الحرب على غزة.. تبادل الأدوار بين الصحافة وأدب اليوميات
تاريخ النشر: 22nd, July 2024 GMT
يبدو، أول وهلة، أن فن اليوميات وفن الصحافة فنّان مختلفان حد التنافر فالأول نشأ وترعرع في السرية، ولا يذكر إلا مقترنا بقصص الإخفاء والأدراج المغلقة والدفاتر المدفونة في الصناديق والكوى أو مخفية تحت الوسائد حرصا على ألا تقع بين أيادي الآخرين، بينما الثاني وجد لكي يُخبر ويُعلن ويُفشي ويَنشر الحقائق والفضائح ويستقصي ويَكشف عن كل مستور.
فما الذي يمكن أن يجمع الصحافة باليوميات؟
الاسم المشتركتُسمى "اليوميات" بالفرنسية جورنال (JOURNAL) وهي التسمية ذاتها التي تبنتها الإنجليزية مع انتشار كلمة أخرى دالة عليها وهي (Diary)، و"جورنال" تعني أيضا الصحيفة أو الصحيفة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وبعض اللغات اللاتينية الأخرى ويأتي هذا التماهي مع فكرة التدوين نفسها فالمفردة "يومية" هي ما يسجّله صاحب اليوميات يوميا و"اليومية" بعالم الصحافة هي الصحيفة التي تصدر كل يوم فكلاهما خاضع للتواتر الزمني حسب الرزنامة من أيام الأسبوع إلى أشهر السنة والأعوام. كما حرصت بعض الصحف على تثبيت كلمة يوم واليوم كجزء من عنوان الصحيفة.
وزير الثقافة الفلسطيني السابق عاطف أبو سيف في مكتبه برام الله (الجزيرة)بسبب هذا التعالق الحميم بين الصحافة واليوميات كانت اليوميات دائما حاضرة مع كل حرب تشنها إسرائيل على غزة لتكون شهادة حرة مرافقة لمنتج الصحافة أو كبديل لها في بعض الأحيان عندما يتبادل الصحفي وكاتب الأدوار. ضمن هذا الإطار ننزل كتاب "وقت مستقطع للنجاة يوميات الحرب في غزة" للروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف الصادر عن دار الأهلية 2024.
الصدفة تصنع اليومياتلطالما ارتبط فن اليوميات بالخطر كمحفز أساسي لإنتاجه، فهو في الغالب ابن الحرب، حرب حقيقية كانت أو نفسية فردية، حرب يشنّها كاتب اليوميات على خطر يتهدّده أو يوثق بها أحداث حرب، ولنا في منجز اليوميات العربية مدونة كاملة فيما يمكن أن نطلق عليه بيوميات الحرب من الجزائر إلى بيروت إلى بغداد إلى الكويت إلى غزة.
كان الكاتب والسياسي الفلسطيني عاطف أبو سيف قادما إلى غزة من الدوحة، كما يقول في مقدمة يومياته، بعد أن شارك في اجتماع وزراء ثقافة العالم الإسلامي في زيارة خاطفة لغزة للمشاركة في إطلاق فعاليات يوم التراث الوطني "الذي يصادف للمفارقة يوم السابع من أكتوبر، في متحف القرارة شرق خان يونس". عندما وجد نفسه محاصرا هو وابنه ياسر عرفات. ويؤكد الكاتب في مقدمته بشكل صريح أنه لم يكن يفكر في كتابة شيء أثناء زيارته، ولكنه منذ اليوم الأول من الاعتداء استعاد ذلك الكاتب وقرر أن يكتب شيئا مثل اليوميات يخلد بها ذكرى الأصدقاء ومن فقدهم، يقول:
"حين بدأ العدوان في أكتوبر 2023، فكرت منذ اليوم الأول أن أكتب نصوصا تشبه اليوميات عن الناس والجيران والأصدقاء والأقارب والأهل الذين أخذتهم الحرب بعيدا عن عالمنا. فكرت أن ثمة دينا في رقبتي لكل من عرفت منهم، وأن واجبي أن أتحدث عنهم، وأخبر عن حياتهم. لم يكن في بالي أن أكتب يوميات منتظمة".
