الطائفية: انسدادات العقل الإسلامي
تاريخ النشر: 22nd, July 2024 GMT
مرتضى بن حسن بن علي
كان الصراع على الحكم -وبالتالي السياسة- أول صراع وأشد صراع وأقدم صراع في الإسلام. وكان السؤال المطروح بقوة في سقيفة بني ساعدة: أيُّهما يكون أميرا وأيهما يكون وزيرا؟ والإفرازات من تلك الصراعات جاءت بواسطة الموروثات الناتجة. ومحيط تلك الموروثات واسع ومتنوع ومناط خلاف في التقييم، وأنتج تعارضا في المفاهيم، وتُرجم ذلك في الصراعات الدموية التالية.
ليس الإسلام الصحيح ما يدعيه كل فريق لنفسه بصفته الإسلام الحقيقي وما عداه الكفر، بل هو مجموع ما يدعيه الفرقاء كلهم. إنَّ نبوة محمد إسلام، والخلفاء الراشدون إسلام، لكن سقيفة بني ساعدة أيضًا والمهاجرين والأنصار والفتنة الكبرى ومعارك القادسية والجمل وصفين والنهراوان وكربلاء والحرة والزاب الأسفل، هو جزء من تاريخ الإسلام. الإسلام الذي تمارسه هو أيضاً الإيمان بأهل البيت والدولة الأموية والعباسية والرستمية والفاطمية والعثمانية والصفوية ودولة الأشراف في الحجاز، وكل الدول التي تأسَّست وحكمت باسم الإسلام. كما هي الفِرق والنِّحل التى خرجت عليها وحاربتها بالفكر أو السلاح، والفقه الذي توارد على كتابته الفقهاء على اختلاف مدارسهم الفكرية ومذاهبهم والذي تكرّس فيه تناقضات المسلمين الناتجة عن خلافاتهم السياسية والمعرفية. هو أيضًا الحضارة الإسلامية مترامية الأطراف وتراثها الذي تحول إلى إرث نُقَاتل من أجله: من كان على حق ومن كان على باطل؟
عصر الحضارة الإسلامية انتهى في القرن التاسع الهجري، وتوقفت المدنية الإسلامية عن التطور، ودخل العرب في استعصائهم الذي أفرز صراعات مذهبية ما زالت تلازمهم. فمع وقف المتوكل العباسي الاجتهاد، تمَّت إقالة العقل وتحولت المدارس الفكرية الاجتهادية إلى مذاهب منغلقة تقاوم كل نزوع عقلي أو فلسفي وتوقفت حركة الترجمة تحت شعار مُحاربة البدعة.
وبعد سقوط بغداد، حصلت المذابح الأكثر عنفًا ضد النزوع العقلي، وصولا إلى القتل بين اتباع المذاهب الإسلامية ذاتها، وبينها والمذاهب الأخرى، واستمرت لأكثر من قرنين. أُحرقت كتب الترجمة وكل الكتب الداعية إلى النزوع العقلي، وامتدت المذابح إلى كل البلدان الإسلامية. كل مذهب يُقبّح الآخر ويتهمه بالخروج عن المِلَّة. وتواصلت المذابح بعد ذلك أيام الدولتين العثمانية والصفوية، بين السنة والشيعة من جهة، وبين السنة أنفسهم والشيعة أنفسهم من جهة أخرى.
الصراع الطائفي ظاهرة قديمة.. وقد شهدت أوروبا هذه الصراعات الدامية، لكنها تمكنت من مغادرة هذه الحقبة من الاحتراب التي حشرتهم فيها الكنيسة ومكّن ذلك الأوروبيين بالخلاص من هيمنة الكنيسة، كما مكّنهم من إعادة دراسة تاريخهم الملتبس مع أفكار وتفاسير الكنيسة، ومن دون إخضاعه لمبدأ القداسة وبمناهج حرة تعتمد على ما سمَّاه ابن خلدون بطبائع الأشياء أو ما يُمكن تسميته بقوانين التاريخ ونواميس الكون. وكانت النتيجة التقدم الأوروبي.
