الأفكار الضالة في عصر التكنولوجيا
تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT
لم يكن الأمر مستغربا أن تتعرض بلادنا لمثل هذه الهجمات من الأفكار الضالة المنحرفة عن الفطرة والمشترك الإنساني في حادثة الوادي الكبير، فنحن نعيش أزمنة صعبة في منطقة تعج بالاضطراب السياسي والفكري وصراعات المصالح المعقدة، بل إن هذه الأفكار والأيديولوجيات والدول الرامية لزعزعة أمن المجتمعات، وضرب السلم الأهلي وتقويض الحكومات ونشر الفوضى والدمار والخراب ربما ستتزايد حدة وحضورا على المستوى الإقليمي والدولي.
لقد أتاحت مختلف التقنيات وتكنولوجيا الاتصالات مخارج جديدة لأصحاب الفكر الضال والمنحرف لاستغلال تلك المنصات بهدف استقطاب وتجنيد المغرر بهم من مختلف الفئات المجتمعية والتعليمية والعمرية حيث نجد أمثلة كثيرة في التنظيمات الإرهابية على وجود فئات متعلمة ومتخرجة من جامعات عريقة، ينتمي بعضها لأسر ثرية للغاية، وبالتالي فإن السقوط في فخ الأفكار الضالة والمنحرفة ليس حكرا على مجموعة أو أفراد أو طائفة أو مذهب أو عرقية أو جنسية أو دولة.
ولعله من المفيد التعريج على التحول التاريخي في الحياة الإنسانية فيما يخص البعد التقني والتكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي خاصة لدى ما يسمى الآن بالجيل زد (Generation Z) والذين يعرفهم البعض أنهم الجيل الذي ولد في أواخر التسعينات أو مطلع القرن الواحد والعشرين، إذ يشير الكاتب جوان هاديت في كتابه «الجيل القلق» إلى التحولات في حياة هذه الشرائح من «الطفولة المتمحورة حول اللعب» إلى «الطفولة المتمحورة حول الهاتف» والتي يقصد بها ارتباط حياتهم المباشر معظم الوقت بكافة أنواع الأجهزة الإلكترونية الشخصية التي تملأ وقت هؤلاء الناشئة والمراهقين والشبان بما فيها الأجهزة المحمولة واللوحية والألعاب الإلكترونية المرتبطة بالإنترنت والهواتف الذكية وتطبيقاتها المتعددة.
في ذات السياق، يشير موقع ( whatsthebigdata.com ) أن الجيل المذكور يقضي نحو سبع ساعات يوميا على الشاشة وتصفح الهواتف الذكية معظمها على تطبيقات التواصل الاجتماعي وشبكات البث التلفزيوني.
وفي وثيقة للمفوضية الأوروبية نشرت على موقعها في الانترنت بتاريخ 7 فبراير 2024، تناولت التحديات المتزايدة حول مكافحة التطرف خاصة بين تداخل وصعوبة الفصل بين البعد المتصل بالإنترنت وخارجها والذي أفضى إلى جعل الانترنت مصدرا رئيسيا للتهديد والمخاطر وكذلك عنصرا ضروريا للجهود الاستباقية والحمائية، منبها أن الانترنت رغم فوائدها الجمة إلا أنها تعتبر الوسيلة الأكثر أهمية لدى الإرهابيين لبث وإيصال المواد الدعائية والمحتوى المتطرف والذي أصبح مصدرا رئيسيا للجنوح نحو التطرف والأفكار الضالة ومصدر إلهام لشن الهجمات العنيفة. وأضاف أن الخطوط الفاصلة بين المنظمات الإرهابية بما فيها المنظمات اليمينية واليسارية والفوضويين والمنظمات الجهادية والأيديولوجيات الأخرى، من المرجح أن تصبح أكثر ضبابية وتشويشا في المستقبل. وقد لوحظ ظهور مشتركات ونقاط تلاق في أوساط المنظمات الإرهابية والعنيفة والمتطرفة على مختلف الأطياف الأيديولوجية في دول الاتحاد الأوروبي.
