أنت في محنة عندما تحيا فلسطينيا في ألمانيا!
تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT
"هناك مكان واحد لألمانيا لتقف فيه، هذا المكان هو جانب إسرائيل".
المستشار الألماني أولاف شولتس
أثناء التحضير لهذه المادة التي تحاول أن تستكشف واقع الفلسطينيين اليوم في ألمانيا، والتي انحدرت إلى دركات غير مسبوقة في قمع الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية، تواصلنا في الجزيرة نت مع مهند السعافين، وهو فلسطيني يعيش في ألمانيا وموظف سابق في الأمم المتحدة، ويعمل حاليا في مؤسسة رفض ذكر اسمها لأسباب خاصة.
كان تواصلنا مع مهند صعبًا للغاية والسبب ببساطة أنه لا يأخذ هاتفه معه حين يذهب إلى الاحتجاجات أو إلى اجتماعات تنظيم المظاهرات لأن رفاقه النشطاء الألمان والفلسطينيين المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، المسؤولين عن تنظيم المظاهرات، اكتشفوا أن الحكومة الألمانية تخترق هواتف النشطاء والمتظاهرين، فضلًا عن أنه في حالة اعتقال شخص من مظاهرة لنصرة الفلسطينيين يتم أخذ كل المعلومات الموجودة في هاتفه.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ليلة ضرب تل أبيب.. كيف تمكن الحوثيون من بناء سلاح مسيرات هجومي في أقل من 10 سنوات؟list 2 of 2نقص في دبابات الجيش.. لماذا لن تنتصر إسرائيل في غزة؟end of listهناك حادثة تدعم ما يقوله مهند في هذا الصدد، حيث كُشف النقاب عام 2021 عن شراء الشرطة الألمانية برنامج التجسس الإسرائيلي السيّئ السمعة "بيغاسوس" عام 2019 في صفقة غُلفت بغطاء صارم من السرية، وقد امتنعت الحكومة الألمانية ثلاث مرات متتالية عن توضيح الأغراض التي تستخدم فيها هذا البرنامج، كما رفضت أن تُخضع نفسها للرقابة والتدقيق بشأن استخدامه.
السؤال الصعب.. كم عدد الفلسطينيين في ألمانيا؟ ألمانيا تتعامل الآن مع الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها باعتبارهم "عديمي الجنسية" (شترستوك)
"سؤال: كم عدد الفلسطينيين في ألمانيا؟
الحكومة الألمانية: لحظة. هل يوجد شيء اسمه فلسطين؟".
حوار تخيلي.. ولكنه حقيقي جدا
لاستكشاف وضع الفلسطينيين الراهن في ألمانيا كان علينا أن نعرف كم عددهم أولًا، والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تعد جزءا جوهريًّا من القصة بأكملها، فالواقع أن الحكومة الألمانية لا تعرف عدد الفلسطينيين على أرضها، لأنها لا تعترف بوجود دولة اسمها فلسطين أصلًا.
فعلى العكس من صورة "الاعتدال" التي أظهرتها السلطات المتعاقبة في ألمانيا بشأن القضية الفلسطينية، وتقديمها للفلسطينيين "مساعدات" لا تقارن مع المنح الضخمة التي قدمتها برلين لدولة الاحتلال التي احتلت أرضهم وشردتهم على مدار أكثر من سبعة عقود، فإنها تتعامل الآن مع الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها باعتبارهم "عديمي الجنسية". فنكبة 1948 وتشريد السكان الأصليين في فلسطين على يد العصابات الصهيونية بالنسبة لألمانيا على المستوى القانوني يعني فقط أن هؤلاء السكان الأصليين فاقدي الجنسية الآن، باستثناء القليل من "المحظوظين" الذين يحملون جوازات سفر ألمانية أو عربية.
