في شبابنا كنا نتندر على صنف من الكتاب، يحرص على أن يكشف معاناته للقارئ، فيستهل مقاله بسؤال حول ماذا يكتب؟ فالأفكار شحيحة، كيف أنه يظل ليله كله يبحث عن فكرة. وكأن الكتابة واجب مدرسي فرض عليه، وكنا في تندرنا نسأل ولماذا لم يعتذر عن عدم الكتابة ليريح ويستريح، بدلاً من هذه التأوهات؟!
وعندما تم تكليفي بكتابة زاوية يومية، لم أشعر بهذه المعاناة، بل كانت دائماً المشكلة في الاختيار بين الموضوعات، وكثيراً ما أجلت الكتابة عن أحداث ثم نسيتها، وعندما تذكرتها كان قد فات أوانها، رغم أنني كنت بجانب كتابتي للعمود اليومي، أكتب مقالين أسبوعيين مختلفين، أحدهما في "القدس العربي"، والثاني في "الراية القطرية"، وكنا نحسد في شبابنا الكاتب الكبير فهمي هويدي، الذي كان ينشر مقاله الأسبوعي بـ "الأهرام"، في أكثر من عشر مطبوعات على الأقل، وكان بعض الشباب، يظلون يحسبون بالتقريب ما يمكن أن يتقاضاه ثمناً لهذا المقال الواحد، بجانب مقالين كان يكتبهما لـ "الشرق الأوسط"، ومجلة "المجلة"!
ويبدو أن عيناً لأحد المتربصين به أصابته، فتم منعه من الكتابة، وإن عاد يكتب مؤخراً في "الجزيرة نت"، مقالاً شهرياً، والعين فلقت الحجر، وقد قرأت لأحد شباب الصحفيين أنهم كانوا في جلسة تمني، فتمنى هو أن يصبح "فهمي هويدي"، وكانت فكرة هؤلاء الشباب عنه أنه ولد كاتباً فلم يعمل محرراً، وهي سردية غير صحيحة، فالرجل له تاريخ في الصحافة سبق انتقاله لخانة كتاب الرأي، لكن مشكلة فهمي هويدي إنه شخصية منغلقة لا يكتب عن نفسه، وهي أزمة الذين تتلمذوا على يد هيكل، فيصنعون مسافات وحواجز مع القارئ، وعلى كل فهي مدرسة مقدرة، ولعل مشكلتها في المستقبل، عند التمكين للذكاء الاصطناعي، وسمعت من البعض إنه الآن يمكنه أن يكتب مقالات، والبعض يفعل هذا، لكن ما سيميز بين الكاتب الألي والكاتب من لحم ودم هو الروح!
يجازف نفر من المتكلمين العرب لإثبات قدرة على التحليل والتوقع، فيقولون إن البيت الأبيض ليس مستعداً لاستقبال امرأة رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية، ولا أعرف لماذا لا يذهبون أبعد من ذلك فيقولون ليس مستعداً لاستقبال امرأة أو رجل من الحزب الجمهوري.
تسرب التشكيل الوزاري:
عادة لا أفكر فيما سأكتب، سوى قبل أن أهم بذلك بساعة، أو بعض ساعات، حتى لا تتزاحم الأفكار في رأسي، كما تتزاحم الآن، فهل أكتب عن الداخل المصري، أم عن الحدث الأبرز وهو تنحي الرئيس الأمريكي بايدن عن الترشح، وفي مصر هناك أكثر من موضوع، وتذكرت أنني كنت أتنوي الكتابة عند التشكيل الوزاري عن الإطاحة بوزير الدفاع محمد زكي، ورئيس الأركان أسامة عسكر، لكن نسيت من زحمة الأحداث!
وهناك معلومات توافرت لدي عن الداخل، إن نسيت الكتابة عنها، وفات أوانها، ستصبح بعض تحليلاتي ناقصة، فقد أدهشني أن يتسرب التشكيل الوزاري فتنشره الصحف والمواقع المملوكة للسلطة، وتنشره بكل أريحية، وهذا أمر يقلل من أهمية الخبر وقت صدوره، وضربت مثلاً بزمن مبارك، فاذا تسرب خبر تعيين وزير أو غير ذلك، فلن يعين، وكنا نعلم ذلك، وحدث في زمن شقاوة الشباب، أن أفسدت على البعض اختيارهم عامداً متعمداً حيناً، وبدون قصد في بعض الأحيان!
