لا شك أن الأفلام التي تتحدث عن مستقبل الحياة على كوكب الأرض وما يطرأ على وسائل العيش من متغيرات شديدة الضرر على الانسان والكائنات الحيّة كانت محور نوع من أفلام الديستوبيا التي قدمت صورة انهيارات شتى ومنها ما هو بسبب عوامل طبيعية او حروب وكان ذلك النوع من الأفلام يركز في الغالب على فئة ناجية او تحاول النجاة بنفسها مما يحيط بها من اخطار.

خلال ذلك كان هنالك نوع مواز من الأفلام التي تكرّس القصة السينمائية للحياة اليومية وكيف تنعكس الظواهر الكونية المناخية وغيرها على حياة الفرد وهو ما يقدمه هذا الفيلم للمخرجة جوردان سكوت وهو فيلمها الرابع والذي يعالج عدة إشكاليات مركبة في آن واحد.

تنشغل المخرجة وفريقها بالإنسان المحاط بالأزمات من كل جانب وبدلا من ان يوجد حلولا لأزماته فإنه يخرج بحلول هي خارج العقل والمنطق والصواب الى مسارات تخريبية اشد ضررا وفتكا.

فها نحن مع العالم النفساني بين مونرو – يقوم بالدور الممثل أريك بانا، وهو يواجه وضعا اجتماعيا صعبا مع زوجته فيقرر مغادرة الولايات المتحدة لغرض العيش في المانيا وتبدأ أولى مهامه في مواجهة حالة امرأة تشكو مما تسميه احساساها بتحلل الكون وتدهور الأوضاع المناخية ولهذا يجب ان يكون الانسان امتدادا لهذا الواقع بان يذوب في ذلك الخراب ويصبح امتدادا له.

لم يكن في الحسبان ان تلك المرأة هي ليست الا امتداد لحركة تخريبية ضالة تقودها هيلدا – الممثلة صوفي روس وهي امرأة شديدة العدوانية وتلقي خطاباتها التخديرية الخطيرة عبر منصة يوتيوب لتقود الناس من مختلف الاعمار وخاصة فئة الشباب الى تقديم انفسهم قرابين لذلك الخراب الكوني، بينما الظاهر والمعلن هو اصلاح الكوكب والدفاع عن البيئة.

مشهد الأجساد الممددة الميتة في احدى الصالات وقد تركوا من ورائهم عبارات مبهمة وبدت عليهم الاثار نفسها من جراء ابتلاع السم هو ما يشاهده العالم النفساني وهو في حالة من الصدمة والحيرة من هول ما يشاهد بدعوة من صديقته المحققة نينا – الممثلة سيلفيا هوكس فيدرك ان ما يعرف بالتأثير الجمعي للفكر التخريبي الذي يدخل الناس في حالة من الايهام الذهني هو الذي يفتك بأولئك المنتمين لتلك الجماعة التي تكرر تظاهراتها المدافعة عن البيئة لا سيما بعد ان يصدم في القسم الأخير من الفيلم بحقيقة نانا نفسها.

ما لم يكن في حسبان العالم النفساني ان يأتي يوم وتصبح مازي – الممثلة سادي سينك، وهي ابنته الوحيدة التي تعيش في الولايات المتحدة ان تصبح هي الأخرى ضحية تلك الموجة التخريبية الخطيرة وهنا يكرس كاتب السيناريو قدراته في بث المعلومات وصناعة الحبكات الثانوية ابتداءا من قدوم الابنة من الولايات المتحدة الى تعرفها على الشاب مارتن – الممثل جوناس داسلر في محطة القطار وهي قادمة لزيارة والدها في برلين.

لعل الاشكالية التي يمكن التوقف عندها هنا والتي بنيت عليها المسارات السردية في هذا الفيلم هي إشكالية الانسان المأزوم وهو ما يتم تكثيفه بقوة في سياق احداث الفيلم، فالفتاة مازي تعيش ازمة قاسية بسبب انفصال والديها وغيرتها من علاقة والدها بالمحققة وبينما هنالك بالمقابل ازمة الشاب مارتن الذي فقد والديه وهو صغير وها هو يؤبن جدته التي ربته وربما يكون هو الذي تسبب في قتلها في سياق قيامه بمهمته ضمن المجموعة التخريبية في مصاحبة المرشحين للغرق في احدى البحيرات والاشراف على قيامهم بما يجب وهو يشاهدهم وهم يغرقون.