تعد هذه "الحقيقة المأساوية" أبرز التداعيات المباشرة للموقف الراسخ للحكومات الألمانية المتعاقبة برفض الاعتراف بدولة فلسطينية من دون موافقة إسرائيل. وتكمن المفارقة هنا في أن ألمانيا صاحبة الموقف التاريخي المعادي للفلسطينيين التي لا تعترف بفلسطين بالمعنى القانوني، يوجد بها جالية فلسطينية يصفها البعض بأنها أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين خارج ما يُعرف بالشرق الأوسط، فلكي توازن ألمانيا دعمها الضخم للاحتلال من دون أن تهتز صورتها بوصفها قوة سياسية "معتدلة"، حرصت دائمًا على تقديم نفسها على أنها ملاذ للاجئين الفلسطينيين، الذين أسهم الدعم الألماني للاحتلال الإسرائيلي في تشريدهم وضياع وطنهم عبر العقود.
لا تعكس الأرقام الرسمية إذن حقيقة الحضور الفلسطيني في ألمانيا نتيجة المعايير الضبابية التي تتبعها برلين في التعامل مع الفلسطينيين. وبحسب المكتب الفيدرالي الألماني للإحصاء، تم تسجيل 7799 شخصًا من حاملي جنسية الأراضي الفلسطينية في ألمانيا حتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2022، حوالي 560 منهم في العاصمة برلين، غير أن التقارير الإعلامية الألمانية تؤكد أن أعداد الفلسطينيين أكبر من ذلك بكثير، إذ تتراوح هذه التقديرات بين 175 ألفا و225 ألف فلسطيني يعملون في مختلف المجالات وخاصة الطب، والهندسة، والصيدلة، فضلًا عن المجال التجاري بمختلف فروعه، وخاصة قطاعي السيارات والمطاعم، حوالي 40 ألفا منهم في العاصمة برلين، ويتركز الباقون في هانوفر، وبون، وميونخ، وهامبورغ، وفرانكفورت، وإيسن، وكولونيا وفوبرتال.
ربما تخبرك صعوبة معرفة عدد الفلسطينيين في ألمانيا بطرف من إجابة سؤال أهم هو: ما الذي يعنيه أن تكون فلسطينيًّا في ألمانيا؟ أو كيف تُعامل الدولةُ الفلسطينيَّ في ألمانيا؟ أولا، يعني أن تكون فلسطينيا في ألمانيا أنك لا تملك الاعتراف القانوني حتى بأنك فلسطيني، لأن ألمانيا رغم أن لديها سفارة فلسطينية في برلين فإنها لن تعترف بدولة فلسطين إلا حين توافق سلطات الاحتلال في تل أبيب على ذلك، وذلك باعتراف الخبراء والمحللين الألمان أنفسهم.
وجدير بالذكر هنا أن وسائل الإعلام الألمانية لا تتساءل عن أعداد الفلسطينيين عادة في تقاريرها إلا في سياق محاولة معرفة عدد المتعاطفين مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تذكرها وسائل الإعلام دائما مصحوبة بوصف "الإرهابية"، بمعنى آخر أنهم حين يتساءلون عن أعداد الفلسطينيين، فذلك يكون في سياق كم "إرهابيا" محتملا من بينهم.
أن تكون فلسطينيا في ألمانيا كانت الأمور بالنسبة للفلسطينيين في ألمانيا تتجه نحو الأسوأ بالفعل حتى قبل السابع من أكتوبر، التي منحت السلطات الألمانية ذريعة لزيادة القمع (شترستوك)
لقد كان توجس مهند من سرقة بياناته من قبل الحكومة الألمانية متفهمًا، فقد ضُرب مهند أثناء مشاركته في اعتصام يطالب بحقوق الشعب الفلسطيني بجوار البرلمان الألماني في أبريل/نيسان الماضي ضربًا مبرحًا قبل أن يتم فض الاعتصام لاحقا، وقد كان تبرير الشرطة الألمانية لعملية الفض أن الاعتصام "يمجد ما يسميه المعتصمون بالمقاومة الفلسطينية".
قبل يوم من فض الاعتصام جاء شرطيان ألمانيان ضخمان ليعتقلا شخصين من المعتصمين، وأثناء دخولهما وجدا مهندًا أمامهما، وكانت جريمته أنه ظل واقفًا ولم يفسح لهما الطريق، فقاما من فورهما بالاعتداء عليه وعصب عينيه وليّ ذراعه بقسوة؛ مما تسبب له في إصابة واضحة، ولم يزدهما صراخه إلا قسوة فأمعنا في ليّ ذراعه المصاب، ثم وضعا أساور على يديه بطريقة تزيد من ألمه، وقد قال له الشرطي إن ما حدث عقاب له على "عدم خضوعه بسلاسة للاعتقال".
