"بثوث" الفتنة هذه هي الغزو الأشد فتكاً وتدميراً، بعدما تم تفكيك الجيوش وتمزيق الأوطان وهدم الأركان.
آثار الغزو العسكري والاحتلال تنمحي بمرور الوقت بعد أن يتم تحرير الأرض واستعادتها
هذه البثوث أشد فتنة من الغزو والاحتلال لأنها تهدم الأوطان من الداخل
مرت الأسبوع الماضي الذكرى الثالثة والثلاثون لاحتلال دولة الكويت من قبل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وهي ذكرى أليمة على النفوس لا نحب استرجاعها، لأنها كانت واحدة من كبرى الفتن التي مرت بها الأمة العربية في القرن الماضي، وأدت إلى تمزيق الوطن العربي وانقسام حكوماته وشعوبه بين مؤيد ومعارض لغزو دولة عربية شقيقة ومجاورة، واحتلال أرضها على مدى سبعة شهور كانت من أصعب الفترات التي مرت على أبناء الأمة العربية، وشعوب الخليج العربي على وجه الخصوص، حتى تم تحرير الكويت في فبراير من سنة 1991م، واستعاد الشعب الكويتي وحكومته وطنهم، ليترك الغزو والاحتلال جرحهما الغائر، وينعكس أثرهما على الأمة العربية وبلدان الوطن العربي كافة حتى يومنا هذا.
لقد كانت بحق فتنة كبرى إلى درجة أننا نحن، الذين عاصرناها وعشنا أحداثها يوماً بيوم ولحظة بلحظة، ما زلنا غير مصدقين ما حدث، وما زالت عقولنا غير مستوعبة أن تقوم دولة عربية بغزو واحتلال دولة عربية، ولكن هذا هو ما حدث للأسف، وستظل ذاكرة الذين عاصروا تلك الأحداث وعاشوها محتفظة بتفاصيلها، على أمل أن تتضاءل هذه الذكرى عاماً بعد عام، ويزول أثرها السيء بمرور الأيام، وتغدو حدثاً تاريخياً سيئاً لا أكثر لدى الأجيال القادمة من أبناء الأمة الذين لم يعاصروا أحداثها ولم يعيشوها، مثل كل الأحداث التي لم نعاصرها نحن ولم نعشها، مما تزخر به كتب التاريخ وتتناقله ألسنة الرواة الذين عاصروها ورووا عنها أو كتبوا، واختلف الناس فيها أو اتفقوا، تبعاً لميولهم ومعتقداتهم وأفكارهم، فلا الشعب الكويتي يستحق ما حدث له، ولا الشعب العراقي يستحق أن يتم تلطيخ تاريخه بهذا الفعل المشين.
ولعل من رحمة الله بالأمة أنه لم تكن هناك وسائط تواصل اجتماعي وقتها، وإلا لكانت هذه الوسائط زادت من تمزيق الأمة التي كان كيانها تمزق فعلاً، ولولا وقفة قادة دول مجلس التعاون الخليجي وبعض الدول العربية، ووقوفهم إلى جانب الحق الكويتي، ومساندة بعض الدول العظمى لهذا الحق، لكان نطاق الكارثة اتسع، ولغرقت المنطقة في الدماء زمناً لا يعلم إلا الله مداه ومنتهاه.
واليوم، وبعد مرور 33 عاماً على هذه الذكرى الأليمة، تعود وسائط التواصل الاجتماعي لتذكي نيران الفتنة التي كنا نتمنى لو أنها قد انطفأت إلى غير رجعة، ويعود التراشق بالكلمات والألفاظ المهينة والجارحة ليأخذ موقع التراشق بنيران المدافع والبنادق وقصف الطائرات، ذلك أن ما يتم قصفه من الأعراض وما يتم تقطيعه من صلات القربى والدم والرحم بين أبناء الأمة خلال "بثوث" وسائط التواصل الاجتماعي هذه الأيام يفوق ما خلفه الغزو العسكري والاحتلال من خسائر في الأرواح والممتلكات والأموال.
آثار الغزو العسكري والاحتلال تنمحي بمرور الوقت بعد أن يتم تحرير الأرض واستعادتها، ولكن آثار قصف الأعراض وتقطيع أواصر الدم والقربى بين أبناء الأمة الواحدة تبقى زمناً طويلاً، وتزداد اشتعالاً بفعل ما يُصب عليها من زيوت في "البثوث" التي تبحث عن زيادة المتابعين والمشاهدات و"التكبيس" لرفع تصنيف حسابات أصحابها، وإضافة المزيد من الأموال إلى أرصدتهم، وهم جالسون على الأرائك في بيوتهم، أو نائمون على أسرّتهم، يرفعون من يؤيد آراءهم ويقمعون من يعارضها، وينزلون من يختلف مع هذه الآراء ويكتمون أصواتهم ويحظرونهم.
