اجندة ما بعد حرب الجنرالين اللعينة: ضرورة فك الارتباط بمصر والتوقيع على إتفاق عنتيبي
تاريخ النشر: 22nd, July 2024 GMT
بقلم: خالد الطاهر
khalidsoltan@gmail.com
ذكرني ما توارد من انباء رشحت عن توقيع دولة جنوب السودان على إتفاق عنتيبي بمقال نشرته فبل اربع سنوات تحت عنوان "مفاوضات سد النهضة: دعوة لفك الارتباط بمصر والتوقيع على اتفاق عنتيبي الاطاري" اقترحت فيه على صناع القرار في الخرطوم خوض مباحثات مباشرة وصولا لتوقيع السودان على هذا الإتفاق .
ولأن القضية قديمة متجددة، فقد ارتأيت إعادة نشر المادة هنا عسى ان تسهم في مقاربة حاذقة لأجندة ما بعد راهننا البئيس وحرب "حمقانا" التي يتوَجَّعَ منها الوطن
(١)
نشرنا قبل مدةٍ سلسلة مقالاتٍ عن قضايا المياه وجوارُ السودانِ الشقيِّ لمصرَ.. إنتقدنا في هذه الكتابات الصفوةَ المصرية و أَخذناها بالشدَّة في تشريحنا لعوارِ تفكيرها وسخفِ تدبيرها..
قلنا إِنَّ الصفوة المصرية - مفكرةً وحاكمة - تبْنِي سلوكها على عقيدةٍ فاسدةٍ فحواها أن مياه النيل "حقٌ خالصٌ لمصر، لا شريكَ لها"، تتصرف فيها كما تشاء: منعاً بلُؤمْ أو منحاً على مضض!!..
على أن مبادرة دول حوض النيل وإتفاقية عنتيبي الإطارية (2010) الناجمةُ عنها، شكَّلتْ إختباراً جدياً لهذه العقيدة الخديويةِ البائدة لأن الإتفاقية إِرتكزت على مفهوم إِستفادة جميع دول الحوض من مياه النيل على قاعدةِ الإستخدام المنصِف والمعقول، فيما أضفى مشروع سد النهضة الأثيوبي بعداً عملياً لهذا التحدي..
(٢)
المفاوضات الحالية بين السودان، إثيوبيا ومصر برعاية الإِتحاد الأفريقي تحاولُ تخَطِّي النقاط الخلافية في إِتفاق واشنطن الذي تقاسم إِعداد مسودته البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية، هذه النقاط متعلقة بملءِ بحيرة سد النهضة وقواعدِ تشغيله ومن ثَمَّ التأطير القانوني لكلِ ذلك...
من المعلوم بالضرورة إنَّ السد الرئيسي والسروجي (رديفه المساعد) مصممٌ لتسعَ بحيرته تخزين 74 كلم³ (74 مليار متر³) من المياه منها 14 كلم³ تخزينٌ ميِّت .. إِقترحت لجنة الخبراء من الدول الثلاثة في العام الماضي أن يتم ملء البحيرة على عدةِ مراحل بحيث تخزن 4,9 كلم³ بين يوليو واكتوبر 2020، تليها 13.5كلم³ في باقي السنة (على أساس المقترح الأثيوبي بتمرير 30 كلم³ من مجمل إيراد النيل الأزرق البالغ في المتوسط 48 كلم³) إلا أن المفاوضات اللاحقة فيما يبدو قد أسفرت عن تبني مقترح السودان القاضي بتمرير 37 كلم³ سنوياً...
المُعضِلةُ هنا إن مصر تتعنت بربطِ التخزين في بحيرة سد النهضة بمستوى المياه في بحيرة ناصر وتتمسك بأن لا يقل منسوب الأخيرة، حتى في سنوات الإيراد الشحيح، عن 148 متراً لكي تضمن استمرار توليد الكهرباء من السد العالي.
لا أَدرى ما إذا كان المفاوض السوداني قد فكَّ الإرتِباطْ مع الموقف المصري في نقطة مستوى المياه في بحيرة ناصر التي لا تهمنا في شيء، لكن ما يعنيني هنا أن أُنبِّهَ سكان منطقة وادي حلفا للتحسب ـ لِحُسنِ الحظ ـ لزراعة حوالي 140 ألف فدان من إلاراضي عاليةِ الخصوبة ستنحسر عنها مياه بحيرة النوبة داخل الحدود السودانية ربما تُعوِّضُ بعضاً مما تكبده أهلنا النوبيون من خسائرَ جسيمة بسبب إتفاقية مياه النيل عام 1959 ..