الصراع الطائفي لدى المسلمين، كما عند المسيحيين، له جذور سياسية واجتماعية وقبلية وعائلية واقتصادية، لكنه أُعطِي منحى طائفيًّا لكي يثبت ويستمر ويسهل استغلاله. وذلك لأسباب عديدة، بدأ الصراع يتصاعد في الشرق ويستمد وقوده من المخزونات البدائية الكامنة في تكوين مجتمعاتنا بشكل عام، كما يكمن بأولئك الذين يؤدلجون البسطاء من الطبقات الفقيرة، ويطفو على السطح بشكل بارز أيام الانفلات الأمني وغياب القانون. وتنفجر كل مظاهر الحقد الطبقي والحسد الاجتماعي وتخرُج العقد السيكولوجية لتخرب كل شيء. وتقف فئات تدعي أنها متعلمة ومثقفة ومن مختلف الطوائف مع ذلك الاصطفاف الطائفي، بدلاً من أن تدرس الأسباب الكامنة لكل مشاكلنا. رأينا ذلك في البلدان التي انهارت أنظمتها الشمولية وتوقف القانون فيها عن العمل. وظهرت على السطح تلك النوازع الرهيبة وسادت ثقافة البداوة والغزو، حتى سمعنا صيحات الله أكبر على عمليات الضرب حتى الموت والسحل وأكل الأكباد حتى تتلاشى الجثث، كما حصل في عراق أول شريعة وأول لغة مكتوبة، ومصر الحضارة والفن والإبداع، وسوريا مهد أول مدينة في العالم، وفي أماكن عديدة غيرها.. مأساة ومأساة .
يدَّعِي البعض أنَّ ما نشهده هو نتيجة تحريض من الخارج، ذلك صحيح ومُوثق، لكنه أبعد شيء عن الدقة. هناك بالتأكيد من يُساعد هذا التوجه الطائفي بالتحريض والدعم والتمويل، ولكن تلك أيضًا صناعة عربية إسلامية بامتياز. ومن له شك فليُطالع الفتاوى الهائلة وخطب المساجد وتصريحات بعض السياسيين وكتاب الأعمدة، وتصريحات بعض علماء الدين، وليتابع منصات التخاطب الاجتماعي، كلها تؤجِّج الخلاف والقتال والاحتراب بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين الآخرين. ويدلي كثيرون منهم -سنة وشيعة وغيرهم- بدلوهم، شأنهم شأن أية جماعة دينية طائفية متطرفة سائدة في محيطها. وتتعقَّد المشكلة مع الاختلافات السياسية وانسداد آفاق التنمية وغياب فكرة المواطنة.
لا يستطيع أحد أن يُستَغل إلا من هو قابل للاستغلال.. أي أنَّ المناخ المولِّد لظاهرة ما هو الذي يساعد أكثر من غيره على ظهوره. التحريض والمساندة والدعم وحدها لن تكون قادرة على أن توجه وتؤثر. ما لم تكن الأرضية جاهزة والجو مهيَّأ .
وهذه حقيقة تغيب عنَّا، ومن هذه الغيبة يكون الخطأ في التشخيص والخطأ في العلاج. والواقع أنَّ ما نواجهه هو شيء من هذا النوع.. مرض قديم قابل للعودة إذا ما قلت المناعة ضده. وفي نفس الوقت طب بدائي يلجأ إلى نحر الذبائح دفعًا للأرواح الشريرة يحسبها داعيًا للمرض.
إنَّ ما يحدث على امتداد الخارطة العربية، هو انعكاسٌ لتلك الثقافة المنغلقة التي ورثناها والتي تقودنا إلى مسالك الانتحار الجماعي، وتلك الأوهام والخرافات التي تُسيطر علينا وعلى تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. هي تلك البيئة الفكرية والمنظومة القيمية والتعليمية والتربوية التي ما زالت تُعيد إنتاج التأخر، ومعهما الوجدان القمعي الذي يُريد إقصاء الآخر المختلِف. وستستمر تلك البيئة وذلك السلوك، وسيقتل ويسحل الآلاف، طالما بَقِيت دوائر الوعي مسجونة في أروقة الخرافة وما تنتجه من شتى أنواع التطرف. ومع استمرار هذه البيئة المتخاصمة لكل ما هو عقلاني، سيبقى الحال على ما عليه. والطائفية بكل أشكالها تعكس فشلا ذريعا في بناء الدولة المدنية العصرية التي ترتكز على مفهوم المواطنة والتعددية. والدول التي تراجعت فيها الطائفية هي الدول التي تمكنت من نشر ثقافة وطنية وإقامة نسق وطني متماسك رغم تعدد الأنماط العرقية والدينية والطائفية فيها. والمناعة الوطنية ضد الطائفية وتفريعاتها القبلية والعرقية والمناطقية تتطلب أصالة مبدأ المواطنة وعموميته بشكل جلي وجذري على فرعية الاعتبارات ذات الصلة بالخصوصيات.
