تُعدّ مجموعة «الصوفي الناشب بين السماء والأرض» للشاعر هلال الحجري الصادرة عن دار نثر من أحدث الإصدارات الشعرية التي صدرت مؤخرا في الساحة الشعرية العُمانية، وتُعد هذه المجموعة الثالثة للشاعر بعد مجموعتيه «هذا الليل لي» و«كطائر جبلي يرقب انهيار العالم» التي تعكس اشتغال الحجري برويةٍ وتأنٍ في اختيار المفردات الشعرية والتعبير عن فكرته باشتغال فني حديث.

لا يمكن الوقوف على تجربة هلال الحجري إلا بقراءةٍ متصلةٍ للمجموعات الشعرية الثلاث؛ إذ إنّها تقدّم للقارئ تجربة شمولية وحديثة في التعبير الدلالي، والتعاطي مع اللغة الشعرية، وهذا بالطبع نابع من ثقافة الشاعر الذي يعيد تشكيل الأشياء وفق رؤيته الشعرية.

هذا وإنّ الناظر لتجربة هلال الحجري الشعرية يجدها على الأقل ممتدة من تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، وهي تجربة غنية أضافت للمشهد الشعري صوتا متفردا في الاشتغال الفني والأسلوب الخاص بكتابته الشعرية التي تعبّر عن شاعرية تمزج بين الثقافة المحلية والأخرى الخارجية.

تقوم مجموعة «الصوفي الناشب بين السماء والأرض» على 103 نصوص شعرية جاء مجملها قصيرا في بنائه، وهي سمة واضحة اعتمد من خلالها الشاعر على تكثيف الدلالات الشعرية في بناءٍ شعريٍ قصير، وهي سمة ربما لجأ إليها كثير من شعراء القصيدة الحديثة في عُمان وخارجها. نجد الحجري يمزج بين اللقطة الشعرية وتركيب الصورة مثلا، ونجده يعتمد على القفلة الشعرية أحيانا في إحداث عالم من الدهشة والخيال، كما نجد نصوصه ممتزجة بالواقع وما وراءه، إنها نصوص تمزج النثر باللغة الشعرية لتقدّم للقارئ لوحة شعرية بديعة.

نجده مثلا في نص «ضياع» يحيل على التأمل آخذا من اللقطة البصرية عنفوانها الجمالي، فيما يقدّم التشبيه دلالاته الجمالية بين صورتين تتحققان في النص لغاية واحدة:

في بُرهةٍ من العمر،

تشعرُ أنكَ

كزورقٍ مهملٍ مقلوبٍ على وجهه

يترجّى السماءَ

ليعود إلى المحيط!

وتظهر في نص «روح» الرومانسية الشفيفة التي يحاول من خلالها التعبير عن الذات في سكونها وحركتها عائدا إلى التشبيه مرة أخرى:

ليست روحي شفيفة فحسب

ولكنها

كرذاذٍ يسقط

هادئا على قبر نبي!

هكذا هي النصوص الشعرية القصيرة في المجموعة، نصوصُ تأملٍ وتخيّلٍ وتشكيلٍ فنّيٍ نراه في نصوص مثل: «أرض، والمجد للإبداع الحقيقي، وفلسفة، وحنين، وشغف، والجديد، وتشبيه، وقلبي، ووعظ، وممثلون، وأمنية في العام الهجري الجديد».

كذلك فإن الناظر إلى المجموعة الشعرية يجد فيها اشتغالا واضحا على قيمة المكان التي هي كما يبدو محطات من الحياة عاشها الشاعر فأراد استحضارها شعرا. نجد المكان يعبّر عن الواقع في مرجعيته ولكن التعبير الذي استخدمه الشاعر كان ذا رؤية شمولية للحياة. تأتي هذه النصوص مثل: «مسجد الشواذنة، وشقة الفلاحي، وجامع قابوس، والحمرية، وميناء مسقط، والجبل الأخضر، وجريدة الوطن، والمعهد الإسلامي، وقلعة نزوى، وجامع عبدالله بن إباض، وجبل شمس...» متداخلة مع المكان غير العُماني مثل: «نهر هافل، ونهر نيكار، وكيمبريدج، وساواس، ونهر الدانوب» مشكّلة مرجعية ينطلق منها الشاعر إلى بناء فكرة نصه، ومنطلقا من نقطة أولى ارتكز عليها الفكر الإنساني في التأسيس لثقافته وهُويته إلى الحياة الأخرى خارج عُمان القائمة على هوية مختلفة وثقافة مضادة.

