عربي21:
2025-02-08@13:19:36 GMT

إسرائيل في حرب استنزاف عقب هزيمة استراتيجية

تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT

أسفرت حرب الإبادة الوحشية المستمرة منذ عشرة أشهر التي تنفذها المستعمرة الصهيونية في غزة تحت أنظار العالم عن استشهاد أكثر من أربعين ألف فلسطينيّ معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة نحو تسعين ألفا آخرين، وتدمير قرابة 70 في المئة من المباني السكنيّة والـمَرافق العامّة والمستشفيات والمساجد والمدارس والبنى التحتيّة.

ومع كل تلك الجرائم والفظائع لم تتمكن إسرائيل من تحقيق نصر عسكري حاسم على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، ودخلت المستعمرة في حالة شك وجودي وحرب استنزاف، وبدأت تتعاظم الأسئلة حول جدوى الحرب وعبثية نتائجها التكتيكية المحدودة، وتصاعدت الأصوات داخل المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والعسكرية والفكرية باستيعاب وتقبل الهزيمة وضرورة بناء استراتيجية لتجاوز آثارها وتداعياتها، فقد أدت حالة الإنكار والانفصال عن الواقع برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين الصهيوني والديني (سموتريتش وبن غفير) إلى دخول إسرائيل في حرب استنزاف عقب الهزيمة المنكرة في عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

لم يخطر ببال أحد أن حركة مقاومة فلسطينية محلية محاصرة لا يتجاوز عدد مقاتليها بضعة عشرات الآلاف وبقدرات عسكرية متواضعة دون دعم دولي،  ومحيط عربي عدائي ودون قدرة على امتلاك أسلحة متطورة، سوف تقف ندا لأحد أقوى الجيوش في العالم، والذي يتمتع بدعم غربي واسع وإسناد عسكري غير محدود من الولايات المتحدة، القوة العالمية الأولى، ومع ذلك كله فإن عددا متزايدا من الخبراء العسكريين والمحللين الاستراتيجيين يحذرون من أن إسرائيل قد تخسر هذه الحرب على الفلسطينيين رغم جنون حرب الإبادة والعنف الكارثي والتدمير الممنهج للبنية التحتية.

يحمّل اللوبي الصهيوني الغربي والعربي حركة حماس مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، وأن حماس لم تكن تقديراتها صائبة حول الرد الإسرائيلي واستفزاز الهجوم الإسرائيلي، لكن حسابات حماس تتجاوز النظرة العسكرية الآنية القاصرة وترنو إلى تحقيق أهداف سياسية استراتيجية بعيدة
ويحمّل اللوبي الصهيوني الغربي والعربي حركة حماس مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، وأن حماس لم تكن تقديراتها صائبة حول الرد الإسرائيلي واستفزاز الهجوم الإسرائيلي، لكن حسابات حماس تتجاوز النظرة العسكرية الآنية القاصرة وترنو إلى تحقيق أهداف سياسية استراتيجية بعيدة. فعملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023 التي شنتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، داخل المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، أطاحت بركائز الأمن القومي الإسرائيلي، وجرّت إسرائيل إلى حرب استنزاف واسعة، فسرعان ما دخل محور المقاومة على خط المواجهة في اليوم التالي، حيث شرع حزب الله اللبناني بمواجهة محسوبة بهجمات عبر صواريخ ومسيّرات منسقة ومتدرجة، وساندت قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان جبهة غزة، وامتدت جبهات المساندة إلى جماعة أنصار الله في اليمن وفصائل المقاومة الإسلامية في العراق.

لا جدال في أن حركة حماس تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية من خلال عملية "طوفان الأقصى"، فمعايير النصر والهزيمة لا تستند إلى القوة العسكرية المجردة، فالحرب هي استمرار للسياسة بطرق أخرى. وقد أعادت عملية "طوفان الأقصى" الفلسطينية التذكير بهجوم "تيت" في فيتنام، وفتحت المجال أمام المقارنات رغم الفروقات والاختلافات. ففي نهاية كانون الثاني/ يناير عام 1968، وخلال فترة الهدنة المعلنة خلال الحرب، للاحتفال برأس السنة القمرية الفيتنامية، المسماة "تيت"، قامت فيتنام الشمالية بشن واحد من أكبر الهجمات المفاجئة ضد فيتنام الجنوبية الموالية للنظام الأمريكي، والذي عرف باسم "هجوم تيت"، فقد شن الفيتكونغ والجيش الشعبي الفيتنامي سلسلة من الهجمات على أكثر من 100 هدف في جنوب فيتنام، وضمن ذلك العاصمة سايغون في ذلك الوقت، والقواعد العسكرية، والبعثات الدبلوماسية الأمريكية.

وقد خسر الثوار الفيتناميون المعركة وضحوا بالكثير من البنية التحتية السياسية والعسكرية السرية التي بنوها بصبر على مدار سنوات، ومع ذلك، كان هجوم تيت لحظة أساسية في هزيمتهم للولايات المتحدة، حيث حطمت العصابات الفيتنامية المسلحة بأسلحة خفيفة وهم النجاح الذي روجت له إدارة جونسون للشعب الأمريكي، وأوضحت للأمريكيين أن الحرب التي طُلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم من أجلها لا يمكن الفوز بها.