وكان كمال الجنزوري شخصاً غير منضبط في هذه المنطقة، فيكلف بتشكيل الحكومة ويظل يشكلها على الهواء ليلة كاملة. ولأنه حرق المفاجأة فقد صنع القوم مفاجآتهم فتم إلغاء وزارات تم الإعلان عن وزراء يشغلونها ونشر هذا في الصحف، وإعادة وزارة ووزيرة تم الإعلان عن دمجها في وزارة أخرى وتسريح وزيرتها أمال عثمان، وفي التكليف الثاني تحدث عن الوزراء الذين لا يريدهم مثل وزير التعليم ووزير الثقافة وطالبهم بإخلاء مواقعهم، فكانت النتيجة أن ألغي تكليفه وكلف عاطف عبيد بتشكيل الحكومة وبقي هؤلاء الوزراء في مواقعهم!
وكانت مفاجآت مبارك مربكة، فالتشكيل الوزاري يصدر نهاراً والوزراء في مكاتبهم، فلا يهتم أحد بإعادتهم لبيوتهم، وذات تشكيل أطيح بوزيرة البحث العلمي فينس جودة، فخرجت من مكتبها لتجد نفسها في طابور مع الواقفين أمام المصعد، ثم تخرج لشارع القصر العيني بمفردها، لتستقل تاكسي أجرة، فيرأف بحالها موظف بمسرح السلام الملاصق للوزارة، وأوقف لها التاكسي إلى منزلها، وروى لي ذلك وهو في دهشة، وهو يقول لم يضعوا في اعتبارهم أنها يمكن أن تخطف، وهدأت من روعه!
يقولون إذا عرف السبب بطل العجب، فقد كان الهدف من هذا الإعلان المبكر للتشكيل الوزاري لتصل الإشارة أنه لا تغييرات في قيادة الجيش، وأن محافظ السويس عبد المجيد صقر سيعين وزيراً للتنمية المحلية، ولم يعلن اسمه قبل حلف اليمين، وعزل رئيس الأركان أسامة عسكر!
في ثقافة الجيوش، أن القائد يظل صاحب صفة، وتنفذ قراراته حتى يعزل، بعدها يجرد من السلطة الواقعية والأدبية، لهذا فتحسباً لأي حركة غدر، تكون المفاجأة هي الأسلوب المعمول به عند التغيير والإطاحة، وهو أسلوب استخدمه الرئيس مرسي نفسه، فقد أخبر المشير طنطاوي والفريق سامي عنان بعزلهما بعد أن أقسم السيسي اليمين وزيراً للدفاع!
فحتى وزير الدفاع الجديد لم يعلن باختياره، إلا قبل قليل من توجهه للرئاسة، وبدا هذا واضحاً من خلال ملابسه الفضفاضة إلى حد ما، وذكرتنا بصورة المفتي الأسبق نصر فريد واصل، عندما أبلغ مساء بالحضور صباحاً لحلف اليمين مفتياً، ولم يكن يرتدي الزي الأزهري، ففتح له ترزي خصيصاً لإعداده وظل الليل كله يقوم بهذه المهمة!.. بيد أن الإبلاغ كان في وقت متأخر في حالة وزير الدفاع!
ولست متأكدا من أنه اتخذت الإجراءات الدستورية في حال تعيين وزير الدفاع بعرض اسمه على المجلس الأعلى للقوات المسلحة للموافقة كما ينص الدستور، وقد كان السيسي في حل من ذلك، ودستور 2014 ينص على أن موافقة المجلس الأعلى لدورتين رئاسيتين اعتباراً من تاريخ العمل بالدستور (م 234)، لكنه في التعديلات الدستورية في سنة 2019، جعل هذا العرض أبدياً!
ماذا يمكن أن يحدث لو لم يستخدم عنصر المفاجأة في التعيين والعزل؟ في تقديري لا شيء، لكن من أصول الحكم في بلادنا، الالتزام بقاعدة: "الاحتياط واجب".
