حرب جنرالات السودان.. آفة الاستحقاق الذاتي «5»
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
حرب جنرالات السودان… «5»
آفة الاستحقاق الذاتي
مهدي رابح
“إن القوات المسلحة هي الوصية على أمن السودان ووحدته رغم أنف الجميع.”
قائد الجيش, الجنرال البرهان يوم 22 سبتمبر 2021م مخاطبا حفل تخريج جنود القوات الخاصة بمدينة أمدرمان بمعية نائبه محمد حمدان دقلو الذي وبدوره وجه رسائل مشابهة أيضا عقب ما أدعي كليهما من اجهاض لمحاولة انقلاب فاشلة يقودها جنرال اخر يدعي بكراوي.
……………..
“فكان لزامًا علينا في القوات المسلحة والدعم السريع والأجهزة الأمنية الأخرى أن نستشعر الخطر ونتخذ الخطوات التي تحفظ مسار ثورة ديسمبر المجيدة حتى بلوغ أهدافه النهائية في الوصول لدولة مدنية كاملة عبر انتخابات حرة ونزيهة.”
قائد الجيش, الجنرال البرهان من نص البيان الذي القاه يوم 25 أكتوبر 2021م عقب قيامه بانقلاب عسكري علي السلطة والدستور الانتقالي واعتقاله لأعضاء الحكومة من المدنيين.
……………..
” إن حجم المؤامرة يتطلب من الجميع اليقظة والاستعداد للتصدي للمهددات الوجودية لدولتنا. لذلك نطلب من جميع شباب بلادي وكل من يستطيع.. ألا يتردد أو يتأخر في أن يقوم بهذا الدور الوطني في مكان سكنه أو بالانضمام للوحدات العسكرية لنيل شرف الدفاع عن بقاء الدولة السودانية”.
قائد الجيش, الجنرال البرهان يوم 28 يونيو 2023م بمناسبة عيد الأضحى المبارك ومرور 74 يوما علي اندلاع حرب 15 ابريل.
…………………………………………………………………………
النصوص المتناقضة أعلاه, والمقتطفة من تصريحات وبيانات مختلفة للجنرال البرهان والممتدة لمدي ثمانية عشر شهر فقط- تسببت القوات الأمنية خلالها في مقتل مئة وخمسين من المتظاهرين السلميين علي الاقل وجرح الالاف – لا تثبت خللا نفسيا واخلاقيا للرجل فحسب بل تعكس بجلاء اشكالا عميقا تعانيه المؤسسة العسكرية وتمثل بدورها الخيط الناظم بينها, أي بين التصريحات والمواقف المتباينة هذه, وأحد أسباب الازمة السودانية المتطاولة والتي وصلت نقطة انفجارها الكبرى يوم 15 ابريل الماضي.
فبجانب الخلل البنيوي لمؤسسات الدولة والذي فرض بحكم الامر الواقع By Defacto دورا سياسيا واقتصاديا متعاظما للجيش وهو ما سنتطرق اليه لاحقا, فان لوثة الإحساس بالاستحقاق الذاتي التي تصيب نخبة الضباط التي تديره وبعضا من صغار الضباط والجنود تمثل احد اهم الاسباب التي عمقت هذا الخلل واوصلته الي نقطة اللاعودة, بمعني استحالة تصور مستقبل طبيعي لدولة السودان دون تغيير جذري يطال اركان هذه المؤسسة ويعيد بنائها علي أسس جديدة تماما.
جدير بالذكر ان تعريف الإحساس بالاستحقاق الذاتي Self-Entitlement هو اعتقاد شخص ما بجدارته للحصول علي امتيازات معينة او اعتراف بمكانة رفيعة دون وجه حق ودون بذل الجهد المطلوب للفوز بهذه المكانة او الامتيازات, وهو سمة مرتبطة باضطرابات الشخصية النرجسية (NPD) و الشخصية المعادية للمجتمع (ASPD).