كما هو حال حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، قامت القيادة الفيتنامية بقياس تأثير أعمالها العسكرية من خلال آثارها السياسية وليس من خلال التدابير العسكرية التقليدية، مثل خسارة الرجال والعتاد أو اكتساب الأراضي، ما دفع هنري كيسنجر الذي كان رئيسا لشؤون الأمن القومي عام 1969 إلى القول: "لقد خضنا حربا عسكرية؛ خصومنا خاضوا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي، كان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا النفسي. وفي هذه العملية فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخس، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".

أكدت الأشهر التي تلت عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أنه لا يمكن العودة إلى الوضع الذي كان قائما في فلسطين من قبل، ومن المؤكد أن هذا هو الهدف الرئيس لحركة حماس من شن عملية "طوفان الأقصى"، فقد تنامت قبل العملية تصريحات عدد من القيادات الإسرائيلية بالدعوة علنا دون مواربة إلى استكمال النكبة، التي تعني التطهير العرقي لفلسطين، فلم تكن عملية "طوفان الأقصى" المباغتة سوى استجابة طبيعية لما أفضت إليه محاولات تصفية القضية الفلسطينية، والعنف الاستعماري الإسرائيلي
وعلى خطى كيسنجر يرى جون ألترمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة، أن إسرائيل معرضة لخطر كبير بالخسارة أمام حماس، حيث قال: "إن مفهوم حماس للنصر العسكري يدور حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد. إن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل. في هذا السيناريو، تحشد حماس السكان المحاصرين في غزة حولها بغضب، وتساعد في انهيار حكومة السلطة الفلسطينية من خلال ضمان أن ينظر الفلسطينيون إليها على أنها ملحق ضعيف للسلطة العسكرية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، تبتعد الدول العربية بقوة عن التطبيع، وينحاز الجنوب العالمي بقوة إلى القضية الفلسطينية، وتتراجع أوروبا عن تجاوزات الجيش الإسرائيلي، ويندلع نقاش أمريكي حول إسرائيل، مما يؤدي إلى تدمير الدعم الحزبي الذي تتمتع به إسرائيل هنا منذ أوائل السبعينيات".

أكدت الأشهر التي تلت عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أنه لا يمكن العودة إلى الوضع الذي كان قائما في فلسطين من قبل، ومن المؤكد أن هذا هو الهدف الرئيس لحركة حماس من شن عملية "طوفان الأقصى"، فقد تنامت قبل العملية تصريحات عدد من القيادات الإسرائيلية بالدعوة علنا دون مواربة إلى استكمال النكبة، التي تعني التطهير العرقي لفلسطين، فلم تكن عملية "طوفان الأقصى" المباغتة سوى استجابة طبيعية لما أفضت إليه محاولات تصفية القضية الفلسطينية، والعنف الاستعماري الإسرائيلي الممنهح في غزة الذي حولها إلى معتقل وسجن كبير بدعم من الإمبريالية الأمريكية والغربية وخنوع الأنظمة العربية، التي تجاهلت الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الاستيطاني لإسرائيل، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة روتينا عاديا، حيث أصبح الوهم القائل بأن الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين والإقليميين، وتنامى الاعتقاد بأن المسألة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى من خلال القوة العنيفة، وقد عززت مسارات تطبيع الكيان الاستعماري مع الدول الاستبدادية العربية برعاية إمبريالية أمريكية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية.

حطمت العملية العسكرية التي قادتها حماس جملة الأساطير التي زعمت أن إسرائيل قوة لا تقهر، وأطاحت بتخرصات وتوقعات مواطنيها بالهدوء إلى الأبد في الوقت الذي تهدر فيه حياة الفلسطينيين. فقبل أسابيع فقط من عملية "طوفان الأقصى"، كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتباهى بأن إسرائيل نجحت في "إدارة" الصراع إلى درجة أن فلسطين لم تعد تظهر على خريطته "للشرق الأوسط الجديد". ومع "اتفاقيات أبراهام" العلنية الوقحة، والتحالفات السرية المشينة الأخرى، كان معظم القادة العرب يحتضنون إسرائيل، وكانت الولايات المتحدة تروج لخطة "صفقة القرن"، حيث ركز الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن على "التطبيع" مع الأنظمة العربية التي كانت على استعداد لترك الفلسطينيين عرضة للاحتلال ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وبدا أن الطريق بات ممهدا لتصفية القضية الفلسطينية ومحو اسم فلسطين من الوجود.

شنت المستعمرة الصهيونية حرب إبادة على غزة وصعدت من الهجمات على جنوب لبنان في لحظة شك وجودي، في محاولة يائسة لاستعادة المكانة المفقودة وقوة الردع المهدورة. وقد نشرت صحيفة "هآرتس" مقالا للبروفيسور في العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا "دافيس"، زئيف معوز، عرض فيه تحليلا انتقاديا لسياسة "إسرائيل" الخارجية والأمنية منذ إقامتها، قائلا إنّ "الهزيمة الأكبر في تاريخ إسرائيل هي حرب غزّة، والتي ستسجّل للأبد باعتبارها الهزيمة الأكثر خزيا في تاريخنا.. وهذا من دون أن نأخذ في الحسبان فضيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 العسكرية".

