أقول بعدئذ: ضبط الإسلام نظام العائلة، وجعله كيانًا متماسكًا منذ اختيار الزوجة إلى داوم العلاقة الزوجية أو انفصالها المُعبَّر عنها بلباقة اللفظ وجمال التعبير ﴿فَإِمساكٌ بِمَعروفٍ أَو تَسريحٌ بِإِحسانٍ﴾ [البقرة: 229]، فهو انتماء اختياري لا يقبل القهر والتسلط، وزُوِّد الزوجان مبكرًا بقيمتي (المودة والرحمة) الدالتين على وثوقية العلاقة، ومتانة الرباط والتماسك.

ترك أولئك مثاليات البناء الأسري الإسلامي، وكميات الحلول الإلهية التفصيلية الفريدة المودعة ثنايا النص القرآني، المقدمة لفك مشاكل النظام العائلي وإبقاء انسجامه. واتجهوا دون مقدمات إلى الأمر (واضربوهن) ليجعلوه مادة إعلامية دعائية، ومتنًا حاسمًا يضخون تحت هالته الشروحات التي تمكِّنهم من سردية المظلومية النسوية؛ إذ القوانين المدنية الحديثة تحرر المرأة من مسؤولياتها الزوجية، وتطردها خارج الكيان الأسري إلى سوق العمل بحثًا عن الضرائب.

على أي حال، فلتوضيح ما يدلي به اللفظ القرآني من حمولة دلالية يكشفها السياق المنظم لتلك المفردات، ويحملها الفهم المقاصدي الناظم لنظام الأسرة في الكيان الإنساني كما يرسمه الوحي الإلهي بشقيه أقول:

يقول السياق القرآني: ﴿فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلغَيبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللّاتي تَخافونَ نُشوزَهُنَّ فَعِظوهُنَّ وَاهجُروهُنَّ فِي المَضاجِعِ وَاضرِبوهُنَّ فَإِن أَطَعنَكُم فَلا تَبغوا عَلَيهِنَّ سَبيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبيرًا﴾ [النساء:34]

في هذا النص من سورة النساء يضع التوجيه القرآني تدرجًا ثلاثيًا لإحدى أعنف المشكلات الأسرية التي تهدد التماسك الأسري وتعرضه للانفكاك والتشظي.

إن نشوب (النشوز)، وإطلال العناد والاستعلاء في سلوك المرأة مؤثر على صحة العلاقة الزوجية، ويحتاج إلى علاج صارم، خصوصًا إذا تحول إلى عصيان عام يسلمها للخراب.

لقد بدا العلاج القرآني تربويًا حساسًا يتناغم مع نفسية المرأة، ويكافح المرض في تطوراته الأولى، فمضى متدرجًا بالنصح والحوار والتحذير حتى إذا استنفد المسار كامل حلوله ولم يجد أذنًا صاغية كان الانتقال إلى الهجر المنزلي، وإغلاق أبواب الود؛ إذ تأثيرها على المشاعر أبلغ؛ حتى إذا استنفد المسار طريقه لم يبق إلا الضرب. وعلى مساربه تناول المشتغلون بالنص القرآني إجراءات التنفيذ مسنودين بالمقاصد الشرعية والتصرفات النبوية في الفعل والتطبيق.

اتفقت كلمة المشتغلين بالتفسير القرآني ودرس الفقه مبكرًا على أن الضرب المقصود في النص ذات الفعل الحقيقي إلا أن ضبطياته المنسجمة مع قصديته وفحواه تؤطره بغير المبرح، المتواري عن الأماكن الحساسة، المبتعد عن الوجه، القائم على الحل التربوي لا الانتقام، الضرب بوصفه حلًا وليس الضرب بوصفه مشكلة، الضرب الذي يدفع بجهود الصلح والتصالح إلى الأمام. فيؤكد رائد التفسير القرآني في بلاد الأندلس القاضي عبد الحق بن عطية (ت:541) في مدونته التفسيرية النفيسة «المحرر الوجيز» أن «الضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح»، «المحرر الوجيز»، (3/137)، ويرسم هدفه شمس الدين القرطبي (ت:671) في موسوعته التفسيرية الفقهية «الجامع لأحكام القرآن» بـأن «المقصود منه الصلاح لا غير»، «الجامع لأحكام القرآن» (6/285).