خرج مهند بعد ساعات من الاعتقال، وحينها تلقى خبر اقتحام الشرطة الألمانية للاعتصام، ذهب إلى هناك بذراعه المصابة وحمل علم فلسطين معه وظل يهتف للحق الفلسطيني حتى اعتقله رجال الشرطة واعتدوا عليه بالضرب ثانيةً، وكان معه في المعتقل 150 شخصًا آخرون، انتقل 25 منهم إلى المستشفى بعد ذلك جراء الاعتداءات العنيفة لقوات الشرطة.
بناء على تجربته الخاصة وتجارب رفاقه من النشطاء الذين عارضوا الحرب الإسرائيلية والسياسات الألمانية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي خلال الأشهر الماضية. يرى مهند أثناء حديثه للجزيرة نت، أن قمع العرب والمسلمين في ألمانيا بلغ "حدا مرعبا"، إذ أصبحت السلطات الألمانية "تستخدم نفس الآليات وتنسج نفس الأساطير التي تحيكها الأنظمة الدكتاتورية والفاشية عادةً حول من يختلفون معها في الرأي"، مثل وصف جميع المناصرين لفلسطين بأنهم "إسلاميون متطرفون يطالبون بعودة الخلافة الإسلامية" رغم أن بعضهم ملحدون لا دين لهم.
كانت الأمور بالنسبة للفلسطينيين في ألمانيا تتجه نحو الأسوأ بالفعل حتى قبل السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على غزة، التي منحت السلطات الألمانية ذريعة لزيادة القمع. وحتى داخل مجتمعات من يعرفون بـ"النشطاء والتقدميين"، كان التعبير عن أي شكل من أشكال الهوية الفلسطينية يُقابل بنبذ شديد.
ويستذكر مهند هنا واقعة الاعتداء بالضرب في المظاهرات الأخيرة المناهضة للعنصرية الممارسة على الفلسطينيين الذين رفعوا علم فلسطين،رغم أن هذه المظاهرات يُفترض أنها قامت احتجاجا عن خطط جماعات أقصى اليمين لترحيل المهاجرين من ألمانيا. وقد كانت زوجة مهند -وهي ألمانية- من المشاركين الذين تعرضوا للرش بصلصة طماطم "ماكدونالدز" والصراخ بالهتاف لإسرائيل من قبل المتظاهرين "المناهضين للفاشية" حين تجرأت على رفع علم فلسطين بينهم.
وكذلك، لا تسمح معظم الفعاليات المناهضة للكولونيالية، التي تجرى عادة في المتاحف الألمانية باستقبال أي متحدث فلسطيني، ويتم طرد أي مشارك يضع الكوفية الفلسطينية من هذه الفعاليات، منذ ما قبل السابع من أكتوبر. وقد تفاقم الأمر إلى درجة أن الصحف الألمانية، التي لا تخفي دعمها الكامل لدولة الاحتلال الاستيطاني، بدأت تتحدث أحيانا على استحياء عن أن الفلسطينيين صاروا يعانون في ألمانيا؛ إذ ينظر إليهم دائما على أنهم داعمون للمقاومة الفلسطينية.
وفي أبريل/نيسان الفائت، منعت الشرطة الألمانية انعقاد "مؤتمر فلسطين.. سنحاكمكم" المناصر للقضية الفلسطينية، بعد أن قطعت الكهرباء عن قاعة المؤتمر. وبجانب اعتقال الناشطين الفلسطينيين، فقد اعتقلت ناشطين يهودا من المشاركين والمنظمين للمؤتمر. كما منعت السلطات الألمانية، الطبيب الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة من دخول أراضيها، وذلك بهدف المشاركة في المؤتمر الذي تُنظمه مجموعة من الناشطين والحركات السياسية في ألمانيا، من ضمنهم ألمان وفلسطينيون ويهود.
