في تطور جديد، أعلنت السلطات المصرية إبعاد 6 سودانيين، بينهم طفلان، من أراضيها، لأسباب تتعلق بـ”الصالح العام”، وفق ما ذكرته وسائل إعلام محلية نقلا عن وزارة الداخلية المصرية، الاثنين.

وجاء قرار السلطات المصرية بعد أيام من بيان صدر عن 29 منظمة حقوقية، أبرزها منصة اللاجئين في مصر، كشفت فيه عن احتجاز مدير مركز الرؤية للتعليم السوداني بمدينة 6 أكتوبر، عثمان حسين، تمهيدا لترحيله إلى السودان، على الرغم من حصوله على حق اللجوء.

وأشار البيان إلى احتجاز عدد من اللاجئين و ملتمسي اللجوء بواسطة السلطات المصرية، وطالب بالإفراج عن حسين، والوقف الفوري لإجراءات ترحيله القسري.

ودعا البيان لإيقاف كافة أشكال الترحيل القسري والطرد والإبعاد التي تقوم بها السلطات الأمنية المصرية بشكل متصاعد، ضد اللاجئين ملتمسي اللجوء.

وكانت الأمم المتحدة ذكرت، على موقعها الرسمي، في أبريل الماضي، أنه “منذ أبريل 2023، تضاعف عدد اللاجئين السودانيين المسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر 5 أضعاف، ليصل إلى 300 ألف شخص”.

وأفضت حملات نفذتها السلطات المصرية إلى إبعاد عدد من السودانيين، خاصة الذين دخلوا أراضيها بطرق غير قانونية، أو عبر التهريب، بينما يتحدث ناشطون سودانيون عن ترحيل بعض اللاجئين أو طالبي اللجوء.

ويشير عمر (27 عاما)، وهو سوداني تعرض للترحيل من مصر إلى السودان، إلى أن السلطات المصرية قبضت عليه بالقرب من مقر السجل المدني في العباسية، وسط القاهرة.

وقال عمر، الذي رفض إيراد اسمه كاملا، لموقع الحرة، إنه دخل الأراضي المصرية عبر الطرق البرية هربا من نيران الحرب في السودان، لافتا إلى أنه تواصل مع مفوضية اللاجئين وحصل على كارت (بطاقة) اللجوء.

وأضاف “لاحقا، أخبرني أحد أصدقائي أن السلطات المصرية تمنح اللاجئ إذنا يجعله مقيما بصورة رسمية، مما جعلني أذهب إلى العباسية، ولكن قبل الدخول إلى مقر السجل المدني أوقفتني قوة أمنية مصرية، وانتهى الأمر بإبعادي إلى السودان”.

وأشار عمر إلى أن السلطات المصرية نقلته، ضمن آخرين، إلى معبر أرقين الحدودي بين البلدين، بحجة أنه دخل أراضيها بطرق غير رسمية، “على الرغم من حصولي على كارت مفوضية اللاجئين”.

ويُشكل السودانيون نحو 4 ملايين، من “المقيمين واللاجئين” في مصر البالغ عددهم 9 ملايين، يليهم السوريون بحوالي 1.5 مليون، واليمنيون بنحو مليون، والليبيون مليون نسمة، وفق تقديرات “المنظمة الدولية للهجرة”.

وترى الصحفية المصرية المختصة في الشأن السوداني، صباح موسى، أن عمليات الإبعاد التي يتعرض لها بعض السودانيين ليست بذات الدرجة التي يروج لها كثيرون.

وقالت موسى لموقع الحرة، إن “كثيرين يصفون هذه الإجراءات بأنها ظاهرة، وهي ليست كذلك، ومن يتم إبعادهم إما متورطون في ارتكاب جرائم، أو أنهم لا يملكون أوراق دخول رسمية إلى الأراضي السودانية”.

وأشارت إلى أن حديث وزارة الداخلية المصرية عن أن إبعاد بعض السودانيين جرى لأسباب تتعلق بـ”الصالح العام”، يعني أنهم ارتكبوا جرائم، أو أن هناك ما يستدعي إبعادهم”.

وأضافت “ربما تكون السلطات الأمنية في مصر تأكدت من أن وجود بعضهم فيه خطر على مصر، ولذلك قررت إبعادهم”.

وبالنسبة لحالة الناشط المجتمعي، عثمان حسين، تشير الصحفية المصرية المختصة في الشأن السوداني، إلى أن حالته ربما تكون ضمن الأخطاء التي يقع فيها بعض منفذي القانون”.

وأضافت “أحيانا ينتج عن تنفيذ القرارت العليا حدوث أخطاء من المنفذين، على نحو ما حدث في تنفيذ قرار السلطات المصرية الذي طالب المدارس السودانية بتوفيق أوضاعها من خلال التسجيل الرسمي”.

وأردفت قائلة “قد تكون عمليات احتجاز حسين ناتجة عن خطأ في التنفيذ، وليس عن قرار رسمي من الحكومة المصرية”.

وقالت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها في 19 يونيو الماضي، إن مصر اعتقلت بشكل جماعي آلاف اللاجئين الفارين من الحرب في السودان ورحَلتهم بشكل غير قانوني.

وذكرت المنظمة الحقوقية أنها وثّقت 12 واقعة رحَلت فيها السلطات المصرية ما يقدر بنحو 800 سوداني بين يناير ومارس من العام الجاري، دون منحهم فرصة لطلب اللجوء أو الطعن على قرارات الترحيل.

وأضافت أيضا أنها وثّقت بالتفصيل حالات اعتقال 27 لاجئا سودانيا بين أكتوبر 2023 ومارس 2024، من بينهم 26 انضموا للمُرحلين بشكل جماعي.

وأوضحت أن اللاجئين يُحتجزون في ظروف قاسية وغير إنسانية قبل ترحيلهم.

ويشير الخبير القانوني السوداني، منتصر عبد الله، إلى أن السلطات المصرية تملك حق إبعاد من ترى أنهم دخلوا أراضيها بطرق غير رسمية، مشيرا إلى أنه “ليس من حقها إبعاد من حصلوا على حق اللجوء من مفوضية اللاجئين”.

وقال عبد الله لموقع الحرة، إن “إبعاد السودانيين المخالفين لشروط الإقامة، من مصر، يضعهم أمام تحديات كبيرة في مسألة المأوى والأمن الغذائي”.

ودعا السلطات المصرية، “طالما أنها قررت إبعادهم، لأن تكون الخطوة بالتنسيق مع السلطات السودانية، حتى لا يجد المبعدون أنفسهم أمام خطر التشرد والجوع، خاصة أنهم هربوا من مناطق ملتهبة بالقتال”.

وشدد الخبير القانوني على أن دخول الأشخاص إلى الدول بطرق غير شرعية، لا يبرر تعذيبهم أو اعتقالهم أو التنكيل بهم، مضيفا “حتى إذا كان الشخص مخالفا لقوانين الإقامة لابد من احترام حقوقه”.

واستبعد عبد الله أن يتعرض المبعدون إلى خطر التجنيد الإجباري بواسطة الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع، مشيرا إلى أن ذلك إن حدث، “فهو حالات محدودة”.

وكثفت السلطات المصرية حملاتها على حدودها الجنوبية مع السودان، وكذلك في عدد من مدنها على الحدود، مما أسفر عن القبض على أعداد من السودانيين الذين يحاولون دخول أراضيها عبر التهريب.

في 13 يونيو الماضي أبعدت السلطات المصرية 721 سودانيا، بينهم أطفال، إلى معبر أرقين الحدودي بين البلدين، لدخولهم أراضيها بطرق غير شرعية، وفق ما أوردت وكالة الأنباء السودانية الرسمية.

من جانبه، يرى عضو مجموعة محامي الطوارئ السودانية، مصعب صباحي، أن إبعاد اللاجئين يتعارض مع القوانين الدولية، خصوصا اتفاقية اللاجئين لسنة 1951 والبروتكول الملحق بها لسنة 1967″.

وقال صباحي لموقع الحرة، إن المواثيق الدولية تحظر وتجرّم إبعاد وترحيل الحاصلين على حق اللجوء والمقيّدين رسميا في كشوف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لكونهم مكفولون بالحماية”.

وأشار إلى أن الفقرة 33 من الاتفاقية تحظر على الدول الموقعة إعادة اللاجئين قسريا إلى دولهم التي تشكل خطرا على حياتهم أو حريتهم، مشيرا إلى أن “مصر صدقت على الاتفاقية عام 1981”.

ولفت عضو مجموعة محامي الطوارئ، إلى أن المبعدين من مصر يواجهون مخاطر عدة، أبزرها الموت بنيران المتحاربين، وكذلك الاضطهاد السياسي والاعتقال، لأن الطرفين كثيرا ما يعتقلان مواطنين سودانيين على أساس سياسي أو عرقي وجهوي.

ونوّه إلى أن السودان مهدد بالمجاعة وفق تصنيفات الأمم المتحدة، مما يضع المبعدين أمام خطر الجوع.

وأضاف “ليس من حق السلطات المصرية إبعاد اللاجئين من أراضيها، وإعادتهم قسرا إلى السودان، لأن ذلك يعد مخالفة للاتفاقيات التي وقعت عليها”.

وأشار إلى أن “مفوضية اللاجئين تقدم دعما فنيا وماليا وتقنيا للحكومة المصرية لتيسيير أوضاعها في مسالة استقبال اللاجئين بأراضيها”.

من جانبها، تلفت الصحفية المصرية إلى أن القانون المصري يقضي بالسجن 3 سنوات على المتسللين دون تأشيرة، ولكن السلطات المصرية بعد اندلاع الحرب في السودان أصبحت تحتجز المخالفين 3 أيام وتغرّمهم حوالي ألفي جنيه مصري، ثم تبعدهم من أراضيها، بالتنسيق مع الجهات السودانية.

وأضافت “يتم نقل المبعدين إلى الحدود بين البلدين، وهي أماكن آمنة، ولا اعتقد أنهم يتعرضون للاحتجاز أو التجنيد بواسطة الجيش أوقوات الدعم السريع”.

وأدت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلى مقتل أكثر من 14 ألف شخص وإصابة آلاف آخرين، بينما تقول الأمم المتحدة إن نحو 25 مليون شخص، أي نحو نصف سكان السودان، بحاجة إلى مساعدات، وإن المجاعة تلوح في الأفق.

وقالت المنظمة الدولية للهجرة، التابعة للأمم المتحدة، في يونيو الماضي، إن عدد النازحين داخليا في السودان وصل إلى أكثر من 10 ملايين شخص.

وأوضحت المنظمة أن العدد يشمل 2.83 مليون شخص نزحوا من منازلهم قبل بدء الحرب الحالية، بسبب الصراعات المحلية المتعددة التي حدثت في السنوات الأخيرة.

وأشارت المنظمة الأممية إلى أن أكثر من مليوني شخص آخرين لجأوا إلى الخارج، معظمهم إلى تشاد وجنوب السودان ومصر.

ويعني عدد اللاجئين خارجيا، والنازحين داخليا، أن أكثر من ربع سكان السودان البالغ عددهم 47 مليون نسمة نزحوا من ديارهم.

