لا أريد الحديث عن داعش ومصدرها، وعن فكرها ولباسها، ففي كتابي «فقه التّطرف» قراءة أوسع لذلك، ولكن من خلال حادثة القتل في مسجد الإمام عليّ بن أبي طالب، في الوادي الكبير بمحافظة مسقط، في ليلة عاشوراء من شهر الله الحرام، وسمي بذلك لأنّه أول أشهر الله الحرم، حيث تحرم فيه الدّماء عند العرب؛ الّذي أريد الحديث عنه هنا، بما أنّ داعش تدّعي انتسابها إلى الإسلام، وأنّها تريد إقامة خلافة إسلاميّة على منهاج النّبوة، إلّا أنّها تنقض حرمات عديدة من حرمات جميع الأديان، ومنها الإسلام، وأشير هنا إلى حرمتين نقضتهما داعش في حادثتها الأخيرة كما تدّعي قيامها بها، وهي حرمة النّفس البشريّة، وحرمة مكان العبادة.
وأمّا حرمة النّفس البشريّة فنجد في القرآن }مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ{ [المائدة: 32]، ونكّر نفسا؛ لتدخل فيه كلّ النّفوس، كافرة أو مؤمنة، ومراد بغير نفس أي غير حال القصاص، وإذا لم يكن هناك اعتداء فيكون القتل فسادا في الأرض، وعليه قتل نفس واحدة كقتل النّاس جميعا، وإحيائها كإحياء النّفوس جميعا أيضا.
وإمّا استناد داعش في أدبياتها إلى قوله تعالى: }فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [التّوبة: 5]، فهي ظرفيّة معلّقة بالاعتداء، وإن كان للأسف كما قلت في فقه التّطرّف اعتبرها بعضهم في تراثنا الإسلاميّ «بأنّها آية السّيف، وأنّها نسخت كلّ آية سلم، فاستغلّها المتطرّفون دليلا في قتل النّاس إن كانوا غير كتابيين، أو أخذ الجزية إن كانوا كتابيين»، مع أنّ القرآن ذاته يقرّر: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ [الممتحنة: 8]، ثمّ آيات الحرب معلّقة بالاعتداء، فإن ارتفع ذلك فلا معنى من الحرب إلّا الإفساد في الأرض.
وإذا جئنا إلى حرمة أماكن العبادة فالقرآن يقرّر في الحرب فضلا عن السّلم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً{ [الحجّ: 40]، وهنا قال المفسّرون: إنّ الصّوامع تطلق على صوامع الرّهبان، وعلى مصلّى الصّابئة أي المندي، والبيع أصلها سريانيّة أي بيع النّصارى، وهي الأديرة أو الكنائس، والأديرة أخصّ، والكنيسة هي الجامعة، والصّلوات من صلوتا بالعبريّة، أي الكنس عند اليهود، والمساجد معلومة، فهذه إشارة إلى أماكن العبادة المعهودة عند المخاطبين وقت نزول النّصّ، ويدخل فيها أماكن العبادة الأخرى، ومنها الحسينيّات، وإن كانت هذه أقرب إلى المسجد أو المصلّى بشكل عام.
فإذا كانت أماكن العبادة مقدّسة في الحرب، فكيف بالسّلم، ووقت ممارسة النّاس لطقوسهم أيّا كان تكييفها، فأي عقل يسعى إلى خرابها وإفسادها، وإشاعة القتل والإفساد فيها، وفي الأثر النّبويّ من طريق ابن عبّاس (ت 68هـ) «لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصّوامع» أي المعابد والكنائس والكنس والمساجد ومن في نحوها، ولمّا اتّجه عمر بن الخطاب (ت 23هـ) إلى إيلياء، فكان ميثاقه مع مسيحيي القدس: «هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملّتها»، وبيّن «أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود»، أي لا ينازعونهم في حقوقهم ومكان عبادتهم.
ومن وصيّة عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) لواليه مالك بن الحارث (ت 38هـ) والمشهور بالأشتر على مصر، أعطاه قاعدة في التّعامل مع النّاس: «وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة، والمحبّة لهم، واللّطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاربا، تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، وإمّا نظير لك في الخلْق»، ويعقّب محمّد جواد مغنيّة (ت 1979م): «على الإنسان أن لا يعتدي ويسيء إلى أخيه الإنسان بشيء، وأن ينصفه من نفسه، ويكون عونا له على ظالمه، سواء أكان على دينه أم على دين الشّيطان».
بيد أنّ العقل الدّاعشيّ يحاول أن يستجلب الآيات الظّرفيّة ويجعلها أصلا على آيات السّلم المحكمة والمطلقة كآية }قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{ [التّوبة: 29]، وهي في سياق اعتداء الرّوم المسيحيين، ومع هذا لمّا جنحوا للسّلم في عهد الرسّول -صلّى الله عليه وسلّم- جنح له.
