أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي

الساحر المدهش الوسيم في فرحه وفي حزنه، في جهره وفي سرَّه، القادر على تحويل الدمعة إلى فراشة، والرصاصة إلى قُبلة. الطالع من جوف اللهب، لهب الأرض ولهب القلب، المزيج النادر بين الواحد والمتعدد، بين الفردي والجماعي، بين النضالي والجمالي، بين الواقعي والمستحيل، بين اليومي والأسطورة، الشاعر والمقاوم الذي اتسعت جبهة قتاله حتى أمست حربًا لا هوادة فيها، ليس فقط ضد الاحتلال البغيض للأرض، بل ضد اختلال الروح والوجدان، وضد كل من وما يقلل من إنسانية الإنسان.

هكذا أفهم محمود درويش مدافعًا رائعًا عن جوهر الحياة، ومناضلًا صارخًا في برّية العالم، يُحارب الصخب بالسَّكينة، والقبح بزهر اللوز، يرتقي بالحبر إلى مصاف الدم ولا يهبط بالدم إلى مصاف الحبر، يصعد بالشعر إلى مصاف النبوة، وهذا ليس بكثير على فلسطين. فلسطين التي لا يليق بها إلَّا ثلاثة: الأنبياء والشعراء والشهداء…

ما ورد أعلاه كان تقديمي لمحمود درويش في آخر حوار تلفزيوني له يوم حلّ ضيفًا للمرة الثانية على برنامج “خليك بالبيت”، تواعدنا بعدها على حوار ثالث نجريه بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية التي سافر إليها في رحلة علاج كانت الأخيرة للأسف، وعاد منها محمولًا على الأكفّ والزغاريد، وعِوضًا عن الجلوس قبالته مجددًا على كرسي الحوار مشيت دامعًا خلف نعشه المكلل بعلم فلسطين.

الحوار مع درويش دائمًا يحمل قيمة مضافة، ويقترح جديدًا، ويفتح في مخيال سامعه آفاقًا شاسعة نظرًا لسعة إطلاعه وغزارة أفكاره ونصوصه الشعرية والنثرية. ولا غرابة حين القول أنني ما زلت أحاور درويش حتى بعد وفاته يوم 9 أغسطس من العام 2008 إثر عملية جراحية في القلب تلتها مضاعفات مميتة. أحاوره في المساحة التي يسكنها قلبًا وذاكرةً ووجدانًا، وأحاوره في القصيدة المُلهِمة التي كلما قرأتها في كتاب من كتبه وَلّدت أفكارًا ورؤى، وفتحت نوافذ مطلة على فسحات من الجمال الذي رفع المأساة الفلسطينية إلى مصاف لا يقوى عليه غير الشعراء، مستنبِطًا أبعادها الإنسانية العميقة والنبيلة بجمالية عالية ومجاز لا يتقنه سوى الكبار من الشعراء.

ما يميز محمود درويش أنه كان دائم الاشتغال على قصيدته، لم يكتفِ بذخيرة الموهبة الاستثنائية ولا بوهج النجاح المتكئ على القضية، ولا بالركون إلى المساحة التي أراده الجمهور أن يبقى فيها، أي تلك التي تكتفي بتأجيج المشاعر الجماعية وإلهاب الحماسة والأكفّ المصفقة.

اشتغل محمود درويش على تجربته وطوّرها ونقلها من مرتبة إلى أخرى بالقراءة والمراس اليومي، وبكل الندوب التي خلّفتها السنون والجراح. لم يأنس للبقاء في خانة واحدة حتى لو وفّرت له الجماهيرية الواسعة وحشد المريدين، لأنه شاء الذهاب عميقًا بالشِّعر إلى جوهره الخالص المصفّى القادر على مخاطبة الإنسان أينما كان، وبهذا المعنى استطاع إيصال قضية شعبه إلى شرائح واسعة على امتداد المعمورة، بعيدًا من الخطابية المباشرة والمُستهلَكة.

كتب محمود درويش قصيدة الوطن بحب عميق، وكتب قصيدة الحب بعمق وطني. دائماً كانت الأرض لديه صنو المرأة، كلاهما جدير بالحب والحياة، وكلاهما يستحق الحرية الخلّاقة. لذا كان من البديهي أن تبقى فلسطين عنده سيدة البدايات وسيدة النهايات، وكأي فلسطيني متمَّسك بأرضه وحقه فيها ظلّ يستحق الحب والحياة ومبشرًا بهما، لكنه في الوقت نفسه مضى نحو المدى الإنساني الشاسع عابرًا الحدود والحواجز صارخًا: كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر.

لعل قصيدة جدارية التي كتبها محمود كخلاصة لتجربته مع جراحة القلب واللحظات العصيبة التي عاشها مرتين في المستشفى قبل أن تكون الثالثة المميتة، هي من أعمق وأجمل ما كتب درويش موظفًا فيها موهبته العالية وثقافته الواسعة ومعرفته العميقة بالموروث الأسطوري والديني والثقافي منذ جلجامش حتى يومنا هذا، مقدمًا نصًا زاخرًا بالرموز والدلالات والمعاني.

