التكنوقراط.. «صناعة» تجسير بين شعبوية ونخبوية
تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT
هل الشعبوية مصطلح أو مفهوم؟ فإن كانت مصطلحا فهو سيخضع للتعريف العلمي، والتعريف العلمي له استحقاقاته من حيث إخضاع المصطلح في حاضنة المختبر، ومتى أخضع للمختبر، فإن من ضمن هذه الاستحقاقات ألّا ينظر إلى الشعبوية على أن تأثير فعلها لا يستحق أن ينظر إليه بكثير من الاهتمام والرعاية والتأثير، أو على أنه فعل غوغائي لا يمت إلى الحكمة والتعقل في شيء، وبالتالي فبقاء الأمر على حاله.
وتجذيرا لذات القناعة فإنه ينظر إلى الشعبوية على أنها مفهوم أكثر من أنه مصطلح، ولذلك يسطح في استيعابه، ولا ينزل المنزلة المباركة لا من حيث قبوله كفعل مؤثر، ولا من حيث الترحيب به لكونه منبثق من الحاضنة الاجتماعية، هذه الحاضنة التي تستوعب الكم الهائل من التقسيمات التي يُفَصِّلُها أبناء المجتمع حسب اعتبارات تقليدية، وظرفية، كثيرة، بعكس النخبوية التي يفسح لها المجال في كلا الأمرين: كمصطلح وكمفهوم يعود ذلك - حسب فهمي- أن الذاكرة الاجتماعية تسترجع أهمية الوجاهة الاجتماعية، وهي صورة تحمل الكثير من الدلالات التي استوعبتها هذه الذاكرة وإن لم تستحضرها كمصطلح «النخبوية» الذي يروج له اليوم كمصطلح حديث، وحسب الفهم التقليدي فـ«الهنقري» يحمل ذات المفهوم، ويقوم بنفس الممارسات كما هو الحال اليوم من حيث كلمة الفصل في جل ما يقوم به الأفراد برضى أو بغير رضى، لذلك كان هناك من يخشى بطش الغني «الهنقري» ويتحاشى ردة فعله، في وقت كان المجتمع بسيطا وتقليديا حتى النخاع، إلى درجة أن لو كان الغني يتصدر المجلس ودخل أحد الأفراد فإنه يتوجه مباشرة إلى صدر المجلس ويسلم عليه، ومن ثم يتوجه للسلام على بقية الحضور، وحتى لو أن فلانا من الناس - غريبا - دخل المجلس فإن هناك من يوجهه للذهاب إلى السلام أولا إلى فلان الذي يشار إليه، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، والسؤال: هل تغير الوضع اليوم؟ والجواب: هناك تغير خفيف في ظاهر الأمر، أما في بواطنه فلا يزال اللهب مشتعلا عبر ممارسات كثيرة، حيث لا يزال: «غض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا».