يلفت التقرير أيضا إلى مسألة ظهور أنماط جديدة من العنف المتطرف مثل العنف الذي يستهدف الأنظمة والحكومات، والذي لا يعزى أو يرتبط بأيديولوجيا معينة ويستمد دوافعه غالبا من نظريات وأدبيات المؤامرة، إلى جانب تزايد التهديد الذي يشكله النشطاء المنفردون (يسميهم البعض بظاهرة «الذئب المنفرد» وهم أشخاص يقومون بهجمات بشكل منفرد دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما، كما يطلق هذا الوصف أيضا على هجمات فردية تنفذها مجموعات صغيرة من شخصين إلى خمسة كحد أقصى) أو الخلايا الصغيرة .
وتبرز مع هذه الظواهر أسئلة جوهرية حول ما الذي يغري كوادر وشرائح تلقت تعليما نوعيا وتحمل شهادات علمية رفيعة ومن جامعات مرموقة وتشغل وظائف مجزية أن تنزلق لمثل هذه المنزلقات الخطيرة والانتماء لتنظيمات دموية عنيفة تحكمها ثقافة الموت والإقصاء؟ مضحية بكل شيء بداية بالنفس والأسرة والوطن وكل ما يشكل خطا أحمر في حياة الإنسان السوي.
من الملفت أن دراسة أجراها البنك الدولي قبل سبع سنوات (شملت وثائق مسربة تعود لتنظيم داعش) نشرت على صحيفة الجارديان بتاريخ 5 أكتوبر 2016 حول التنظيم، أشارت أنه لا توجد علاقة واضحة مؤكدة بين الفقر والمستوى التعليمي عندما يتعلق الأمر بالنزوع للتطرف، بل إن نسبة كبيرة بحسب التقرير عندما تم سؤالها من قيادات التنظيم حول طبيعة العمل أو النشاط الذي يرغبون في القيام به، تبين أنه كلما كان المستوى التعليمي للمجندين مرتفعا كلما أظهروا ميلا أكثر لتولي مسؤوليات ضمن المستويات الإدارية والعمل كمقاتلين انتحاريين، مشيرا أن مجندي التنظيم القادمين من إفريقيا وجنوب وشرق آسيا والشرق الأوسط كانوا الأكثر تعليما بمراحل قياسا بغيرهم. كما تظهر البحوث اللاحقة أن دوافع المجندين والمتطوعين للانضمام لمثل هذه التنظيمات الإرهابية تتسم بالتعقيد وتختلف من منطقة صراع وأخرى. بالمقابل فإن عددا كبيرا من المنضمّين لتنظيم داعش أتوا من دول غربية ديموقراطية متقدمة ويتمتعون بحقوق سياسة عالية.
وبحسب دراسة قام بها إفرايم بنمليكا (Efraim Benmelecha,b) واستبان إف كلورك (Esteban F. Klorc,d) بعنوان «ما الذي يفسر تدفق المقاتلين الأجانب إلى تنظيم داعش؟» أشارا إلى أن نحو ثلاثين ألف مقاتل أجنبي تدفقوا إلى سوريا والعراق للانضمام الى تنظيم داعش لغاية ديسمبر 2015. ورغم أن غالبية المجندين جاؤوا من الشرق الأوسط والعالم العربي إلا أن العديد من مقاتلي داعش قدموا من الدول الغربية بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا - 1700 مقاتل) و(ألمانيا - 760مقاتلا) و(بريطانيا - 760 مقاتلا) والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزلندا إلى جانب روسيا (2400 مقاتل) وبضع مئات من أندونيسيا وطاجيكستان.
ويخلص التقرير إلى أن جاذبية التنظيم في أوساط المجندين الأوروبيين تعزى إلى صعوبة اندماج أجيال من الشبان المسلمين والتماهي مع طبيعة الحياة في الغرب والإحساس بالعزلة في المجتمعات الأوروبية حيث ينجح التنظيم في استمالتهم عبر آلته الدعائية المعقدة والمتقدمة إضافة إلى استغلال تطبيقات التواصل الاجتماعي للدفع بهم نحو التطرف.