معلوم ان السودان حاصل علي الرقم القياسي الافريقي في عدد المحاولات الانقلابية منذ استقلاله كما يحمل رصيد 54 عاما من الحكم العسكري من مجموع عمر دولته القصير نسبيا والبالغ 67 عاما …اذاً ما الذي يجعل مجموعة من الأشخاص معدومي المواهب محدودي القدرات مثل البرهان ومجموعة الجنرالات الذين يحيطون به يعتقدون جازمين انهم يستحقون ان يكونوا علي رأس دولة كبيرة ومعقدة وعظيمة مثل السودان ؟, ما الذي جعل عشرات الضباط الاخرين قبلهم يعتقدون بأحقيتهم القيام بانقلابات عسكرية للسيطرة علي السلطة منذ العام 1956م ؟, ما الذي يجعل نسبة لا يستهان بها من طلاب الكلية الحربية ( الكلية التي تخرّج الضباط) وأقربائهم أحيانا يحلمون بالقيام بانقلاب عسكري وتقلدهم المنصب الدستوري الأعلى باستخدام القوة ؟ (اسر٘ البرهان في اول مقابلة تلفزيونية مطولة له عام 2019م أن والده حلم برئاسته للبلاد !) …
سجل التاريخ الحديث ان عظماء السياسيين الآتين من خلفيات عسكرية والذين بزّوا المدنيين في التنافس علي الزعامة عبر الاليات السلمية (الديموقراطية) كانوا مستندين, بجانب كاريزما شخصية لا تخطئها عين, علي ارث من الانتصارات العسكرية العظيمة, وكابرز الأمثلة لهؤلاء يمكن ذكر شخصيات مثل شارل ديغول او ايزينهاور, وهو ما لم يتسني تحقيقه لجنرالات الجيش السوداني بما انه لم يخض غير الحروب الاهلية منذ تأسيسه, او علي مواهب ادبية فذة كتشيرشل او علي مسيرة سياسية طويلة بعد الخروج من السلك العسكري, وفي المقابل و طوال 46 عام , أي طوال عهدي النميري والبشير , فقد تسنم الحكم جنرالات ذوي رصيد معرفي محدود وفاقدين للمميزات الشخصية وهو ما فتح الباب واسعا امام جموع واسعة من الضباط الاخرين ودفعهم لرفع سقف تطلعاتهم بغض النظر عن امكاناتهم الشخصية او كسبهم المهني او المعرفي وفي بال اي واحد فيهم تساؤل مشروع :” لم لا ما دام مثل هؤلاء قد أصبحوا رؤساء؟!”.
كما ان الترجيح الكبير لكفة المكاسب المتوقعة نتيجة للقيام بمغامرة الانقلاب العسكري علي كفة مخاطر التعرض للعقاب جعل من الامر اكثر جاذبية, فرغم ان الانقلابات العسكرية تعتبر في غالب قوانين العالم جريمة ترقي للخيانة العظمي ما يتطلب انزال عقوبة الإعدام علي مرتكبيها الا انه نادرا ما حوكم الضباط المغامرون في السودان بما يتعدي بضعة سنوات من السجن تخفف لاحقا في الغالب, وهو ما جعل من تقديم الجنرال البشير ومجموعة اخري من العسكريين و المدنيين والعسكريين للمحاكمة بتهمة انقلاب يونيو 1989م سابقة في القضاء السوداني ونجاحها نسبيا لثووة ديسمبر المجيدة وإن لم تكلل بإدانة وحكم نهائي.