في مرحلة ما من مراحل عمر المجتمع وهذا يحدث باستمرار يكون للشعبوية صوتها المؤثر، وإن نظر إلى فعلها بشي من التسطيح أو التبسيط، لأن الشعبوية تشكل قاعدة هرم المجتمع، ولننظر إلى فترات الانتخابات التشريعية في العصر الحديث وكيف تمثل هذه الفئة أهمية كبرى في توجيه
دفة مسار النتائج النهائية، ولننظر كذلك إلى توجس النخبوية من المكر الذي قد توقعها فيها الشعبوية، والأهمية التي تشكلها الشعبوية في فترة الانتخابات، وتنازل النخبوية عن نرجسيتها استبشارا بفعل الشعبوية في حسم النتائج، لإدراك -أي النخبوية - أن أية تلاعب بالشعبوية كمن يغامر باللعب بالنار، ومع ذلك فإن جل الناخبين في بداية الأمر يتساءلون: من هذا الذي يرشح نفسه لانتخابات المجلس التشريعي؟ وهذا السؤال فيه ما فيه من المكر للتحايل على الشعبوية، لأنه يذهب إلى التقييم المادي، أكثر منه إلى التقييم المعنوي للذات الشخصية، وهذا في حد ذاته يطرح التساؤل التالي: هل السؤال السابق هو لأهمية الشخص، أم لأهمية الدور الذي سيلعبه في المجلس التشريعي؟ وللخروج من حدية السؤال يمكن النظر إلى فئة الثالثة المجسرة للهوة بين طرفي (الشعبوية والنخبوية) وهي فئة التكنوقراط، وهي الفئة التي قد ينظر إليها على أنها بديل عن الطبقة المتوسطة في التصنيف العلمي لطبقات المجتمع (دنيا، متوسطة، عليا) وهي الآتية بقوة بغض النظر عن الانتماءات الفردية في حاضنتها الخاصة، وحضورها القوي اليوم على المشهد الاجتماعي يعود لأهمية الدور الذي تقوم به وخاصة في برامج التنمية، نظرا لما تمتلكه من أدوات معرفية، وفنية ونوعية، كثيرة، وذلك من حيث التخصص الذي تحمله، مع أن هناك محاولات غير منكورة لتحجيمها بين أروقة المؤسسات، حيث تسلط النخب عليها بصورة غير مباشرة، كلما أمكن ذلك.
يقول مايكل جونستون مؤلف كتاب (متلازمات الفساد - الثروة والسلطة والديمقراطية -): «إن المجتمع المدني أيضا مستعمر من قبل الفصائل النخبوية، وأحزابها السياسية، أو تمزقه التقسيمات الإقليمية، أو العرقية أو غيرها التي تجمع بين كونها عميقة الجذور وذات استخدامات سياسية بين النخب الراغبة بتفريق مجموعات المعارضة المحتملة لإبقائها تحت السيطرة «- انتهى النص - ويعود ذلك إلى ذات الفكرة القديمة «تسلط الهنقري» في المجتمع التقليدي، وإن تم التسليم لذات الأمر، وبقيت الأحوال على ذلك دون أن يكون للقانون قول الفصل، فإن ذلك مؤداه الهرولة سريعا إلى حيث تجذر الدولة «العميقة» التي تضرب بكل القيم الإنسانية بعرض الحائط حيث تسلط النخب، ومحاصرة نمو المجتمع المدني باستحقاقاته الفنية والموضوعية.
والسؤال المهم هنا أيضا: هل ستنضوي فئة التكنوقراط إلى فئة النخبة، وتبيع شعبويتها - حاضنتها الأساس - لإغراءات مادية وإدارية ووجاهية، أم ستلتزم الحياد؟ أم تؤسس لنفسها جماعة ضغط أخرى «ثالثة» تنتصر للحق والعدالة، فتنعش أمل الأولى «الشعبوية» وتحجم من تطاول الثانية «النخبوية» وتقف بالمرصاد لتشعب الدولة «العميقة»؟ هنا يمكن النظر إلى مؤسسات المجتمع المدني، ودورها المهم في حالة أنها تعمل وفق أسس فنية وإدارية صحيحة، ملتزمة بأنظمتها الأساسية المنشئة لها، أما في حال - كما هو واقع هذه المؤسسات اليوم - أنها تسير أعمالها وفق اجتهادات شخصية، وارتجالية، فإن الأمر سيبقى على حاله، ولن يكون هناك تغيير يخدم المصالح العامة، وستظل منصات المحاكم تعمل ليل نهار لأجل البقاء على مصالح الأفراد والجماعات بما يؤدي إلى الاستقرار وتسيد الأمن الاجتماعي في المجتمعات، وإن أصبح الأمر كذلك، فإن في ذلك اتهام كبير من أن المجتمعات لم تستفد كثيرا من شيوع المعرفة، وتراكم خبرات الحياة، وتجدد الأجيال، وأن الحالة التقليدية لا تزال هي المُؤْمَنُ بها، وأن لا بديل عن استمراراها.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
السامرائي: وجهة نظرنا هي الذهاب مع الفريق السياسي الذي يحقق النجاح لجمهورنا
بغداد اليوم -