لقد استطاع الحجري إيجاد مكانين ينطلق منهما في توليد الدلالة، مكانين مختلفين في السمات والخصائص، لكن اللغة الشعرية استطاعت توحيد التركيبة الفنية وإبراز جمالياتها.

يتحدث الحجري عن/ إلى المكان واصفا إياه أو متناولا ذكرى رسخت في الذاكرة أو مستعيدا ذاكرة قديمة لحظة الكتابة، فنجده مثلا في نص «جريدة الوطن» يزحم الدلالات ببعضها، جاعلا منها ذاكرة يحاول استعادتها كونها مرتبطة بصرح كبير له أبعاده التاريخية في الصحافة العُمانية، يقول: «عنفوان الحياة، التمردُ، مصارعة الحمقى، البكاءُ عند الفجر، العمل مقابل الاقتراض، الخروج من التيه بِرَهْنِ الأرواح....

كلُّ

هذه

الإمبراطورية

العظمى

من البراءة والضّياع، أين ذهبت؟!».

ويقول في نص «حوار بريء مع نهر هافل» وقد أوجد تصادما ذكيا بين مكانين وفكرتين:

لمَ لا تصبُّ الأنهارُ في الصحاري يا هافل؟

لمَ تروي عطشَ البحيراتِ والمحيطاتِ؟

أليست الصحراءُ منبعَ الرُّسُلِ ومصبَّ المؤمنين؟

ألا تودُّ أن أقتادكَ إلى صحراء الربع الخالي

حيث الشعراءُ العذريون

ينصبون خيامهم على ضفّتيكَ

ويتغنّون بحورياتِكَ الفاتنة حتى الموت؟!».

ولعلّ المطّلع إلى مجموعة الحجري الشعرية يجده قد نوّع في خطابه إلى المكان بين استخدام ضمائر المخاطب والغائب، وهو بلا شك مقصود من قبل الشاعر، كون التنويع في الضمائر يساعد على إبراز الدلالات بصورة أكثر قربا من القارئ ومن الواقع. ولعل نص «شقة الفلاحي» أحد النصوص التي جاءت باستخدام ضمائر الغائب مانحا إياها وصفا دقيقا يجمع بين الواقع وما وراء الواقع، مانحا إياها وصفا دقيقا أبعد من كونها مكانا محددا باتجاهات أربعة، إنها إشعاع ثقافي ملأه الأديب أحمد الفلاحي أدبا وثقافة ومزارا لكل الأدباء الذين يفدون عليه، يقول الحجري عن هذه الشقة:

لم تكن شقةً فحسب؛

كانت برزخا لم يعبُر بالشعراء إلى الفردوس المفقود،

فهل عبر بهم إلى الجحيم؟!

لستُ متأكدا، ولكنّ أبانا

كان مفرطا في التفاؤل.

حين كانت مغاراتُ الليلِ تلفظُ بنات آوى

إلى مطهره العظيم،

لم تجد متّسعا لبكائها؛

فقد حَجَزَ «أبو فلاح»

مقعدا لكل مثقف.

حتى العسس

كانوا يجلسون القرفصاءَ

يُقشرون السفرجلَ

ويمضغون قصصا مضجرة!

لقد ضمّت شقة الفلاحي مجموعة من الصور المتداخلة التي اعتمد التركيب على إطلاقها، فبنات آوى اللواتي تلفظهنّ مغارات الليل والعسس الذين يُقشرون السفرجل والشقة/ المكان البرزخ الذي لم يعبر بالشعراء إلى الفردوس المفقود كلها دلالات صنعت حدثا ورؤية متخيلة في إطار مكان واقعي.

لعل الحديث عن استخدام ضمائر الغائب يرد في غير موضع من المجموعة، ويقابلها استخدام ضمائر المخاطب، فقد أضاف الحجري مسحة من الجمال في خطابه إلى المكان موجها الحديث إليه، نجده في نص «قلعة نزوى» يقول مخاطبا القلعة الشامخة:

لن تكفي حزمةُ البرسيم

التي يهدّدُ بها الشيوخُ في إمالتكِ

فلطالما ركعتْ

جيوشُ الإمبراطوريات الغاشمة

تحت قدميك!

الآنَ

توضئي واعتدلي

وصلّي صلاة الغائبِ

على آخر الشهداء

لا تكترثي بالسّيّاح!

ويقول في خطابه لنهر الدانوب:

سلاما يا نهر الدانوب العظيم

منكَ

تعلّمتُ معنى العزة والصمود؛

جميعُ الإمبراطورياتِ

استحالتْ رغوةً

على ضفتيك:

الأتراكُ

والروسُ

والألمانُ

كلُّهم!

