لجريدة عمان:
2024-11-08@03:00:06 GMT

التكنوقراط.. «صناعة» تجسير بين شعبوية ونخبوية

تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT

هل الشعبوية مصطلح أو مفهوم؟ فإن كانت مصطلحا فهو سيخضع للتعريف العلمي، والتعريف العلمي له استحقاقاته من حيث إخضاع المصطلح في حاضنة المختبر، ومتى أخضع للمختبر، فإن من ضمن هذه الاستحقاقات ألّا ينظر إلى الشعبوية على أن تأثير فعلها لا يستحق أن ينظر إليه بكثير من الاهتمام والرعاية والتأثير، أو على أنه فعل غوغائي لا يمت إلى الحكمة والتعقل في شيء، وبالتالي فبقاء الأمر على حاله.

. وإن كان ينظر إلى الشعبوية كمفهوم فإنه بذلك يكون أقل وزنا في التأثير في الحكم، وبالتالي فلماذا إذن ينظر إليه بكثير من القلق؟ ولماذا تستشعر النخب بشيء من القلق كلما تبنت الشعبوية ملفا حياتيا وأثارته للنقاش؟ ثم أليست النخب منشأوها الأول هي الحاضنة الشعبية، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يعطيها هذا الاستعلاء لتجاوز نشأتها الأولى، فتصنف نفسها بهذا التصنيف (شعبوية/ نخبوية)؟ ومن هنا - كما يبدو لي - تتجلى الحقيقة التالية: فعندما يقابل «الشعبوية» كأداة للفعل، مع «النخبوية» كتقييم لهذا الفعل، فإن المسألة تأخذ بعدا آخر في الفهم، ويتم احتساب التكلفة الإجمالية للنتائج، ومن ثم تكال التهم على أن الشعبوية لو كانت بمستوى التفكير الذي عليه النخبوية، لكانت النتائج مختلفة جدا، وهذا حسب ذات التقدير، هو تسطيح للمفاهيم، وتناقض صريح للحقائق، وإذا كان في زمن ما نظر إلى بعض فئات المجتمع على أنها نخب، فإن ذلك لن يخرج عن تأثير القوة المادية التي تُخَوِّلْ بما يسمون بـ «النخب» في التأثير على العامة من الناس، من حيث استمالتهم لتنفيذ ما يودون تنفيذه، والدليل على هذا التقييم، لو أن هذا أو ذاك ممن يصنفوا بالنخب فقد أمواله، بسبب ما، فإن يعود من حيث أتى إلى حاضنته الشعبوية، ولأقسمت الحاضنة النخبوية بالإيمان المغلظة أن هذا الفرد لم يعد يمثلهم، ولا يستبعد أن يقال: «من هذا؟ نحن لا نعرفه ولم نكن نعرفه على اتساع رقعة المساحة التي نتحرك فيها؟» وهكذا يقيم على أنه «نكرة» فقط لأنه فقد أداة من أدوات التأثير «المال» وما ينطبق على المال ينطبق على المستويات الإدارية، ولذلك نسمع اليوم أكثر من ذي قبل الشكوى تلوى الشكوى، ولو بصورة خجولة من الذين تنحوا عن العمل الإداري وكانوا ذوي مناصب عليا، إنهم «فجأة» فقدوا أصدقائهم ومن كانوا يحيطونهم بالعناية والرعاية، وأصبحوا وحيدين لا يسأل عنهم أحد أبدا، إلا أولئك الذين نشأوا بينهم قبل عمر من الزمان عندما كانوا سويا تحتويهم سكك القرية وحقولها البسيطة الآمنة.