بيد أن البرنامج الكتابي للكاتب تغيّر من مجرد مذكرات حرة محدودة ومنتقاة إلى عمل يومي ونشاط انضباطي ومسؤول، ومن مجرد كتابة نوستالجيا إلى فعل مقاومة ومشاركة ميدانية.
الصحافة تحتضن اليومياتلقد ساهمت الصحافة العربية والأجنبية الحرة في إنتاج يوميات عاطف أبو سيف عن الحرب على غزة عندما التزم الكاتب، والوزير السابق، بنقل ما يجري في هناك وهنا تضافر أمران لإنتاج هذه العمل:
أولا، تاريخ الكاتب السياسي باعتباره وزير ثقافة سابق، فكان عليه أن يثبت أنه كان جديرا بذلك المنصب وهي فرصة لتأكيد هويته السياسية بالتزامه بما يحدث لشعبه. ومن ناحية ثانية، تاريخه الأدبي باعتباره روائيا جعل من القضية الفلسطينية قضيته الأدبية وممارسته لفن اليوميات سابقا أثناء الحرب على غزة سنة 2014 وهي يوميات نشرت بنيويورك تايمز والغارديان والصنداي تايمز. وثالثا، علاقاته مع الإعلام ومع العالم الغربي وواجب أن ينقل أسئلة الداخل، وأن يكون صوتا للناس المعزولين عن العالم بسبب الحرب وبعد غزة عن مركز الحكم في رام الله وانسحاب الكثير من المراسلين الدوليين تحت ضراوة القصف الذي صار يستهدفهم واحدا واحدا، مما يجعل الكاتب والوزير مطالبا بلعب دور المراسل الحربي.يرجع عاطف أبو سيف استمرار التدوين إلى تشجيع الكاتب والصحفي معن البياري، ويقول "كانت الكتابة، كما كل فعل أقوم به خلال الحرب، وقتا مستقطعا للنجاة".
ويضيف "مع الاهتمام الذي حظيت به اليوميات، صرت أشعر بمسؤولية أكبر لأتحدث عن الناس الطيبين الذين شاركوني التجربة والحياة والنجاة ومحاولة الهرب من الموت، وبعضهم قتلته الحرب، وظل ما كتبته عنه أثرا يوجع القلب. صارت اليوميات شهادة عن الناس وعن وجودهم وعن المكان وسيرته وتدميره. بل هناك من كانوا يطلبون مني أن أكتب عنهم، حتى يسمع بهم وبأسمائهم العالم في حال أخذتهم الحرب، فتظل ذكراهم حية".
ويعود في اليوم الـ36 للحرب ليلمح إلى ضرورة أن يعوّض كاتب اليوميات المراسل الصحفي فيبدأ يوميته التي خصصها لمستشفيات غزة ب:
"لا أخبار، لا مراسلين للفضائيات في مناطق شمال غزة ومدينة غزة. هرب الصحفيون وتركوا المشهد، فلا ينقل أخبار الضحايا أحد. كانت الليلة قاسية وصعبة كالعادة"
والحق أن الكتابة في تلك الأوضاع هي عمل ميداني لا يمكن أن نميزه عن عمل المراسل الصحفي، وهذا ما نفهمه من يومية 14 ديسمبر التي خصصها لسؤال الكتابة "في الصباح وحين خطر لي أن أكتب، لأول مرة تساءلت عن جدوى الكتابة في هذا الوقت. غدا سيكون قد مرّ 70. يوما على الحرب. وفي ظروف صعبة ومعقدة وخطرة، واصلت الكتابة يوميا. وفي مرات كثيرة كانت الكتابة جزءا يشكل خطرا على حياتي، خصوصا حين أقطع مسافات كي أصل إلى مكان فيه كهرباء لشحن "الحاسوب" أو الإنترنت لإرسال ما كتبت".