ولَّوا باستبدادهم وأيدولوجياتهم الفارغة،

لم تبق إلا الحياةُ

تتلاطمُ على ضفافكَ الشامخة.

إن صورة المكان بارزة في المجموعة، يلمحها القارئ أيضا في عتبة المجموعة الشعرية، فالصوفي الناشب بين السماء والأرض يشير إلى المكانة البينية لحظة عروجه من الأرض إلى السماء، لكن لفظة «الناشب» أعطته تعبيرا مكانيا مرتبطا بالروح لحظة العروج. إنه اشتغال قيم وبديع قرّب معه الشاعر المكان وعمل على استحضاره في قالب شعري بديع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى المکان

إقرأ أيضاً:

محمّد حدّاد: الشاعران سيف الرّحبي وزاهر الغافري من روّاد قصيدة النثر في عُمان والخليج وأسهما بتجديد اللغة الشعرية

ليس من وظيفة الشعر التنوير والتحريض ودوره يكمن في جماله

خلود الشّعر لا يرتبط برسالته الوطنية أو القومية وإنما بجماله والمعنى الذي يحمله

المشهد الشعري عامّة والسّوري خاصّة ليسا بخير وبحاجة لغربال

يُعد الشّاعر محمّد حسين حدّاد واحداً من أبرز الأصوات الشّعرية في سورية، قرض الشعر مبكراً وأصدر تسعة من الدواوين الشعرية، إضافة إلى كتابه النقدي "الشكوى والألم في شعر الطغرائي".

يتميّز شعره بالعذوبة والسّلاسة والحساسية المرهفة والتجديد الذي يسعى إليه دائماً، له ريادة في إطلاق مصطلح "فوتو شعر" على منجزه الشعري الجديد.

قصائده موسومة بالحبّ متعلقة بالمكان، متوشحة بالحزن أحياناً بفعل الغربة تنساب منها العاطفة جيّاشة مملوءة بالصّور التي تجسّدها القصائد المتنوعة حسب زمان ومكان ولادتها.

كتب عن الأرض والوطن والحب والسلام، وحلق بخياله حالماً بوطن ينعم بالهدوء والاستقرار وحبيبة تسكن القصيدة تهدهد ساعات الأرق.

عمله في الصحافة الخليجية ساهم في اطلاعه أكثر على التجارب الشعرية وقامات الأدب العربي.

استضفناه في هذا الحوار ليتحدّث عن تجربته وعن بعض قضايا الشعر وعن المشهد الشعري العُماني الذي يعرفه جيداً.

• دعنا نبدأ بما يستهوي الشّعراء ورومانسيتهم، ما الذي يلهم الشّاعر في كتابة الشّعر، ومَنْ يلهم محمّد حدّاد بالذات..؟

الإلهام في الشّعر شرطٌ ضروري وإن اقترن بالمرأة أو الحبيبة، لكن الشّاعر الحقيقي تلهمه أشياء كثيرة ربّما عصفور كسير الجناح، أو دمعة على خدّ طفل يتيم، أو جندي جريح، أو امرأة منكسرة، وربما شجرة ذابلة أو موجة بحر هائجة، لكن تبقى المرأة بصورها المتعدّدة حاضرة في شعري والتي يمكن إسقاطها شعرياً على كل هذه الأشياء، وتوظيفها في صور شعرية بسيطة أو مركبة.

والإلهام رسالة خارجة عن حدود العقل والوعي، هو لحظة كالبرق تومض في ذهن الشّاعر فيلتقطها خياله وينسجها قصيدة، فإن لم يكتبها في وقتها ستَفْلِتُ من بين يديه وتولّي الأدبار. والشّاعر من يجيد قنص هذه اللحظة واصطياد برق هذه الفكرة، وهذا هو مصدر الإلهام برأيي فهو حالة لا وعي تراود الشّاعر في لحظة معيّنة وتقول له هيتَ لك أنا القصيدة.