على أنَّ تعزيز مبدأ المواطنة لن يكون ناجحاً بمعزل عن فهم شامل لسمات الدولة العصرية، بما في ذلك مبدأ العدل والمساواة وكرامة الإنسان والمشاركة والتعددية في كافة أمور إدارة الشأن الوطني، وبناء اقتصاد وطني قوي متنوع المصادر.
الدولة العصرية ليست مجرد بناء أجهزة الجيش والأمن. الدولة تستطيع أن تقيم جيشًا وأجهزة أمن، ولكنَّ أيًّا من هذه الأجهزة لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية. فالدولة العصرية والجيش العصري وأجهزة الأمن العصرية مُحصِّلة موارد وقدرات شعب وطريقة الحصول على الثروة، واستنارة فكر وتوازن طبقات، وإدراك عميق لفكرة أن المجتمعات تُعيد صناعة مستقبلها جيلا بعد جيل بوسيلتين أساسيتين؛ هما: التعليم والتشريع العصريان والمتغيران.
وما لم يُدرك العرب خصوصيتهم المُثقلة بأعباء التاريخ والمجتمع، ويتمكنوا من التعرف عليها في الوقائع العينية لتجاربهم الماضية والمعاصرة الخاصة بهم؛ فإنهم لن يُغَادِروا الحالات الموجودة التي يتداولونها كل يوم عن مصير أوطانهم في نشرات الأخبار. وكل "آتٍ" سوف يكون أكثر مدعاة "للأسف" من "المأسوف عليه" مع الأسف الشديد، ساحبًا معه حرائق الطائفية بكل أنواعها وتفريعاتها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
في تعريف الفلسفة
الفلسفة.. شكّلت في تفكيرنا الإسلامي على مدى تأريخه الطويل حضورا وغيابا، بيد أنه في الآونة الأخيرة غلب الغياب، لأسباب منها:
- غموض الفلسفة؛ مصطلحا ومفهوما وأقضية على لغة العصر، فحقولنا الأكاديمية لم تستطع أن تخرج كادرا قادرا على التعامل مع الفلسفة، ووصل الحال بها إلى إغلاق أقسامها في بعض الجامعات العربية.
- اكتساح السلفية العقل المسلم خلال النصف الأخير من القرن العشرين الميلادي، والذي كان من أدواتها في الانتشار التحذير من العقل والفلسفة. فعلت ذلك خوفا على مقولاتها، فهي تدرك أن التفكير العقلاني قد تجاوز كثيرا منها.
- ظهور «نزعة عقلانية» ترى أن الفلسفة ماتت، وتدلل على ذلك بأن الجامعات الغربية أصبحت تغلق أقسامها، وكأن الغرب هو المعيار. إن في ذلك إغفالا لمتغيرات الحقل المعرفي، الذي لم يعد مصدر التعلّم وممارسة العلم الحقل الأكاديمي وحده.
بدخول القرن الحادي والعشرين.. حصلت تحولات كبرى في سرعة التواصل بين البشر، مما أدى إلى تشظٍ في مرافق الحياة؛ وفي مقدمتها المعرفة، أسفرت عن شعور الشباب بالظمأ الفكري والأنطولوجي، نتيجة التحرر من بوتقة السلفية، فطفقوا يقرأون في فنون المعارف؛ ومنها الفلسفة. ولأن الوضع السلفي قد ترك أثره العميق في الفكر؛ اتجه بعض الشباب إلى «قراءة سلفية» للفلسفة، أي تبني مقولاتها السابقة؛ لا سيما مقولات عصر التنوير، وليس ممارسة التفلسف بشروطه الموضوعية. وما نسمعه من اللاهجين بالفلسفة لدينا غالبا هو رضف لمقولات الفلاسفة دون قدرة على إنتاج مقولات جديدة، فضلا عن عدم القدرة على نقدها، وهذه «السلفية الفلسفية» كسلفية الفقيه الذي يستدعي مقولات أسلافه فيعيد إنتاجها بلغة العصر، أنا مع دراسة الفلسفات، فدراستها تفرضها الضرورة العلمية، بيد أن هذا ليس تفلسفا، وإنما استعراض معرفي للفلسفة.