على الجانب الاخر هنالك بث حالة العجز الإنساني الذي تكرسه هيلدا والتي تعزز ذلك من خلال إعطاء أعضاء جماعتها الضالة جرعات من موادا فطرية لكي يتماهوا مع الطبيعية وهي في الواقع مواد للهلوسة والانقطاع عن الواقع وبذلك سنكون امام تيار عنيف لا يرحم ومن يدخله لن يتكمن من الخروج منه بسهولة وهو ما يتم فعلا بإيقاع الفتاة البسيطة مازي في تلك الحفرة القاتلة.

يقارب الفيلم إشكاليات فكرية وإنسانية شديدة التعقيد ويلامس ببراعة أزمات الانسان الذي تتغلغل في عقله الشعارات والمعلومات النظرية التي هي اقرب الى الخرافة حتى يصل الى محصلة ان لا جدوى من بقائه جزءا من ذلك الكون الفاسد وان لا بد من تضحيات قاسية تغلقها نزعة تدميرية بشعة.

يناقش الناقد بيتر سوبزينسكي في الموقع الشهير روجر ايبرت بناء الفيلم ومسارات احداثة قائلا "إن الثلثين الأولين من فيلم "التضحية" عبارة عن عمل ممل إلى حد كبير لا يقدم للمشاهدين سوى القليل مما لم يشاهدوه من قبل وهو نوع من الأفلام التي يفلت عنوانها منك حتى وأنت تشاهده حتى ننتقل فيما بعد وبشكل بارع إلى ما يشبه الجنون الصريح مع سلسلة من التطورات في الحبكة التي من شأنها أن تحبط وتزعج أحيانا لكنها تقدم صرخة مدوية حول ما آل اليه الخراب الإنساني المجتمعي الذي بدل الخروج من أزماته فإنه يقوم بصنع أزمات جديدة".

ويضيف " إن مشاهدة فيلم "التضحية" أشبه بمشاهدة حلقة طويلة للغاية من مسلسل طويل مثير للاهتمام ربما تتوقع ان تشاهد بعده حلقات أخرى من التداعيات الإنسانية المتلاحقة التي انتقلت بنا من المسار الروائي الى الفيلم".

اما الناقد السينمائي سكرين رانت فيقول "ان ميزة المخرجة جوردان سكوت انها حافظة على متعة المشاهدة في المسار الفيلمي من خلال نوع من المشاهد الحرة التي تخاطب العقل ويبدو أنها ورثت موهبة والدها في تصميم الإنتاج، وفي بناء كل لقطة، وحتى اللقطات التي تم تصويرها بكاميرا محمولة، فهي تقدم نظرة ما لبرلين والعالم العقيم وفي ذات الوقت المريح لطبقة من المثقفين الأوروبيين، انه فيلم يحرك الأجواء لطرح مزيد من الأسئلة".

بينما تذهب الناقدة أبيي بيرنشتين في موقع اساينمنت الى ان هذا الفيلم دفعنا في اطار لا يخلو من التشويق الى سماع المزيد عن هذه الطائفة، التي لا يبدو أنها تريد من ناحية الاعتراف بعلاقتها بالعديد من حالات الانتحار، ومن ناحية أخرى تستمر في الحديث عن الحاجة إلى حماية الكوكب من منطلق شعار التضحية هي الفداء، ويجب نعود إلى الاصل حتى نتمكن من العيش والوفاء لأمنا الأرض، لكن المفارقة هي تلك الفجوة وعدم الترابط ما بين حالات الانتحار وبين إنقاذ الكوكب، كأنها لعبة عبثية بالكامل".

ولعل ما يلفت النظر في المعالجة الاخراجية التي عمدت اليها المخرجة وهي سليلة عائلة من السينمائيين يكفي ان والدها هو المخرج الكبير ريدلي سكوت وهو نفسه منتج هذا الفيلم، ان تلك المعالجة حشدت الكثير من العناصر والأدوات الاخراجية لكي توزان مع زخم الأفكار والقيم الفسلفية والخطابات النظرية ولهذا تميز الفيلم بإدارة تصوير متميزة تحت إدارة جيلي كيركوود التي قدمت لقطات مميزة سواء في التصوير الليلي او في مشاهد البحيرة او في مشاهد الضياع والهلوسة وحلبات الرقص وكانت الكاميرا تتنقل ببراعة بين الأماكن والشخصيات وهو ما عززته الموسيقى التصويرية المتميزة التي وضعها فولكر بريتلمان وهو موسيقار الماني بارع وسبق له وانجز الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام الألمانية والأمريكية.

...

اخراج / جوردان سكوت

انتاج / ريدلي سكوت

تمثيل/ بين مونرو ( اريك بانا )، نينا ( سيلفيا هوكس) ، مازي – سادي سينك ، مارتن – جوناس داسلر، هيلدا – صوفي روس

عن رواية طوكيو لنيكولاس هوج.