وكان رائد الدرس الحديثي الأول محمد بن إسماعيل البخاري (ت:256) قد سجل بابًا فريدًا ضمن مدونة «الجامع الصحيح» مؤكدًا هذا الضابط مصطحبًا له في سياق الفهم والتفهيم فقال: «باب ما يكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (وَاضرِبوهُنَّ) أي: ضرباً غير مبرح» «الجامع الصحيح»، (7/88).

وعلق أستاذ المدرسة الحديثية في القرن التاسع الهجري الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت:852) صاحب أكبر الشروحات العلمية على نص البخاري على عنوان الباب بأن «فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقاً، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم» «فتح الباري» (15/603). ويضيف مشددًا «إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير» «فتح الباري» (15/605).

وحدد محدث الكوفة في القرن الثاني الهجري عطاء ابن السائب الثقفي (ت:136) الأداة المستخدمة في الضرب؛ إذ رأى أن تكون «بالسواك ونحوه»، «جامع البيان»، (6/706)، وتقرير هذه الأداة يشير إلى فهم رمزية الضرب المحقق للارتداع والتأديب النفسي، بعيدًا عن ضرب التنكيل المدمر للشخصية الذي يدور في أخيلة الدعائيين.

وكان ابن عرفة المالكي (ت: 1230) قد أفتى في حاشيته المشهورة (بحاشية الدسوقي) بعدم جواز الضرب المتمادي، ووضَّح النتائج المترتبة على تنفيذه، فقال: «ولا يجوز الضرب المبرح، ولو علم الزوج أنها لا تترك النشوز إلا به، فإن وقع، فلها التطليق عليه والقصاص». «حاشية الدسوقي»، (2/343).

إن معيارية الضرب التي ساقتها المدونات العلمية والشروحات العلمائية تم استبعادها بفعل متعمد لإظهار نظام العائلة الإسلامي بصورة وحشية لصالح التمرد العدواني على هذا النظام.

يتبع الجزء الثالث.

⇧ موضوعات متعلقة موضوعات متعلقة مقالاتالأعلى قراءةآخر موضوعات آخر الأخبار ‘‘وَاضرِبوهُنَّ’’ .. خلل الفهم وعدوانية الاستثمار (الحلقة الثانية) أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني صباح... مقتل وإصابة خمسة أشخاص غالبيتهم من الأطفال جراء... قتلى في اشتباكات دامية بين قبائل جبل يزيد... مقالات ‘‘وَاضرِبوهُنَّ’’ .. خلل الفهم وعدوانية الاستثمار (الحلقة الثانية) لماذا حسم معاوية المعركة لصالحه؟.. قراءة في موازين... جدلية المسؤولية السياسية والمسؤولية الأخلاقية إعادة صياغة التحالفات في اليمن بدون أحكام مسبقة اخترنا لك قتلى في اشتباكات دامية بين قبائل جبل يزيد... شاهد بالفيديو أخبث مخطط حوثي لـ”ابتلاع مأرب” بعد... المجلس الانتقالي عبر قناته الرسمية: مجلس القيادة الرئاسي... معلمة سعودية رفض والدها تزويجها بعدما تقدم لها... الأكثر قراءةً قتلى في اشتباكات دامية بين قبائل جبل يزيد... شاهد بالفيديو أخبث مخطط حوثي لـ”ابتلاع مأرب” بعد... المجلس الانتقالي عبر قناته الرسمية: مجلس القيادة الرئاسي... معلمة سعودية رفض والدها تزويجها بعدما تقدم لها... يزينها العلم الجمهوري.. شيخ مأربي يبني مدرسة بنصف... الفيس بوك ajelalmashhad تويتر Tweets by mashhadyemeni الأقسام المشهد اليمني المشهد المحلي المشهد الدولي المشهد الرياضي المشهد الثقافي المشهد الاقتصادي المشهد الديني الصحف علوم وصحة مقالات حوارات وتقارير منوعات المشهد اليمني الرئيسية من نحن رئيس التحرير هيئة التحرير الخصوصية الشروط اعلن معنا اتصل بنا جميع الحقوق محفوظة © 2021 - 2023
⇡ ×Header×Footer

المصدر: المشهد اليمني

إقرأ أيضاً:

انطلاق المرحلة قبل النهائية من «أمير الشعراء»