الحرة

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: مفوضیة اللاجئین لموقع الحرة إلى السودان فی السودان أکثر من إلى أن من مصر فی مصر

إقرأ أيضاً:

كتاب للأنثربولوجية الكندية جانس بودي شديد الصلة بكتاب د. حسن وعنوانه “نشر الحضارة بين النساء: حملات الإنجليز في السودان المستَعمر”

كتاب للأنثربولوجية الكندية جانس بودي شديد الصلة بكتاب د. حسن وعنوانه "نشر الحضارة بين النساء: حملات الإنجليز في السودان المستَعمر"
مابل ولف ومدرسة القابلات (1920): الاستعمار المضاد (2-2)

عبد الله علي إبراهيم
د. حسن بلة الأمين، أطباء السودان الحفاة: قصة نجاح بهرت العالم، جامعة الخرطوم للنشر، 2012
(شرفت بطلب الدكتور حسن الأمين بلة تقديم كتابه أعلاه. فكتبت ما تجده أدناه)

ولا مندوحة أن ينصرف الذهن إلى عقد مقارنة بين مدرسة القابلات في أم درمان وبخت الرضا بقرينة أنهما خدمتان تعليميتان من مستعمر واحد. غير أنهما اختلفتا حيال الهرمية المؤسسية التي شابها استعلاء المستعمر على من هم دونه. لا
فخلت مدرسة القابلات من هذه الهرمية في حين أخذت بخت الرضا بأطراف منها. وأخذت مابل نفسها بصوفية رشيقة يستلطفها السودانيون. فسكنت مابل في بيت من بيوت الطين وركبت الحمار في مهامها. وتضمنت لائحة المدرسة نصاً بوجوب معاملة السودانيات باحترام خلا من الميل للانضباط الاستعماري معروف ساد مثل أن يقف السوداني متى ظهر إنجليزي. فلم يطلب عبد الرحمن على طه من مديره قريفث في بخت الرضا طلباً مثل ألا يقف كل ما دخل عليه. وعرفت ذلك مابل ببداهة أنثوية وتشكيلية فقالت إن مثل ذلك الوقوف مستذل وهو إجراء لا يحتمله السودانيون. كذلك لم تطلب من زميلاتها خلع أحذيتهن داخلات عليها. وكان الإنجليز الرجال يطلبون من الداخل مكتبهم خلع نعاله إن كانت غير أوربية. وما تأسف الطيب بابكر المتظاهر، من قادة حركة 1924 في شندي، مثل تأسفه يرى سيداً في قومه يخلع نعاله على باب مفتش مركز إنجليزي، وشجعت مابل المدربات في المدرسة لتقديم اقتراحاتهن لتناقش باحترام. ومنحتهن تذاكر بالدرجة الثانية بالقطار كالمعلمات لأنهن بالفعل كذلك في نظرها. وكانت حساسة لوضعهن كنساء مرهوبات في مقابل المساعد الطبي، الذكر، الذي يتلقين مطلوبات المهنة منه.
ولسنا نملك إزاء هذا الاختلاف البين بين المؤسستين إلا أن نجرؤ على القول إنه راجع إلى أنثوية القيادة في مدرسة القابلات وذكوريتها في بخت الرضا. فقد طبعت القيادة الأنثوية للمدرسة بصمتها عليها بقوة. ولو جئنا للحق فمدرسة القابلات صناعة أنثوية مما اكسبها صفة الاستعمار المضاد. فقامت المدرسة نفسها بإلحاح من زوجة مدير انجليزي دبر لها ميزانية في المصلحة الطبية في وقت كان أغلب مالها يذهب لموظفي الحكومة والجنود. والجنس للجنس رحمة حتى في إطار الاستعمار المدجج بالاستعلاء على من وطئ بلدهم. وكان للاستعمار أنثوية مستفحلة بين نسائه. ولنحسن تقدير أنثوية المدرسة صح تذكر أنه قامت بين النساء الإنجليز حركة أنثوية ممن سمتهم جانس بودي "الأنثوية الإمبراطورية". وأخضعت هذه الأنثوية رجال الإدارة البريطانية لزجر شديد لتهاونهم في محاربة الختان الفرعوني نكاية بنساء المستعمرات في تضامن بينهم وبين رجال أولئك النساء في المستعمرة. وصدر قانون محاربة الختان الفرعوني في 1946 من المجلس الاستشاري لشمال السودان نزولاً عند إرادتهن.