وفي سياق الهزيمة والفضيحة خاضت إسرائيل الحرب على غزة دون وجود خطة استراتيجية واضحة بأهداف محددة ، ولم تتمكن من تحقيق الأهداف المعلنة للحرب باستعادة الرهائن والقضاء على حركة حماس وردع حزب الله وأنصار الله وجبهات المساندة، وهو ما أفضى بإسرائيل إلى التورط في فخ حرب استنزاف ومصيدة متعددة الجبهات، ذخاضت إسرائيل الحرب على غزة دون وجود خطة استراتيجية واضحة بأهداف محددة ، ولم تتمكن من تحقيق الأهداف المعلنة للحرب باستعادة الرهائن والقضاء على حركة حماس وردع حزب الله وأنصار الله وجبهات المساندة، وهو ما أفضى بإسرائيل إلى التورط في فخ حرب استنزاف ومصيدة متعددة الجبهات، ذلك أن الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع تحولت إلى هدف بذاتها وليست وسيلة لتحقيق أهداف سياسيةلك أن الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع تحولت إلى هدف بذاتها وليست وسيلة لتحقيق أهداف سياسية كما هو شأن الحروب السابق، وهو ما أدركه في مرحلة مبكرة الكاتب الإسرائيلي المختص في شؤون الأمن والاستخبارات يوسي ميلمان؛ الذي يرى أن أحد أسباب تعثّر الجيش الإسرائيلي في تحقيق هدف الحرب، هو أن المستوى السياسي منذ البداية لم يُحدّد أهدافا دقيقة للحرب، إذ إن الأهداف المُعلنة يُنظر إليها منذ اليوم الأول على أنها أهداف غير واقعية، ولذلك فإسرائيل لا تملك أية استراتيجية أو تصور لإنهائها.

وحسب إيان لوستيك، أعلنت إسرائيل عن قائمة متزايدة الاتساع من أهداف الحرب التي تشمل القضاء على حماس، وإعادة جميع الرهائن، والضمانات بأن غزة لن تهدد إسرائيل مرة أخرى، ومنع السلطة الفلسطينية من أي دور في حكم الأراضي، و"منع أي "عنصر" يربي أطفاله على الإرهاب، ويدعم الإرهاب، ويمول الإرهاب، ويدعو إلى تدمير إسرائيل"، وإنشاء منطقة عازلة واسعة داخل غزة تفصل إسرائيل عن سكان القطاع. ومع ذلك، لم يشرح أي زعيم إسرائيلي كيف يمكن لـ"عملية السيوف الحديدية"، كما أُطلق على حملتهم العسكرية، أن تحقق هذه الأهداف.

في ظل استمرار الحرب دون أفق سياسي تدخل إسرائيل إلى هزيمة تاريخية حسب صحيفة معاريف الإسرائيلية التي قالت: يبدو أن إسرائيل تواجه هزيمة تاريخية رغم القتال الضاري الجاري في غزة والأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية العسكرية لحماس، فأهداف الحرب لم تتحقق، ومع ذلك يستمر مجلس الوزراء الحربي وهيئة الأركان العامة في "تضليل الجمهور بإصدار تصريحات مبهمة وأنصاف حقائق" حسب الصحيفة.

فاستمرار غياب تصور سياسي إسرائيلي واضح لمستقبل قطاع غزة، بالتزامن مع الاستمرار بإطلاق شعارات كبيرة وتبنّي أهداف غير منطقية وغير قابلة للتحقق؛ يعني أن إسرائيل تتجه نحو السقوط في مصيدة خطيرة من الاستنزاف متعدّدة الجبهات، وهو ما أكده الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة في 17 أيار مايو/ الماضي، حيث قال: "رغم حرصنا الكامل على وقف العدوان على شعبنا، مستعدون لمعركة استنزاف طويلة للعدو، ولسحبه لمستنقع لن يجني فيه ببقائه أو دخوله لأي بقعة من غزة سوى القتل لجنوده واصطياد ضباطه، وهذا ليس لأننا قوة عظمى بل لأننا أهل الأرض وأصحاب الحق، نحن غزة بسمائها وهوائها وبحرها ورمالها".

فالغطرسة الإسرائيلية والانفصال عن الواقع تقود المستعمرة إلى حرب شاملة ومفتوحة في قطاع غزة؛ وحرب استنزاف مع حزب الله على الجبهة الشمالية قد تنزلق إلى حافة القتال المفتوح، واستمرار هجمات الحوثيين وتصاعده من اليمن ضد إسرائيل لمحاولة فرض حصار مائي من الجنوب بشكل كلي أو جزئي، وتزايد احتمال انفجار خطر المواجهة العسكرية المفتوحة في الضفة الغربية واندلاع انتفاضة ثالثة، وتصاعد انخراط المقاومة الإسلامية في العراق وسورية في المواجهة وتوسيع هجماتها ضد إسرائيل، وقد تتطور المواجهة باتجاه حرب إقليمية واسعة بين إيران وإسرائيل.

إن محاولة تسويق صورة للنصر في غزة يتناقض مع مقومات مفهوم النصر الإسرائيلي، بينما يتطابق مع مفهوم النصر عند المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، فمفهوم النصر يشكل أحد الأسس الأربعة التي تقوم عليها عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، إلى جانب الردع، والإنذار المبكر، والدفاع، حيث تميز العقيدة الإسرائيلية بين أربعة أنواع من النصر وهي: النصر التكتيكي بإبطال قدرات العدو القتالية، والنصر العملياتي بتفكيك نظام القتال للعدو من خلال سلسلة من الاشتباكات أو المعارك، والنصر العسكري الاستراتيجي بإزالة التهديد العسكري لسنوات قادمة، والنصر النظامي بتغيير الوضع الاستراتيجي بشكل أساسي سياسيا وعسكريا واقتصاديا.