• تكتب مختلف أنواع الشّعر وأسألك عن الجدل الذي يدور دائماً بين مَنْ يكتب شعر التفعيلة ومَنْ يكتب قصيدة النثر وبقية الأنواع الشعرية الحديثة، إلى أيّ حدٍّ يخدم هذا الجدل الشّعر والشّعراء والذائقة الشّعرية للمتابعين..؟

هناك جدل وصراع بين قصيدة النثر وبين شعر التفعيلة، فبعض النقاد رفض قصيدة النثر جملة وتفصيلاً وبعضهم قبلها بشروط، وعلى الجانب الآخر هناك نقاد آخرون رأوها واقعاً لا يمكن رفضه، بل يجب القبول به بسبب تداخل الأنواع بين الفنون الأدبية، فالشّعر لن يكون نثراً، والنثر لن يكون شعراً ـ كما يقولون ـ، وعليه لا يمكن نفي أو تهميش ذوق المتلقي والقارئ لفنون الأدب والشّعر عامة، فأنا مع القصيدة، سواء أكانت تفعيلة أم نثراً بشرط أن يكون الشّاعر متمكّناً من أدواته ومتمرّساً في كتابة مختلف الأشكال الشعرية بدءاً من الشعر العمودي، ثمّ شعر التفعيلة، وصولاً إلى قصيدة النثر.

وبالمجمل قصيدة النثر التي استسهلها بعض (الشّعراء) لا يمكننا أن نرفضها، لا سيما وقد أتيح لها نوافذ على مواقع التواصل الاجتماعي، ودور النشر، ما جعلها واقعاً حقيقياً يسعى لتغيير واقع شعري عرفناه واعتدنا عليه. هذه (القصيدة السّهلة) وأنا أسمّيها (القصيدة الـممتنعة)، هي قصيدة تُقرأ بصمت، مكتنزة كنهد، محسوسة مهموسة، تتهادى كطفل، كثيفة كبخار الـماء، منعشة كالنّسيم، مؤلـمة كصفعة..!

وقد أساء كثير من الشّعراء إليها ببساطة الـمفردة، وتسطيح الـمعنى، وارتداء الغموض، وخلع الدّهشة، وخلط الـحابل بالنّابل بحجّة التّجديد؛ فكانت وليداً هجيناً لا يسرّ النّاظرين، وتناسوا أنّ: الشّعر حنكة وخبرة، وصنع غيم، واصطياد مطر..!

ولكلٍّ من قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر خصوصية معينة، فالأولى تعتمد على الإيقاع الخارجي الذي تطور عن قصيدة العمود، وتخلّت عن وحدة القافية، وخرجت على وحدة البيت.

والثانية تبدو من أصعب الأشكال الشعرية رغم أنها انتهكت وفكّكت تماسك القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، من قبل أنصاف الشعراء أو من قبل عديمي الموهبة، وبالتالي تعدّدت أنواع قصيدة النثر، وتراوحت بين ما يسمّى النص النثري المشابه لقصيدة التفعيلة، والنص المفتوح، وقصيدة الومضة، أو الـ "فوتو شعر" حسب ما أطلقتُ عليه، هذا التعدّد خدم قصيدة النثر وأثراها، وأضاف للشعر العربي ميزة إيجابية جديدة، فهي حالة حداثية تتطوّر كما تتطوّر جوانب الفنون الأخرى والحياة بشكل عام.

فإذا كانت قصيدة التفعيلة، حسب مؤيديها اكتشفت جمالياتٍ جديدة في الشعر وإحياء اللغة من خلال تركيب الصّورة، وإعادة بناء الهندسة النصيّة للقصيدة، وخلق مفردات جديدة وإيقاع جديد؛ وقد حاربها شعراء العمود الكلاسيكيون، فإن قصيدة النثر توأم لها من حيث ولادة كليهما في زمن متقارب بعد أن تأثر شعراؤها بالنماذج العالمية واحتكوا بثقافات غريبة أو جديدة عليهم ما أثبت حضورها رغم افتقارها للإيقاع الخارجي الذي تعوّدت عليه الأذن، لكن لها إيقاعها الخاص من خلال التوليد في اللغة والصورة والبناء، ما جعلها تستمر وتتكاثر على أيدي الجيل المعاصر الذي استسهلها واستنسخ نماذج منها تقليداً لتجارب أخرى غربية وعربية، وهذا ما أساء لها لاحقاً وحاربها بعض الشعراء والمتلقين رغم الفروق الواضحة بين النثر والشعر.