وتجذيرا لذات القناعة فإنه ينظر إلى الشعبوية على أنها مفهوم أكثر من أنه مصطلح، ولذلك يسطح في استيعابه، ولا ينزل المنزلة المباركة لا من حيث قبوله كفعل مؤثر، ولا من حيث الترحيب به لكونه منبثق من الحاضنة الاجتماعية، هذه الحاضنة التي تستوعب الكم الهائل من التقسيمات التي يُفَصِّلُها أبناء المجتمع حسب اعتبارات تقليدية، وظرفية، كثيرة، بعكس النخبوية التي يفسح لها المجال في كلا الأمرين: كمصطلح وكمفهوم يعود ذلك - حسب فهمي- أن الذاكرة الاجتماعية تسترجع أهمية الوجاهة الاجتماعية، وهي صورة تحمل الكثير من الدلالات التي استوعبتها هذه الذاكرة وإن لم تستحضرها كمصطلح «النخبوية» الذي يروج له اليوم كمصطلح حديث، وحسب الفهم التقليدي فـ«الهنقري» يحمل ذات المفهوم، ويقوم بنفس الممارسات كما هو الحال اليوم من حيث كلمة الفصل في جل ما يقوم به الأفراد برضى أو بغير رضى، لذلك كان هناك من يخشى بطش الغني «الهنقري» ويتحاشى ردة فعله، في وقت كان المجتمع بسيطا وتقليديا حتى النخاع، إلى درجة أن لو كان الغني يتصدر المجلس ودخل أحد الأفراد فإنه يتوجه مباشرة إلى صدر المجلس ويسلم عليه، ومن ثم يتوجه للسلام على بقية الحضور، وحتى لو أن فلانا من الناس - غريبا - دخل المجلس فإن هناك من يوجهه للذهاب إلى السلام أولا إلى فلان الذي يشار إليه، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، والسؤال: هل تغير الوضع اليوم؟ والجواب: هناك تغير خفيف في ظاهر الأمر، أما في بواطنه فلا يزال اللهب مشتعلا عبر ممارسات كثيرة، حيث لا يزال: «غض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا».

في مرحلة ما من مراحل عمر المجتمع وهذا يحدث باستمرار يكون للشعبوية صوتها المؤثر، وإن نظر إلى فعلها بشي من التسطيح أو التبسيط، لأن الشعبوية تشكل قاعدة هرم المجتمع، ولننظر إلى فترات الانتخابات التشريعية في العصر الحديث وكيف تمثل هذه الفئة أهمية كبرى في توجيه

دفة مسار النتائج النهائية، ولننظر كذلك إلى توجس النخبوية من المكر الذي قد توقعها فيها الشعبوية، والأهمية التي تشكلها الشعبوية في فترة الانتخابات، وتنازل النخبوية عن نرجسيتها استبشارا بفعل الشعبوية في حسم النتائج، لإدراك -أي النخبوية - أن أية تلاعب بالشعبوية كمن يغامر باللعب بالنار، ومع ذلك فإن جل الناخبين في بداية الأمر يتساءلون: من هذا الذي يرشح نفسه لانتخابات المجلس التشريعي؟ وهذا السؤال فيه ما فيه من المكر للتحايل على الشعبوية، لأنه يذهب إلى التقييم المادي، أكثر منه إلى التقييم المعنوي للذات الشخصية، وهذا في حد ذاته يطرح التساؤل التالي: هل السؤال السابق هو لأهمية الشخص، أم لأهمية الدور الذي سيلعبه في المجلس التشريعي؟ وللخروج من حدية السؤال يمكن النظر إلى فئة الثالثة المجسرة للهوة بين طرفي (الشعبوية والنخبوية) وهي فئة التكنوقراط، وهي الفئة التي قد ينظر إليها على أنها بديل عن الطبقة المتوسطة في التصنيف العلمي لطبقات المجتمع (دنيا، متوسطة، عليا) وهي الآتية بقوة بغض النظر عن الانتماءات الفردية في حاضنتها الخاصة، وحضورها القوي اليوم على المشهد الاجتماعي يعود لأهمية الدور الذي تقوم به وخاصة في برامج التنمية، نظرا لما تمتلكه من أدوات معرفية، وفنية ونوعية، كثيرة، وذلك من حيث التخصص الذي تحمله، مع أن هناك محاولات غير منكورة لتحجيمها بين أروقة المؤسسات، حيث تسلط النخب عليها بصورة غير مباشرة، كلما أمكن ذلك.