لماذا نسجل الوقائع ولماذا اليوميات؟على امتداد 85 يوما من الحرب نقل لنا عاطف أبو سيف غزة مرة كما لو كان كاميرا ومرة كما لو كان مؤرخا ومرة كما لو كان ينتج وثائقيات، غير أن انتماءه لعالم الأدب وطبيعة هذا الفن، اليوميات، جعلت الكتاب ينضح أيضا بمشاعر إنسانية عندما تتجاوز الكتابة نقل الخبر لتنقل لنا الأحاسيس والعواطف وتعطي مضخم الصوت للناس الذين لا يسمعهم أحد بالعالم.
إن "كل حرب تأخذ من غزة جزءا من تاريخها" كما عنون الكاتب يومية اليوم الـ11 من الحرب، فاليوميات عبر التاريخ كانت أحد أهم المراجع الأساسية في كشف جرائم الحرب والإبادات، بل استند إليها بشكل كبير لخلق أسطورة إسرائيل، وعبرها شرّع الغرب انتزاعه الأرض الفلسطينية وإهداءها إلى اليهود تعويضا على ما فعلوه بهم، في مفارقة عجيبة. ويبدو أن الكاتب الفلسطيني صار أكثر وعيا بخطورة هذا النوع من الكتابة الذي ينهض اليوم كأحد خطابات التاريخ باعتباره ينتمي حسب تصنيف نقاد الأدب إلى ما يسمى بـ"الحكي الحقيقي" مقابل "الحكي التخييلي" الذي تمثله الرواية والسينما والقصة القصيرة.
لقد نقل لنا الكاتب بحسه الروائي، الذي ينحو نحو الكوميديا السوداء أحيانا، فظاعات ما يحدث في غزة للناس البسطاء فكل يومية هي قصة ضحية، مرة أمكنة ومرة بشرا ومرة أشياء، كتلك اليومية التي وضعها تحت عنوان "الجثمان بلا رأس" حيث يبدأ بالضحك من مشهد انتعال محمد حذاء نسائيا دون أن ينتبه إليه أحد، لأن الكل منشغل بالبحث عن طرق للنجاة من الموت ولم يعد يعنيها في شيء ماذا تلبس أو كيف تظهر. لتنتهي اليومية باستقبال شهيد بلا رأس فلم يتبينوا "إن كان لحاتم أو لنجله محمد" وهكذا تنقل لنا واقعية اليوميات فكرة عميقة عن عبثية الحرب ووحشيتها عندما تصبح الهويات الفردية حالة من الترف فالكل مستهدف، والكل ضحايا والصاروخ لا يميز بين رأس هذا ورأس ذاك.
إن ما نلمسه من ارتباكات نفسية للكاتب وهشاشة الأب الذي يشعر أنه ورط ابنه معه في هذا الأوضاع عندما قبل ببقائه معه يقوي من قيمة هذه اليوميات وصدقيتها فبقدر ما تروي اليوميات صلابة الكاتب وإصراره على الاستمرار التي يستمدها من الشعب الصامد ومن مشاركته عذاباته بقدر ما تظهر تلك الرعشات الإنسانية الخفيفة التي تعيد كاتب اليوميات والسياسي إلى ذاته باعتباره إنسانا، وتمنينا أن يكون الكاتب قد اشتغل أكثر على هذه الهشاشة التي لطالما جعلت من فن اليوميات فنا عظيما خارج الكتابات التي كتبت من أجل البروباغندا الشخصية.