أزمة شاشة فيصل.. قراءة جديدة:
مما فكرت في الكتابة فيه هو إعادة قراءة لأزمة شاشة فيصل، بعد أن هدأ صخب السوشيال ميديا، والكتابة على ضوء معلومة توفرت لي، ومثلت إجابة على ما كتبته في الأسبوع الماضي من حيث السؤال عن الجهة التي تملك الشاشة، التي تعرضت للاختراق بفيديوهات مسيئة، وكنت أعتقد أن الشاشة تابعة لشركات الإعلانات المحتكرة لهذا النشاط، لكني عرفت إنها تابعة لمركز "ألفا"، وهذا الارتباك والتوتر الذي استولى على السلطة بدا لي مبالغاً فيه!
لا يوجد صراع على السلطة في مصر، ولكن يوجد صراع حولها وتنازع الاختصاص، بين أفراد لا جهات أو أجهزة، فهناك من يريد أن يدفع بضياء رشوان لرئاسة الأعلى للإعلام، لرغبتهم في التخلص من كرم جبر الرئيس الحالي، المحسوب على أحد الكبار، وهناك من يريد استمرار رشوان في موقعه الحالي، لأنه قادر على اسكات كل رأي معارض في الحوار الوطني بجرأة منقطعة النظير،لقد ظل العرض لساعتين كاملتين، ترتب عليه اغلاق شارع فيصل تماماً، من أوله وآخره، وهو شارع لا ينام، ليعلم الناس بالخبر الازمة، ومنهم من لم يكن سينتبه له لولا الإغلاق، لأنهم يقطنون في محطات متقدمة على هذه المحطة، ولك أن تتصور أن ضباطاً وقفوا تحت الشاشة يهشون الناس من الموقع، دون توافر الإرادة لإطلاق رصاصة عليها وإنهاء المشهد!
هلع السلطة وأجهزتها لم يتوقف عند اغلاق الشارع، ولكن امتد إلى القرار بعدم ربط عموم هذه الشاشات بالإنترنت، ليكون تشغيلها بواسطة "فلاشة"، قبل إلغاء شاشة معمل تحاليل "ألفا" تماماً، وهذا رسالة للرأي العام على قوة تأثير هذا التصرف!
ما استقر في وجدان أهل الحكم أن الفاعل فرد، ومن قالوا إن إخوان الخارج يقفون خلفه يدركون أنهم لا يقولون الحقيقة، ومع ذلك فالفزع ليس من الإخوان (الشماعة لكل فشل)، ولكن من الأفراد، أو الذئاب المنفردة، أكثر من تنظيم يعرفون حدود حركته!
أزمة تشكيل الهيئات الإعلامية
ومن الموضوعات التي تداعت للذهن للكتابة فيها، تأخر السلطة في تشكيل الهيئات الإعلامية الثلاث؛ الأعلى للإعلام، والوطنية للصحافة، والوطنية للإعلام، وقد انتهت المدة القانونية لها جميعا في 21 يونيو الماضي، وكان ينبغي الانتهاء من التشكيل لأداء القسم أمام البرلمان قبل يوم الخميس الماضي، وذلك قبل فض البرلمان لدور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي الحالي، للعودة في أكتوبر المقبل، لكن لم يحدث، ولا يجدي القول إنه يمكن المد لها بقرار رئاسي، فلماذا تعجز السلطة عن تشكيل أي شيء، فيظل تشكيل الحكومة وتغييرات المحافظين لأكثر من ست شهور في ولادة قيصرية، وقد قدمت الحكومة استقالتها قبل شهر من تشكيل الحكومة الجديدة.. فماذا هناك؟!
لهيكل عبارة قديمة قالها في وصف حكم مبارك في دورته الأولى: "لا أعرف من يحكم مصر الآن؟".. وله عبارة أخرى في ولايته الثانية: "سلطة شاخت في مواقعها"، وهما عبارتين قابلتين للاستدعاء الآن ومن أزمة شاشة فيصل، إلى أزمة تشكيل الحكومة والهيئات الإعلامية؛ "أزمة سلطة شاخت في مواقعها"، وأزمة التشكيلات الإعلامية يسري عليها القول: "لا أعرف من يحكم مصر الآن"!