• ديوان العرب لم يعد له ذلك البريق الذي يستقطب الجمهور كما كان ذات يوم، وربّما سرقت الرواية منه الأضواء، أو كثرة الشّعراء بأصنافهم، هل ترى هذه الحالة صحية، وكيف يستعيد الشّعر بريقه..؟

يبقى الشّعر ديوان العرب رغم الصّراع بين الأنواع الأدبية، وهو صراع بين البشر، قبل أن يكون صراعاً أو تفاضلاً بين أنواع الأدب، ومَنْ يتكلّم عن بروز الرواية وخفوت الشّعر، وأنها سرقت الأضواء منه واستطاعت أن تزيحه عن كرسيه الذي تربّع عليه منذ أن كان ديواناً للعرب؛ هم في الحقيقة يتكلّمون عن صراع بين الشّاعر والروائي؛ وعليه هبَّ الكثير من الشّعراء للدفاع عن مملكة الشّعر، فشهدت السّاحة الثقافية جدالاً وسجالاً بين مؤيّد ومعارض. ومن هنا توقّع (بورخيس) أفول الرواية رغم جرأتها وأهميتها وبروزها عند الحديث عن التفاضل بين الأنواع الأدبية.

لكن حسب رأيي فإن سبب انتشار هذه الظاهرة يعود إلى كثرة كتّاب الرواية الشباب الذين استسهلوا كتابتها لكي يُطلق عليهم صفة (الروائي)، علماً أن بعضهم ممّن لا يمتلك أدوات الكتابة يستعين بمن يراجعها لهم ـ مدققاً ومصحّحاً ـ، لكن هناك لغز في الشّعر لا يستطيع الإمساك به إلا القليل من الشّعراء؛ لأنه تعبير عن الجمال الذي يسكن دواخلنا، وهنا يمكن أن يستعيد الشّعر بريقه على أيدي الشّعراء الحقيقيين بإضافة معنى للقصيدة في مخيال الشاعر بعيداً عن الغموض والإبهام، أو إيهام القارئ بافتعال لا مبرر له مبتعداً عن التكثيف والرمز والانزياح، والتي هي أدوات مهمّة في بناء القصيدة.

وهنا يحضرني رأي الدكتور المقالح حين قال إن: هناك محاولة لافتعال خلاف بين الشعر والرواية وأيهما أقدر على التعبير عن الواقع، وهو خلاف محكوم عليه بالفشل ـ حسب رأيه ـ "لأن الشعر فن، والرواية فن، وكلاهما قادر على التعبير ولا يمكن تحت أي مبرر وافتعال، الاستغناء عن أحدهما". فالشعر "تعبير عن الوجدان والرواية تعبير عن العقل؛ الشعر صدى الروح وترجمان القلب، والرواية صدى الواقع الاجتماعي وما يجول فيه من أحداث وتطورات".

• كثيراً ما تتّجه أصابع الاتهام نحو منصّات التواصل الاجتماعي التي أباحت للجميع الظهور والكتابة، هل هي نعمة أم نقمة..؟

بعد الانتشار المريع لوسائل التواصل الاجتماعي التي أباحت للجميع الظهور والكتابة، اختلط الحابل بالنابل وأصبح الشاعر والشويعر، والهاوي والغاوي متساوين في الكتابة على هذه المنصّات التي أتاحت لهم ظهور أسمائهم كأدباء وشعراء وروائيين إلى جانب أصحاب القلم الرفيع الموهوب؛ فتحوّل هؤلاء الهواة والغاوون من باب الغيرة والتقليد إلى شعراء وأدباء بالمجان دون خلفية ثقافية أو أدبية، ودون امتلاك لأدوات المعرفة والكتابة فأصبحوا يزاحمون أصحاب القلم الحقيقيين. وهذا من سلبيات مواقع التواصل، وبالتالي تحوّلت إيجابيّاتها ونعمتها إلى نقمة أساءت لفنون الأدب المختلفة، وتلك لعمري مشكلة، لكن ذلك لن يدوم طويلاً، فالزمن كفيل بإسقاطهم، وغياب هذه المنصّات المجانية تحت أي سبب، أو انقطاعها سيرميهم في سلّة المهملات ولا سيما من يطلق على نفسه اسم شاعر أو شاعرة، فما دامت علاقتهما بالشّعر كعلاقة جدّتي بالرّياضيّات، وعلاقة جدّي باللّوغاريتمات. فلن يُسمن اللّايك أو يُغني، ولا رومانس بعض الـمُعَلِّقات. فما صَنَع اللّايك شاعراً.. ولا صَنَع التّعليق شاعرات..!