تصنع المصادفات أيضا شعرية ما غير مقصودة، فقد روى الكاتب أنه كابد من أجل أن يسمح الجنود في البداية بدخول ابنه ياسر عرفات معه إلى غزة بسبب اسمه، وعندما تحدثت الحرب وتقرأ اليوميات وترى ياسر عرفات الصغير شاهدا على كل ما يجري، يعود إليه والده الكاتب كل مرة ليذكر بموقف أو مشهد أو مستحضرا ياسر عرفات الأكبر، كل ذلك يخلق حالة رمزية عفوية خلقتها الوضعية، ولكن الكاتب بهويته الروائية، طبعا، كان يتقصد ذلك. ويمكن أن نذهب بعيدا في تأويل ذلك الحضور وتركيز اليوميات عليه. هل أن المشهد الفلسطيني كان يحتاج عقلا ومناضلا مثل ياسر عرفات، أم أن القصد منه أن هذه الحرب ستنتج عرفات جديدا؟
جدير بالذكر أن هذه اليوميات التي نشرت في 630 صفحة من كتاب من القطع الكبير حافظ عاطف أبو سيف على التواريخ مضيفا إليها عناوين تجعلها أكثر نجاحا في النشر الأولي في الصحيفة وبراغماتية في نسختها ككتاب حيث تتحول تلك العناوين إلى ما يشبه عناوين الفصول، وتصبح اليوميات كأنما تروي قصة ورواية ذلك العدوان، وهو اختيار جمالي يتأكد من إرجاء صاحب العمل الإشارة إلى فن اليوميات في العنوان الفرعي ونحت عنوان روائي للكتاب "مقطع مستقطع للنجاة، يوميات الحرب في غزة" هذه اليوميات التي تجعل قراءها يستعيدون عبارة الروائي عبد الرحمان منيف باستبدال كلمة رواية باليوميات "سيحتاج العرب قراءة اليوميات/الروايات العربية للتعرف على تاريخهم الحقيقي" لأن التاريخ الرسمي تاريخ مزور.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات عاطف أبو سیف یاسر عرفات على غزة أن أکتب
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون والجيش واستراتيجية المليشيات: أدوات السيطرة التي تهدد مستقبل السودان
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عن تأسيس مليشيات جديدة للقتال بجانب الجيش مثل الأورطة الشرقية، حركة تحرير الجزيرة، تيار شباب البجا، وغيرها. قبل الحرب أيضاً وبذرائع مختلفة كالمطالبة بالحقوق والتمثيل في السلطة، وعدم حصول مناطق على إمتيازات أو تجاهلها في إتفاق جوبا وغيرها، تم تأسيس مليشيات مثل قوات درع البطانة، درع الوطن، وقوات كيان الوطن، تحت بصر وسمع الأجهزة العسكرية والأمنية، وفي الغالب هذه الأجهزة هي من أسست هذه المليشيات، مما يدل على أن استراتيجية الجيش والإسلاميين الرئيسية هي تأسيس واستخدام المليشيات، سواء التي أسسها الجيش أو التي تحالفت معه، بما في ذلك تلك المرتبطة بالإسلاميين كالبراء بن مالك. هذه المليشيات استخدمت قبل الحرب لإشاعة الفوضى ولتهديد قوى الثورة المدنية بالحرب، ولإشاعة حالة من الضعف الأمني. بعد إندلاع الحرب تستخدم هذه التشكيلات للقتال ضد مليشيا الدعم السريع. وللمفارقة العجيبة، فإن قوات درع الوطن بقيادة كيكل كانت قد إنضمت للدعم السريع وتسببت في إجتياح مدني وسنجة وغيرها وسقوطها في قبضة مليشيا الدعم السريع، ثم قبل أسابيع عاد كيكل بعدد قليل من هذه القوات وإنضم للجيش كمليشيا شبه مستقلة تحت اسم درع البطانة وليست تحت سيطرة الجيش بالكامل وإن تم الإدعاء بغير ذلك.
في بعض الأحيان، تُستخدم هذه المليشيات كأداة ضغط سياسي، وربما لاحقاً عسكري، كما يحدث حالياً في مطالبة ما يسمى تيار شباب البجا بإخراج مليشيات العدل والمساواة وتحرير السودان من ولايات الشرق. تُستخدم هذه المليشيات الآن لإنهاء الحرب والإنتصار على مليشيا الدعم السريع، على حساب استقرار الدولة ومستقبلها.