مدير التصوير/ إدارة جيلي كيركوود

موسيقى تصويرية/ فولكر بريتلمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الفیلم من الأفلام نوع من وهو ما

إقرأ أيضاً:

كل ما تريد معرفته عن الملفات المشتركة بين مصر وتركيا

كشفت تقارير إعلامية تركية عن زيارة مرتقبة للرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" إلى أنقرة، يوم 4 سبتمبر المقبل، وهي أول زيارة رسمية يقوم بها الرئيس إلى تركيا منذ توليه الحكم عام 2014. تأتي الزيارة في سياق الأزمات المتتالية التي تشهدها المنطقة، من حيث حرب غزة، والأزمة الليبية، والأزمة السورية، والصراع المسلح في السودان، فضلا عن التوتر في إقليم القرن الأفريقي.

 

أولًا: حرب غزة

 

تتعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من الموضوعات الرئيسية في أجندة المحادثات بين مصر وتركيا، حيث تشترك الدولتان في رفض السياسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، ورفض التهجير القصري، وتصفية القضية الفلسطينية.

تتفق القاهرة وأنقرة على ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بشكل فوري وعاجل، والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وإعادة إعمار غزة، وتحقيق التهدئة بالضفة الغربية، وصولًا إلى إعلان الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

ثانيًا: الأزمة الليبية

 

يشكل الوجود العسكري التركي في غرب ليبيا أكبر العقبات أمام التقارب المصري التركي، إذ ترى القاهرة في الوجود العسكري التركي في ليبيا تهديدًا لأمنها القومي، خاصة بعد تعاون تركيا خلال العقد الماضي مع التيارات الجهادية والإسلامية هناك.

تسعى مصر لإجراء انتخابات ليبية نزيهة وخروج القوات الأجنبية، بينما ترى أنقرة إمكانية فرض حل إقليمي وترتيب تفاهمات إقليمية بين تركيا ومصر على نتائج الانتخابات المقبلة في ليبيا وتقاسم النفوذ بعد ذلك بينهما.

ثالثًا: الأزمة السورية

 

لم تصل الأمور بين أنقرة والقاهرة في المشهد السوري إلى درجة المواجهة كما حدث بين تركيا والعديد من الدول هناك. سعت القاهرة لإخراج النظام السوري من عزلته وإعادة دمجه في الدائرة العربية، بينما عملت أنقرة على إبراز أسباب تواجدها العسكري في شمالي سوريا.

يمكن للتحولات الجديدة في العلاقات التركية المصرية أن تسهم في تحريك الجمود في المشهد السوري، بما يفتح المجال أمام البلدين للعب دور سياسي فاعل.

رابعًا: الصراع المسلح في السودان

 

سعت تركيا إلى استعادة حضورها في منطقة البحر الأحمر منذ عام 2017، ورغم الفتور الذي أصاب العلاقات بعد عهد الرئيس السوداني السابق "عمر البشير"، إلا أن هناك مساحات لتقريب الرؤى بين مصر وتركيا حول الموقف من الصراع السوداني.

خامسًا: القرن الإفريقي

 

تتوافق تركيا ومصر في رفض الاتفاق الأخير بين إثيوبيا وأرض الصومال، وقد لعبت أنقرة دور الوسيط بين الصومال وإثيوبيا، وهو ما رحبت به مصر. وتشير التقارير إلى وجود تنسيق عسكري بين البلدين في إطار استعادة العلاقات.

مقالات مشابهة

  • «عندما تريد أمريكا»
  • “الزادمة” يؤكد على الرسالة الهامة التي يحملها الإعلام في خدمة قضايا المجتمع المختلفة
  • جهاز “التهديدات الأمنية”: سنستمر في التضحية وكل ما يقال عن “الفار” زور وبهتان وأكاذيب
  • مسؤول حكومي يعري الاعترافات المُفبركة التي تنشرها مليشيا الحوثي لنخبة المجتمع في صنعاء
  • البلاستيك يغرق الكوكب .. 10 دول متورطة في جريمة التلوث
  • نقابة الصَّحفيين السُّودانيين تنعي المصور التلفزيوني حاتم مأمون الذي مات متأثراً بإصابته في حادث المسيرة التي استهدفت منطقة “جبيت” العسكرية
  • بسبب إدمان المخدرات.. انقاذ مواطن حاول الانتحار شمال شرقي بغداد
  • العجيري العلمي: سبتمبر الجاري سيشهد مجموعة من الظواهر الفلكية التي ستزين سماء الكويت
  • مسؤولون أمريكيون: واشنطن تريد وقف الحرب في غزة.. ولن تنسحب من المفاوضات
  • كل ما تريد معرفته عن الملفات المشتركة بين مصر وتركيا