لفك مشاكل النظام العائلي وإبقاء انسجامه. واتجهوا دون مقدمات إلى الأمر (واضربوهن) ليجعلوه مادة إعلامية دعائية، ومتنًا حاسمًا يضخون تحت هالته الشروحات التي تمكِّنهم من سردية المظلومية النسوية؛ إذ القوانين المدنية الحديثة تحرر المرأة من مسؤولياتها الزوجية، وتطردها خارج الكيان الأسري إلى سوق العمل بحثًا عن الضرائب.
على أي حال، فلتوضيح ما يدلي به اللفظ القرآني من حمولة دلالية يكشفها السياق المنظم لتلك المفردات، ويحملها الفهم المقاصدي الناظم لنظام الأسرة في الكيان الإنساني كما يرسمه الوحي الإلهي بشقيه أقول:
يقول السياق القرآني: ﴿فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلغَيبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللّاتي تَخافونَ نُشوزَهُنَّ فَعِظوهُنَّ وَاهجُروهُنَّ فِي المَضاجِعِ وَاضرِبوهُنَّ فَإِن أَطَعنَكُم فَلا تَبغوا عَلَيهِنَّ سَبيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبيرًا﴾ [النساء:34]
في هذا النص من سورة النساء يضع التوجيه القرآني تدرجًا ثلاثيًا لإحدى أعنف المشكلات الأسرية التي تهدد التماسك الأسري وتعرضه للانفكاك والتشظي.
إن نشوب (النشوز)، وإطلال العناد والاستعلاء في سلوك المرأة مؤثر على صحة العلاقة الزوجية، ويحتاج إلى علاج صارم، خصوصًا إذا تحول إلى عصيان عام يسلمها للخراب.
لقد بدا العلاج القرآني تربويًا حساسًا يتناغم مع نفسية المرأة، ويكافح المرض في تطوراته الأولى، فمضى متدرجًا بالنصح والحوار والتحذير حتى إذا استنفد المسار كامل حلوله ولم يجد أذنًا صاغية كان الانتقال إلى الهجر المنزلي، وإغلاق أبواب الود؛ إذ تأثيرها على المشاعر أبلغ؛ حتى إذا استنفد المسار طريقه لم يبق إلا الضرب. وعلى مساربه تناول المشتغلون بالنص القرآني إجراءات التنفيذ مسنودين بالمقاصد الشرعية والتصرفات النبوية في الفعل والتطبيق.
اتفقت كلمة المشتغلين بالتفسير القرآني ودرس الفقه مبكرًا على أن الضرب المقصود في النص ذات الفعل الحقيقي إلا أن ضبطياته المنسجمة مع قصديته وفحواه تؤطره بغير المبرح، المتواري عن الأماكن الحساسة، المبتعد عن الوجه، القائم على الحل التربوي لا الانتقام، الضرب بوصفه حلًا وليس الضرب بوصفه مشكلة، الضرب الذي يدفع بجهود الصلح والتصالح إلى الأمام. فيؤكد رائد التفسير القرآني في بلاد الأندلس القاضي عبد الحق بن عطية (ت:541) في مدونته التفسيرية النفيسة «المحرر الوجيز» أن «الضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح»، «المحرر الوجيز»، (3/137)، ويرسم هدفه شمس الدين القرطبي (ت:671) في موسوعته التفسيرية الفقهية «الجامع لأحكام القرآن» بـأن «المقصود منه الصلاح لا غير»، «الجامع لأحكام القرآن» (6/285).
وكان رائد الدرس الحديثي الأول محمد بن إسماعيل البخاري (ت:256) قد سجل بابًا فريدًا ضمن مدونة «الجامع الصحيح» مؤكدًا هذا الضابط مصطحبًا له في سياق الفهم والتفهيم فقال: «باب ما يكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (وَاضرِبوهُنَّ) أي: ضرباً غير مبرح» «الجامع الصحيح»، (7/88).
وعلق أستاذ المدرسة الحديثية في القرن التاسع الهجري الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت:852) صاحب أكبر الشروحات العلمية على نص البخاري على عنوان الباب بأن «فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقاً، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم» «فتح الباري» (15/603). ويضيف مشددًا «إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير» «فتح الباري» (15/605).