وثمة إجماع على أن إسرائيل عاجزة عن تحقيق نصر نظامي، بإحداث تغيير جوهري في وضعها الاستراتيجي، من خلال إزالة التهديد الذي تفرضه حماس. فالنصر النظامي لا يتحقق من خلال الوسائل العسكرية فحسب؛ بل يتطلب إجراءات سياسية ومدنية واقتصادية تؤدي تدريجيا إلى تغيير في المنطق الكامن خلف سلوك حماس، والذي يتطلب إضعاف الحاضنة الشعبية الداعمة لحماس والمقاومة، وهو ما فشلت فيه الألة العسكرية والمؤسسة السياسية الإسرائيلية. أما مفهوم النصر لحركة المقاومة والتحرير فيقوم على أسس مختلفة، تستند إلى الصمود ودعم الحاضنة الشعبية، الصراع بين إسرائيل وإيران ذو طبيعة جيوسياسية، بينما القضية الفلسطينية هي مسألة احتلال استعماري استيطاني، والمقاومة هي مشروع تحرر وتقرير مصير، وما دفع حركات المقاومة الفلسطينية إلى الاقتراب من إيران هو غياب أي مشروع عربي لدعم المقاومة وتحرير فلسطين والاستسلام للسرديات الأمريكية والإسرائيليةفحركة حماس، باعتبارها حركة مقاومة، تركز على عنصر بسيط وهو الصمود والبقاء، وقدرة الحركة على إعادة بناء بنيتها التحتية العسكرية والمدنية، وإدارة المقاومة والرأي العام، وممارسة النفوذ على حكم غزة ما بعد الحرب. ولذلك تخوض حماس باقتدار مفاوضات صعبة مع إسرائيل بشأن الرهائن، بما في ذلك المطالبة بضمانات أمريكية لوقف إطلاق نار دائم والانسحاب الإسرائيلي من غزة.

خلاصة القول أن إسرائيل دخلت في حرب استنزاف وتلبست بهزيمة استراتيجية، ولن تفلح الخطابات الاستعلائية المنمقة للتفوقية العرقية اليهودية الاستيطانية في محو وتصفية القضية الفلسطينية. فقد باتت قرارات محكمة العدل الدولية واضحة حول الاحتلال والاستيطان، وسوف تنهار السردية الإسرائيلية بربط المقاومة الفلسطينية بالمشاريع الإيرانية، فالصراع بين إسرائيل وإيران ذو طبيعة جيوسياسية، بينما القضية الفلسطينية هي مسألة احتلال استعماري استيطاني، والمقاومة هي مشروع تحرر وتقرير مصير، وما دفع حركات المقاومة الفلسطينية إلى الاقتراب من إيران هو غياب أي مشروع عربي لدعم المقاومة وتحرير فلسطين والاستسلام للسرديات الأمريكية والإسرائيلية.

ولا يبدو أن الولايات المتحدة متحمسة للدخول في حرب شاملة مع إيران لصالح إسرائيل، وثمة قناعة بدأت تسود بأن عملية "طوفان الأقصى" فضحت هشاشة المستعمرة وكشفت عن ضعفها البنيوي. ولا يقتصر الإقرار بهزيمة استراتيجية لإسرائيل على الخبراء العسكريين والمحللين الاستراتيجيين، فقد صدرت تحذيرات من عدد من المفكرين اليهود، مثل الكاتب الإسرائيلي يوفال نوح هراري، وهو مؤرخ صهيوني وأستاذ جامعي في قسم التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، بأن حركة "حماس" تقترب من إلحاق هزيمة بإسرائيل لأن "الحملة في غزة لا تتعلق بمن يقتل المزيد من الناس، بل بمن يقترب من تحقيق أهدافه السياسية". فالأهداف السياسية في حالة حماس "واضحة تماما" وقد تحقّق بعضها بالفعل، بينما في "إسرائيل" فهي "غامضة إلى غير موجودة"، وبدون أفق سياسي ستهزمنا حماس"، فـ"من يربح الحرب بين إسرائيل وحماس في الحرب؟ الفائز ليس بالضرورة هو الشخص الذي يقتل المزيد من الناس أو يأخذ المزيد من السجناء أو يدمرّ المزيد من المنازل أو يحتل المزيد من الأراضي، الفائز هو الجانب الذي يحقق أهدافه السياسية".

x.com/hasanabuhanya

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة إسرائيل المقاومة الهزيمة النصر إسرائيل غزة النصر المقاومة الهزيمة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع من تشرین الأول المقاومة الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة طوفان الأقصى إسرائیل إلى حرب استنزاف أن إسرائیل حرکة حماس المزید من حزب الله من تحقیق ومع ذلک من خلال لم تکن فی غزة فی حرب وهو ما

إقرأ أيضاً:

قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل

بيروت، لبنان- تحتفظ زينب الديراني، مثل كثيرين من سكان الضاحية الجنوبية، بذكريات دافئة عن الحي الذي نشأت فيه، عن حفل خطوبة ابنة عمها حيث اجتمع الأهل والجيران يرقصون في الشارع أمام منزلهم في الطابق الأرضي، وعن والدها الذي كان يقصد صالون الحلاقة القريب ليحصل على حلاقة مميزة على يد إبراهيم الشهير بـ"بوب الحلاق".

لكن اليوم، لم يتبقَ من كل تلك التفاصيل سوى صور عالقة في الذاكرة، بعدما تحولت شوارع الحدث -الحي الذي ترعرعت فيه وعاشت فيه 20 عاما- إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة.