يناقش هذا المقال لماذا يرفض الجيش والإسلاميون دمج أو ضم، ولو مؤقتاً، كل التشكيلات والأفراد الراغبين في القتال ضد مليشيا الدعم السريع في الجيش، وماهي أسباب استخدامهم لاستراتيجية المليشيات وتأثيرها على مستقبل السودان.
أسباب استخدام المليشيات
إحدى الأسباب الرئيسية وراء الاعتماد على هذه المليشيات، وربما السبب الرئيسي، هو الخشية من صعود تيار داخل الجيش بعد إنضمام فئات مختلفة من الشعب للقتال معه، قد ينحاز إلى مطالب الشعب السوداني التي عبرت عنها ثورة ديسمبر. هذه الخشية تُفسر رفض الجيش والإسلاميين لانضمام الكثير من العسكريين المفصولين أو المعاشيين إلى صفوف الجيش في الحرب الحالية، حيث يرون أن هؤلاء قد يشكلون تياراً مناهضاً لهم وقد يصبح لهم صوت ووزن داخل الجيش، وربما أصبحوا أداة للتغيير السياسي خارج سيطرتهم. كذلك قتال هذه التشكيلات هذه بجانب الجيش بشكل شبه مستقل بعيداً عن سيطرة الجيش الكاملة عليها، يطرح تساؤلاً بشأن دور هذه المليشيات بعد الحرب وقابلية استخدامها للتمكن من السلطة، أو للحصول على إمتيازات سياسية، أو لقمع الشعب والقوى السياسية.
وفي الوضع الإقتصادي الحالي، فإن تشكيل المليشيات يُعتبر أقل تعقيداً وأقل تكلفة من تدريب الجنود وفق المعايير النظامية. هذه التشكيلات المسلحة تعتمد غالباً على دعم مالي ولوجستي من قنوات غير رسمية كالدعم الشعبي، ولكن مثلاً يتحدث العديد من المواطنين عن كثرة الإرتكازات الأمنية والمطالبة بالرسوم من المركبات العابرة وغيرها من الظواهر. هذا الشكل من التمويل يقلل من الأعباء المباشرة والإلتزامات المالية على القيادة العسكرية والسياسية. كما أن الإرث التاريخي للمليشيات، الذي يعود إلى نزاعات السودان الطويلة، جعلها أداة مفضلة لتحقيق السيطرة وتقسيم القوى داخل الدولة.
التحديات الناجمة عن المليشيات
هذا النهج يمثل خطراً كبيراً على مستقبل السودان. وجود المليشيات يضعف المؤسسات الوطنية ويؤدي إلى ازدواجية السلطة، ويعيق الإلتزام بالقوانين وتطبيقها. كما أن الغالب في تكوين هذه المليشيات أنه على أسس قبلية وإثنية أو مناطقية مما يزيد من التوترات الاجتماعية ويخلق صراعات محلية طويلة الأمد، تهدد الوحدة الوطنية. تزايد هذه التوترات يؤدي إلى إضعاف التماسك المجتمعي ويعيق إنتصار الجيش نفسه، ويزيد من تعقيد أي جهود للوصول إلى تسوية سياسية.
الاعتماد على المليشيات يؤدي إلى إضعاف الجيش النظامي، حيث تصبح هذه التشكيلات بديلاً غير منضبط للقوة الرسمية، مما يقوض فعالية الجيش ويهدد تماسكه. بالإضافة إلى ذلك، التمويل المالي لهذه المليشيات لاحقاً سيعتمد غالباً على السيطرة على الموارد وربما النهب، مما يؤدي إلى استنزاف الاقتصاد وتعطيل التنمية كما حدث في حالة مليشيا الدعم السريع. كما أن انعدام الأمن الناتج عن نشاطها يفتح الباب لممارسات كالتهريب والأنشطة غير المشروعة، ويعوق الاقتصاد ويزيد من الأزمات المعيشية.
