بالرغم من أن المنطقة تموج بأحداث عنف وإرهاب عديدة، أخذت تنتعش وتستعيد قدر من زخمها ولو نظريا في الآونة الأخيرة، إلا أن حادث إطلاق النار في محيط مسجد الوادي الكبير يوم الاثنين الخامس عشر من يوليو الجاري ورفع مرتكبي الحادث راية تنظيم داعش الإرهابي قبل أن يدفعوا حياتهم ثمنا لتمسكهم بالمواجهة مع قوات الشرطة، كان مفاجئا وصادما في الواقع ليس فقط لمن عاشوا في رحاب عُمان ولمن اختلطوا مع أبنائها على كل المستويات ومن كافة شرائح المجتمع سنوات طويلة، بل ولمن تسنى لهم معرفة العمانيين عن قرب.
ومع ذلك فإن مما له دلالة عميقة أن حادث الوادي الكبير ليس حادثا نمطيا في عُمان، ولكنه في الواقع وعلى الأرجح هو حادث مصنوع ومصمم من أجل محاولة تشويه الخصوصية العمانية، والتي يشير إليها الجميع على مدى العقود الأخيرة، وهي الخصوصية التي يندهش الجميع حيالها ويتساءل الكثيرون عن سر هذا الهدوء والترابط المجتمعي وعدم وقوع المجتمع العماني في هوة الصراع الذي يطحن مجتمعات أخرى في المنطقة وخارجها من حوله، ومن ثم تحولت هذه السمة والخصوصية من عنصر تميز في طبيعة المجتمع العماني إلى عنصر أثار بالفعل حنق وحفيظة البعض ورغبته في كسر هدوء وسكينة المجتمع العماني الذي عاش قبل عام 1970 عقودا من الخلافات والصدامات التي تغلب عليها بحكمة القيادة واستمرارها حتى الآن وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، من أهمها أولا: إن المجتمع والدولة العمانية ليس مجتمعا طارئا ولا حديثا ولكنه مجتمع قديم قدم التاريخ في هذه المنطقة ومن ثم فانه يمتلك كل مقومات هويته الوطنية التي تتسع لتضم كل قوى المجتمع وشرائحه رغم تنوعها في تماسك وترابط عميقين، ومن ثم فانه أدرك أهمية وضرورة إرساء قواعد راسخة للتعايش في بوتقة المجتمع العماني المميزة على امتداد التاريخ، وكذلك أهمية إقناع دول المنطقة بها لإرساء علاقات من التعايش والعلاقات الطيبة والوثيقة والموثوق بها ولصالحها جميعها.. والمؤكد أن بناء ذلك لم يكن سهلا ولكنه استغرق الكثير من الجهد والوقت والصدق والصراحة والشفافية، حتى أصبحت العلاقات بين سلطنة عمان والدول الشقيقة والصديقة نماذج تحتذى على صعيد التعامل بين دول المنطقة والإسهام في حل مشكلاتها بكل مستوياتها وهو ما جعل من عُمان ليس فقط حمامة سلام بين دول المنطقة ولكن أيضا زاد من رصيدها لدى شعوب المنطقة. وجاءت حالة الأمن والأمان التي تعيشها عُمان لتجعل منها نموذجا تتطلع إليه الكثير من دول المنطقة كنموذج ناجح على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية بوجه عام. ومن المعروف أن بعض دول المنطقة تبني بالفعل مبادرات وسياسات تبنتها سلطنة عمان في إدارتها لسياساتها الخليجية والإقليمية والعربية في وقت سابق، وقد ساعد الاستقرار والتماسك الداخلي على قوة وترابط المجتمع العماني وتغلبه على مختلف التحديات التي واجهته في ظروف أو أخرى. وبينما استطاعت السياسة العمانية كسب ثقة وتقدير الدول الأخرى في المنطقة وخارجها ومن ثم كسب تعاونها ومواقفها الإيجابية لصالح التقريب بين وجهات النظر والعمل على حل الخلافات بين الأشقاء والأصدقاء، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى، وذلك برغم أن سلطنة عمان لم تعتمد على سياسة التمويل بشكل أو بأخر وكانت الشفافية والصراحة ووضوح المواقف السبيل لبناء الثقة المتبادلة والسبيل إلى حل الخلافات والتقريب بين المواقف.