وأكثر من ذلك تؤكد الصحف أن مجرد إشارة أي فلسطيني إلى معاناة أهله داخل قطاع غزة في ظل الحرب ينظر إليها مباشرةً على أنها "عداء للسامية"، وحين تذكر الصحف الألمانية ذلك لا تذكره في إطار الدفاع عن حق هؤلاء في التعبير بحرية عن آلامهم، ولكن في سياق الدعوة إلى السماح لمن لديهم "آراء معتدلة بشأن إسرائيل" بالتعبير عن أنفسهم.
يؤكد "سِباستيان إلساسير"، الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة "كيل" الألمانية، الذي تحدثنا إليه أثناء إعداد هذه المادة أن المناخ الآن بشأن حرية التعبير عن دعم فلسطين يشير إلى أن أجواء الحرية في ألمانيا أصبحت في خطر جسيم، وما ينذر بالخطر أكثر أن الذي يمارس القمع الآن هو "التيار الديمقراطي" وليس تيار أقصى اليمين. ويقول إن الكل يشعر بالتكميم الذي يحدث، وإن العديد من الألمان يعون هذا الخطر، ويؤكد أيضًا أن هذه الرقابة من الدولة على حرية الرأي لم تحدث في تاريخ ألمانيا الحديث إلا في حالات قليلة للغاية.
هل أنت متعاطف مع فلسطين؟ احترس! معاملة الشرطة الألمانية تكون أفضل مع اليهود المؤيدين لفلسطين نوعًا ما فهم يعتقلونهم فقط، أما الفلسطينيون فيضربونهم بشدة قبل اعتقالهم (شترستوك)
قرر مهند في يوم ما أن يعلق علم فلسطين على نافذة منزله فاشتكى الجيران من أنه يرفع "لافتة إرهابية"، فما كان من الشرطة إلا أن جاءت وخيرته بين الاعتقال أو إنزال العلم، وهو للمفارقة نفس الأمر الذي حدث خطأ لمطورة برمجيات إسرائيلية ألمانية اعتقلتها الشرطة الألمانية لأنها ترفع علم فلسطين وبداخله نجمة داود في الشارع، والمفارقة أن السبب هذه المرة هو أن الشرطة خشيت أن يُفهم الأمر على أنه دعوة لتدمير إسرائيل. اضطر مهند يومها إلى إنزال العلم، لكنه واجه محاكمة في هامبورغ بسبب رفعه العلم الفلسطيني في إحدى التظاهرات.
لا تقف أخطار التضامن مع فلسطين في ألمانيا عند هذا الحد، فبحسب مهند فإن الكثيرين ممن شاركوا في مخيم الاعتصام بجوار البرلمان الألماني طُردوا في وقت قريب من أعمالهم بسبب نشر آرائهم المتعاطفة مع فلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كانت الشركات الكبرى منذ بداية الأحداث قد أرسلت تهديدات للعاملين بها تحذّرهم من انتقاد إسرائيل، وبحسب مهند فإنه حتى التعبير عن التعاطف مع الأطفال الذين يقتلون في غزة يعرضك لتهمة معاداة السامية في ألمانيا.
العجيب أن الكثيرين من اليهود تعرضوا للقمع خلال السنوات الأخيرة بسبب تضامنهم مع فلسطين، إذ تعرضت ستافيت سيناي عالمة الاجتماع اليهودية المقيمة في برلين، التي تحمل أيضا الجنسية الإسرائيلية، للحبس مدة 30 يومًا مع الغرامة عقابًا لها لأنها دخلت فعالية دُعيت إليها نائبة في الكنيست الإسرائيلي عام 2017، وصرخت بهتافات ضد إسرائيل تضمنت وصفها بأنها "دولة فصل عنصري"، وقالت للضيفة الإسرائيلية إنها "تحمل دماء أطفال غزة على يديها"، وكانت تهمة سيناي الأساسية أنها بعد طردها قامت بطرق باب الندوة بشدة مرة أخرى.