كتبت قبل نحو عشرين عامًا نصًا مُهدَى إلى درويش ومن خلاله إلى الإنسان الفلسطيني المكافح لأجل حقه البديهي في الحرية والاستقلال عنونته بـ”تليق بكَ الحياة”، حاولت القول عبره أننا لا ننحاز للإنسان الفلسطيني فقط كشهيد أو أسير أو ضحية للعسف الإسرائيلي، بل ننحاز له أيضًا كإنسان له الحق في الحياة أسوة بكل شعوب الأرض، ولأن درويش يبقى حيًا في قصيدته، وفي القلب والذاكرة والوجدان، ما زلت أقول له، ومن خلاله لكل فلسطيني متمسك بحقه في الحرية والعدالة والاستقلال”تليق بكَ الحياة”:

لا تعتذرْ عمّا فعلتَ
قُمْ في صيحةِ الديكِ، في صوتِ المؤذن
تَبَسَّمْ واكتبْ قصيدتَكَ.
في الصباحِ لكَ أن ترشقَ الجنديَّ بحجر
أن تقطفَ وردةً لِعاشقةِ الورد
أن تجدَ وقتًا لأشيائكَ الخاصة
أن تنتقي قميصًا ربيعيَّ المزاج
أن ترفع صوت الموسيقى عاليًا
أن تُخفِّفَ قليلًا وطأةَ هذا الاحتلال.
لك أن تفعل ما تشاء
صَدِّقْني يليقُ بكَ الصيفُ
مثلما يليقُ بكَ الشتاء.
إذًا،
لك أن تقاتل
ولكِ أن تغنّي
أن تُطلِقَ غزالةً من أسر الخيال
أن ترجع فتى مفتولَ الساعدِ والأحلام
أن تتغاوى بِشَيْبِ التجاربِ والمِحن.
لك أن تفعل ما يحلو لك،
لك أن ترى في مدينتي ما تريد
ولي أن أجعل قصائدك خبزَ الفقراء،
ليس الحزنُ ما يَجعلُكَ استثنائيًا
ولا الموتُ المُتَرَبِّصُ بكَ عند ناصيةِ الأيام،
حُبُّكَ للحياةِ جديرٌ بالحياة
وأخطاؤك الصغيرة لا تستحق الاعتذار
إذًا،
لا تعتذِرْ عَمَّا فعلتَ
وامشِ كما تشاء،
مُعتدِلَ القامةِ أو سنبلةً ملأى
ناحلًا، مائلًا، أخضرَ الابتسامات
ابتسمْ لِتُغِيظَ الجندي المُكْفَهِرَّ خلفَ بندقيته.
غَنِّ،
غناؤكَ يُعَكِّرُ مزاجَ الجنرال
غَنِّ،
ليس الحزنُ ما يجعلكَ استثنائيًا
بل دفاعُكَ الرائعُ عن معنى الحياة.
———
توفي محمود درويش في التاسع من شهر أغسطس في العام 2008.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: محمود درویش

إقرأ أيضاً:

جنوب إفريقيا تؤكد تصميمها على متابعة قضية “الإبادة الجماعية” التي رفعتها ضد “إسرائيل”

الثورة نت/..

أعلن رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامابوزا اليوم السبت، أن بلاده مصممة على متابعة قضية “الإبادة الجماعية” التي رفعتها ضد كيان العدو الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية.. كاشفة عن عزمها تقديم المزيد من الأدلة الشهر المقبل.

ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن رامابوزا قوله: نحن عنيدون ونواصل العمل حتى تتوقف جرائم الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار.

وكشف عن استعداد بلاده لتقديم مجلد ضخم من مئات ومئات الصفحات حول الحقائق والأدلة إلى محكمة العدل التابعة للأمم المتحدة الشهر المقبل لدعم القضية.

وكانت جنوب إفريقيا رفعت القضية في ديسمبر الماضي.. مؤكدة أن العدوان الصهيوني المتواصل على قطاع غزة ينتهك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الموقعة في عام 1948.

وكانت محكمة العدل الدولية أعلنت أمس، عن تلقيها طلبا من تشيلي للانضمام إلى قضية جرائم الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد كيان العدو الصهيوني على خلفية عدوانه المتواصل على قطاع غزة، كما انضمت في وقت سابق العديد من الدول، بينها كولومبيا وليبيا والمكسيك وإسبانيا وإيرلندا وبلجيكا.

مقالات مشابهة

  • القوات المسلحة تكشف عن مواصفات صاروخ “فلسطين 2” الفرط صوتي
  • محمد محمود ينضم لفريق عمل فيلم “المستريحة” مع ليلى علوي وبيومي فؤاد
  • مجموعة “ويلو” تدعم الممارسات المبتكرة لإدارة المياه خلال فعاليات المنتدى العربي للمياه 2024
  • العراق يستورد معدات كهربائية من الجزائر لحل “أزمة الطاقة التي لا تنتهي”
  • “الزوي” يبحث بالتحديات التي تواجه الحرس البلدي في بنغازي
  • طبيب سوداني يروي قصة مبادرة “إيواء وغذاء” التي تدعم الآلاف
  • أشرف غريب يكتب: أعظم ما في تجربة سيد درويش
  • جنوب إفريقيا تؤكد تصميمها على متابعة قضية “الإبادة الجماعية” التي رفعتها ضد “إسرائيل”
  • “الأم والأقارب قـتـلـوهـا” مفاجأة صادمة في القضية التي شغلت تركيا .. صورة
  • أفريكا انتليجنس: “بن قدارة” ينأى بنفسه عن الأزمة التي تشهدها ليبيا حاليًا