لا يوجد صراع على السلطة في مصر، ولكن يوجد صراع حولها وتنازع الاختصاص، بين أفراد لا جهات أو أجهزة، فهناك من يريد أن يدفع بضياء رشوان لرئاسة الأعلى للإعلام، لرغبتهم في التخلص من كرم جبر الرئيس الحالي، المحسوب على أحد الكبار، وهناك من يريد استمرار رشوان في موقعه الحالي، لأنه قادر على اسكات كل رأي معارض في الحوار الوطني بجرأة منقطعة النظير، ولا شك أنها سمة من سمات أي ناصري، ويستطيع عبد الحليم قنديل مثلاً أن يقوم بالمهمة خير قيام، ويمكن أن يقوم بها حمدين أفضل من الإثنين وإن كانت تطلعاته السياسية المكبوتة الآن، تستدعي ألا يكون في الصورة!
وعندما يدفع النزاع إلى تأجيل تشكيل هيئات أمرها بسيط، لتعيش في الحرام القانوني، فإنها أزمة سلطة شاخت في مواقعها!
وعندما يصبح الصراع في حدود المفاضلة بين هذا الشخص أو ذاك، دون توافر حشد ممن يتم الاختيار من بينهم، فإنها دولة على الضيق، وفي حدود مسرحية "سك على بناتك"، حيث بلاها سوسو، خد نادية!
يا لها من أزمة!
بايدن المضحي من أجل الوطن.. والأوطان المجاورة:
أما موضوع الساعة، فهو تنحي الرئيس بايدين فلن يترشح لدورة جديدة، وزكي نائبته كامالا هاريس لتخلفه، وإن تمسك بالاستمرار في موقعه لنهاية ولايته، وكان إذا تنحى من الرئاسة مكنها من إدارة الدولة في هذه الشهور القليلة، ولو من باب التدريب على خلافته، فربما تصنع مواقف تمثل دعاية لها، وهي التي يصورها المنافس ترامب كما لو كانت "عبيطة القرية"!
في هذه الليلة الليلاء التي قرر فيها بايدن التنحي بدا الأمر كما لو كان مفاجأة للمتكلمين العرب، مع أنه أمر كان متوقعاً بدرجة كبيرة قبل أيام ومنذ أن تمارض بايدن وقال بإصابته بالوباء واعتزاله الناس!
لدينا رغبة في تضخيم أي شيء، وليست ثقافة أطول مئذنة، وأكبر كنيسة، وأعلى برج، من فراغ، وقد اندفع المتكلمون العرب ليشيدوا بالقرار التاريخي، وببايدن الذي ضحى بسعادته الخاصة من أجل الوطن. ما علاقة الوطن بالموضوع؟.. اسأل المتكلمين العرب!
إن بايدن اضطر لهذا القرار بعد ضغوط هائلة مورست ضده، ولو كان الأمر له علاقة بالتضحية من أجل الوطن، أو من أجل الحزب، أو من أجل البراعم، لما أقدم على خطوة الترشح داخل الحزب من البداية، ولما أوقع حزبه الآن في أزمة الاختيار والوقت لا يسعفه، والمنافس قوي ومتمدد في المشهد، وقد وضع بايدن المضحي بسعادته الشخصية، الحزب في وجه المدفع!
كامالا هاريس هي الأوفر حظاً في تمثيل الحزب الجمهوري في هذه الانتخابات، وعلى ذكر هيكل، فهي "مرشحة الضرورة"، لكن ليست الضرورة التي يقصدها في وصفه للجنرال السيسي مما منحه شرعية الترشح بدون برنامج، واستمر على ذلك حتى اليوم، رغم أنه صرح بعد الجولة الأولى بأنه لم يعد كذلك، فهو مرشح طبيعي، لكن كان قد فات الميعاد!
يجازف نفر من المتكلمين العرب لإثبات قدرة على التحليل والتوقع، فيقولون إن البيت الأبيض ليس مستعداً لاستقبال امرأة رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية، ولا أعرف لماذا لا يذهبون أبعد من ذلك فيقولون ليس مستعداً لاستقبال امرأة أو رجل من الحزب الجمهوري. وهم يذكروننا أيضاً بهيكل أيضاً.
في صيف 2007 قال هيكل، إن البيت الأبيض ليس مستعداً لاستقبال "رجل أسود"، وكتبت إن البيت الأبيض مستعد لاستقبال "رجل أسود"، وصدقت توقعاتي، ولم تكن توقعات كلانا مبنية على شيء، فأمريكا ليست بالبلد الذي تصدق عليه التوقعات، لتصبح أقرب لضرب الودع!