عزز من إحساس الاستحقاق الذاتي أيضا ترسخ عقيدة عسكرية جوهرها الرغبة الدائمة في السيطرة علي مقاليد الحكم , وهو وضع لديه مسببات موضوعية كملئ الجيش للفراغ الذي فرضته هشاشة مؤسسات الدولة ما بعد الاستعمار وتضعضع المؤسسات الديموقراطية وعلي راسها الأحزاب وضعف النخبة السياسية ومحدودية رؤاها بل استغلالها أحيانا للمؤسسة العسكرية ذاتها لحسم التباينات السياسية خارج القنوات الديموقراطية, لكن وبجانب ذلك وعبر الحقب المتعاقبة فقد وضعت العقلية العسكرية منهجا مدروسا ومنظما لتعميق اعتقاد العسكريين بتفوقهم علي المدنيين ( يطلق عليهم في الوسط العسكري تهكما بالملكية) ولازدراء نظام الحكم الديموقراطي وقيمه بل يعمل علي اعداد هؤلاء العسكريين للحكم, ففي احدي ارفع الكليات العسكرية السودانية , اكاديمية النميري, هنالك سلسلة دراسية كاملة لكيفية تسنّم الضباط لمناصب سياسية ويتم في جزء منها القيام بتدريب عملي اشبه بالبروفات المسرحية يلبس فيها المتدربون البدلات الكاملة وربطات العنق المزركشة ويجلسون علي مكاتب وثيرة محاطين بمدراء مكاتب وسكرتيرين وطاقم كامل من الموظفين, وهو المنهج الذي أوصل السودان الي وضعه الكارثي الحالي , او كما أشار بروفيسور علي مزروعي في نقد نظم الحكم الديكتاتوري العسكري في افريقيا:
” كنتاج للانقلابات العسكرية المتكررة, أصبحت السلطة بدلا من ان تكون تحت سيطرة من يمتلكون وسائل الإنتاج محصورة في يد عسكريين يسيطرون على وسائل الدمار.”
ليس هذا فحسب بل اري ان العقلية الانقلابية او آفة الاستحقاق الذاتي التي ظلت متفشية في صفوف النخبة العسكرية لعقود طوال اعادت تشكيل المؤسسة العسكرية ذاتها بصورتها الشائهة الحالية, فمن ناحية وظيفية ظل الجيش متنازعا بين انشغال بعضا من ضباطه, في الغالب ضمن خلايا تدين بالولاء لتنظيمات سياسية عقائدية من اقصي اليمين او اليسار للاعداد للانقلاب علي نظام الحكم وبين عمل مضاد استنفذ موارد هائلة لكشف تلك المؤامرات واجهاضها بدلا من توجيهها لتطويره وتقويته وتحديثه حتي يتمكن من القيام بواجبه وبدوره المناط به دستوريا , وادي ضمن اعراض جانبية اخري الي تعمق ظاهرة تفويض صلاحياته وسلطاته ومهامه الي مليشيات مسلحة تم محاولة تنظيم بعضها ووضعها تحت مظلته الإدارية كحرس الحدود الذي تحول الي قوات الدعم السريع لاحقا او قوي نظامية مدنية ومسيسة الي حد كبير كجهاز الامن الوطني ( هيئة العمليات) والشرطة ( قوات الاحتياط المركزي او ما يعرف بابو طيرة).
لكن الأهم من ذلك هو ما نتج عنه من منهج لاحكام القبضة علي نخبة الضباط من قبل القيادة العليا التي تجمع مع تلك الوظيفة مهام الزعامة السياسية وهو ما ادي الي ان يصبحوا خاضعين تماما لاهواء قلة مسيطرة علي هذه المؤسسة وبيدهم سلطة ترقيتهم واحالتهم للمعاش او للصالح العام او انتدابهم لوظائف ذات دخول عالية او ارسالهم للتدريب في الخارج او نقلهم الي مناطق العمليات او الي وظائف مريحة ومربحة كالملحقيات العسكرية بالخارج.
كما لا ننسي ان تمدد القطاع الأمني والعسكري في النشاط الاقتصادي منذ ثمانينات القرن الماضي بجانب عملية مأسسة الفساد التي ترسخت خلال ثلاثين عاما من الحكم الكليبتوقراطي للجنرال لببشير جعل من الترقي الوظيفي داخل الجيش ضمانا للخروج من الفاقة (يبلغ مرتب اللواء ما يساوي 150$ شهريا فقط) والدخول من باب الثراء الواسع غير المحدود, فتحول كبار الجنرالات وعلي راسهم البرهان الي طبقة اوليغاركية عسكرية بامتياز تسيطر علي ما يفوق ال 30% من الناتج الإجمالي المحلي عبر النشاط التجاري للمنظومة الأمنية والعسكرية وبالتالي تمتلك الوسائل الكافية لشراء ولاء شريحة واسعة من الضباط وبعضا من الوكلاء المدنيين ما مكنها من احكام السيطرة علي الجيش وتدجين أجهزة الدولة الاخري والمضي قدما في محاولة إعادة انتاج نظام حكم عسكري كليبتوقراطي جديد وشرعنته.