وحدد محدث الكوفة في القرن الثاني الهجري عطاء ابن السائب الثقفي (ت:136) الأداة المستخدمة في الضرب؛ إذ رأى أن تكون «بالسواك ونحوه»، «جامع البيان»، (6/706)، وتقرير هذه الأداة يشير إلى فهم رمزية الضرب المحقق للارتداع والتأديب النفسي، بعيدًا عن ضرب التنكيل المدمر للشخصية الذي يدور في أخيلة الدعائيين.
وكان ابن عرفة المالكي (ت: 1230) قد أفتى في حاشيته المشهورة (بحاشية الدسوقي) بعدم جواز الضرب المتمادي، ووضَّح النتائج المترتبة على تنفيذه، فقال: «ولا يجوز الضرب المبرح، ولو علم الزوج أنها لا تترك النشوز إلا به، فإن وقع، فلها التطليق عليه والقصاص». «حاشية الدسوقي»، (2/343).
إن معيارية الضرب التي ساقتها المدونات العلمية والشروحات العلمائية تم استبعادها بفعل متعمد لإظهار نظام العائلة الإسلامي بصورة وحشية لصالح التمرد العدواني على هذا النظام.
يتبع الجزء الثالث.
⇧ موضوعات متعلقة موضوعات متعلقة مقالاتالأعلى قراءةآخر موضوعات آخر الأخبار ‘‘وَاضرِبوهُنَّ’’ .. خلل الفهم وعدوانية الاستثمار (الحلقة الثانية) أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني صباح... مقتل وإصابة خمسة أشخاص غالبيتهم من الأطفال جراء... قتلى في اشتباكات دامية بين قبائل جبل يزيد... مقالات ‘‘وَاضرِبوهُنَّ’’ .. خلل الفهم وعدوانية الاستثمار (الحلقة الثانية) لماذا حسم معاوية المعركة لصالحه؟.. قراءة في موازين... جدلية المسؤولية السياسية والمسؤولية الأخلاقية إعادة صياغة التحالفات في اليمن بدون أحكام مسبقة اخترنا لك قتلى في اشتباكات دامية بين قبائل جبل يزيد... شاهد بالفيديو أخبث مخطط حوثي لـ”ابتلاع مأرب” بعد... المجلس الانتقالي عبر قناته الرسمية: مجلس القيادة الرئاسي... معلمة سعودية رفض والدها تزويجها بعدما تقدم لها... الأكثر قراءةً قتلى في اشتباكات دامية بين قبائل جبل يزيد... شاهد بالفيديو أخبث مخطط حوثي لـ”ابتلاع مأرب” بعد... المجلس الانتقالي عبر قناته الرسمية: مجلس القيادة الرئاسي... معلمة سعودية رفض والدها تزويجها بعدما تقدم لها... يزينها العلم الجمهوري.. شيخ مأربي يبني مدرسة بنصف... الفيس بوك ajelalmashhad تويتر Tweets by mashhadyemeni الأقسام المشهد اليمني المشهد المحلي المشهد الدولي المشهد الرياضي المشهد الثقافي المشهد الاقتصادي المشهد الديني الصحف علوم وصحة مقالات حوارات وتقارير منوعات المشهد اليمني الرئيسية من نحن رئيس التحرير هيئة التحرير الخصوصية الشروط اعلن معنا اتصل بنا جميع الحقوق محفوظة © 2021 - 2023⇡ ×Header×Footer
المصدر: المشهد اليمني
إقرأ أيضاً:
هل يستمر المشهد الاقليمي بالتعقيد؟
يرجح عدد لا بأس به من المطلعين الحقيقيين على التوجه الاميركي ألا تكون التهديدات الاسرائيلية المرتبطة بضرب ايران واقعية، الا اذا قرر رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو القيام بخطوات مجنونة بغض النظر عن نتائجها، اذ ان واشنطن تدرك بشكل حاسم بأن اسرائيل غير قادرة على حسم المعركة مع ايران، وان اي دخول للولايات المتحدة في الحرب سيعني الغرق في الشرق الاوسط لعشر سنوات جديدة وهذا آخر ما تريده الدولة العميقة الاميركية.لكن، لا يمكن إزاحة احتمال حصول احتكاك اسرائيلي ايراني كبير عن طاولة البحث خصوصا في ظل الثقة المفرطة بالنفس لدى حكومة نتنياهو بعد الانجازات الكبرى التي حققها، وعليه لا يزال امام المنطقة نحو ٣٠ يوماً من القلق قبل وصول ترامب الى البيت الابيض وهو العالم الاساسي الذي سيضبط خطوات تل ابيب الى حد ما، حيث ستنتقل واشنطن الى مفاوضة طهران الضعيفة بعد خسارة اكثر حلفائها او اضعافهم..