حلاق بضاحية بيروت الجنوبية (الجزيرة) مجرد ذكريات الآن

كانت الديراني (25 عاما) تعيش في منطقة الحدث، إحدى ضواحي بيروت الجنوبية، التي استهدفتها إسرائيل بشراسة خلال الحرب. في 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنّت إسرائيل غارة مدمرة على حارة حريك، مسفرة عن تدمير 6 مبانٍ ومقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وفقا للتقارير الإسرائيلية.

بعد ساعات فقط من الهجوم، وبينما كان اللبنانيون يترقبون مصير نصر الله، أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أوامر إخلاء لسكان مناطق واسعة من الضاحية، مما دفع آلاف العائلات إلى مغادرة منازلها في حالة من الذعر.

إعلان

يصف المشهد خضر عيدو -وهو طاهٍ تنفيذي (26 عاما) ويعيش في بشامون قرب الشويفات- قائلا: "كانت الليالي الأولى تحت القنابل مرعبة. أصوات الانفجارات كانت تحطم الصمت، وتبث الخوف في كل زاوية من المدينة. مع كل دويّ، كنا نشعر بأن وجودنا نفسه أصبح هشا أكثر من أي وقت مضى".

امرأة نائمة على كورنيش بيروت بعد فرارها من الغارات الجوية الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية 14 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس)

على مدى الأسبوعين التاليين، شهدت الضاحية أعنف قصف إسرائيلي منذ حرب 2006، حيث استهدفت الغارات الجوية المنطقة بشكل غير مسبوق. كانت وسائل الإعلام اللبنانية تبث الدمار على الهواء مباشرة، في حين أضاءت سماء الليل ألسنة اللهب البرتقالية والحمراء، حتى بدت وكأنها شروق جديد، لكنه محمّل بالرعب بدلا من الأمل.

حياة تحت الأنقاض

زعمت إسرائيل أنها تستهدف مخازن أسلحة حزب الله، لكن الواقع على الأرض كان مختلفا، فقد أسفر القصف عن مقتل أو تشريد عشرات الآلاف من المدنيين، في وقت تحولت فيه مئات المنازل والمتاجر إلى ركام، ولم يتبقَ من حياة الناس سوى ذكريات تائهة بين الأنقاض.

تصاعد الدخان والنيران بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت، السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (الأناضول)

زينب الديراني كانت واحدة من هؤلاء الذين فقدوا منازلهم. تحاول استجماع كلماتها وهي تصف حجم الدمار الذي لحق بمسكنها: "لقد قصفوا بجوار منزلي.. المبنى لا يزال قائما، لكن كل شيء بداخله دُمر بالكامل"، وتتوقف للحظة قبل أن تتابع بصوت مخنوق: "غرفتي أصبحت لها شرفة الآن بسبب القنبلة".

ورغم أن منزلها لا يزال واقفا جزئيا، فإن ما حوله لم يكن محظوظا بالقدر نفسه، إذ فقدت الحيّ بأكمله، فقدت صالون الحلاقة الذي كان يقصده والدها، وفقدت معلمتها التي كانت تعدّها شخصية ملهمة في طفولتها.

إعلان

وتضيف بأسى: "لقد قصفوا منزلها وقتلوا كل أفراد عائلتها بداخله.. زوجها، ابنتها، ولديها.. كلهم رحلوا في لحظة. كل يوم ترى شخصا يموت".

ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من غارة جوية إسرائيلية على الضاحية في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس) قتل مدينة

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 2500 شخص في لبنان على يد القوات الإسرائيلية. وفي حين استهدفت الهجمات عديدا من المناطق، كانت بيروت والضاحية الجنوبية من بين أكثر الأماكن تضررا، مما دفع بعض الخبراء إلى تصنيف ما يحدث هناك على أنه "إبادة حضرية" أو "قتل المدينة".

تصف منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية والسياسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ما يحدث قائلة: "إنه ليس مجرد دمار مادي، بل إنه محو هائل للمكان والناس وذكرياتهم".

وتضيف: "الأمر يتجاوز المباني المدمرة، لقد فقدنا أيضا الأشياء غير الملموسة.. العادات، الممارسات، تفاصيل الحياة اليومية التي اعتاد الناس القيام بها في تلك الأماكن. إنه تدمير لما يحمله الناس في ذاكرتهم".

يرى أحد الباحثين في مركز "أستوديو الأشغال العامة"، وهو مؤسسة تهتم بالتخطيط الحضري وصنع السياسات في لبنان، أن الحرب لم تدمر الأبنية فحسب، بل قطعت الروابط التي تشكل نسيج المجتمع. يقول الباحث، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، للجزيرة: "الهجمات الإسرائيلية تفكك الصلة بين الناس وأحيائهم، وتقطع الروابط الاجتماعية التي تحدد هوية المجتمع".

ويتابع: "نتيجة لذلك، لا تواجه هذه المناطق الدمار المادي فحسب، بل تشهد أيضا تفككا اجتماعيا عميقا، حيث يضطر السكان إلى التخلي عن الأماكن التي شكلت حياتهم وذكرياتهم وهوياتهم".