وهو ادي في نهاية الامر الي تحول الجيش الي مزيج الحزب السياسي الساعي للسلطة لكن بقوة السلاح والشركة الربحية التي تدر موارد ضخمة علي أعضاء مجلس ادارتها وفشله بالمقابل في القيام بدوره الأساسي في توفير سلعة الامن لمالكيه الأصليين اي جموع الشعب السوداني.
………………………………………………………………………..
“البرهان عليك التكلان.”
عبارة ركيكة كتبت تحت صورة مكبرة للجنرال البرهان وحملت نسخ عديدة ومصقولة منها من قبل مجموعة صغيرة من المتظاهرين العسكريين بلباس مدني في شارع القصر الجمهوري بالخرطوم نهار يوم 1 يونيو 2019م, أي قبل 36 ساعة تقريبا من بداية تنفيذ الأجهزة الأمنية لمجزرة اعتصام القيادة العامة والتي راح ضحيتها مئات من المدنيين.
الوسومالجنرالات الجيش الدعم السريع السودان حربالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجنرالات الجيش الدعم السريع السودان حرب
إقرأ أيضاً:
الشاهد جيل ثورة ديسمبر الذي هزم انقلاب 25 أكتوبر 2021 بلا انحناء
فاطمة غزالي
نعيش في دوحة المبادئ السامية والقيم العليا التي غرستها ثورة ديسمبر المجيدة، لا تزال المنقوشة على جدران الوطن وتحتل أعماق الوجدان السوداني رغم الابتلاء بالحرب فالثورة حاضرة في أذهان الشرفاء والإيمان باستمرارها مسيطر على أفئدة وعقول جيلها من الشابات والشباب الذين قدموا أعظم نماذج التضحيات فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ما بدلوا تبديلا.ديسمبرثورة جيل وثقت شجاعته بنادق القناصة، وسياط الجلادين، وأدوات التعذيب لم يتراجع ظل صامداً كالأجيال السابقة في درب النضال السلمي من أجل الحرية والسلام والعدالة في أكتوبر وأبريل وجميع ثورات التحرر من الظلم والقهر. ثورة ديسمبر المجيدة ليست لحظة عابرة في حياة الشعب السوداني ولن تكون فعل ماضي نتباكى عليه بل هي فعل مستمر تختلف الأساليب والآليات والأدوات مع اختلاف الظروف لأن الالتزام بتحقيق مبادئها عهد قطعته القوى المدنية والسياسية المؤمنة بالسلام والحرية والعدالة. الشاهد جيل ثورة ديسمبر هزم انقلاب 25 أكتوبر2021، وفشل الإنقلابيون في إعادة النظام البائد إلى السلطة بسبب الحراك الثوري والمليونيات التي أكدت تمسك الشعب بالحكم المدني الديمقراطي، ومارس جيل ثورة ديسمبر شعائر ثورته بقداسة السلمية، وهو مؤمن بأنها الطريق إلى الخلاص من طغيان الحركة الإسلامية السودانية التي وظفت المؤسسة العسكرية لمصلحة مشروعها، ونفذت عبرها انقلاب 30 يونيو 1989م، وانقلاب 25 أكتوبر2021م إلا أنها أي الحركة الإسلامية حينما فشلت بعد ألانقلاب الأخير في السيطرة التامة على مقاليد الحكم وإعادة إنتاج مشروعها بتشكيل حكومة إسلاسية كاملة الدسم استحضرت منهجها لأيديولوجي الشيطاني القائم على إراقة الدماء في إدارة صراعاتها مع القُوَى السياسية والشاهد على تنفيذ الشعار استباحة الدماء في سبيل الوصول إلى السلطة بدعوى أنها الحارس لدين الله في الأرض (فليعُد للدين مجده أو تُرق منا الدماء… أو تُرق منهم دماء.أو تُرق كل الدماء). فكرة حرب 15 أبريل 2023 م لم تأت من فراغ بل هي تنفيذ للشعار (أو تُرق كل الدماء) حينما أدرك الإسلاميون أنهم خارج منظومة إدارة السودان بعد تجربة الثلاثين عاماً من الدمار. معلوم لدى الكثيرين أن تراجيديا الحرب الكارثية سيناريو كتبته الحركة إسلامية الخبيثة استخدمت الجيش والدعم السريع لتنفيذه من أجل القضاء على ثورة ديسمبر ووئد أي محاولة للعودة بالبلاد إلى الحكم المدني الديمقراطي وإن كان الثمن إبادة كل الشعب السوداني (أو تُرق كل الدماء) وهي الحقيقة التي يحاول البعض غض البصر عنها (لشيء في نفس يُوسُف).