التحدي الاخر الذي يظهر في المنطقة هو الاشتباك اليمني الاسرائيلي والذي من المستبعد ان تجد اسرائيل اي حل سحري له، على اعتبار ان قدرة تل ابيب الاستخبارية في اليمن شبه معدومة وقدرتها على توجيه ضربات عسكرية صعبة بسبب بعد المسافة اضافة الى قدرات اليمن على تحمل الضربات على البنى التحتية وحتى المجازر التي قد تصيب المدنيين، يضاف الى ذلك جهل اميركا واسرائيل بالكوادر العسكريين والقادة الاساسيين لدى الحوثيين وما يساعد على هذا الامر عدم وجود طفرة استهلاك تكنولوجي في إحدى افقر الدول في العالم.
هذا الواقع يجعل من التطورات السورية التي تصب في مصلحة اسرائيل حتى اللحظة غير مضمونة، فالفوضى التي بدأت مؤشراتها تظهر ستقدم خدمة مجانية لـ "حزب الله" الذي لديه قابلية كبرى وسريعة على ترميم نفسه من خلال اعادة فتح طريق الامداد مستغلا الفوضى التي قد تنشأ، والاهم ان الاخطاء التي اعطت اسرائيل بنكاً غير مسبوق، واسطوري، من الاهداف، من المستبعد ان يتكرر، اي ان ما اصاب الحزب كان اسوأ ما قد يتعرض له تنظيم او جيش في العالم ولن يتكرر في اي حرب مقبلة.
هكذا يصبح المشهد الاقليمي اكثر تعقيدا، والفرص المتاحة اليوم في لبنان لانتخاب رئيس قد تتبدد خلال اسابيع او اشهر قليلة جدا في حال لم تستغلها القوى السياسية في ظل قرار حاسم، اقليمي ودولي، بالحفاظ على الاستقرار الكامل في الساحة اللبنانية. مهما كان الاتجاه الذي ستأخذه المنطقة، قد تكون هذه اللحظة هي الاكثر استقراراً مقارنة بما قد يحصل خلال الاشهر المقبلة، لذا لا بد من تحصين الساحة الداخلية سياسيا وامنيا ولعل الطريق الى ذلك واضحة..
تتقاطع مصالح كل من اميركا وايران والخليج العربي وحتى اسرائيل (ربما) على استقرار لبنان، فالاميركيون يرغبون بإعادة ترتيب الساحة السياسية بعد اضعاف "حزب الله" وهم يعتبرون ان لهم حصة كبرى من النفوذ في بلاد الارز، اما في طهران فيفضلون الاستقرار لاعادة ترميم وتعويم واراحة "حزب الله" بعد الضربات التي تلقاها فهو يحتاج لدراسة الاخطاء والتعلم منها، في الوقت الذي ستسعى فيه دول الخليج الى الاستثمار في لبنان سياسياً وربما اقتصاديا لاعادة تحقيق توازن سني مع الاتراك الذين تقدموا بمراحل على السعوديين في سوريا، كذلك فإن تل ابيب تريد اراحة نفسها من الساحة اللبنانية والتفرغ للتحديات الداخلية بعد الحرب خصوصا ان يدها اليوم هي العليا وتعتقد انها قادرة على منع اعادة تسلح "حزب الله".
المصدر: خاص لبنان24