هذه "البثوث" أشد فتنة من الغزو والاحتلال لأنها تهدم الأوطان من الداخل، وتدق أسافين بين أبناء الأمة الواحدة، بل بين أبناء الوطن الواحد أحياناً، وخاصة إذا ما تطرقت إلى العِرق أو الطائفة أو الدين.. ويصبح الأثر أكثر خطورة إذا نبشت أحداث الماضي ونكأت جروحاً لم تندمل بعد، وأثارت جدلاً عقيماً لن يثمر اتفاقاً وحتى لو استمر أكثر من مئة عام، وهذا هو أغلب ما نشاهده في هذه "البثوث" المنتشرة في وسائط التواصل الاجتماعي، حيث إن أغلب النقاشات تنتهي بألفاظ بذيئة وشتائم صريحة وتنمّر من قبل صاحب البث ومن يؤيدونه وطرد الطرف المستضاف، وهو الطرف الأضعف لأنه لا يملك التعبير عن رأيه إذا ما قرر صاحب البث إخراجه، أو "تنزيله" أو كتم صوته.
ومع ذلك فإن الأمر لا يخلو من "بثوث" نظيفة ومتوازنة، ولكنها قليلة وضائعة وسط هذا السيل الطاغي من "البثوث" الرديئة السيئة والمسيئة، كما أنه لا يخلو من وجود عقلاء يدخلون بعض "البثوث" بغرض تهدئة النفوس، ولكنهم غالباً لا يجدون من يصغي إليهم وسط هذا الهيجان والصراخ والعصبية الطاغية، وغالباً ما يتم طردهم بناء على طلب المشاركين في البث، أو أنهم يخرجون بإرادتهم بعد أن ييأسوا من إيصال صوتهم.
"بثوث" الفتنة هذه هي الغزو الأشد فتكاً وتدميراً، بعدما تم تفكيك الجيوش وتمزيق الأوطان وهدم الأركان.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي ثريدز وتويتر محاكمة ترامب أحداث السودان مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة بین أبناء
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: صرخة عربية مدوية
اجتمعت الأمة العربية في قمة طارئة بالقاهرة كأنما الصحوة تدق أبواب الزمن الغافل؛ ليست قمة كالقمم ولا خطابا كالخطابات، بل هي صرخة مدوية في وجه عالم يغرق في صمته المريب، هنا وقفت مصر كعادتها حاملة لواء الحق بعيدة عن درب المساومة بقيادة رجل يعرف أن التاريخ يسجل اللحظات لا السنين.
لقد لخصت كلمة الرئيس السيسي رؤية مصر على زمن يختزل آلام الماضي وآمال المستقبل في كلمات كالسهام تخترق ضمائر القادة، تحدث عن غزة لا كرقعة أرض بل كقلب ينبض بدماء الأجداد حرب ضروس. قالها وكأنما يستحضر روح صلاح الدين وهو يحرر القدس من ظلام الصليبيين، اليوم يريدون لغزة أن تتحول إلى مقبرة جماعية أو ساحة تهجير؛ لكن مصر التي عرفت معنى المقاومة تقف كالسد العالي ترفض أن تكرر مأساة النكبة.
وأكدت كلمة السيسي أن القدس ليست حجرا يباع في سوق المساومات ولا الأقصى سقفا من خشب، بل هي قبلة الأحرار التي لا تنحني إلا لله وحده. تحذيرات السيسي من انتهاكات المحتل لم تكن خوفا من خسارة أرض بل خشية على هوية أمة تذوب كالثلج تحت نيران التطبيع.
الحق أن إعمار غزة طبقا للخطة المصرية؛ هو بمثابة إعلان حرب على عمليات الإبادة الصهيونية فإعادة البناء ليست إسمنت يعلو فوق الأنقاض بل إرادة تحيي الأمل في صدور أنهكها اليأس وان غزة لن تكون سجنا مفتوحا ولا أهلها لاجئين بلا مأوى فالتاريخ يعلم أن من يسكت عن الظلم شريك فيه .
ففي زمن يتنكر فيه الأقوياء لمواثيقهم تبقى مصر قلعة الشرف التي لا تنام على ضيم هنا يتجدد المشهد عبد الناصر يصيح في وجه المستعمر والسادات يرفض أن تكون الأرض ملكا للمتاجرة والسيسي يذكر العالم أن السلام لا يبنى على دموع الأبرياء.