لا شك في أن قيادات الحركة الإسلامية المدنية والعسكرية التي مسيطرة على القرارات داخل مؤسسة الجيش ولا يريدون السلام لأنه يعني عودة جيل الثورة إلى الميادين من أجل تحقيق شعار ثورة ديسمبر (حرية وسلام وعدالة). الإسلاميون يعلمون أن جبروت الحرب لم يفلح في نزع الثورية من نفوس الثوار أو كسر إرادتهم في التغيير بالرغم من محاولات شق صف لجان المقاومة بالاستنفار واستهداف بعضهم بالاعتقالات واتهامهم بالعمالة. الثوار الشرفاء جددوا عهدهم وتمسكوا بثوريتهم فغيروا مؤشر الحراك الثوري من الميادين والطرقات التي سيطرت عليها القوى العسكرية إلى معسكرات النزوح والتكاياعبر لجان الطواري ووجهوا طاقاتهم وإمكانيتهم لخدمة المدنيين الأبرياء والسعي إلى تلبية احتياجاتهم في معسكرات النزوح ومراكز الإيواء والتكايا بالتعاون مع المنظمات والمؤسسات العاملة في مجال العمل الإنساني وأهل الخير من أجل اطعام الجِياع وسقاية العطشى وعلاج المرضى… يعملون ليل نهار لإنقاذ أرواح المدنيين الذين أصبحوا بين مطرقة الجيش وسندان الدعم السريع.
شعار (فليعُد للدين مجده أو تُرق منا… أو تُرق منهم دماء… أو تُرق كل الدماء) يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أهل السودان لن ولم يكونوا بخير وفي أمن و سلام ما لم تُقبر الحركة الإسلامية السودانية لأنها محور الشر، أس وأساس المعاناة، مصدر العذاب والقهر ومنبع العنف والدمار. تجربة قيادات الحركة الإسلامية في الحكم لمدة ثلاثين عاماً قضتها في تصفية الحسابات مع معارضيها من القوى السياسية والمدنية بجانب الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والإبادة الجماعية دارفور التي تسببت في ملاحقة الرئيس المخلوع جنائياً عمر البشير عبر المحكمة الجنائية الدولية، ولم تسلم العديد من مناطق السودان من الحروب كل هذه السياسات الديكتاتورية تؤكد أن جُرم الحرب جُرمهم وأن مسؤوليتها الكبرى تقع على قياداتها التي حرضت وتوعدت بالحرب الذي فتح أبواب الحجيم على الكل فكانت الممارسات السادية الإجرامية في التي مورست ومازال تمارس على الأبرياء من قبل طرفي الحرب. فلول النظام البائد يتلذذون بعذاب الشعب الذي يواجه القتل والتشريد والمعاناة في رحلة النزوح واللجوء والرعب في ميدان المعارك حيث تدور وَسْط الأحياء السكنية وفي قلب القرى والمدن والفرقان والكارثة الأعظم هي إغلاق منافذ السلام الذي يتشوق إليه المدنيين من أجل استعادة كرامتهم المسلوبة وطنهم المفقود.المؤسف أن تطلعات الشعب إلى السلام تصطدم بالعقبة الكؤود الذي وضعتها مليشيات الكيزان(كتائب البراء) في طريق السلام بدعوى حرب الكرامة وهي كلمة الحق الذي اريد به باطل. كرامة الشعب هي أن يشعر بالأمن والسلام والاستقرار، كرامة السودانيين ستعود إليهم عندما تتحقق آمالهم التي تعبر عنها كلمات الشاعر طارق الأمين:-
( كل آمالي نا..