وكذلك، تعرضت الناشطة اليهودية الألمانية التي تحمل الجنسية الإسرائيلية، عالمة النفس إيريس هيفتس، للقبض عليها ثلاث مرات منذ السابع من أكتوبر، في المرة الأولى بسبب حملها لافتة مكتوبا عليها "بوصفي يهودية إسرائيلية أطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزة"، وهو نفس السبب الذي أدى إلى اعتقالها في المرة الثانية، ثم اختلف السبب في المرة الثالثة قليلا إذ كانت تحمل لافتة تقول "الصهيونية تقتل"، ولكن تشير هيفتس هنا إلى أن معاملة الشرطة الألمانية تكون أفضل مع اليهود المؤيدين لفلسطين نوعًا ما فهم يعتقلونهم فقط، أما الفلسطينيون فيضربونهم بشدة قبل اعتقالهم.
وجدير بالذكر هنا أن الشرطة الألمانية قد استحدثت فرقة داخلها تحت اسم "إل كي إيه" منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر، ومهمتها مراقبة الأيديولوجيات "اليسارية والأجنبية" التي تؤيد حقوق فلسطين التاريخية.
ورغم كل تلك الأجواء الملبدة بالقمع، يرى البروفيسور سباستيان إلساسير أن هذا لا يعني أن ألمانيا انزلقت تماما إلى المناخ الدكتاتوري، فهو يرى أن هناك درجات كثيرة بين مرتبة الديمقراطية ومرتبة الدكتاتورية، وأن الدول ليست دائمًا إما ديمقراطية قحّة وإما دكتاتورية قحّة، ومن ثم فهو يقول إن مؤشرات ألمانيا في حرية الرأي تدهورت بكل تأكيد لكن هذا لا يعني أنها أصبحت دكتاتورية قحة، فألمانيا تشهد فقط تحولا غير ليبرالي، لكن ليس علينا أن نبالغ في تقدير المسألة الفلسطينية، فهي أمر واحد من ضمن أمور عديدة في ألمانيا، بحسب قوله.
ويتفق مهند والدكتور سباستيان إلساسير على أن ألمانيا في السنوات الأخيرة كانت "دائمًا تنتخب مجموعة من البشر لتوقع بهم حصتها من القمع، وقد ظهر ذلك جليًا في وقت جائحة كوفيد -19 حين أنتجت الدولة خطابًا قمعيًّا شاملًا ضد الذين رفضوا تلقي التطعيم، ثم ظهر ذلك أيضًا في الإجراءات المتبعة مع المتعاطفين مع فلسطين".
وبينما يرى مهند أن هذا يكشف الحقيقة الخفية حول الطبيعة العنصرية العميقة للدولة الألمانية بحسب قوله، يرى إلساسير أن هذه الأمور هي محض إجراءات مبالغ فيها يقوم بها بعض المؤمنين بالديمقراطية حين يستشعرون خطرًا على الديمقراطية ذاتها، مثل تخوفهم من إدخال خطاب "إسلامي متطرف" أو خطاب "معاد للسامية" فيما يخص الدفاع عن فلسطين.
ازدراء الفلسطينيين سياسات ألمانيا العدائية ضد المتعاطفين مع فلسطين على أرضها تنبع من الإيمان المتجذر بأن ألمانيا لا بد أن تكون مكانًا آمنا لليهود (الأناضول)
حين حدثنا الدكتور إلساسير عن التشابه بين الإجراءات التي اتخذتها ألمانيا ضد الرافضين لتطعيم كوفيد -19 وخطابهم الذي يدعم نظرية المؤامرة بحسب وصفه، والإجراءات المتبعة ضد المتعاطفين مع فلسطين وأن الدافع إلى ذلك هو الخوف على الديمقراطية، تأتي الحجة على الطرف المقابل بأن هناك فرقا جوهريا بين الأمرين، ففي الحالة الأولى كانت الدولة تواجه بعض المؤمنين بنظرية المؤامرة الذين قد يعرضون حياة الناس للخطر وإن اتخذت منحى قمعيا متزايدا في هذه المواجهة، أما الآن فإن الدولة الألمانية تقمع العلماء والمفكرين الذين يجرؤون على قول الحقيقة المتمثلة في أن هناك احتلالا في فلسطين، وأن هناك حقا للفلسطينيين في المقاومة، وهناك حرب إبادة تجري بمساعدة ألمانيا ضد أهل غزة.
وعلى الرغم من أن إلساسير يرفض الرأي القائل بأن هناك "كراهية متأصلة" داخل ألمانيا للفلسطينيين، فإنه يؤكد أن هناك إجماعا على التعاطف مع إسرائيل وعلى عدم رؤيتها بوصفها دولة احتلال، ليس هذا فحسب بل يقول إن مبدأ دعم إسرائيل ومنع الخطاب المعارض لها ينظر إليه بشكل واسع في ألمانيا على أنه الشيء الذي يوحد الألمان رغم اختلافاتهم، ومن ثم تكون أحداث مثل الأحداث الأخيرة في غزة فرصة للشعب الألماني ليشعر بأنه موحد حول شيء ما ، بل يؤكد إلساسير أن هناك رأيا عاما في ألمانيا لا يتقبل فكرة أن الفلسطينيين قد يمتلكون حججا عقلانية للدفاع عن رأيهم.
بالطبع ما يقوله إلساسير يعني ضمنيا ما يرفض أن يعلنه صراحة، وهو أن هناك ازدراءً عميقا للفلسطينيين، فتجريم أي تعاطف معهم، وجعل المعتدي دائما في موقف الحق الدائم، هو خلل أخلاقي ألحق ضررا كبيرا بصورة ألمانيا في العالم الإسلامي.
يقول إلساسير أيضًا إن سياسات ألمانيا العدائية ضد المتعاطفين مع فلسطين على أرضها تنبع من الإيمان المتجذر بأن ألمانيا لا بد أن تكون مكانًا آمنا لليهود، ومن ثم حين يطالب أحد بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي يزعم الألمان أن هذا يزعج اليهود في ألمانيا ويجعلهم يشعرون بعدم الأمان.
وقد دفعنا ذلك إلى طرح سؤال مهم على الدكتور إلساسير هو: كيف يمكن لشعب كامل تقريبًا مثل الشعب الألماني أن يكون داعمًا لاحتلال وتشريد شعب آخر يبعد عنه مسافات طويلة؟
وفي جوابه، أشار إلساسير إلى مسألة التعليم، إذ لا يقدم التعليم إلا سردية واحدة متعاطفة مع الاحتلال، والشخص الألماني العادي الذي لم يثقف نفسه لن يتخيل معاناة الطرف الآخر من القصة، فالناس لا تتعلم في المدارس الألمانية أن ترى القصة من زاويتين. وتُطرح هذه القصة عادة باعتبار أن الإسرائيليين كانوا مستعمرين ثم حاولوا أن يعيشوا بسلام مع الشعب الأصلي في فلسطين، لكن هذا الشعب الأصلي رفضهم وهذا ما أنتج الصراع، ويقول لنا إنه هو نفسه خلال تعليمه في المدرسة بألمانيا لم يتعلم شيئًا جديا عن ماضي ألمانيا الاستعماري في أفريقيا على سبيل المثال.
يشير إلساسير أيضًا إلى أن ماضي أوروبا كله مليء بـ"التطهيرات العرقية" والإبادات، والدول الأوروبية أغلبها ما كانت لتوجد على النحو الذي هي عليه الآن بدون عمليات "التطهير العرقي". وفيما يخص مسألة التعليم يتفق مهند مع إلساسير، فبحسب مهند فإن عملية "مسح الأدمغة" في ألمانيا تبدأ من الطفولة والمدرسة مرورًا بالإعلام الموجه في كل مكان، وهو ما يجعل الشعب الألماني يتحرك في مسائل معينة مثل مسألة دعم إسرائيل وكأنه "كتلة واحد".
ويقول للجزيرة نت، إنه غالبا ما يجري الربط بين العداء للسامية والعداء لإسرائيل باعتبارها وطن اليهود. وهناك ما يدعم ما يقوله مهند بشأن تدجين الأطفال في المدارس الألمانية فيما يخص إسرائيل، إذ تتجاهل المناهج الدراسية أي ذكر للتاريخ الفلسطيني أثناء الحديث عن ما يُعرف بـ "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي".
في الواقع فإن مسألة اضطهاد الهوية الفلسطينية في المدارس الألمانية تكاد تكون مسألة يجمع عليها الكثير من الفلسطينيين الذين عاشوا وتربوا في دولة ألمانيا "الديمقراطية" ومنهم الباحثة في النوع الاجتماعي داليا لينا التي تحكي أنها والكثير من الفلسطينيات كن ينكرن هويتهن الفلسطينية في المدارس خوفًا على أنفسهن، وتقول إن معلمتها في المدرسة الابتدائية سألتها ذات يوم من أين أتت والدتك فردت لينا: "فلسطين"، فما كان من المعلمة إلا أن غضبت وفزعت، وحذرتها من أن تنشر مثل تلك الأكاذيب مرة أخرى؛ ففلسطين غير موجودة بحسبها.
يُمنع الطلاب الفلسطينيون أيضًا حتى من قبل السابع من أكتوبر من أن يرتدوا أي قلادة عليها خريطة بلادهم المحتلة، كما يُمنعون عادة من عمل أي عروض تقديمية تتحدث عن وطنهم من زاوية تاريخية وبخاصة مسألة النكبة، وكأن هناك تواطؤًا ما على طيّ هذه الصفحة من القصة وبداية الرواية من نقطة متأخرة.
في هذا الصدد، يخبرنا إلساسير أن أغلب الناس في ألمانيا يقولون: لماذا لم يتقبل الفلسطينيون خسارتهم ويعيشون بسلام بعد عام 1948؟ ونحن في المقابل توجهنا إلى إلساسير بهذا السؤال: لماذا إذن لا تتقبلون أنتم في ألمانيا احتلال روسيا لأوكرانيا بسلام؟ فصمت برهة ثم أجاب: "لأن هذا في الحاضر، الناس يتحدثون بهذا المنظور حين تكون الأمور في الماضي".
بالطبع توضح هذه الإجابة المتناقضة ومثيلاتها كيف أن الأمر في ألمانيا لا علاقة له بالحجج المنطقية بقدر ما هو مرتبط بالعقل الجمعي الألماني الذي ربما يكون قد تلوث بالعنصرية والكراهية لهؤلاء الفلسطينيين الذين يطالبون بحقهم؛ ومن ثم فكل الحجج بعد ذلك تصاغ لا من أجل الحقيقة وإنما من أجل إعطاء مسوغ فلسفي لهذه الكراهية.
يؤكد لنا إلساسير أيضًا حقيقة غريبة وهي أن الرابط الوحيد الذي يناقش في ألمانيا بين حالة أوكرانيا وحالة فلسطين، هو ما يقوله اليمينيون عادة من أن إسرائيل وأوكرانيا جزآن من الحلف الغربي ومن ثم ينبغي مساعدتهما.
يتفق مهند وإلساسير رغم اختلاف الأفكار المحركة لهما على أن من أخطر مشكلات الشعب الألماني "طاعته العمياء للدولة"، وبالطبع يرى إلساسير أنها ليست "عمياء" تماما ولكن "نسبة الطاعة" للرواية الرسمية للدولة في ألمانيا دائمًا أعلى منها لدى الشعوب المجاورة، وبحسبه فإن هذا يعود إلى اهتمام الألمان بفكرة النظام، ومن ثم فهم مهتمون دائمًا بطاعة الأوامر والالتزام بالنظام العام.
يستشهد مهند على تلك "العبادة للدولة" حسب تعبيره، بما حدث حين عرض أمام أصدقائه الألمان مقاطع الاعتداء عليه، فقد رفضوا أن يصدقوا أعينهم لأن الشرطي الألماني لا يمكن أن يفعل ذلك، وفق منظورهم. يضحك مهند من طريقة الألمان في الحجاج حين يقول لهم إن دولتهم أصبحت "فاشية"، فما يكون منهم إلا أن يفتحوا له مواد الدستور الألماني على الإنترنت ليقولوا له إنه يؤكد أننا في دولة ديمقراطية.
وربما يمكن ختام الحديث حول كراهية فلسطين المتجذرة في ألمانيا، بذكر حادثة وقعت في 15 مايو/أيار 2023، حين منعت ألمانيا أي مظاهرات لإحياء ذكرى النكبة، لكن ليست هذه هي النقطة الجديرة بالذكر، فالمهم أن الشرطة الألمانية قبضت على مجموعة من الناس في ذلك اليوم وحولتهم إلى المحاكمة لأنهم انتهكوا حظر المظاهرات، وفي المحاكمة اعترف أحد الضباط الألمان بأن المتهمين بالفعل لم يقوموا بأي احتجاج أو مظاهرة لكنهم كانوا يرتدون أوشحة بها نفس ألوان علم فلسطين! وربما تكون تلك الحكاية كاشفة عن أن الأمر لا يتوقف عند محبة دولة الاحتلال بل يصل إلى ازدراء ونكران الشعب المحتَلّ. محنة أن تحيا فلسطينيا في ألمانيا!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد قبل السابع من أکتوبر الحکومة الألمانیة السلطات الألمانیة الشرطة الألمانیة عدد الفلسطینیین ا فی ألمانیا الألمانیة ا التعبیر عن فی المدارس علم فلسطین أن ألمانیا ألمانیا لا فلسطین على ما یقوله أن تکون على أنه أن هناک ومن ثم دائم ا أن هذا على أن فی غزة
إقرأ أيضاً:
صندوق تحيا مصر: «دكان الفرحة» يفتح أبوابه لرعاية 2000 طالب وطالبة في جامعة دمنهور
نظم صندوق تحيا مصر معرض مبادرة "دكان الفرحة" في جامعة دمنهور بمحافظة البحيرة، ليوفر 9 آلاف قطعة من الملابس الجديدة والأحذية والإكسسوارات .
يأتي إطلاق هذه المبادرة من قبل الصندوق في إطار سعيّه الدائم لدعم الطلاب المستحقين والأولى بالرعاية، وتخفيف العبء المادي عن كاهل أسرهم .
وانطلقت صباح اليوم فعاليات اليوم الأول للمعرض وذلك بحضور الدكتورة جاكلين عازر، محافظ البحيرة، الدكتور إلهامي على ترابيس، رئيس جامعة دمنهور، وبمشاركة عدد من قيادات صندوق تحيا مصر، ومحافظة البحيرة، وأعضاء هيئة التدريس بالجامعة.
ويأتي المعرض بهدف إتاحة الفرصة لأكثر من 2000 طالب وطالبة المعد لهم دراسة حالة اجتماعية لاختيار ما يناسبهم من المعرض كهدية من الصندوق بحُرية تامة ودون مقابل، ويستمر على مدار يومين على التوالي الأربعاء والخميس 6 و7 نوفمبر .
وذكر الصندوق أن تنظيم معرض جامعة دمنهور يأتي ضمن سلسلة من المعارض التي تجوب محافظات الجمهورية طوال العام الدراسي، وذلك للسعي إلى تهيئة بيئة محفزة لطلاب الجامعات، وتوفير كافة الإمكانيات التي تدعم إبداعاتهم وتشجعهم على المشاركة الفعالة.
وعبّر الطلاب عن إعجابهم الشديد بالتنوع في الملابس ذات الجودة العالية المعروضة في المعرض، والتي تلبي مختلف الأذواق، وقد جاء هذا المعرض مع اقتراب فصل الشتاء وارتفاع أسعار الملابس الشتوية، مما ساهم في توفير خيارات متنوعة، كما أشادوا بالتنظيم المحكم للمعرض والتعاون المثالي من قبل المتطوعين، مما خلق أجواءً مريحة وممتعة ساهمت في نجاح معرض دكان الفرحة.
الجدير بالذكر، أن معارض دكان الفرحة تعد أحد أنشطة قوافل الحماية الاجتماعية التي ينظمها الصندوق لتوفير الكساء للطلاب الأولى بالرعاية وتم تنظيم معارض لطلاب جامعات المنيا وجنوب الوادي والاسكندرية وعين شمس، ودمياط، وسوهاج، والفيوم، وحلون، وأسيوط، فضلًا عن تنظيم معارض للأسر الأولى بالرعاية ودور رعاية الأيتام وأبناء السجينات وذوي الهمم، في القاهرة، والجيزة، والشرقية، والإسكندرية، والأقصر والواحات البحرية، والمنيا، وقنا، وسوهاج، وشمال سيناء .