وفي ربيع 2008، قال هيكل إن المسرح تتم تهيئته لتوريث الحكم في هذا الصيف، وكتبت إن هذا لن يحدث، وكان تحليلي مبنياً على معلومات دقيقة!
لكن لا أحد يتربص بالمتوقعين العرب، الذين تستهويهم الفرقعة.. وإطلاق الألعاب النارية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الكتاب الرأي المصري مصر امريكا كتاب سياسة رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التشکیل الوزاری إن البیت الأبیض تشکیل الحکومة وزیر الدفاع لیس مستعدا لا أعرف من یرید یمکن أن من أجل فی هذه
إقرأ أيضاً:
إنها الآن حرب أوروبية
في يوم الجمعة، بعد أن غادر فلاديمير زيلينسكي البيت الأبيض متجهم الوجه، كتب الرئيس ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي أن الزعيم الأوكراني يمكنه «العودة عندما يكون مستعدا للسلام».
والسلام كلمة قوية، لكن لكي يفهم المرء معناها الحقيقي فلا بد من النظر إلى السياق الذي تقال فيه. وفي اليوم نفسه الذي تحدث فيه الرئيس ترامب عن أهمية السلام وأرسل الرئيس زيلينسكي إلى وطنه للتفكير فيه، أطلقت روسيا أكثر من مائة وخمسين طائرة هجومية بدون طيار على مدن أوكرانية. وفي حين يؤكد الرئيس ترامب أنه يحرز تقدما كبيرا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو السلام، زاد الأخير ضرباته منذ تنصيبه.
في يوم الأحد، اجتمع زعماء أوروبيون، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روتي ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو في لندن بدعوة من كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، وتعهدوا بتعزيز الدعم لأوكرانيا ووضع خطة لإنهاء الحرب يمكن أن تحظى بدعم الرئيس ترامب.
يفهم الأوروبيون، على العكس من إدارة ترامب فيما يبدو، أن أوكرانيا تريد اتفاق سلام، ولكنها لا تريد أن تنتهي وقد دمرتها شروط السلام. والهاجس الذي يسيطر على الرئيس بوتين هو أوكرانيا كلها، وليس أقل من ذلك. فليس هاجسه هو حلف شمال الأطلسي أو شريط من الأراضي الأوكرانية. فإذا ما ظلت أوكرانيا مستقلة ومسلحة بحلول نهاية المفاوضات، فلن تكون هذه هي النهاية في نظر الرئيس بوتين. فهو سيكتفي اليوم بقطعة من أوكرانيا فقط ليحصل على الكل في الغد.
ولو كان الأمر يتعلق بحلف شمال الأطلسي، لما قبل الرئيس بوتين في خنوع انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف في عام 2023. فاليوم أصبحت حدود حلف شمال الأطلسي أقرب إلى سانت بطرسبرج من حدود أوكرانيا إلى موسكو.
ولا يتعلق الأمر أيضا بالاحتفاظ بنحو 20% من الأراضي التي تمكنت روسيا من انتزاعها من أوكرانيا حتى الآن في هذه الحرب. فلا يستطيع الرئيس بوتين أن يتقبل وجود أوكرانيا مستقلة، فذلك ما لم يتقبله أيٌّ من أسلافه تقريبا طيلة السنوات الثلاثمائة الماضية. ولأنه في حال نجاح أوكرانيا بوصفها بلدًا ديمقراطيًا غربيًا، فإنها سوف تشكل تهديدًا مباشرًا لقبول الشعب الروسي للنموذج الاستبدادي للرئيس بوتين.
لقد جعل الرئيس ترامب من وقف إطلاق النار في أوكرانيا أمرًا محوريًا للغاية لسياسته الخارجية فلا يمكن أن يفشل. ولا يمكنه أن يفشل في التوصل إلى اتفاق، ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يسمح لأوكرانيا بأن تصبح مثل ما كانت عليه أفغانستان بالنسبة للرئيس بايدن، أي فشلا في السياسة الخارجية يحدد بقية رئاسته. يتوق الرئيس ترامب -الواقع في فخ طموحه الخاص- إلى تحقيق نجاح سريع، ومن هنا سر هجومه الأسبوع الماضي على الرئيس زيلينسكي، الذي يبدو أن إصراره على شروط يمكن لأوكرانيا أن تتعايش معها يقف في طريق ذلك النجاح. والرئيس بوتين يفهم هذا. ولذلك فإنه قد يتنازل عن وقف إطلاق النار للحصول على أقصى قدر من الفوائد المطروحة من الرئيس ترامب، لكنه لن يتنازل بالتخلي عن هدفه الاستراتيجي المتمثل في تدمير أوكرانيا. ودونما ضمانات أمنية، فإن الحرب في مرحلة ما سوف تبدأ من جديد.