السلام يملاها.. يطلع من هنا..
والحمام يتشابى
تقدل طفلة حلوة وبين إيديها كتابا
وحبوبة تمسح بالحنين أكوابا
والقمرية تصدح.. تستريح دبابة)
لاشك أن المعاني الجميلة للسلام الذي يعبر عن الحياة السودانية الجميلة التي وردت في كلمات الشاعر طارق الأمين تتناسب تناسباً عكسياً مع أهداف الإسلاميين وقياداتهم في الجيش والدليل على ذلك تصريحات الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش الذي يتمسك بخيار الحرب بالرغم من أهوال الحرب الذي يشيب لها الولدان وفي ذات الطريق يسير ياسرالعطا وهو يصرخ ويهدد ويتوعد ويغلق الباب أمام السلام ويؤكد عدم رغبة الإسلاميين في السلام ومقولته الشهيرة “لا سلام ولا هدنة وإن استمرت الحرب لمائة عام “… مئة عام تُراق فيها كل الدماء يا هذا؟ كم تعشقون الدماء! أولم يكفيكم إفساد حياة السودانيين بالحرب الذي دمر الوطن وشعبه وببنيته التحتية ومؤسساته الخدمية والمدنية وليس فحسب بل أفعالكم التي تغذي تقسيم المجتمع السوداني الذي وحدته ثورة ديسمبر بشعاراتها (سلمية… سلمية ضد الحرامية، حرية سلام وعدالة، يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور).
الإسلاميون عشاق الانفصال يسعون إلى تقسيم البلاد ولكن هيهات لَمَّا يخططوا. لسان حال قيادات النظام البائد كأنه يقول إن الشعب السوداني رهينة في أيديهم ولا قرار له وعليه أن يخضع لسياساتهم المدمرة كما خضع لإرادتهم في تجربة فصل الجَنُوب مع اختلاف المعطيات والظروف إلا أن النتيجة التي يسعى إليها الإسلاميين واحدة هي تفكيك البلاد إلى دويلات. قصدوا في تجربة الجنوب ألّا تكون الوحدة جاذبة وعملوا لتحقيق ذلك الانفصالين من الجنوب حتى تكون النتيجة لمصلحة الانفصال. بشأن الحديث المتداول عن التقسيم القائم على إرادة قوة الحرب هناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها هل محاولة شيطنة القوى السياسية والهجوم على(تقدم وقحت) محاولة لعزل القوى السياسية والمدنية لتنفيذ مخطط التقسيم كما حدث في اتفاقية نيفاشا وقعوا على تقرير المصير مع الحركة الشعبية إنابة عن الشماليين دون تفويض من الشعب؟ … نعم دون تفويض من الشعب ومعلوم أن الإنقاذ سرقت الديمقراطية و فرضت نفسها على الشعب السوداني بقوة الدبابة ولم تشهد البلاد انتخابات حرة ونزيهة في عهدها البائد. على أي أساس يتم فصل غرب السودان من بقية أطراف على أساس جهوي أم قبلي وإثني؟ وماهي الحدود الجغرافية التي يتم على أساسها التقسيم، هل يكون هناك استفتاء لولايتي الجزيرة والنيل بشأن تقرير مصيرهم هل يذهبون مع كردفان ودارفور أم إلى الشمال الجديد الذي يرسم البرهان وحاضنته السياسية (الكيزان) خريطته؟ .لا يختلف اثنان في أن الإسلاميين فصلوا الجَنُوب لأسباب دينية وعنصرية، هل الآن يحاولون إعادة ذات السيناريو بزج البلاد في دوامة التشظي لأسباب عنصرية؟ هل يريدون أن يدفع كل السودان فاتورة صراعاتهم مع الدعم السريع من أجل السلطة؟ وماهي القوى الإقليمية التي تغذي الانقسام لتحقيق مصالحها؟ هل يظل الشعب السوداني أسير لأمزجة القوة التي تحمل السلاح (الجيش والدعم السريع) وتسيطر على الأرض والإعلام والفعل السياسي؟ ماهو مصير المشتركة التي تقاتل بجانب الجيش؟ حتى متى تظل القُوَى السياسية والمدنية بعيدة عن مسرح الأحداث التي خلقت قُوَى الحرب واقعها، وهل يسمح الشعب السوداني بأن يكون تقسيم السودان بقوة السلاح؟ وماذا عن علاقات المصاهرة واالأخوة والصداقات العميقة بين الأسر السودانية؟ هل فكر الانفصاليون في ماذا يعني التقسيم؟ … حقيقة لسنا بحاجة إلى فلم جديد بعنوان(وداعاً عائشة أو مريم أو فاطمة) تكفينا جراحات فيلم (وداعاً جوليا)..
بالرغم من الحملات العنصرية التي تديرها الغرف الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لقوى الحرب التي تستغل حالة الغبن الشعبي من الانتهاكات والفظائع ضد المدنيين بلا استثناء ومازال تحدث نتيجة للحرب ،إلا أن العلاقات التي تربط بين السودانيين أقوى من أن تعصف بها تفاهات العنصريين التي تتعاطى معها سلطة الأمر الواقع في بورتسودان) قانون الوجوه الغربية) الذي يستهدف المواطنين بدوافع جهوية وقبلية وسياسية مثلاً لهذه العنصرية وحملة الاتهامات والاعتقالات والقتل والتعذيب الذي يتعرض له بعض المواطنين من قبل طرفي الحرب (الجيش والدعم السريع) لأسباب جهوية وقبيلة وسياسة أيضاً جميعها ممارسات ترفع درجة حرارة الغبن في النفوس وتزيد رصيد العنصريين ما لم تقف القوى المدنية والشرفاء من الكنداكات والثوار وقفة إنسان واحد لمواجهة التحديات الكبيرة التي تتعلق بمصير ما تبقى من السودان المهدد كيانه ووحدته. السودانيون يمرون بتجربة قاسية وامتحان صعب بيد أنهم قادرون على تجاوز الصعاب شريطة أن تشَكَّل القوى السياسية والمدنية الديمقراطية رافعة قوية بأفعال تخرج السودانيين من حالة الاصطفاف الجهوي والقبلي وهذا لا يتحقق إلا بالسمو فوق الخلافات والعمل بالحد ألأدنى من التلاقي والتنسيق حتى لا يترك مصير السودان للقوى الذي يحمل السلاح فقط.السودان بالرغم من تنوعه القبيلي والجهوي والديني والثقافي فإن الرابطة الإنسانية والوطنية بين السودانيين أقوى من يجرفها طوفان الحرب الذي أخرج عقارب وثعابين العنصرية التي تنفث سمها في الموطنيين الأبرياء في مناطق الحرب والسلم .قطعاً طول أمد الحرب ليس في صالح النسيج الاجتماعي الذي تعبث به أيادي الانفصاليين إلا أن الأمل كبير في جيل ثورة ديسمبر الذي مازال رافعاً رايتها لتضميد جراحات الوطن الذي أنهكته الحرب.ألم يأن للسودانيين أن يعيشوا في سلام؟.
لا للحرب… نعم للسلام