خالد بن خميس المويتي
ما أجمل ما حبانا الله في سلطنة عُمان من بيئات متغايرة، فالبحر يصحبنا من مسندم إلى ظفار، وسلسلة الجبال تُحيط بنا، وتلك الكثبان الرملية الذهبية تنعش البيئة، والمزروعات، والماشية في شرق الوطن، وغربه، كل ذلك مقوم طبيعي من مقومات السياحة في بلدنا العزيز؛ الأمر الذي يجعل من سلطنة عُمان مقصدا للزائرين على مدار العام، وواسطة ذلك العقد، تلك الدرة اليتيمة التي تبهر الناظرين في قلب الصيف.
نعم.. إنها صلالة، بلد الجمال والأصالة، والسحر والنبالة، وما حولها من ولايات في محافظة ظفار، فصيف الدول العربية حارق، محرق، وصيف محافظة ظفار بارد، منعش، ويجمله الرذاذ الذي لا يُفارق المحافظة.
إنها هبة من الله ربانية، وطبيعة خلابة نافست بعض الدول الأوروبية، والسائح العربي يفضل صلالة؛ لما يجد فيها من قيم، ومبادئ، وأخلاق قد لا تتوافر في الدول المشابهة لها طبيعة.
إنَّ السياحة هي ذلك المنبر الصامت، الذي يعرف بمكنونات الوطن، وهي النجاح الحقيقي الذي يتمثل في احتواء الزائرين، وتلبية متطلباتهم بما يضمن نقل صورة جميلة عن المواقع السياحية، وساكنيها، ولا يخل بثقافة الوطن، وعاداته، وأخلاقياته، ولا يقبل بالتنازلات؛ سعياً لهذا الاحتواء، ومن يضرب في الأرض يجد أن كل الدول السياحية لها ضوابط يلزم السائح اتباعها، وهي العتبة التي يقف عليها الجميع، فالقانون هو الضابط الذي يضمن لكلا الطرفين حقوقه.
إن فتح نافذة الحرية للسائحين على مصراعيها، يزرع في البلد المضيف ثقافة لم تبن على دين، والمرجو من الجهات ذات الاختصاص الالتفات إلى ذلك، ومن أمثلة هذه القوانين القائمة أنه يحظر على سائقي المركبات السير على المسطحات الخضراء؛ حفاظا على مراعي المواشي، وهذا القانون يجرم، ويغرم المتعدي عليه، فيما أحسب أن ثقافة الوطن، وفكر ساكنيه أولى بالمراعاة.
يظنُّ بعضنا أن سن القوانين التي تحفظ هوية الوطن تعرقل حركة السياحة، ولكن الأمر على عكس ذلك، فالسائح لم يخرج من وطنه بحثا عن ثقافته التي تركها في وطنه، فعلى العكس تماما هو يحب أن يتعرف على ثقافة البلد الذي يزوره، ويسعى أن يلبس ثيابه، ويكثر من الهدايا التي تمثل هوية ذلك البلد؛ ليفاخر بها حال عودته إلى وطنه، وعندما يجد قوانينا لا تمس معتقداته، وإنما هي تنظيمية فقط فسيحترمها، ويلتزم بها، ولنا سابقة في ذلك، فمن أراد دخول الجوامع، والقلاع فعليه التزام الستر، ولم يوجد ثمة اعتراض، بل تجد منهم تقبلا تاما.
إنَّ هناك كلمة خاصة أوجهها إلى جهات الاختصاص، مؤداها أن أغلبنا -إن لم يكن الجميع- قد سافر إلى مشارق الأرض، ومغاربها، وحال وقوفه في صف التذاكر للخدمات المقدمة للزائرين يسأله بائع التذاكر: مواطن، أم زائر؟، فإن كان زائراً سأله مجددا: سائح، أم طالب؟، فالأسعار ليست سواء، فالمواطن له سعر خاص، فهو في وطنه، ومن حقه أن يستمتع بكل ركن فيه، ويسهل له ذلك تلك الأسعار المغرية، وكل الإحصائيات الداخلية، والخارجية- فيما يخص السياحة- تؤكد أن نسبة السياح من المواطنين تكاد تربو على نصف الزائرين، وبهذه الخدمة سيتضاعف عددهم، هذا أولا. وثانيا: إن من كان طالبا، ولو في بلد أجنبي، فإن سعر تذاكر الدخول تكون عليه أقل من تلك التي يدفعها السائح؛ مراعاة له، وعامل جذب لأهله، ومحبيه في بلده الأصلي، فهو سينقل ذلك لكل سائل يسأله، ومن الشعارات الرائعة في ذلك: "صيفنا في بلدنا أحلى"، والسياحة الداخلية الأصل أنها أرخص ثمنا، وأكثر متعة، واستجماما، وأمنا.
وفَّق الله القائمين على أمر السياحة في بلدنا إلى تطوير هذا المرفق المهم، الذي هو لسان فصيح عنَّا وعن مقدرات وطننا وممتلكاته السياحية.