الدور الخارجي والتدخلات الإقليمية
تدخل القوى الخارجية لدعم هذه المليشيات يضيف حلقة أخرى من التعقيد، ويحول السودان إلى ساحة صراعات إقليمية ودولية. وفي تناقض غريب، ورد أن الأورطة الشرقية ومليشيات أخرى قد تم تدريبها في إريتريا، حيث بدأت مليشيا الدعم السريع كقوة محلية ثم طورت علاقات خارجية لتصبح مستقلة عن الدولة، ما يعكس إمكانية تحول هذه المليشيات إلى كيانات ذات علاقات خارجية معقدة وربما تصبح تحت سيطرة خارجية. هذه العلاقات تُعقد أي محاولة لفرض السيادة الوطنية وقد تؤدي إلى فقدان القدرة على التحكم في الأراضي والموارد الوطنية.
على المدى الطويل، تُعرف المليشيات باستخدامها للعنف المفرط وغير المنضبط، مما يؤدي إلى تصاعد الانتهاكات وزيادة الفوضى. هذا الوضع يجعل الإنتصار الشامل أو تحقيق السلام أمراً صعباً، حيث تصبح هذه التشكيلات المسلحة عقبة رئيسية أمام أي حل. حتى في حال الإنتصار الكامل للجيش، فقد تتغير أهداف المليشيات مع مرور الزمن وقد تستخدمها أطراف خارحية كما حدث مع الدعم السريع، مما يهدد استقرار الوضع حتى بعد انتهاء الصراع العسكري.
التحديات في المستقبل: تفكيك المليشيات ودمجها في الجيش
حتى إذا تحقق إنتصار كامل للجيش على مليشيا الدعم السريع وهو أمر مستبعد في الظرف الحالي، أو تم التوصل إلى اتفاق سلام، فإن تفكيك المليشيات أو دمجها في الجيش يمثل تحدياً كبيراً، كما أظهرت تجارب دول أخرى في المنطقة مثل الصومال وليبيا. منذ بداية التسعينات، واجهت الصومال صراعاً طويل الأمد بسبب وجود المليشيات المسلحة التي دعمتها قوى خارجية مختلفة، مما أدى إلى انهيار الدولة وتفككها إلى مناطق سيطرة متعددة. وبعد أكثر من ٣٥ عام على إندلاع الحرب في الصومال لا تزال المليشيات تستخدَم في صراعات محلية ودولية، مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار المستمر والتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية. في ليبيا، تسببت المليشيات المدعومة خارجياً في تمزيق الدولة إلى كيانات متناحرة على السلطة. فإن كان قرار الجيش والإسلاميين أنهم لن يذهبوا لإتفاق مطلقاً، فالأفضل لمستقبل السودان أن يكون كل المقاتلين تحت القوات المسلحة فعلياً والإبتعاد عن استراتيجية المليشيات هذه.
في النهاية، الاعتماد على استراتيجية المليشيات يعكس ضعف الفكر وعدم قدرة قادة النظام السياسي والعسكري الحالي في السودان على التعلم من التجارب الذاتية والخارجية، وعدم الاكتراث لأرواح السودانيين. إن تحقيق السيطرة الآنية باستخدام المليشيات، وإن حدثت وهي مستبعدة في الظرف الحالي، على حساب الاستقرار الوطني لن يحقق الأمن المستدام، بل يقود السودان نحو التفتت والانقسام، مع تداعيات كارثية على الشعب السوداني لعقود قادمة. الحلول الحقيقية تكمن في بناء مؤسسات قوية، والبدء بإصلاح الجيش إلى مؤسسة مهنية ذات عقيدة وطنية تمثل كل السودانيين الآن وأثناء هذه الحرب.
mkaawadalla@yahoo.com
محمد خالد