امرأة تمر أمام سيارة مرسيدس بنز قديمة من ستينيات القرن العشرين متوقفة أمام جدارية لحزب الله في الضاحية أثناء الحرب الأهلية في 12 يونيو/حزيران 1986 (غيتي) الضاحية من بساتين الزيتون إلى مدينة نابضة بالحياة

في عام 1955، قرر محمد، جد ديانا يونس، مغادرة مدينة بعلبك في وادي البقاع شرقي لبنان، بحثا عن مستقبل جديد، فاستقر في المنطقة الواقعة جنوب بيروت، التي كانت آنذاك مجرد بساتين زيتون ممتدة على مد البصر.

يتذكر يونس تلك الفترة قائلا: "لم تكن هناك ضواحٍ كما نعرفها اليوم، لم يكن هناك سوى أشجار الزيتون وأراضٍ واسعة، لا مبانٍ ولا شوارع مزدحمة". وسط هذا الامتداد الأخضر، قرر محمد وزوجته بناء بيت صغير بأيديهما، وضعا فيه الأساس لحياة جديدة، غير مدركين أن المنطقة التي اختاراها ستتحول يوما ما إلى واحدة من أكثر المناطق حيوية وكثافة سكانية في لبنان.

مع مرور السنين، ومع توسع العمران، بدأت المدارس والجامعات تظهر في المنطقة، وهو ما جعلها مقصدا لعديد من العائلات الباحثة عن الاستقرار. كبرت عائلة محمد، وكبرت معها الضاحية، التي لم تعد مجرد مجموعة من البيوت الريفية، بل أصبحت مجتمعا حضريا متكاملا.

إعلان

اليوم، يُعرف هذا الامتداد رسميا باسم "سهل المتن الجنوبي"، لكنه لا يزال يُشار إليه ببساطة بـ"الضاحية"، اسم أصبح مرادفا للتنوع والتاريخ والتحولات السكانية التي شهدتها المنطقة على مدار العقود الماضية.

تُعرف الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها منطقة مترامية الأطراف، تضم بلديات رئيسية مثل الغبيري، وبرج البراجنة، وحارة حريك، والمريجة -تحويطة الغدير- الليلكي، إلى جانب مناطق عشوائية مثل الأوزاعي، وبئر حسن، وحرش الكتيل، وحي السلم، بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في برج البراجنة وشاتيلا.

تصف منى حرب، الخبيرة في التخطيط الحضري، الضاحية بقولها: "إنها بحجم مدينة بيروت". وتضيف: "إذا بدأنا من هذا المفهوم، فسندرك أن هذه المنطقة ليست مجرد ضاحية، بل هي مجتمع متكامل متعدد الأوجه، حيث تعيش الأسر، ويعمل الناس، ويتنقلون، ويقضون أوقات فراغهم. لكل طبقة من الحياة هنا قصة خاصة بها".

لم تكن الضاحية كما نعرفها اليوم، بل تشكلت عبر موجات نزوح متتالية خلال العقود الماضية، وهو ما جعلها ملاذا لمئات الآلاف من العائلات الفارة من العنف والنزاعات.

الموجة الأولى (1975-1976) جاءت خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، حيث طُرد نحو 200 ألف شخص من سكان الأحياء الفقيرة في شمال شرق بيروت، بعضهم تعرض لمجازر نفذتها مليشيات مسيحية يمينية، وهو ما دفعهم إلى الانتقال إلى الضاحية بحثا عن الأمان.

الموجة الثانية الكبرى وقعت خلال الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في عامي 1978 و1982، وما تبعه من احتلال استمر حتى عام 2000. أسفرت هذه الأحداث عن نزوح ما يصل إلى 900 ألف شخص، معظمهم من المسلمين الشيعة، الذين استقروا في الضاحية بعد أن اضطروا لمغادرة قراهم الجنوبية.

مع هذه التحولات، تغيّرت التركيبة الديمغرافية للضاحية. كانت المنطقة تضم سابقا طائفة مارونية كبيرة، لكن كما توضح منى حرب، فإن الموارنة "هُجِّروا قسرا وبعنف" خلال موجات النزوح المتتالية. وعلى الرغم من أن بعض المسيحيين لا يزالون يعيشون في المنطقة، فإن الغالبية العظمى منهم لم يعودوا أبدا بعد تهجيرهم خلال الحرب.

إعلان

هكذا، لم تكن الضاحية مجرد امتداد عمراني للعاصمة بيروت، بل أصبحت مدينة بحد ذاتها، شكلها التاريخ، وطبعتها الهجرة القسرية، حتى باتت اليوم واحدة من أكثر المناطق تنوعا وكثافة سكانية في لبنان.

على الرغم من التغيرات الديمغرافية التي شهدتها الضاحية الجنوبية خلال العقود الماضية، فإن بعض مظاهر التعددية الدينية لا تزال قائمة. تشير حرب إلى أن "الكنائس والمقابر المسيحية تم ترميمها في العقد الأول من القرن الـ21، وظلت القداسات تُقام كل يوم أحد"، في تأكيد على أن الوجود المسيحي لم يُمحَ بالكامل من المنطقة، حتى لو أن أعداد السكان قد تغيّرت.

مع توافد موجات المهاجرين الجدد إليها، لم تعد الضاحية مجرد منطقة مجاورة لبيروت، بل أصبحت امتدادا حضريا كثيفا، يكاد يضاهي العاصمة من حيث الحجم والكثافة السكانية، حيث نما العمران بشكل متسارع، وتوسعت البنية التحتية لتستوعب الأعداد المتزايدة من السكان، مما جعلها إحدى أكثر المناطق ازدحاما في لبنان.