فهل تسمع الأمة نداء التاريخ ! القمة الطارئة محطة في درب طويل لكنها شمعة تضيء في ظلام الليالي الباردة فإما أن تقوم الأمة كالأسد المدافع عن شرعيتها أو تظل أسيرة أحلام الوهن.
ومصر التي علمت الدنيا معنى الكرامة تقول اليوم للعالم لن نسمح باغتيال الحق مرة أخرى؛ فلسطين ليست قضية عابرة، بل هي امتحان الضمير الإنساني؛ فمن يسقط اليوم في هذا الامتحان لن تجوزه شعوب المستقبل.
السؤال الذي يطار الجميع هو : هل تستطيع القمة أن تحول الصرخة إلى فعل والكلمة إلى حرية ؟ الزمن يجيب وحده؛ لكن المؤكد أن مصر ستظل كما عهدناها صاحبة الدور والرسالة، تحمل في يدها غصن زيتون وفي الأخرى سيف العدل.
فقد اجتمعت الأمةُ العربية على مائدة الأزمات، لا لتسكب دموع العجز، بل لتشعل شمعة الأمل في ظلام الليل البهيم. قمةٌ طارئةٌ، لكنها كالصاعقة هزت أركان الصمت الدولي، لتقول للعالم: "كفى!". هنا، حيث تلتقي إرادات القادة على درب القدس، تعلو أصواتٌ ترفض أن تُختزل فلسطين إلى مجرد "ملف" يُناقش في أروقة الأمم المتحدة، أو ورقة مساومة في أيدي لاعبي السياسة.
لماذا الآن؟
لأن الزمنَ لم يعد يحتمل انتظاراً. خططُ التهجير التي تُحاك في غرفٍ مظلمةٍ، تريدُ تحويلَ غزةَ إلى سجنٍ مفتوحٍ، وأهلها إلى لاجئين بلا هوية. نتنياهو يحلمُ بإخراج الفلسطينيين من معادلة الوجود، لكن الأمةَ تذكره أن الدمَ الذي سالَ على أرض غزة سيكون حبراً يكتب نهاية المشروع الصهيوني. القمةُ جاءت لتقطع الطريق على أحلام التطهير العرقي الجديدة، وتُعيد للذاكرة العربية أن فلسطين ليست أرضاً تساوم، بل جرحاً نازفاً في جسد الأمة.
القدس هي البوصلة ..
عندما يتحدث العرب عن القدس، فإنهم لا يناقشون عقاراتٍ، بل يخوضون معركةَ وجود. الأقصى ليس قبةً ذهبيةً، بل شاهدٌ على عروبة الأرض. انتهاكاتُ المستوطنين اليوم ليست مجرد استفزازات، بل محاولةٌ لطمس الهوية. القمةُ وضعت قدسَ الأسرى في قلب المواجهة، لتقول لإسرائيل: "كل حجرٍ تنهبونه سيصير شاهداً عليكم أمام محكمة التاريخ".
الرابع من يونيو..
رسمت القمة حدود الحل على خطوط عام 1967، لا لأن العرب عاجزون عن استرداد الحق كاملاً، بل لأن العدالةَ تبدأ من حيث سُلبَت. هذا التاريخُ يصيح في وجه المطبعين: "لا شرعيةَ لسلامٍ يُبنى على دكّ الأنقاض فوق صدور الأبرياء". الرئيس السيسي يعلم أن المبادرة العربية للسلام ما زالت على الطاولة، لكنها مبادرةٌ معلّقةٌ بشرط واحد: أن تعترف إسرائيل بأنها احتلالٌ، لا دولةٌ.
هل تكفي القمة؟
سؤال يلاحق كل لقاء عربي. الإجابة تكمن في تحويل الكلمات إلى فعل. العالم ينتظر من العرب أن يكونوا جبهة واحدة:
- مقاطعةٌ اقتصاديةٌ لكلّ من يدعم التهجير.
- ضغطٌ سياسيٌ لإجبار إسرائيل على وقف العدوان.
- حملةٌ إعلاميةٌ تكشف جرائم الاحتلال للرأي العام العالمي.
- دعم مادي وقانوني لملف الفلسطينيين في المحاكم الدولية.
الخطر اليوم ليس على غزة وحدها، بل على مصداقية النظام العربي كله. القمةُ نجحت في لمّ الشمل، لكن المعركة الحقيقية تبدأ حين يعود القادة إلى عواصمهم. هل سيترجمون الصرخة إلى قراراتٍ تغير الواقع ؟
هذا لأن الأمم لا تهزم حين تخسر المعارك، بل حين تفقد إرادة الخوض فيها.
العرب اليوم أمام امتحان وجود: إما أن يتذكّروا أنهم حملة رسالة حضارية، أو يسمحوا لليل الطويل أن يبتلع آخر شمعة في درب القدس.