يقول مايكل جونستون مؤلف كتاب (متلازمات الفساد - الثروة والسلطة والديمقراطية -): «إن المجتمع المدني أيضا مستعمر من قبل الفصائل النخبوية، وأحزابها السياسية، أو تمزقه التقسيمات الإقليمية، أو العرقية أو غيرها التي تجمع بين كونها عميقة الجذور وذات استخدامات سياسية بين النخب الراغبة بتفريق مجموعات المعارضة المحتملة لإبقائها تحت السيطرة «- انتهى النص - ويعود ذلك إلى ذات الفكرة القديمة «تسلط الهنقري» في المجتمع التقليدي، وإن تم التسليم لذات الأمر، وبقيت الأحوال على ذلك دون أن يكون للقانون قول الفصل، فإن ذلك مؤداه الهرولة سريعا إلى حيث تجذر الدولة «العميقة» التي تضرب بكل القيم الإنسانية بعرض الحائط حيث تسلط النخب، ومحاصرة نمو المجتمع المدني باستحقاقاته الفنية والموضوعية.

والسؤال المهم هنا أيضا: هل ستنضوي فئة التكنوقراط إلى فئة النخبة، وتبيع شعبويتها - حاضنتها الأساس - لإغراءات مادية وإدارية ووجاهية، أم ستلتزم الحياد؟ أم تؤسس لنفسها جماعة ضغط أخرى «ثالثة» تنتصر للحق والعدالة، فتنعش أمل الأولى «الشعبوية» وتحجم من تطاول الثانية «النخبوية» وتقف بالمرصاد لتشعب الدولة «العميقة»؟ هنا يمكن النظر إلى مؤسسات المجتمع المدني، ودورها المهم في حالة أنها تعمل وفق أسس فنية وإدارية صحيحة، ملتزمة بأنظمتها الأساسية المنشئة لها، أما في حال - كما هو واقع هذه المؤسسات اليوم - أنها تسير أعمالها وفق اجتهادات شخصية، وارتجالية، فإن الأمر سيبقى على حاله، ولن يكون هناك تغيير يخدم المصالح العامة، وستظل منصات المحاكم تعمل ليل نهار لأجل البقاء على مصالح الأفراد والجماعات بما يؤدي إلى الاستقرار وتسيد الأمن الاجتماعي في المجتمعات، وإن أصبح الأمر كذلك، فإن في ذلك اتهام كبير من أن المجتمعات لم تستفد كثيرا من شيوع المعرفة، وتراكم خبرات الحياة، وتجدد الأجيال، وأن الحالة التقليدية لا تزال هي المُؤْمَنُ بها، وأن لا بديل عن استمراراها.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من حیث على أن

إقرأ أيضاً:

السامرائي: وجهة نظرنا هي الذهاب مع الفريق السياسي الذي يحقق النجاح لجمهورنا

بغداد اليوم -  


مقالات مشابهة

  • باحث سياسي: تصريحات ترامب شعبوية ولا تعكس فهما عميقا للصراع في أوروبا
  • ماذا حدث لكوندي في برشلونة؟.. الإجابة عند فليك
  • هل تأثرت صناعة النفط في اليابان بإعصار شانشان؟
  • الهجرة إلى أميركا في عهد ترامب.. ما الذي سيتغير؟
  • الداخلية تعلن الثأر لضابط الشرطة الاتحادية الذي استشهد امس
  • خالد الجندي: الحرية تكمن في الانقياد لله والتحلي بالقيم الأخلاقية التي تحمي المجتمع
  • جيل زد السوري الذي دفع الثمن مبكرا
  • السامرائي: وجهة نظرنا هي الذهاب مع الفريق السياسي الذي يحقق النجاح لجمهورنا
  • حقيبة قرب مدرسة أثارت بلبلة... ما الذي تبيّن بعد الكشف عليها؟
  • بصواريخ نوعيّة... ما الهدق الإسرائيليّ الذي قصفه حزب الله؟