كانت ماربل وطاقمها استعماراً مضاداً. فعارضن زملاءهن في الخدمة الاستعمارية. فلم يكفن عن مصارحتهم بما لا يستقم مع فكرتهن حول تدريب القابلات. واعتراهن الإحباط كثيراً من عتو أولئك الرجال. ووجدن العزاء في عرفان السودانيين لهن وتقديرهن. ومن ذلك استعداد مدينة الرهد لتقديم بنت منها لتلتحق بمدرسة الدايات بعد أن نجحت مابل في إنجاز ولادة متعسرة أعجزت داية الحبل. وربما اسعدهن كسب مثل بتول عيسى للمدرسة. فكانت تلقت تعليماً في مدرسة الشيخ بابكر بدري في رفاعة. وراقبت يوما قابلة تولد في بيتها فشغفت بنظافتها وحسن أدائها. فالتحقت بمدرسة القابلات برغم معارضة أهلها. وترقت في المهنة حتى باشداية. وركبت العجلة لأغراضها وكانت قدوة في ذلك لقابلات أخريات. وكان الطاقة السودانية مثل بتول، التي شغفت بالحداثة، من مقومات نجاح المدرسة. وحتى في بخت الرضا بعلاتها اعترف مديرها روبن هودجكن بأن فضل التربية الإسلامية التي جاء بها معلمون مثل عبد الرحمن على طه في قلب نجاح المؤسسة كما رآه.
كانت مابل استعماراً مضاداً في سياسات أخرى منه حيل المرأة. فكتاباتها من المسكوت عليه لخلافها مع الرأي الرسمي للإدارة. فرفضت مرة في آخر العشرينات حذف الحاكم العام فقرة من كلمة عن الختان أعدتها للقاء بلندن. وحدث ذلك في وقت انغمست الإدارة الاستعمارية في حرب صليبية ضد الختان كعادة بدائية ضارة. ولم تعتبر الإدارة دور القابلة في حربها تلك مع أنها مدربة لحرب الختان بطريق آخر. فجنحت الإدارة للقانون في حربها للعادة. وخلافاً لنهج الإدارة في سل السيف لحرب العادة كان نهج مابل "التغلب والتخفيف والتحسين وليس الإلغاء والاستئصال". واقترحت أن تجري القابلة نوعاً مخففاً من الختان سعياً للتغلب على النوع الشقي منه ثم ترك الزمن لينهي سائر العادة. وكتبت لمحرر صحيفة التايمز اللندنية بصراحة عن خلافاتها مع إدارة السودان (11 فبراير 1949).
وأدل قصة على استعماريتهن المضادة هي صدامها مع رئيس الكلية الملكية لطب النساء. فأرسل لها وهو في السودان يطلب أن يأتي ليفتش مدرسة الدايات. فكتبت لمن جاءها بالرسالة أن يقول لمن أرسله "إن ما نفعله هنا ليس كالذي يفعلونه في شارع هارلي بلندن" وهو شارع أطباء الأغنياء.
زلزلت تجربة مدرسة القابلات يقينيات المؤلف الطبيب عن مهنته. ولعل أمتع جوانب الكتاب هي تجليات "النفس اللوامة"، أي الشفافية" التي أشرق بها المؤلف هو يراوح بين ممارسة مابل وما تعوده من تعليم بكلية الطب.
فتجده يفرق بين الصحة (الخلو من المرض) والعافية (الصحة كأمن بدني ونفسي وحياتي). فاستصفى أن يقوم فقه طبنا على العافية المنقوشة في وجداننا واستحقاقنا: "لم يؤت أحد بعد اليقين خيراً من العافية"، و"أرقدو عافية" الشفوقة في مقابل " كيف الصحة؟" التي استجدت.