• أسأل دائماً عن صوتنا العربي الذي يجب أن يصل للغرب، هناك روايات يتم ترجمتها وبخجل كبير، ولكن في الشّعر تتضاءل هذه الفرص إلا نادراً، كيف يمكن أن نُسمع شعرنا للعالم، ومن المسؤول عن ذلك، وما هي مسؤولية الشّاعر في هذه المسألة..؟

الصوت العربي للأسف خافت وخجول ويكاد لا يُسمع في الغرب ولا في محافله الدولية (الثقافية والأدبية والسياسية...)، أما الرّوايات المترجمة بخجل وعلى قلتها فإن الغرب لا ينظر إليها كأعمال أدبية أو إبداعية؛ وإنما ينظر إليها على أنها وثيقة تصف وتمثّل الواقع العربي، واطلاعهم عليها يكون من باب الفضول لمعرفة واقع المجتمعات العربية وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. ومن الخطأ أن نُجري مقارنة بين رواياتنا العربية المترجمة في الغرب والروايات اللاتينية من حيث الإقبال على الترجمة أو تلقيها النقدي أو نسبة المبيعات وشهرة الكاتب، فما تُرجم من الروايات العربية كان محاولات خجولة من قبل دور نشر، أو مبادرات فردية من باب الغيرة من روايات أمريكا اللاتينية، وكل هذا جرى بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب؛ فحاول الغرب أن يلتفت إلى الرواية العربية، لكنه للأسف لم ينظر إليها كعمل إبداعي؛ بل نظر إليها ـ كما أسلفت ـ كوثيقة و(عرض حال) للمجتمعات العربية.

أما كيف نُسمع شعرنا للعالم، فهذا أيضاً مسؤولية دور النشر مع صعوبة ترجمة الشعر ـ خلاف الرواية ـ التي تُفقده الكثير من أدوات الإبداع والإيقاع فيأتي باهتاً على عكس لغته الأصلية، وبالتالي لا تقع المسؤولية على الشّاعر وإن كانت هناك محاولات فردية لإيصال شعرنا إلى العالم والغرب تحديداً؛ لكنها تبقى محاولات هامشية لا يأخذ بها القارئ الغربي وربما لاقت اهتماماً بسيطاً كالرواية المترجمة من قبل بعض المستشرقين من باب الفضول الأكاديمي.

• غالباً ما يكون الشّعر خالداً عندما يحمل رسالة وعنواناً كبيراً، أو قضايا الشعوب المهمّة، لماذا ينأى كثير من الشّعراء عن هذه المسألة..؟

خلود الشّعر لا يرتبط برسالته الوطنية أو القومية، أو ارتباطه بقضايا كبيرة، وإنما بجماله والمعنى الذي يحمله في شتّى فروعه وأغراضه المعروفة، وليس من وظيفته التنوير والتحريض؛ لأن دوره يكمن في جماله، ولأنه قيمة فنية عالية تؤثر في متلقيه لمعانيه الإنسانية وإيقاعاته المختلفة.

والشّعر في المجمل لا يسكن في برج عاجي، وليس بعيداً عن هموم الناس، وإلا لما سمّي شعراً بالأساس، فهو يحمل همومهم، كما يحمل آمالهم وتطلعاتهم وأحلامهم ودغدغة مشاعرهم ومخاطبة دواخلهم التي لا يستطيعون البوح بها تجاه وطنهم أو حبيباتهم. وبالتالي لا أرى أن الشّعراء ينأون بأنفسهم عن القضايا الكبرى والمهمة في بلدانهم؛ ولكن ربّما يقوم بعضهم بهذا النأي لاعتبارات شخصية أو سياسية أو دينية حفاظاً على اسمهم الأدبي، أو لأنه لا يمكن ـ برأيهم ـ إحداث التغيير المطلوب، فالشّاعر مسالم ولا يصادم، فدرب السّلامة خير طريق.

• كثير من الأحداث تجري من حولنا ولعلّ غزة وما فيها من جحيم هي الأقرب للذاكرة، أين الشّاعر محمّد حدّاد من هذه القضايا المهمة..؟

لم يكن الشّعراء العرب ـ ومحمّد حدّاد منهم ـ بعيدين يوماً ما عن القضايا القومية والأحداث الجارية على امتداد جغرافية الأرض العربية، فمنذ أن زُرع الكيان الغاصب كخنجر مسموم في الوطن العربي والشعراء كانوا السبّاقين قبل السياسيين إلى محاربة وتعرية هذا الكيان الغريب والسرطان الخبيث؛ ولكن غزة وما فيها من جحيم ـ كما قلتَ ـ هي الأقرب للذاكرة الآن بسبب المجازر التي ترتكب فيها على مرأى ومسمع العالم والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والكيل بمكيالين من قبل منظمات العالم العمياء، جرح غزة ينزف الآن، وجرح فلسطين ما زال نازفاً، وألم فلسطين هو ألم الشعر ـ كما قال سيف الرحبي ـ ولا يمكن للإنسان العادي أن يُغمض عينيه على ما يجري؛ فما بالك بالشّاعر المخلوق من كتلة أحاسيس، وجمر مشاعر أن يشيح بوجهه وقلمه عن غزة وما يلاقيه أهلها من تنكيل وتقتيل وإبادة لم يعرف التاريخ مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية.