لقد كانت أحداث يوم الجمعة بمقام إضفاء الطابع الرسمي على واقع جديد بات واضحا للعيان منذ عدة أسابيع: وهو أن أمريكا ربما لا تزال تسعى إلى قيادة العالم، ولكنه عالم مختلف. وإذا كان هناك أي نزر من الخير المرجو في مشهد الرئيس ترامب ونائبه جيه دي فانس إذ يوبخان الرئيس زيلينسكي في المكتب البيضاوي، فإنما ذلك في موجات الصدمة التي أحدثها المشهد عبر أوروبا. فقد أدرك الزعماء الأوروبيون الذين سمعوا كلمات فانس التوبيخية في ميونيخ في فبراير أنهم لا يستطيعون ببساطة انتظار ترامب مثلما انتظروا خلال ولايته الأولى. وكل من لم يزل لديه شك في ذلك اقتنع تمام الاقتناع بما شوهد من أداء يوم الجمعة.
ولقد اتخذت أوروبا بالفعل خطوات مهمة وتعد ببذل المزيد من الجهود: من القمم، والمكالمات الهاتفية، ومشاريع القرارات بشأن زيادة الإنفاق الدفاعي وإعلانات المساعدة لأوكرانيا وكل ما يجري الآن بوتيرة سريعة. وبقدر ما تحظى به هذه التطورات من ترحيب، فإنها تعجز عن إجابة السؤال الأكثر جوهرية حول مستقبل أوكرانيا وبقية أوروبا، أي: متى؟ متى ستصبح هذه الأفكار قرارات قابلة للتطبيق؟
إن نفوذ الرئيس ترامب على أوكرانيا يتمثل في الأسلحة والمال، وأوكرانيا في احتياج إلى كليهما لدعم كفاحها من أجل البقاء والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. وبوسع أوروبا أن تنتزع هذه الأوراق من يد الرئيس بخطوتين: تقديم اتفاقية بديلة بشأن المعادن الأوكرانية ومصادرة الأصول الروسية المجمدة لاستخدامها في تمويل إنتاج وشراء الأسلحة بما فيها من أصول مجمدة في الولايات المتحدة، إن أرادوا. ولا يستطيع الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا والنرويج، أن يحلوا محل الولايات المتحدة بالكامل في دعم أوكرانيا، ولكن هذه الخطوات البرجماتية من شأنها أن ترفع على الفور دور أوروبا وتمنح أوكرانيا مساحة التنفس التي تحتاج إليها.
في عام 1918، أبرمت روسيا البلشفية معاهدة مع ألمانيا، تعهدت فيها بالاعتراف باستقلال أوكرانيا وسحب قواتها ووقف الدعاية على الأراضي الأوكرانية. وفي الوقت نفسه، وقعت كييف اتفاقية مع ألمانيا لتبادل الموارد الطبيعية الهائلة ـ وكانت عبارة عن الحبوب واللحوم في المقام الأول ـ في مقابل قوات ألمانية برية لحماية استقلالها. وفي غضون عام انهارت الاتفاقية. وخرجت ألمانيا، ودخل الجيش الأحمر الروسي، ولم يعد لدولة أوكرانيا من وجود. واستغرق الأمر مئة وأربعة أعوام بين ذلك الوقت والغزو الروسي في عام 2022 لكي تعترف أوروبا أخيرا بأن أوكرانيا تنتمي إليها من خلال وضعها على مسار عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وموسكو لا تتغير أبدا، لكن أوروبا قد تتغير.
دميترو كوليبا وزير خارجية أوكرانيا من عام 2020 إلى عام 2024. وهو زميل بارز في مركز هارفارد بيلفر.
خدمة نيويورك تايمز