بالنسبة إلى محمد، جد ديانا يونس، الذي كان أحد أوائل من استقروا في الضاحية، شهد بأم عينيه كيف تحولت هذه المنطقة من بساتين زيتون هادئة إلى مدينة مكتظة بالحياة. وكما توسعت الضاحية، نمت عائلته أيضا؛ فمع مرور السنوات، تزوج كل واحد من أبنائه، وأصبح كل منهم يبني طابقا جديدا فوق بيت أبيهم، ليؤسس أسرته الخاصة، في مشهد يعكس التحولات السريعة التي طرأت على المنطقة.

اليوم، أصبحت الضاحية شاهدا على عقود من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من منطقة زراعية بسيطة إلى واحدة من أكثر المناطق تأثيرا في المشهد اللبناني.

أنصار حزب الله يحملون الأعلام لتوزيعها على مشيعين في جنازة بالضاحية نهاية 2023 (غيتي) محطات تاريخية.. كيف تغيرت الضاحية؟

غالبا ما تصف وسائل الإعلام الدولية الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها "معقل حزب الله"، في محاولة لاختزالها في بُعد سياسي وأمني فقط، متجاهلة تعقيداتها الاجتماعية والثقافية. حتى داخل لبنان، هناك من ينظر إليها باعتبارها "غيتو" شيعيا أو منطقة متمردة، كما أشارت منى حرب في مقال نشرته عام 2009 عن الضاحية.

بائعا خضروات وفاكهة يتجولان بعربة في مخيم شاتيلا للاجئين يوم 13 يناير/كانون الثاني 1984 (غيتي)

لكن حرب ترفض هذه النظرة التبسيطية التي تتجاهل واقع الحياة اليومية في المنطقة، وتقول في حديثها للجزيرة الإنجليزية: "مئات الآلاف من الأفراد ذوي الأصول والهويات المتعددة يعيشون هناك"، مشيرة إلى أن بيروت ولبنان عموما صغيران إلى حد يجعل من المستحيل العيش في الضاحية من دون أن تكون متصلا ببقية المدينة والمجتمع ككل.

إعلان

نشأت في الضاحية عدة تيارات سياسية وحركات اجتماعية منذ ستينيات القرن الماضي، لكن الحرب الأهلية اللبنانية غيرت موازين القوى فيها. خلال الحرب، سيطرت على المنطقة حركة أمل، الذراع المسلح لحركة "المحرومين" التي أسسها الإمام موسى الصدر.

لكن في عام 1984، بدأ حزب الله في كسب أنصار داخل الضاحية، وفي عام 1989، اندلعت مواجهات بينه وبين حركة أمل، انتهت بسيطرة الحزب على أجزاء واسعة من الضاحية، ليصبح لاحقا القوة السياسية والعسكرية الأبرز فيها. حتى اليوم، يحتفظ الحزب بشبكات سياسية واجتماعية واسعة النطاق داخل الضاحية، كما أن وجود أعلامه وتجمعاته وخطاباته العامة كان مشهدا مألوفا على مدار العقود الماضية.

خيام أقيمت ملاجئ مؤقتة للعائلات النازحة الهاربة من الغارات الجوية الإسرائيلية، على طول شاطئ الرملة البيضاء العام في بيروت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس)

لكن على الرغم من وجود أنصار لحزب الله في الضاحية، فإن تصنيف المنطقة بـ"المعقل" يثير اعتراضات واسعة، ليس فقط بين الباحثين، بل أيضا بين سكانها أنفسهم. ترى حرب وآخرون أن استخدام مصطلح "معقل" يتجاهل التنوع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الضاحية، بل ويعمل على إضفاء الشرعية على العنف ضدها، وكأنها مجرد هدف عسكري وليس حيا نابضا بالحياة.

تقول حرب: "هناك صورة نمطية غير إنسانية تروجها وسائل الإعلام الغربية، تربط جميع سكان هذه المنطقة بتوجهات سياسية معينة، وهو أمر بعيد عن الواقع".

قبل أن تتحول الضاحية إلى ساحة حرب، جاءت زينب الديراني إليها عام 2021 من بلدتها قصرنبا في البقاع بحثا عن فرص عمل، في وقت كان فيه لبنان يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه. كانت زينب تحمل طموحات كبيرة، وبذلت جهدا هائلا في حياتها المهنية، إذ عملت لأكثر من 14 ساعة يوميا إلى جانب دراستها للكيمياء والتشخيص الطبي.

إعلان

لم تكن تحب حيّها كثيرا، لكنها رغم ذلك تحتفظ بذكريات جميلة عن الجلوس مع والديها في نهاية اليوم، يتبادلان الأحاديث، وعن عمتها التي كانت تمرّ لزيارتهم باستمرار.

دعاء نابو (3 سنوات) تنام على زاوية أحد الشوارع بينما تقرر عائلتها إخلاء المنزل تحسبا لغارات جوية إسرائيلية في العاشر من أغسطس/آب 2006 (غيتي)

نشأت منى حرب في الضاحية الجنوبية، لكنها غادرتها قبل نحو 30 عاما. أما والدها، فكان يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز واللحوم والجبنة واللبنة حتى أسابيع قليلة مضت.

تقول بأسى: "كان المنزل جيدا وآمنا"، قبل أن تتوقف للحظة وتضيف بصوت منخفض: "قبل ذلك".