• من خلال معايشتك في الخليج، كيف ترى المشهد الشِّعري العُماني.. هل مسيرة تطوره ساهمت في الانفتاح على مدارس الشِّعر الحديثة أم ظلّ ملازماً لكلاسيكيته المعهودة..؟

ظلّ الشّعر العُماني في بداية السبعينيات مقصوراً على الشّعر الكلاسيكي بنوعيه الفصيح والنبطي، ومع ظهور المثقفين في السّلطنة الذين نهلوا من الثقافتين العربية والغربية، ظهر تغيّر دعنا نسمّيه (المزاج الأدبي) أو النَفَس الشّعري الجديد الذي أثّر في الأجناس الإبداعية مع هؤلاء المثقفين الجدد، وكان ذلك تحت تأثير نطاقات ثقافية عربية وغربية اكتسبوها في انفتاحهم عليها.

وعزّز هذا الانفتاح نشأة الصحافة العُمانية (صحيفة الوطن 1971، وجريدة عُمان 1972) حيث أصبحت الصّحافة منبراً للأدباء والشّعراء العُمانيين الذين قارعوا شعراء جيلهم في الوطن العربي الكبير. فظهرت التيارات الأدبية التي سادت الشّعر العربي منذ بدايات النهضة إلى هذه اللحظة، فكان الشّعر الكلاسيكي والرومانسي والرمزي والواقعي، حيث مثله شعراء الفترة العُمانية الأولى ومنهم: أبو مسلم ناصر بن سالم الرواحي، وسعيد بن خلفان الخليل، وعبد الله بن سعيد بن خلفان، ونور الدين السالمي، وابن شيخان، وعبد الله الخليلي، وخالد بن هلال الرحبي، وأبو سلام الكندي، وهلال بن بدر البوسعيدي، وعبد الله الطائي، وغيرهم.

• كان للحداثة الشعرية تواجد في عُمان، وقد وضع بعض الشعراء بصمتهم في السّاحة الشّعرية العربية، كيف ترى وقع هذه الحداثة عربياً..؟

يشكل شعراء الحداثة العُمانيون امتداداً للتيار الذي اكتسح السّاحة الأدبية العربية منذ منتصف القرن العشرين ورسّخه أصحاب (مجلة شعر) في ستينيات القرن الماضي، وقد أسهم شعراء التفعيلة بنصيب كبير في مسيرة الشّعر العُماني الحديث وتطوره، وكتبوا قصائد جميلة تثبت علو كعبهم وتمكّنهم من أدوات الشّعر الحديث ومشاربه المختلفة، وغرسوا أقلامهم في التربة الأصيلة للشعر العربي.

فكان بروز قصيدة النثر القوي مصحوباً بهالة إعلامية استمدها من رموز شعرية مثّلت قصيدة النثر، التي جسّدت روح الاغتراب والسّفر والحنين وسعت إلى تجديد اللغة الشعرية والبحث عن صور وانزياحات لغوية مبتكرة، كما فعل الشاعر سيف الرّحبي، شجرة الشّعر التي نمت عبر الأمكنة والأزمنة والأحلام والخيبات، الملفع بهاجس الخوف والأغنيات، الذي أتاحت له دراسته في مصر وعمله وتنقلاته بين لبنان وسورية وغيرهما وصلاته القوية برموز قصيدة النثر في هذه البلدان، أن يصبح رائداً من روادها في عُمان والخليج، وذلك عبر آرائه المختلفة ودواوينه المعروفة: (الجبل الأخضر)، (مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور)، (الرأس المسافر) وصولاً إلى (أجراس القطيعة) وغيرها، وكذلك فعل الشاعر زاهر الغافري، شاعر الترحال والوطن وعبق المكان، صاحب الحياة الواحدة والسلالم الكثيرة، الذي عاش متنقلاً من بغداد إلى المغرب إلى أمريكا وأصدر مجموعات شعرية أهمها (الصمت يأتي للاعتراف) و(عزلة تفيض عن الليل)،... وغيرهما الكثير.