استعان الكاتب بمصطلح الطيب صالح عن "التركيب والمزج" في "نخلة على الجدول" ليصف مؤسسة قابلة القرية. فقد تمازج فيها الطب التقليدي (داية الحبل) وطب حديث. وهذا التركيب والمزج هو "النص الهجين" في مصطلح علم ما بعد الاستعمار. فالنص الهجين نتاج الدولة المستعمرة التي يكون للأجانب الوصاية على هذا المزج بما علموا عن أنفسهم الراقية وبما علموا من ضعتنا وجهالتنا. وقارب المؤلف المعنى بقوله: "وإن كان من أنشأ برنامج (تدريب القابلات) أجنبياً فإن ذلك لا ينتقص من إسهام الرائدات السودانيات فيه وتطويره. وما كان البرنامج لينجح لولا هؤلاء لمعرفتهم بالثقافة المحلية وصلتهم بالمجتمع. ولكن الكاتب لا يترك لنا الفرصة للاشمئزاز من عاداتنا. فسرعان ما قال إنه سادت في أوربا عادات حتى التاسع عشر أكثر كآبة مثل أن تتناول الحامل شربة من روث الخنزير ورماد الضفادع لمنع النزف.
وأخذت المؤلف دراسته لحفاة الأطباء من القابلات إلى فقه للصحة ناظراً إلى عقود من عوار الخدمة الصحية في السودان. وهذا العوار عنده سياسة واجتماع قبل أن يكون مشاكل تقنية طبية. وضرب مثلاً: فتناقص الوفيات في بريطانيا لم يأت عن طريق اكتشاف السلفا في الثلاثينات، أو البنسلين في الأربعينات، أو التطعيمات في الخمسينات، أو المضادات الحيوية في الستينات. فما أنقص الوفيات حقاً هو العقد الاجتماعي السياسي الذي بدأ ببداية القرن العشرين وجعل الصحة حقاً للمواطن من الدولة، أي عافية. كما ذكر القانون المعكوس للخدمات الطبية ومفاده: الذين يحتاجونها أكثر يجدونها بصورة أقل في حين أن الذين يحتاجونها بصورة أقل يجدونها بصورة أكثر".
وحمل المؤلف على "مؤسسة المستوصف" الذي تأتى من المفهوم الاجتماعي للصحة كخلو من الأمراض بينما العافية، التي تستبق المرض بالوقاية، هي المطلب. فأدى مفهوم الصحة كخلو من المرض إلى استكثار المستشفيات والمستوصفات. واقتصر تدريب مؤدي الخدمة الطبية في كلية الطب وما جاورها. وأخذ على تدريب هذه الكليات سوءة لأنه يعلي من قدر الدلائل والوسائل السمعية والبصرية "على حساب التعليم في ظروف الحياة الحقيقية" على قاعدة من "الحوار والتعليم بالتجربة الحقيقية على مثال مدرسة القابلات. وعليه يتحول التدريب من "تدريب بالعمل" إلى تدريب بالاستماع والاستذكار". ويفرض هذا الوضع على المُدرب أن ينظر للمتدربين لا كزملاء، بل ك"تلامذة" له
وساقه تفريقه بين مفهوم العافية والصحة إلى الأسف على السودان الذي كان رائداً في الرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة والطفل. فكسدت القابلة وتدهورت مدارس تدريبها وتناقصت. وترافق مع انصرفنا عن الرعاية الصحية تكاثر " المستشفيات على حساب المراكز الصحية. وانتشرت المستشفيات الخاصة التي تخدم القلة المقتدرة ولا تفتح أبوابها للفقراء والمساكين". ووصف الأخيرة خبير في الصحة المستشفيات ذات الخمسة نجوم ب"قصور المرض".
ومن بين حججه القوية على ظاهرة دخول المستوصف من باب انصرافنا عن الرعاية الصحية تحول الولادة، التي استنتها القابلات، إلى عملية جراحية. فتلاحظ ازدياد العمليات الجراحية بمضاعفاتها المعروفة. وصارت العملية القيصرية وجاهة. فصارت المستشفى مسرحاً للولادة لا البيت.