وبعد.. فما الفلسفة؟ قُدِّمت عشرات التعريفات لها، وفي هذا ثراء، بيد أن التعريف يخنق المفهوم، ويجعل الكاتب أسيرا له في تحليله الفلسفي، كما أنه يُوقِع القارئ خاصة المبتدئ في حيرة المواءمة بين الرؤى الفلسفية؛ لا سيما الآخذة في التشكل، وبين ضبطها وفق التعريف. ولأجل هذا؛ أرى التخفف من ثقل التعريفات، لكن لا بد من وضع قدر من التعريف للمصطلح الفلسفي، لكي يعطي القارئ مدخلا لمعالجة القضية المراد مناقشتها، وضبط مسار تحليلها، فلا يند عن موضوعها.
للفلسفة تعريفات عديدة.. فمثلا؛ فيراها أبو نصر الفارابي (ت:260هـ) بأنّها: (العلم بالموجودات بما هي موجودة)، وهذا التعريف أقرب إلى العلم منه إلى الفلسفة. ويعرّفها يعقوب بن إسحاق الكندي (ت:256هـ) بأنها (علم الأشياء بحقائقها الكليّة)، وهذا جيد، إلا أن «علم الحقائق» صعب المنال على العقل، والأحرى؛ أن يقال: فهم سَيْر الأشياء بقواعد كلية. أمّا عمانويل كانط (ت:1804م) فيرى أنّ الفلسفة (هي المعرفة الصادرة من العقل)، وهذا جيد أيضا.. بل ومهم، لكنه ملتبس، فإن كان يقصد بـ«المعرفة» العلم، فالتأمل العقلي.. ليس من وظيفته أن ينشئ علما، إلا إن تحوّل إلى تجربة تثبت ما ذهب إليه العقل، فحينها سيكون الصدور غير مباشر عن العقل، والفلسفة.. هي ما يصدره العقل بتأمله مباشرة. أما إن كان يقصد بـ«المعرفة» التأمل الصادر عن العقل، فإن التأمل فعلا يتحول خارج العقل إلى معرفة.
كيف أعرّف الفلسفة؟ استعمالي «كيف» عن قصد، لأن آلية التعريف مهمة كالتعريف ذاته، لكي نعرّف الفلسفة فعلينا قبل ذلك أن نفهم بأن التأمل الفلسفي يجري بأداة ظنية؛ أي أن العقل الذي ينشئ «الحل الفلسفي»؛ مهما بدا أنه قوي ومتماسك يظل منتَجا ظنيا.
فإن قلتَ: أليست الفلسفة مَن وضعتْ قواعد التفكير الرصينة التي نتأمل بها الموجودات؟
قلتُ: هذا صحيح. لكن وضعها يتعلق غالبا بإحكام المنطق، والمنطق.. خاضع للحس، أي قابل أن تنزله على الواقع المشخَّص، فعندما تقول: الكل أكبر من الجزء، فهذه قاعدة كلية مجردة، بإمكانك استعمالها في المشخَّصات، فالبرتقالة أكبر من أي جزء منها. وهذه القواعد الكلية المحكمة قليلة، مع وجود نزاع في إحكامها. أما خارج هذه الكليات التي ينطق بها الوجود قبل أن تنطق بها عقولنا؛ فإن التفكير ظن.