• التجربة الشّعرية النسائية بالسّلطنة، لم تكن أقل من الذكورية كيف قرأت ذلك..؟

ببساطة واختصار يمكنني القول إن التجربة الشعرية النسائية بالسلطنة لم تظهر بشكلها الواضح إلا بعد أول ديوان شعر (مدّ في بحر الأعماق) للدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسي، لتأتي بعدها هاشمية الموسوي بديوانها (إليك أنت)، وتركية البوسعيدي في (أنا امرأة استثنائية) وفاطمة الشيدي (هذا الموت أكثر اخضراراً) ونورة البادي (للشاهين جناح حر)، لتتوالى بعدها التجارب الشّعرية النسائية التي سجلت حضورها فيما بعد على السّاحة الشّعرية العربية، ورسمت لها المسار الخاص والواضح.

• كيف ترى المشهد الشّعري في سورية من خلال متابعاتك واهتمامك، هل يمكن أن نقول إنه بخير..؟

المشهد الشّعري العربي عامّة، والسوري خاصّة وبعد الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، والإصدارات الكثيرة للمؤسسات الثقافية ودور النشر الخاصة؛ أصبح بحاجة ماسّة لغربال لتمييز الغثّ من السّمين، والحركة النقدية ـ عدا بعض المجاملات الفردية لهذا وذاك ـ في سبات عمّا ينهمر من إصدارات الشعراء الغزيرة؛ فعلى من يقع اللوم..؟! هل يقع على المؤسّسات الثقافية التي تطبع الجيد والرديء لاعتبارات شخصية..؟ أم على دور النشر الخاصّة التي لا يهمّها مضمون ما تطبع..؟!

هنا تكمن المشكلة، وعليه نقول إن المشهد الشعري عامة، والسّوري خاصّة ليسا بخير.

هذا رأيي باختصار شديد ولا أريد أن أخوض بالتفاصيل التي تبدو محزنة ومؤسفة أحياناً من قبل القائمين على حركة الشعر العربي الأمر الذي يكرّس الرداءة ويهمّش الصّادق الجميل.

• ننتهي كما بدأنا، ما الذي يقلق الشّاعر عموماً، ويقلقك بالذات..؟

القلق صفة ملازمة للشّعراء، وشرط واجب في الشّعر، وهو حالة نفسية تصنع الخوف والتردّد، الخوف من عدم الإتيان بالجديد في صور الشعر وتراكيبه ونجاعة المفردة، والتردّد في النشر وإشهار القصيدة المكتنزة بالجديد والجميل ودفء الشعور، وعدم الوقوع في مصيدة التكرار المنفّرة.

ويبدو أن القلق سمة ملازمة لمعظم الشّعراء، كما قال المتنبي الحكيم: "على قلقٍ كأنَّ الرّيحَ تحتي.. أوجّهُها جَنوباً أو شَمالا" أو هكذا يجب أن يكون لأن القلق طاقة مساعدة على تفجّر الإبداع عند الشّعراء من جرّاء ما يمرّ بهم من خيبات وانكسارات في الحلم والحبِّ والحياة.

صدر للشّاعر:

مرحى لهم مرحى لها

جسد ومرايا

لأنّكِ.. قلتُ ما بي

أنا الماء.. – فوتو شعر

غرفة العاشق.. هذيان حمى – فوتو شعر

الشّاعر.. ذلك الذي – فوتو شعر

قالت عائشة – فوتو شعر

في الخمسين – فوتو شعر

حين تأتي القصيدة – فوتو شعر

كتاب "الشّكوى والألم في شعر الطُّغْرائي"

مقالات مشابهة

  • محمّد حدّاد: الشاعران سيف الرّحبي وزاهر الغافري من روّاد قصيدة النثر في عُمان والخليج وأسهما بتجديد اللغة الشعرية
  • نتائج الجولة الاولى من الطريق الاسيوي لكأس العالم 2026
  • أول دولة في الناتو تتقدم بطلب للانضمام إلى مجموعة بريكس
  • “حديد الإمارات أركان” تغير هويتها المؤسسية إلى “إمستيل” لدعم خطط التوسع والنمو
  • مساعد الرئيس الروسي: دول "بريكس" ستدرس طلب انضمام تركيا إلى المجموعة
  • اللاهوت وأثره في منهج التفكير
  • العجيري العلمي: سبتمبر الجاري سيشهد مجموعة من الظواهر الفلكية التي ستزين سماء الكويت
  • في مجموعتها الشعرية الجديدة… خلود كريمو تقدم نصوصاً عاطفية بتلوين فني متنوع
  • أردوغان يقبل دعوة روسيا لحضور قمة “بريكس” وبروكسل تذكره بشروط الانضمام للاتحاد الأوروبي
  • انطلاق التصفيات الآسيوية لمونديال 2026 بمشاركة 9 منتخبات عربية