ثانيا، إن النجاح السياسي والاقتصادي العماني والذي لم يعتمد على فائض من الأرصدة الدولارية، بل على فائض من الإيمان بالقيم والصراحة وبمبادئ القانون وبقيمة التعاون المخلص لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، جعل البعض يتصور أنه ليس صعبا أن يتم الإساءة إلى عُمان وإلى سياستها وإلى تميزها على الساحتين الخليجية والعربية خاصة فيما يتصل بعدم تورطها لا هي ولا أي من أبنائها في أي أنشطة إرهابية ولا أي إساءة إلى أي من جيرانها تحت أي ظروف، بل على العكس كثيرا ما تحملت وصفحت وتجاوزت من منطق الأخوة والصبر الجميل حتى يثوب الآخرون إلى رشدهم. وبالنسبة لحادث الوادي الكبير، فإن مما له دلالة أن تكون العناصر المتورطة في الحادث عناصر عمانية، بل من «أسرة واحدة تأثرت بالأفكار الضالة»، حيث لم يتم اتهام عنصر واحد فقط ولن يكون ذلك بمثابة دعم للاتهام الجمعي، خاصة أنه على امتداد العقود الماضية لم يتم اتهام ولا عنصر واحد بالانتماء إلى تنظيم داعش ولا لأي تنظيم إرهابي مماثل، أما تورط ثلاثة أخوة في الحادث فإنه يعطي دلالة معاكسة خاصة لمن يريد أن يبحث عن اتهام أو دليل ما لتشويه السياسات العمانية التي نشطت في الآونة الأخيرة، إذ إنه من المعروف أن لعُمان سياستها الداعمة للفلسطينيين وللقضية الفلسطينية منذ عقود عديدة وليس منذ سنوات قليلة كما قد يعتقد البعض. من جانب آخر فإن عُمان لا تتبع سياسة تصادمية ولا صراعية مع أي طرف عربي أو إقليمي، بل تؤثر دوما الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وترفض بقوة التدخل في شؤونها الداخلية بأي شكل، إذ إنها تبحث عما يجمع بين الأشقاء والأصدقاء ويعزز مصالحهم المشتركة والمتبادلة. ومن هذا المنظور فإن حادث الوادي الكبير «المصنوع» بغرض الإساءة المتعمدة لعُمان سريعا ما سينتهي بعد الإحاطة بكل ملابساته، وبرغم أهمية وقيمة المسارعة في الإعلان والتعامل بشفافية مع الحادث إلا أنه من الطبيعي أن تكون هناك معطيات ما قد تقتضي المصلحة الوطنية عدم الإعلان عنها بشكل كلي أو جزئي حسب تقييم الجهات المعنية لما تقتضيه المصلحة والأمن الوطني في هذه المرحلة أو المراحل القادمة، وهو ما يتم التعامل معه على أعلى المستويات.
ثالثا، إن سمة الأمن والأمان المترسخة في المجتمع العماني لم تظهر فجأة، ولكنها ظهرت ونمت وترعرعت عبر إيمان عميق بقيم المجتمع العماني وتماسك وتعاضد أبنائه من ناحية وحرص القيادة والحكومة على تنمية ورعاية القيم العمانية النبيلة والمتسامحة في التعامل مع الآخر، ومن ثم نبذ مختلف مظاهر العنف والتطرف والصراع في حل أي خلافات قد تطرأ أو تظهر لسبب أو لآخر من ناحية ثانية، ومن المعروف أن كثيرين دهشوا وتساءلوا عن سر الهدوء والاستقرار الذي ينعم به المجتمع العماني منذ انطلاق مسيرة النهضة العمانية الحديثة واستمررها في إطار النهضة العمانية المتجددة. وبالرغم من حادث الوادي الكبير، إلا أن الحادث يظل في النهاية حادثا وحيدا ويصعب أن يكون سببا في تشويه الوجه المميز للنهضة العمانية الحديثة والمتجددة حتى لو أراد البعض الإساءة المتعمدة للمجتمع والمواطن العماني المعروف بقوة انتمائه وتمسكه بالحفاظ على وطنه والدفاع عنه في كل الظروف بل والتضحية من أجله بالغالي والنفيس.
وبالنظر إلى أن المجتمع العماني هو مجتمع طبيعي وليس مجتمعا من الملائكة، فإنه من الطبيعي أن يواجه بعض المشكلات وأن تظهر بعض التحديات خاصة في ظل التفاعل مع ما يجري من حولنا من مشكلات وتدخلات زاد من حدتها تداخل الحركة بين المجتمعات والأثر السلبي في بعض جوانبه لوسائل التواصل الاجتماعي التي وصلت إلى كل أفراد المجتمع دون استثناء بكل ما يترتب على ذلك من نتائج مباشرة وغير مباشرة.
وإذا كانت حكمة التعامل مع حادث الوادي الكبير من جانب القيادة ومختلف المؤسسات المعنية في الدولة قادرة على الإحاطة بكل الملابسات والعناصر المؤثرة وذات الصلة بما حدث والمراحل التي مر بها، فإنه من المؤكد أن الحفاظ على أمن وأمان الدولة والمجتمع والمواطن ليس فقط مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمن ومجالاته المختلفة، ولكنه في الواقع مسؤولية الجميع في تلك المؤسسات وخارجها أيضا، وبوعي عميق وبعيد النظر لحقيقة أن الحفاظ على الأمن والأمان هو ركيزة الحفاظ على متطلبات النمو والتطور والازدهار وبتعاون كل أبناء الوطن في كل المواقع وعلى كافة المستويات، وهو أمر لا شك أن المؤسسات المعنية وضعته في الاعتبار منذ البداية وهو ما يتطلب التعامل والتعاون معه بوعي ومسؤولية وبعد نظر لصالح حاضر ومستقبل أمن وسلامة وتطور المجتمع والمواطن العماني بوعي ومسؤولية ليظل المجتمع العماني مجتمع أمن وأمان في الحاضر والمستقبل ولصالح كل أبنائه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حادث الوادی الکبیر المجتمع العمانی دول المنطقة ومن ثم
إقرأ أيضاً:
«الدبيبة» يلتقي رئيس وزراء ماليزيا
التقى رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، رئيس وزراء ماليزيا، أنور إبراهيم، على هامش، أعمال منتدى الاقتصاد العالمي دافوس 2025.
رئيس مجلس الوزراء، السيد عبدالحميد الدبيبة، يلتقي رئيس وزراء ماليزيا، السيد أنور إبراهيم، على هامش، أعمال منتدى الاقتصاد العالمي دافوس 2025.
تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية في الأربعاء، ٢٢ يناير ٢٠٢٥