وإن قلتَ: إذا كان التفكير ظنا، فهذا يعني أن الأنظمة المعرفية التي تشكّل عقولنا قائمة على الوهم، فهل يمكن أن يقوم عالمنا على الوهم؟
قلتُ: إن الأنظمة المعرفية في عالمنا بالأساس قائمة على الوهم، ولولاه لما تمكن الناس من بناء حياتهم وتدبير شأنهم وإدارة مؤسساتهم، وقد تحدثت عن ذلك في مقالي «الوهم.. وحتميته في بناء الحياة»، نشرتْه مشكورة جريدة «عمان» بتاريخ: 26/ 12/ 2023م. إننا لا نخشى الظن بشرط ألا نعتبره علما، فالعلم.. بمعنى إدراك الشيء على حقيقته هو وحده القطع، وهذا له سياقه الذي ينبغي ألا يخلط بالفلسفة. أما الظن فهو الأفق الأوسع لتطوير أنظمة معارفنا، وإعادة ضبط بوصلة تفكيرنا باستمرار بما يتواكب مع مستجدات الحياة. وقوة الفلسفة.. أنها تمنحنا الظن والشك؛ لا اليقين والقطع، فهذان الأخيران قَتْلٌ للتفلسف.
في تعريف الفلسفة.. ينبغي كذلك أن نعي المنهج الذي يسير عليه تفكيرنا في توليد القضايا؛ نقدا وتفكيكا وتحليلا وبناء.. بل علينا أن نبني منهجنا، فلا تفلسف بمنهج الغير، ولا يجوز تقليده، وإنما علينا نقده. ففي عالم الفلسفة لا فكرة تنجو من النقد، ولا يقين من دون شك، ولا بناء قبل اختبار صلابة القواعد.
قبل التفلسف.. علينا أن ندرك بأن العقل يتأمل في الماورائيات المعرفية؛ أي في تحليل الأنظمة التي تقبع خلف الظواهر الوجودية الكلية والاجتماعية التفصيلية، فالعقل.. لا يسبق الظاهرة. ويفعل ذلك بأداة بيولوجية محضة؛ قد يصيبها العطب كما أنها قابلة للخداع. بعكس العلم القائم على التجربة؛ فما هو إلا ما تنتجه التجربة على وجه القطع بشروطها الموضوعية، لا أنكر بأن للعلم ظنونه وأوهامه، ولكن هذا شأن آخر. هناك علاقة بين الفلسفة والعلم.. وهي أنه لا يجوز لها أن تتخطى «قطعيات العلم».. بل عليها أن تبني على هذه القطعيات، وإنما للفلسفة أن تفترض خطأ القطعيات حتى تدفع بالعلم إلى تجاوز أوهامه.
علينا كذلك أن نفرز بين عمل الفلسفة وعمل الدين، بكون الدين لا يجوز أن تتدبر مقولاته خارج مظلته النصية، أما الفلسفة فهي تأمل خارج نطاق أية مظلة؛ بما فيها الدين. وكما أن الفلسفة غير مقطوعة الصلة بالعلم فكذلك هي مع الدين، عمل الدين في الفلسفة أن يوسع نطاقها في المطلق، لأن تأملها في «الماورائيات المعرفية»، وبعض الماورائيات تشكّل معتقد الدين، وعمل الفلسفة أن تتأمل في قضايا الدين لا أن تحتكم إليه.
إن الفلسفة تأمل عقلي خالص، وهذا لا يعني أن العقل عليه أن يرفض كل المعارف السابقة، هذا مستحيل، فما العقل إلا آلة تقوم بعمليات الإدراك والتحليل والتفكيك والبناء والتركيب والنقد والتصنيف والترتيب، وهذه لا بد لها من تغذية، فالعقل.. لا يقوم بها في فراغ، فلا بد له من معرفة أولية، وهي التي يتحصل عليها من الحواس. وإنما المقصود بأن على العقل وهو يتفلسف أن ينقد كافة المقولات السابقة، وألا يضع حاجزا أمامه لا يتجاوزه، إلا المنهج الذي يرتضيه وفقا لمقدمات وقواعد رصينة شكّلته.
الفلسفة.. هي تأمل عقلي خاضع للبُنية المنطقية والمنهجية المُفكَّر بها فقط، المستقل عن أية مقدمات تسبقه وشروط تحكمه، في قضايا الوجود، بداية من الإنسان نفسه، وانتهاء بالكون ومجراته وكائناته، وفق منهج يرتضيه الفيلسوف لنفسه لا يتناقض مع سنن الوجود، فالتناقض معها هو أحد كواشف زيف المنهج.
وختاما.. علينا التمييز بين تعريف الفلسفة ومعناها ومفهومها، وهذا ما أرجوه مستقبلا.