بالنتيجة تكدست الخدمة الصحية في العاصمة. ولما كان الموقع المثالي للمستشفى هو العاصمة نجد الخدمة الصحية تركزت فيها على حساب الريف. فعلى أننا إحصائياً في مقدمة دول وفاة النساء إثر الجراحة للولادة إلا أن ريفنا هو الأسوأ. فنحصد خمسمائة إلى ألفين وفاة في كل مائة ألف حالة (2009). وتقع معظم هذه الوفيات في الريف الذي انحسرت الرعاية الصحية عنه. وتحصد مضاعفات العملية الجراحية في المستشفيات أمهات المدن. وتجدنا نغطي على هذا الواقع الأليم بنباحة الشجرة الخطأ. فعادة ما نرد هذه الوفيات إلى الختان الفرعوني. ولكن يبقى السؤال وهو لماذا لم تكن الوفيات بهذا العظم في وقت مضى ساد فيه الختان بأكثر من أيامنا هذه. والإجابة بسيطة وهي أنه توافر الداية القانونية في ذلك لزمان بينما تبخرت على أيامنا هذه.
وجاء المؤلف إلى ضرورة تعريب تعليم الطب بمدخل تجربة مدرسة القابلات. فطعنت خبرة المدرسة في تعليم المؤلف وبان له عواره. فأدخلته خبرة مدرسة القابلات في استثمار اللغة في التدريب في حالة من النقد الذاتي. فقال إن من تعلم الطب في لغة عجمية تقطعت أسبابه بالمريض. فيجد مثله عسراً في التعبير لطمأنة المريض التي هي تاج العلاج ناهيك عن شرح ما يعانيه بلغة مفهومة. وعبر عن إعجابه بتواصل الأطباء السوريين، ممن درسوا باللغة العربية، مع المرضى في حين يعجز هو.
واعتقد المؤلف أن الحاجة ماثلة لوظيفة القابلة خلافاً لمن يذيعون وجوب التحول من مثلها من الأطباء الحفاة إلى المهنيين. ولكن الطبيب الحافي المطلوب ما يزال لن يكون هو أو هي القابلة ذاتها. فصح توسيع دورها الآن لتكون عاملاً صحياً شاملاً مختصا برعاية الأمهات والأطفال في الريف يدمج وظائف المساعد الطبي العلاجية السابقة. وربما اضفنا توثيق المواليد بل وصحة البيئة.
هذا الكتاب استدراك لخبرة في بركة التعليم أحسناها لنغادرها إلى متاهة في الطب كشف عنها المؤلف بعد تجربة أربعين عاماً من ممارسة مهنة الطب. فجعل بصرنا حديداً في تمثل فقه جديد للخدمة الصحية. وكان ارتحالنا عن تلك الخبرة من باب الضرب صفحاً عن عبقريتنا في التعاطي مع ما يستجد من دون من أو أذى كما فعلت مابل الاستعمارية المضادة. فقال شيخ إنجليزي خدم في السودان:
You are one of a kind
"أنتم السودانيون قوم نسيج وحدكم".
ولهذا كلبت شعرة طبيب سمع عن كشف الحلة من المؤلف فصاح: "هذا شيء أخاذ يهز المشاعر".


ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • السلطات السودانية تقبض على 2 طن في أكبر عملية بعمق البحر الأحمر
  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف” الاخير 
  • ترامب يحض على عبور “مجاني” للسفن الأميركية في قناة السويس المصرية
  • مطالبات “إسرائيلية” بتابوت النبي موسى من مصر.. “دفن تحت الأهرامات”
  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف”3-4
  • كتاب للأنثربولوجية الكندية جانس بودي شديد الصلة بكتاب د. حسن وعنوانه “نشر الحضارة بين النساء: حملات الإنجليز في السودان المستَعمر”
  • معظمهم من السودانيين .. أزمة التمويل تحرم آلاف اللاجئين بمصر من العلاج
  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف” 2-4 
  • السودان والإمارات.. هل تغير “دولة ممزقة” تاريخ الحروب؟
  • حكاوي سودانية ???????? بعيون سعودية ???????? “سمعتوا عن الطنابره في السودان؟”