أُسر بكلمة جديدة، وأستبشر بفكرة مختلفة، وأقدر كل صوت يخالف القطيع.
قلت مراراً وأقول إن الكتابة يجب ألا تكرر ما سبقت كتابته، وأن البحث ينبغى أن يصطاد اللآلئ المُدهشة. إن العلم الحقيقى ليس تكراراً ولا صدى، وإنما هو انبعاث لقبس جديد، وطرح لأمر لم ينطرح من قبل.
وهذا بالضبط ما فعله الدكتور ناصر إبراهيم أستاذ التاريخ الحديث، فى محاضرة صادمة استضافها بيت السنارى بالقاهرة قبل أيام، عندما قرأ فيها للجمهور المصرى أربعة خطابات اكتشفها مؤخراً فى الأرشيف الفرنسى للسيدة زُبيدة البواب، التى عرفناها باسم غادة رشيد موجهة إلى زوجها القائد الفرنسى جاك مينو.
وهذا الكشف يُمثل انقلاباً حقيقياً فيما رسخته رواية على الجارم «غادة رشيد» وما كتبته المصادر المصرية عن تلك السيدة فى الأذهان باعتبارها مغلوبة على أمرها أو بطلة سرية تناضل ضد القائد المحتل.
لقد كان هناك خلاف كبير حول مصير زبيدة عقب إجبار الحملة الفرنسية على المغادرة، إذ ذكر البعض أنها هربت وعاشت فى القاهرة، بينما ذكر آخرون أنها سافرت مع زوجها، وهجرها، وماتت منسية وحيدة.
لكن الخطابات الأربعة التى اكتشفها الدكتور ناصر إبراهيم تعيد فتح الحكاية وتُغير وقائعها، وتؤكد ما سبق وحاول أستاذ التاريخ الحديث، المفكر الكبير، الدكتور خالد فهمى ترسيخه حول أهمية الوثائق كمسار مختلف ومستحدث لقراءة الماضى.
فى القصة الشهيرة التى سردها على الجارم، وقررتها وزارة التعليم خلال الخمسينات على طلبة المدارس، تُغرم زبيدة الفتاة البكر بابنة عمها محمود، وتسعى لمقاومة القائد الغازى مينو الذى يسميه «الجارم» بالشيطان العجوز، لأنه يجبر أهلها على تزويجه ابنتهم، ثم يُسىء معاملتها، فتموت بعد ذلك حزناً على حبيبها محمود عندما تعرف أنه قضى نحبه. أما الخطابات المكتشفة مؤخراً، فتخبرنا أن زبيدة كانت سيدة مُطلقة، وأنها كانت باهرة الجمال، وتزوجت مينو الذى كان قائدا على رشيد سنة 1799 بكامل إرادتها والدليل على ذلك أنها وضعت 11 بنداً لضمان حقوقها فى وثيقة الزواج.
كذلك فقد أنجبت زبيدة ابنا اسمته سليمان فى نوفمبر سنة 1800، ثُم غادرت مع زوجها إلى فرنسا، وبعد أن تولى منصب حاكم البندقية، حصلت هى على لقب الكونتيسة، وأنجبت ابناً آخر، ثم مات مينو سنة 1810، وبقيت هى فى فرنسا تحصل على معاشه حتى وفاتها سنة 1816، ودفنت فى مقابر بيير لاشيز باعتبارها مسلمة، إذ لم يجبرها أحد على تغيير دينها.
والخطابات التى أملتها زبيدة على أحد الكتاب واسمه حسين الميقاتى، تكشف لنا افتنان غادة رشيد بالقائد الفرنسى، وقبولها بالزواج منه، نظراً لرجاحة عقله، واحترامه الشديد لها، وهو ما سبق أشار إليه كلوت بك فى مذكراته عندما قال أن مينو كان يعامل زوجته باحترام شديد، وأنه كان يسارع بالتقاط المنديل لها إن سقط، ولا يتحدث إليها إلا بصوت خفيض. بل إن مينو كتب لأحد أصدقائه عندما سأله عن زوجته فقال «إنها امرأة جميلة، طويلة القد، حسنة الصورة، لها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصرى المعروف، وشعرها أسود فاحم، وهى لطيفة الطبع، وتتقبل العادات الفرنسية».
وقطعاً، فإننا هنا لا نحاكم زبيدة بأثر رجعى، ولا نقر أو نرفض زواجها من قائد يمثل الاحتلال، لكننا نُعيد قراءة الحكاية لنُدرك إلى أى حد تعرض تاريخنا للتشويش، والتوجيه، والقص، واللصق، بل فى بعض الأحيان للتزوير.
فالشكر لهذا الكشف الجديد، ولصاحبه الدكتور ناصر إبراهيم الذى رفض الرواية الشائعة، وبحث واجتهد سعيا للحقيقة، رافعاً شعار “لا تسر خلف القطيع”. والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد أستاذ التاريخ الحديث
إقرأ أيضاً: