الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي يكتب لـ “أثير”: الفراشة دمعة، الرصاصة قُبلة! (إلى محمود درويش)
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
الساحر المدهش الوسيم في فرحه وفي حزنه، في جهره وفي سرَّه، القادر على تحويل الدمعة إلى فراشة، والرصاصة إلى قُبلة. الطالع من جوف اللهب، لهب الأرض ولهب القلب، المزيج النادر بين الواحد والمتعدد، بين الفردي والجماعي، بين النضالي والجمالي، بين الواقعي والمستحيل، بين اليومي والأسطورة، الشاعر والمقاوم الذي اتسعت جبهة قتاله حتى أمست حربًا لا هوادة فيها، ليس فقط ضد الاحتلال البغيض للأرض، بل ضد اختلال الروح والوجدان، وضد كل من وما يقلل من إنسانية الإنسان.
هكذا أفهم محمود درويش مدافعًا رائعًا عن جوهر الحياة، ومناضلًا صارخًا في برّية العالم، يُحارب الصخب بالسَّكينة، والقبح بزهر اللوز، يرتقي بالحبر إلى مصاف الدم ولا يهبط بالدم إلى مصاف الحبر، يصعد بالشعر إلى مصاف النبوة، وهذا ليس بكثير على فلسطين. فلسطين التي لا يليق بها إلَّا ثلاثة: الأنبياء والشعراء والشهداء…
ما ورد أعلاه كان تقديمي لمحمود درويش في آخر حوار تلفزيوني له يوم حلّ ضيفًا للمرة الثانية على برنامج “خليك بالبيت”، تواعدنا بعدها على حوار ثالث نجريه بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية التي سافر إليها في رحلة علاج كانت الأخيرة للأسف، وعاد منها محمولًا على الأكفّ والزغاريد، وعِوضًا عن الجلوس قبالته مجددًا على كرسي الحوار مشيت دامعًا خلف نعشه المكلل بعلم فلسطين.
الحوار مع درويش دائمًا يحمل قيمة مضافة، ويقترح جديدًا، ويفتح في مخيال سامعه آفاقًا شاسعة نظرًا لسعة إطلاعه وغزارة أفكاره ونصوصه الشعرية والنثرية. ولا غرابة حين القول أنني ما زلت أحاور درويش حتى بعد وفاته يوم 9 أغسطس من العام 2008 إثر عملية جراحية في القلب تلتها مضاعفات مميتة. أحاوره في المساحة التي يسكنها قلبًا وذاكرةً ووجدانًا، وأحاوره في القصيدة المُلهِمة التي كلما قرأتها في كتاب من كتبه وَلّدت أفكارًا ورؤى، وفتحت نوافذ مطلة على فسحات من الجمال الذي رفع المأساة الفلسطينية إلى مصاف لا يقوى عليه غير الشعراء، مستنبِطًا أبعادها الإنسانية العميقة والنبيلة بجمالية عالية ومجاز لا يتقنه سوى الكبار من الشعراء.
ما يميز محمود درويش أنه كان دائم الاشتغال على قصيدته، لم يكتفِ بذخيرة الموهبة الاستثنائية ولا بوهج النجاح المتكئ على القضية، ولا بالركون إلى المساحة التي أراده الجمهور أن يبقى فيها، أي تلك التي تكتفي بتأجيج المشاعر الجماعية وإلهاب الحماسة والأكفّ المصفقة.
اشتغل محمود درويش على تجربته وطوّرها ونقلها من مرتبة إلى أخرى بالقراءة والمراس اليومي، وبكل الندوب التي خلّفتها السنون والجراح. لم يأنس للبقاء في خانة واحدة حتى لو وفّرت له الجماهيرية الواسعة وحشد المريدين، لأنه شاء الذهاب عميقًا بالشِّعر إلى جوهره الخالص المصفّى القادر على مخاطبة الإنسان أينما كان، وبهذا المعنى استطاع إيصال قضية شعبه إلى شرائح واسعة على امتداد المعمورة، بعيدًا من الخطابية المباشرة والمُستهلَكة.
كتب محمود درويش قصيدة الوطن بحب عميق، وكتب قصيدة الحب بعمق وطني. دائماً كانت الأرض لديه صنو المرأة، كلاهما جدير بالحب والحياة، وكلاهما يستحق الحرية الخلّاقة. لذا كان من البديهي أن تبقى فلسطين عنده سيدة البدايات وسيدة النهايات، وكأي فلسطيني متمَّسك بأرضه وحقه فيها ظلّ يستحق الحب والحياة ومبشرًا بهما، لكنه في الوقت نفسه مضى نحو المدى الإنساني الشاسع عابرًا الحدود والحواجز صارخًا: كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر.