والله من وراء القصد، وهو وحده الهادي إلى سواء السبيل.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الجحيم – أو: حين تخون الحرب الوطن
الجحيم – أو: حين تخون الحرب الوطن
وجدي كامل
ذاق السودانيون الجحيم، لا على نحو عابر، ولكن كما يكون الجحيم جحيما . لم ينجُ إلا أولئك الذين أشعلوه، فظلّوا ينفخون في أوار الحرب، مزهوّين بوهم الرسالة، مدّعين أنها حرب كرامة تُخاض نيابةً عن الشعب.
أي كرامة تلك التي تنبت من رماد الخراب؟ وأي شعب ذاك الذي تُنصب له المذابح، ثم يُقال له: هاك خذ لقد انتصرنا لك؟ في غمرة جنون الثأر من الثورة والثوار والثائرات ومنظماتهم المدنية من تحالفات ، تناسى هؤلاء أن الحرب، مهما تجمّلت شعاراتها، لا تبقي وطناً. نسوا، أو تجاهلوا، أن ما يسعون إليه هو الانتقام من الثورة، لا استرداد الكرامة، وأنهم لا يحاربون لأجل السودان، بل ضده. فكانت النتيجة أن صار الوطن نفسه هو الضحية الكبرى، والرهينة، والحطام. ها هي الحرب تدخل عامها الثالث. والسودان، من شرايينه حتى أصابعه، يحترق.
من بقي فيه يعاني، ومن نزح عنه لا يقل وجعاً، ومن استراح في المنافي لا يملك غير الانتظار المرهَق والنقص المريع في الكرامة. ومع ذلك، لا تزال أصوات الخراب ترى في الحرب “مهمة وطنية”، و”خياراً أخلاقياً”، وتمضي بها إلى نهايات لا يتخيلها عقل.
الدعم السريع، الذي غادر الخرطوم بعدما أجهز على ما فيها من حياة، عاد لينسج حصاره، ويحكم قبضته على الفاشر، المدينة ذات التاريخ والمكانة والرمز. غير ان سقوط الفاشر لا يفضي فقط إلى واقع التقسيم الذي ظهرت مقدماته بقرب اعلان الحكومة الموازية، بل إلى انكسار المعنى نفسه: معنى الوطن الواحد، والخرائط المتماسكة، والناس الذين ظنوا أن الخراب له حدود. لكن القادم – كما تُنذر الوقائع – سيكون أكثر فداحة.
فما يُمَهَّد له الآن هو وجه جديد للحرب، أكثر شراسة، وأكثر احتقاراً للمدنيين. تتجه الحرب إلى استهداف المناطق الشمالية والشرقية بضرب مصادر الامداد الكهربائي كمقدمة للتطويق والزحف، لتجرّم الناس بانتمائهم، وتُنزل العقاب بالأهالي لأنهم ينتمون، لا لأنهم يقاتلون. فشلت محاولات التفاوض، واستُنزفت مؤتمرات الخارج والذي كان مؤتمر “لندن” اخرها بسبب ان المصالح الدولية لا يعلى عليها.
واليوم، لا يمكن لأحد أن يتنبأ إلى أي درك ستنحدر البلاد اكثر. لكن المؤكد أن الأسوأ لم يأتِ بعد. فالحريق ما يزال يتلمس أطراف الوطن، وما يزال يجد في الخراب ما يغذّيه. كلا الطرفين، بما اقترفا من آثام، قدّما للتاريخ مائدة دموية، زاخرة بكل ما يجعل الحاضر لعنة، والمستقبل سؤالاً مفتوحاً على الفجيعة. سيكتب التاريخ، لا محالة، كيف أن صعود قِلّة من الطغاة إلى الحكم كان كافياً لتهديد وجود أمة بأكملها، وسرقة الحياة من الأغلبية التي لم تطلب غير السلام والعدل والحرية. الدروس كثيرة، بقدر الجراح. لكن أعظمها أن على السودانيين، حيثما كانوا، أن يتعلموا كيف يُحصّنون حياتهم: لا فقط ضد رصاص وقاذفات الجيوش والمليشيات، بل ضد إنتاج الطغاة من جديد، ضد استسهال العنف باسم الدين، وضد كل من يُمهّد للطغيان بجهله أو صمته أو خوفه. إن مشكلة المقاومة المدنية السلمية لا تكمن في قياداتها، التي تبلي بلاءً حسنًا على الصعيد الإعلامي المتاح، بل في الأغلبية الصامتة أو المتفرجة، التي بدا وكأنها وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي متنفسًا للتعليق والسخرية أو التصفح السلبي، من دون أن نعمل على تحويل هذه الطاقة الثورية الهائلة إلى تظاهرة مجلجلة ضد قهر الحرب وتجلياتها المرعبة.
فكلما أحسنّا توظيف وسائل التواصل في فضح جرائم الحرب، وكشف أكاذيب جنرالاتها وخطوطهم الإعلامية الزائفة، كسبنا أرضًا جديدة في المعركة، واقتربنا خطوة نحو خلق وحدة مدنية، تكون بمثابة كلمة السر الغائبة لاستشعار قوتنا وإسماع صوتنا للعالم، كضحايا لهذه الكارثة الوطنية غير المسبوقة.
الوسومالحرب الدعم السريع الوطن الواحد جريمة وجدي كامل