ويحاولون أيضا أن يأتوا بروايات آحاديّة ويجعلونها حكما على آيات السّلم المطلقة، كرواية ابن عبّاس: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّدا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى»، ورواية: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»، فالرّواية الأولى تتعارض مع قوله تعالى: }وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ [الأنبياء: 107]، بينما الرّواية تصوّره أنّه لم يرسل رحمة للعالمين، بل لأجل حربهم وقتلهم، سواء قلنا النّاس للجنس أم للعهد، كما تتعارض مع قوله تعالى: }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ [البقرة: 256]، كما يحدث التّعارض أيضا مع الرّواية الثّانية مع أنّها مرسلة كما في موطأ الإمام مالك.
وكما أنّ داعش تنتهك حرمات الإسلام، هذا لا يمنع من ضرورة مراجعة أدبياتنا التّراثيّة، كما يجب إعادة قراءة النّصوص، خصوصا المتعلّقة بالدّماء والحروب، وتفكيك العقل الدّاعشيّ، وبناء منظومة تمنع استغلال داعش لهذه النّصوص لدى بعض العقول قتلا أو إغراء أو إفسادا في الأرض، حتّى ولو ظهر لنا ابتداء كما يرى بعضهم أنّ داعش صناعة استخباريّة، بيد أنّها تظهر بلباس الإسلام، وتستخدم أدبياته ذاتها، مستغلّة العديد من النّصوص والتّطبيقات التّراثيّة لخدمة أغراضها الذّاتيّة، رغم أن ما تقوم به يتعارض مع الفطرة والعقل والنّصوص المحكمة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أماکن العبادة الس لم
إقرأ أيضاً:
أكثر من 2800 إيزيدي اختطفهم داعش.. المصير لا يزال مجهولا
أفاد "حسين قائدي" مسؤول مكتب إنقاذ المختطفين الإيزديين في العراق، في تصريح لقناة "الحرة"، بأنه تم إلى غاية الآن تحرير 3583 إيزديا، من رجال ونساء وأطفال، مشيرا إلى وجود معلومات بوجود مختطفين آخرين في مخيم الهول السوري.
وقال قائدي إنه ومنذ بداية فتح المكتب في أكتوبر 2014، بلغ عدد الإيزديين الذين اختطفهم تنظيم داعش 6417 شخصاً، من رجال ونساء وأطفال.
وشن تنظيم داعش في أغسطس عام 2014، هجوما موسعا على منطقة سنجار ذات الغالبية الإيزيدية، ونفذ مسلحوه جرائم إبادة جماعية.
وفي نوفمبر عام 2015، تمكنت قوات البيشمركة الكردية من طرد داعش من سنجار بمساندة من قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وفي أغسطس عام 2017، أعلنت الحكومة العراقية طرد التنظيم المتطرف من محافظة نينوى قبل أن تعلن "الانتصار" على داعش في نهاية العام ذاته.
مأساة الإيزيديين في عيون واشنطن .. تحديات الاستقرار مأساة الإيزيديين في عيون واشنطن .. تحديات الاستقراروزارة الخارجية الأميركية قالت في أغسطس الماضي، إن "داعش قتل واستعبد آلاف الإيزيديين، وما زالت أكثر من 2600 امرأة وفتاة إيزيدية في عداد المفقودين، ولا تزال عمليات تحديد هويات الجثث التي وجدت في مقابر جماعية جارية".
وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر إن "الدعم للمجتمعات التي عانت من هذه المأساة المروعة لا يتزعزع، ومن واجب الجميع تكريم أولئك الذين فقدنها، والناجين الشجعان"، مشيرا إلى أهمية العمل والالتزام الثابت "بإعادة بناء هذه المجتمعات".
ويسعى العراق جاهدا لطي صفحة الفترة المروعة التي سيطر فيها تنظيم داعش على مساحات واسعة من أراضيه، حيث يتجه بسرعة نحو إغلاق المخيمات التي تأوي الإيزيديين النازحين وتنفيذ أحكام الإعدام بحق مرتكبي جرائم داعش.
بعد عقد من المذبحة.. الأيزيديون يخشون العودة إلى سنجار كان فهد قاسم في الحادية عشرة من عمره حينما أسره مسلحو تنظيم داعش في هجوم على الأيزيديين بمنطقة سنجار شمالي العراق في أغسطس 2014.وبعد سبع سنوات على إعلان العراق هزيمة داعش، لم يعد الكثير من الأيزيديين إلى سنجار بسبب الوضع الأمني فيها، ويعيش الآلاف منهم في مخيمات نزوح.
واعتبارا من يوليو الماضي، حددت السلطات العراقية 93 مقبرة جماعية يعتقد أنها تحتوي على رفات ضحايا إيزيديين، لا تزال 32 منها لم تفتح بعد في منطقتي سنجار والبعاج.
ومن بين آلاف الإيزيديين الذين لم يتم العثور عليهم، تم استخراج رفات أقل من 700 شخص، ولكن تم تحديد هوية 243 جثة فقط وإعادتها إلى عائلاتهم.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن تنظيم داعش ترك خلفه أكثر من 200 مقبرة جماعية يرجح أنها تضم نحو 12 ألف جثة.