ورغم كل الدراسات المنشورة في هذا الجانب، يصعب الوقوف على ماهية الأسباب التي تدفع أشخاصا على قدر عال من التعليم والتجربة الحياتية إلى الانزلاق لمثل هذا المنزلق الخطير والتحول لآلة قتل دموية لا تفرق بين عدو أو صديق، ويحتاج الأمر إلى مساهمات عميقة من ذوي الاختصاص من علماء النفس والاجتماع والجريمة والقانون والطب لتبيّن هذا التعقيد المروع وطرق احتوائه.
ومن الأهمية البالغة، الخروج من حادثة الوادي الكبير بالعبر والدروس وتسليط الضوء على مواطن الوهن والضعف والقوة في هذا المنعطف التاريخي في المشهد العام بالبلاد، وحتما فإن هناك الآلاف من الأسئلة حول ما حدث ومآلاته ومسبباته وجذوره وتداعياته على الوطن، وبلا شك فإن الأجهزة الأمنية والعسكرية العمانية، وكما عهدها العمانيون ستظل العين الساهرة والقلعة الصامدة على أمن الوطن، وستقوم بدورها المنشود في الرد على كل حاقد وعابث ومتربص، ويؤمل أن تنطلق المراجعات الشاملة من جنبات الوادي الكبير إلى الوطن باتساع أرجائه ومؤسساته وتحدياتها وطموح أبنائه وعزيمة قيادته.
يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأفکار الضالة
إقرأ أيضاً:
حزب "المصريين": المنتدى الحضري العالمي منصة دولية لتبادل الأفكار
ثمن المستشار حسين أبو العطا، رئيس حزب "المصريين"، عضو المكتب التنفيذي لتحالف الأحزاب المصرية، استضافة مصر النسخة الـ12 من المنتدى الحضري العالمي، الذي تنظمه الأمم المتحدة في الفترة من 4 إلى 8 نوفمبر، موضحا أن استضافة مصر لهذا المؤتمر يؤكد على المكانة الرائدة التي تحتلها مصر في الساحة الدولية ودورها الفعال في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وقال "أبو العطا"، في بيان اليوم الاثنين، إن هناك تقديرا دوليا لجهود الدولة المصرية في مجال التنمية العمرانية والتنمية المستدامة، واستضافة مصر لهذا المؤتمر يعزز بما لا يدع مجالا للشك تبادل الأفكار والتجارب بين الخبراء من جميع أنحاء العالم، موضحا أن هذا الحدث العالمي فرصة ثمينة ومهمة من أجل تعزيز الحوار حول كيفية جعل المدن أكثر شمولاً ومرونة واستدامة، من خلال تبادل الأفكار والتجارب بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والخبراء من جميع أنحاء العالم.
أضاف رئيس حزب "المصريين"، أن المنتدى منصة مهمة لتبادل الخبرات حول السياسات الحضرية، وإيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه المدن، لا سيما فيما يتعلق بالنمو السكاني وتغير المناخ وتوفير البنية التحتية الملائمة، مؤكدا أن أهمية هذا المنتدى لمصر تكمن في أنه يسهم في تعزيز مكانة البلاد كمركز عالمي للحوار حول قضايا التنمية الحضرية المستدامة، مما يعزز من جاذبيتها الاستثمارية.
أشار إلى أن مشاركة كبار المسؤولين والمستثمرين في المنتدى تفتح آفاقًا جديدة للاستثمارات في قطاعات البنية التحتية، والنقل، والإسكان، والطاقة النظيفة، ما ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد المصري، موضحا أن هذا الحدث العالمي المهم يعزز التعاون بين مصر والدول المشاركة في مجالات الابتكار الحضري والتنمية المستدامة، مما يسهم في تحقيق رؤية مصر 2030 وأهداف التنمية الشاملة التي تسعى الدولة لتحقيقها.
وأكد أن استضافة مصر للمنتدى الحضري العالمي دليل واضح على قدرتها التنظيمية وبنيتها التحتية لاستضافة أحداث دولية بهذا الحجم، خاصة وأن المنتدى يلعب دورًا حيويًا في توجيه الحوار حول مستقبل المدن، مع التركيز على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.