(٣)
والحديث عن اتفاقية 1959 ذو شجونْ، إذ أنَّ مصر كانت قد وظفت - إبان المباحثات - كل ألاعيبها الاستخباراتية من تجنيد العملاء، التجسس على وفد التفاوض السوداني وإِبتزاز أَعضائه لتظفرَ من جنرالات عبود بمعاهدةٍ مجحفة لَبَّتْ كل أطماعها على حساب حقوق السودان المائية بالإستِحواذ على 65.5 كلم³ كنصيبِ سنويٍ من المياه مقابل 18.5 كلم³ فقط للسودان !!! (يخطئ الكثيرون في حساب الأنصبة بتجاهل 10 كلم³ فاقد التبخر من بحيرة ناصر الذي تُحمِّل الإتفاقية السودان نصفه في حينِ وجوب إضافتِهِ لحصة مصر)....
وقعتُ قبل مدَّة على كتابٍ لرجلِ المخابرات المصري عبد الفتاح ابو الفضل عنونه ب"كنت نائباً لمدير المخابرات".. كتب الرجل بأنه حلَّ في الخرطوم مقيماً فيها تحت ستارعمله كمراسلٍ صحفي لجريدة الجمهورية القاهرية في سنة 1955... فَصَّلَ هذا الأبو الفضل في ص 141 من كتابه كيف إنه قد تمكن من تجنيد أحدِ الخوَنة - وهو سودانيٌ للأَسفْ - يعملُ موظفاً في وزارة الري وتمكَّنَ المدعو أبو الفضل عن طريقه من الحصول، أولاً بأول، على التقارير السرية والمُوجِّهات المرسلة إلى وفد السودان الذي كان يفاوض في القاهرة على إِتفاقية مياه النيل (إقتباس: .. كانت هذه التقارير ذات السِرِّية العالية تصلني في وقتٍ مناسب جداً وكان يتم تصويرها وإعادة المستندات الأصلية. وبالإتفاق مع رجال شركة مصر للطيران كانت صور هذه الوثائق المهمة ترسل أولاً بأول لتكون في متناول يد المفاوض المصري قبل إجتماعات التفاوض..)، فتأمل!!!!..
لا يُجدِي التحسُّر، فلن نستطيع إرجاعَ عقارب الساعة، لكنَّ الوعي المُتنامي والإحساس بالضَيْم والخديعة دفعَ أغلب السودانيين في وقتنا الراهن للتنادي بالإنسحابِ من هذه الإتفاقية المشؤومة.. غير أنني كمهتمٍ بالعلاقات الدولية والأمن لا أري مخرجاً مُوفَّقاً سِوى فكِّ الإرتباط مع الموقف المصري إزاء مبادرة دول حوض النيل..
(٤)
يُعضِّد رؤيتي المُتواضِعة بضرورة أن ينأى السودان بنفسِه عن التقديرات المصرية وأنْ يخطو نحو التوقيع على إتفاق عنتيبي هو ما رشحَ من اخبارٍ حول مداولات القمة الإفريقية المصغرة التي إنعقدت بالأمس (21 يوليو) برعاية الإتحاد الافريقي وبمشاركة حمدوك، السيسي وآبي احمد... ما تسرّبَ من أخبار يشي بأن الأولوية الآن هي إبرامُ إتفاقٍ حول سد النهضة على أن يتم لاحقاً بلورةُ إتفاقٍ شاملٍ بخصوص إستخدام مياه النيل كَكُلْ تُشارِكَ فيه كل دول الحوض الأحدى عشر .. فإن نبادر الآن خيرٌ من أن نتأخر فنحصُل على القليل ...
توقيعُ السودانِ على إتفاق عنتيبي الإطاري سيجعلهُ تلقائياً في حِلٍّ من إتفاقية تقسيم مياه النيل مع مصر (1959)، إذ أن القانون الدولي يعتمدُ مبدأ أن " المعاهدةُ اللاحقة تَجُبُّ السابقة".. حتى بإِفتراضِ إنَّ مصر ستواصل إعتراضها عليه، فإن إتفاق عنتيبي (2010) سيدخل حيِّزْ التنفيذ الجماعي بمجرد توقيع السودان ومصادقته عليه مما يعطيه زخماً ويُجرِّدُ مصرَ من إِستقوائها بالسودان ويجعلُ إِمتناعها منفردةً بلا قيمة.. جدير بالذكر إن الدول الموقعة حتى الآن هي إثيوبيا ودول حوض النيل الجنوبي (تنزانيا، يوغندا، رواندا وكينيا) التي رأت محقةً في الإتفاق الإطاري مسوقاً للتحلل من إتفاقية 1929 الإستعمارية...
في حُكمِ المؤكَّدْ أن السودان، في ظلِّ مبدأ عنتيبي "الإستخدام المنصف والمعقول"، سيحصُلُ على حصةٍ أكبر من المياه نظراً لأراضيه الزراعية الشاسعة وفرصِهِ المستحقة في أن يصبح من أعظم منتجي الغذاء عالمياً خاصَّةً وإنَّهُ يمتلِكُ مزايا نسبيَّة وكفاءةً عاليةً في إستخدامِ المياه، بالمقارنةً مع بقية دولِ حوض النيل..
(٥)
المطلوب من مصر أن تتحلى بالواقعية، فَقدَرُها أن تكونَ بلاداً صحراويةً شحيحةِ المياه.. كما إنها من ناحيةٍ ثانية مسؤولةٌ بنفسها عما تُكَابِدهُ من إِنفجارٍسكاني، لذا فليس من المنطقي أن تُحمِّلَ شركائها من دول حوض النيل عبءَ هاتين المُعضلتين وأن تطالب هذه الدول بتوفير نسبةٍ غير معقولةٍ من المياه تُهدرها في زراعةِ الأرز وقصب السُّكر وشبكاتِ الرَّي المتهالكة ..
الظاهرة العجيبةُ التي تشدُّ إنتباهَ كُلَّ متابعي الشؤون المصرية هي حقيقةَ إن لإعلامِ هذه الدولةُ كلفٌ غريب ب"نظرية المؤامرة"، وإعتقادُ المصريين الراسخ بإن كل دول العالم مشغولةٌ ليلَ نهار بحياكة "الدسائس لتعطيشهم" كما لو أنّ صُراخ قنوات يوتيوب بمُستطاعِهِ إختلاقُ " حقوقٍ تاريخيَّةٍ " مُدَّعاة!!!.. وما كتبنا ما سلف عن أهمية المصادقة على اتفاقية عنتيبي لأننا " نكرهُ" مصرَ و" نحقدُ عليها"، بل نحن ببساطة ندافعُ عن المصالحِ القومية العليا للسودان، رغم أن مشاعر الغضب لدى كل السودانيين أكثر من مبررة بحكمِ إنَّ مصر تواصلُ إحتلالها الغاشم لمثلث حلايب ونتوء وادي حلفا وترفضُ حتى مجرد التحكيم ـ الذي للمفارقة ـ هو غايةُ سعيها وما تتمنَى في نزاع سد النهضة!..
وعلى ذكرِ الإحتلال، فإن من مصلحة النخبِ الحاكمة في ألقاهرة أن تطوي هذا الملف بأعجل ما يتيسر إن كانت حصيفة، وتعيد ما إغتصبته من أراضٍ سودانية.. حينها فقط، ربما تكسب موافقةَ الخرطومِ على التفاوض حول مشروع ربط نهر الكونغو بالنيل الذي تأمل القاهرة بأن تحصل من خلاله على 90 كلم³ سنوياً من مياه جمهورية الكونغو الديمقراطية..
لنا عودة..
خالد الطاهر
khalidsoltan@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: دول حوض النیل میاه النیل من المیاه سد النهضة
إقرأ أيضاً:
المفتي: الإسراف في استهلاك المياه يعد خروجًا على تعاليم الإسلام
أكد فضيلة الأستاذ نظير عياد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أن الإسلام سبق كل النُّظُم الحديثة في الاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها، حيث وضع منهجًا متكاملًا لحمايتها من الفساد والتدمير، انطلاقًا من مبدأ الاستخلاف الذي جعله الله للإنسان في الأرض، وجعله مسؤولًا عن إعمارها وعدم الإضرار بها.
وقال الدكتور نظير عياد، خلال لقائه مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج 'اسأل المفتي' على قناة صدى البلد، إن الاعتداء على البيئة هو خروج على القانون الإلهي، وظلم للأجيال القادمة، وتناقض مع مبدأ التعمير الذي أمر به الإسلام، والذي يعد أحد الأسس الكبرى في المنظومة الإسلامية.
وأوضح أن مسئولية الإنسان تجاه البيئة نابعة من كونه خليفة لله في الأرض، وهذه الخلافة تقتضي الأمانة وحسن التعامل مع الكون بما فيه من نباتات وحيوانات ومياه وأراضٍ، مشيرًا إلى أن الله تعالى أوضح في كتابه الكريم ضرورة الحفاظ على البيئة، فقال: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، كما قال عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وأشار إلى أن هذا المنهج يعكس رؤية الإسلام القائمة على الاعتدال والتوازن في استخدام الموارد الطبيعية، دون استنزافها أو إفسادها، وهو ما يتجلى في توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: 'لا تسرف ولو كنت على نهر جارٍ'.
وأكد أن هذا الحديث يعكس حرص الإسلام على ترشيد استهلاك الموارد وعدم الإسراف في استخدامها، حتى في الأمور المشروعة مثل الوضوء، إذ يعد الإسراف في استهلاك المياه والموارد الطبيعية خروجًا على تعاليم الإسلام، لأنه يؤدي إلى إهدار النعمة وعدم شكرها، والله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].