لعل قصيدة جدارية التي كتبها محمود كخلاصة لتجربته مع جراحة القلب واللحظات العصيبة التي عاشها مرتين في المستشفى قبل أن تكون الثالثة المميتة، هي من أعمق وأجمل ما كتب درويش موظفًا فيها موهبته العالية وثقافته الواسعة ومعرفته العميقة بالموروث الأسطوري والديني والثقافي منذ جلجامش حتى يومنا هذا، مقدمًا نصًا زاخرًا بالرموز والدلالات والمعاني.
كتبت قبل نحو عشرين عامًا نصًا مُهدَى إلى درويش ومن خلاله إلى الإنسان الفلسطيني المكافح لأجل حقه البديهي في الحرية والاستقلال عنونته بـ”تليق بكَ الحياة”، حاولت القول عبره أننا لا ننحاز للإنسان الفلسطيني فقط كشهيد أو أسير أو ضحية للعسف الإسرائيلي، بل ننحاز له أيضًا كإنسان له الحق في الحياة أسوة بكل شعوب الأرض، ولأن درويش يبقى حيًا في قصيدته، وفي القلب والذاكرة والوجدان، ما زلت أقول له، ومن خلاله لكل فلسطيني متمسك بحقه في الحرية والعدالة والاستقلال”تليق بكَ الحياة”:
لا تعتذرْ عمّا فعلتَ
قُمْ في صيحةِ الديكِ، في صوتِ المؤذن
تَبَسَّمْ واكتبْ قصيدتَكَ.
في الصباحِ لكَ أن ترشقَ الجنديَّ بحجر
أن تقطفَ وردةً لِعاشقةِ الورد
أن تجدَ وقتًا لأشيائكَ الخاصة
أن تنتقي قميصًا ربيعيَّ المزاج
أن ترفع صوت الموسيقى عاليًا
أن تُخفِّفَ قليلًا وطأةَ هذا الاحتلال.
لك أن تفعل ما تشاء
صَدِّقْني يليقُ بكَ الصيفُ
مثلما يليقُ بكَ الشتاء.
إذًا،
لك أن تقاتل
ولكِ أن تغنّي
أن تُطلِقَ غزالةً من أسر الخيال
أن ترجع فتى مفتولَ الساعدِ والأحلام
أن تتغاوى بِشَيْبِ التجاربِ والمِحن.
لك أن تفعل ما يحلو لك،
لك أن ترى في مدينتي ما تريد
ولي أن أجعل قصائدك خبزَ الفقراء،
ليس الحزنُ ما يَجعلُكَ استثنائيًا
ولا الموتُ المُتَرَبِّصُ بكَ عند ناصيةِ الأيام،
حُبُّكَ للحياةِ جديرٌ بالحياة
وأخطاؤك الصغيرة لا تستحق الاعتذار
إذًا،
لا تعتذِرْ عَمَّا فعلتَ
وامشِ كما تشاء،
مُعتدِلَ القامةِ أو سنبلةً ملأى
ناحلًا، مائلًا، أخضرَ الابتسامات
ابتسمْ لِتُغِيظَ الجندي المُكْفَهِرَّ خلفَ بندقيته.
غَنِّ،
غناؤكَ يُعَكِّرُ مزاجَ الجنرال
غَنِّ،
ليس الحزنُ ما يجعلكَ استثنائيًا
بل دفاعُكَ الرائعُ عن معنى الحياة.
———
توفي محمود درويش في التاسع من شهر أغسطس في العام 2008.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: محمود درویش
إقرأ أيضاً:
“المملكة” و”لبنان” تؤكدان أهمية تعزيز العمل العربي وتنسيق المواقف
البلاد : متابعات
أكدت المملكة العربية السعودية ولبنان أهمية تعزيز العمل العربي وتنسيق المواقف تجاه القضايا المهمة على الساحتين الإقليمية والدولية.
كما أكدا أهمية التطبيق الكامل لاتفاق الطائف، وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، وبسط الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، والتأكيد على الدور الوطني للجيش اللبناني، وأهمية دعمه، وضرورة انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من كافة الأراضي اللبنانية.
جاء ذلك في البيان المشترك الذي صدر في ختام زيارة الرئيس اللبناني جوزيف عون للمملكة.
واتفق الجانبان على البدء بدراسة المعوقات التي تواجه استئناف التصدير من لبنان إلى المملكة، والإجراءات اللازمة للسماح للمواطنين السعوديين بالسفر إلى لبنان.
وأكد الجانبان أهمية تطبيق ما جاء في خطاب القسم الرئاسي الذي ألقاه الرئيس اللبناني جوزيف عون بعد انتخابه وأعلن فيه رؤيته للبنان واستقراره، ومضامين البيان الوزاري.
واتفق الجانبان على ضرورة تعافي الاقتصاد اللبناني وتجاوزه لأزمته الحالية، والبدء في الإصلاحات المطلوبة دوليًا وفق مبادئ الشفافية وتطبيق القوانين الملزمة.
وقد وجه الرئيس اللبناني، دعوة للأمير محمد بن سلمان، لزيارة بلده الثاني لبنان، من جانبه أعرب ولي العهد عن تقديره لهذه الدعوة والترحيب بها.