أبوظبي (وام)
انطلقت من مسرح شاطئ الراحة بأبوظبي، الحلقة التاسعة نصف النهائية في الموسم الحادي عشر من برنامج «أمير الشعراء» الذي تنتجه هيئة أبوظبي للتراث.
وأكملت أسماء الحمادي من الإمارات قائمة المتأهلين إلى نهائيات البرنامج بعد أن جاءت نتيجة تصويت الجمهور خلال الأسبوع الماضي بحصولها على 84 درجة من 100، لتنضم إلى كل من عبد الرحمن الحميري من الإمارات، وعبد الواحد عمران من اليمن، وعثمان الهيشو قرابشي من المغرب، والمختار عبد الله صلاحي من موريتانيا، ويزن عيسى من سوريا، في النهائيات.
حضر الحلقة معالي الدكتور جمال سند السويدي نائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والدكتور سلطان العميمي المدير التنفيذي لقطاع الشعر والموروث بالإنابة في هيئة أبوظبي للتراث، وعضوا اللجنة الاستشارية للبرنامج الدكتور عماد خلف، والشاعر رعد بندر، وجمهور من الشعراء والإعلاميين والأدباء والمثقفين ومحبي الشعر.
منحت لجنة التحكيم، المكونة من الدكتور علي بن تميم، والدكتور محمد حجو، والدكتور محمد أبو الفضل بدران الذي حل بديلاً للراحل الدكتور وهب رومية، أعلى درجات في الحلقة للشاعر عبد الرحمن الحميري وحصل على 28 درجة من 30، يليه عبد الواحد عمران بحصوله على 26 درجة، ويزن عيسى بـ 26 درجة، فيما حصلت أسماء الحمادي على 25 درجة، والمختار عبد الله صلاحي على 23 درجة، وعثمان الهيشو قرابشي على 22 درجة.
سيصوت الجمهور، خلال الأسبوع المقبل، بنسبة 40% للشعراء الستة الذين سيتنافسون في الحلقة النهائية الخميس المقبل التي ستمنحهم فيها لجنة التحكيم نسبة الـ 30% المتبقية من الدرجات، حيث يتم في نهاية الحلقة جمع درجات اللجنة مع درجات التصويت، لتعلن النتائج النهائية، وتحدد المراكز من السادس وصولاً إلى المركز الأول الفائز بمليون درهم ولقب «أمير الشعراء» للموسم الحادي عشر.
تضمنت الحلقة تقريراً مصوراً عن الدكتور وهب رومية عضو لجنة التحكيم الذي وافته المنية الثلاثاء الماضي، وسلط التقرير الضوء على سيرته العلمية ومكانته في المشهد الأدبي والنقدي العربي، ومساهماته الثرية في خدمة الأدب العربي.
كما استضافت الحلقة في مجاراة شعرية كلاً من: نجم «شاعر المليون» الشاعر الدكتور خميس بن محمد بن سلطان المقيمي من سلطنة عُمان، ونجم «أمير الشعراء» في الموسم السادس نذير الصميدعي من العراق.

أخبار ذات صلة وهب رومية: الأعمال الإبداعية موازاة رمزية للواقع الاجتماعي وهب رومية.. رحيل ناقد أثرى الأدب العربي

مقالات مشابهة

  • مشكلة عائلية.. موعد عرض مسلسل ساعته وتاريخه 2 الحلقة الثانية
  • المشرف على الأروقة ومدير الجامع الأزهر يتفقدان اختبارات الدارسين
  • خطأ الفهم للفلسفة القديمة وأثر هذا في التشظي
  • موعد عرض الحلقة 9 من مسلسل إقامة جبرية بطولة هنا الزاهد
  • إشراقات من مسيرته الجهادية ومشروعه القرآني: أبرز ملامح شخصية الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي
  • في الذكرى السنوية للشهيد القائد: المشروع القرآني دستور ومنهاج حياة أحدث تغييراً جذرياً على أرض الواقع
  • انطلاق المرحلة قبل النهائية من «أمير الشعراء»
  • مستقبل قضية فلسطين واتفاقات التطبيع خلال ولاية ترامب الثانية
  • «المشاركون» في ندوة الأزهر بمعرض الكتاب: الأزهر حمل لواء الوسطية وأروقته حافظت على الأمن الفكري للمجتمع
  • عبد المنعم فؤاد: الإمام الأكبر أحيا دور أروقة الجامع الأزهر