اليوم، يجد أكثر من مليون شخص -أي ما يعادل 20% من سكان لبنان- أنفسهم في حالة نزوح قسري بسبب الحرب الأخيرة. وبينما دُمّرت منازلهم، لم يجد كثيرون منهم مأوى، فافترشوا الحدائق العامة، والشوارع، وحتى شواطئ البحر، في مشهد يعيد إلى الأذهان الأزمات الإنسانية التي عصفت بلبنان على مر العقود.

يقول الباحث في أستوديو الأشغال العامة: "بالنسبة إلى النازحين، الصدمة مزدوجة، ليس فقط لأنهم طُردوا من منازلهم تحت التهديد، ولكن لأنهم يشهدون أيضا محو روابطهم الثقافية والجسدية بأرضهم". وأضاف أن ما يحدث في الضاحية ليس مجرد قصف عشوائي، بل هو "محاولة متعمدة لمحو وجود المجتمع ذاته"، في إشارة إلى حجم الدمار الذي طال المنطقة منذ بدء العدوان الإسرائيلي.

ليالٍ مرعبة ودمار ممنهج

منذ 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنت إسرائيل عشرات الغارات على الضاحية، وفقا لمصادر محلية. وبعد توقف استمر أسبوعا تقريبا، استؤنف القصف بوتيرة أعنف، إذ شهدت ليلة 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024 واحدة من أشد ليالي القصف رعبا، حين شنت إسرائيل 17 غارة جوية أسفرت عن تدمير ما لا يقل عن 6 مبانٍ، كان من بينها مكتب قناة الميادين الإعلامية.

ويؤكد الباحث في أستوديو الأشغال العامة أن "رسم خريطة للدمار أمر معقد، لكن الواضح هو أن الضاحية تعرضت لهجمات وحشية يومية". ويضيف: "ما يميز هذه الضربات هو العنف العشوائي ضد المدنيين، حيث لم تعد تقتصر على أهداف عسكرية مزعومة، بل امتدت لتشمل الأبنية السكنية والشوارع والمحال التجارية".

إعلان

وكانت الأوامر الإسرائيلية بالإخلاء تصدر عبر منصة إكس، حيث نُشرت خرائط للضاحية مع تمييز المباني المستهدفة باللون الأحمر. وفي كثير من الحالات، مُنح السكان ساعة واحدة فقط للمغادرة، ومع كل ليلة كانت المهلة تقلّ، لتتحول إلى دقائق معدودة في بعض الأحيان.

يضيف الباحث: "المباني والشوارع والأحياء بأكملها تم تحديدها ورسم خرائطها بشكل منهجي، ثم استُهدفت بغارات جوية دقيقة، في إطار إستراتيجية مدروسة للقضاء على المساحات المدنية".

المأوى المفقود

يوم 27 سبتمبر/أيلول 2024، أجبرت زينب الديراني وعائلتها على مغادرة منزلهم. انتقل والداها للعيش مع شقيقتها في أحد الأحياء المسيحية، بينما وجدت زينب ملجأ مؤقتا في متجر بعين الرمانة.

ومع استمرار عمليات الإخلاء، انتقدت منظمة العفو الدولية الطريقة التي أُجبر بها السكان على المغادرة، ووصفتها بأنها "مضللة وغير كافية". وأشارت إلى أن بعض الهجمات وقعت بعد أقل من 30 دقيقة من إصدار التحذير، بينما جاءت هجمات أخرى من دون أي تحذير على الإطلاق.

صدمة الفقدان

بالنسبة لمازن، وهو صاحب محل هدايا وعطور في المريجة، لم يكن القصف مجرد كارثة مادية، بل كان فقدانا لكل ما كان يعني له الحياة. كان يعيش حياة هادئة مع قطته المحبوبة "سيسي"، التي أصبحت نجمة حسابه على "تيك توك". ولكن عندما ضربت غارة جوية المبنى الذي يسكن فيه حين كان خارجه لشراء بعض الحاجات، انهار المبنى بالكامل، تاركا سيسي تحت الركام.

وفي مقطع فيديو انتشر على "تيك توك"، ظهر مازن وهو يقف أمام أنقاض منزله يبكي بحرقة وينادي على قطته المفقودة، بينما انهالت التعليقات برموز تعبيرية باكية وأخرى تعبر عن الحزن.

يقول مازن للجزيرة: "ذهبت كل حياتي، لا مشكلة، سأجد منزلا آخر… لكن الشيء الوحيد الذي يهمني هو إذا ما كانت سيسي قد نجت. إن شاء الله لم تمت".

لم يفقد الأمل في العثور عليها، فكل يوم يذهب إلى موقع الدمار بحثا عنها، وينام في العراء، متنقلا بين الشوارع والشرفات، ويقول: "ما زلت أعيش حياة هادئة، لا يهمني أي حزب أو طائفة، أنا فقط أحب الحياة والقطط والحيوانات"، يقول بنبرة مفعمة بالألم والاستسلام.

إعلان تاريخ يعيد نفسه

لم تكن هذه المرة الأولى التي تعيش فيها الضاحية هذا النوع من التدمير الشامل. ففي حرب يوليو/تموز 2006، خاض حزب الله وإسرائيل حربا استمرت 34 يوما، قُتل خلالها أكثر من 1220 شخصا، معظمهم من اللبنانيين، في حين دُمر حوالي 245 مبنى وفق ما أطلق عليها الجيش الإسرائيلي "عقيدة الضاحية"، وهي تكتيك عسكري يقوم على التدمير غير المتناسب.

ورغم الحروب السابقة، فإن الضاحية استمرت في النمو واحتضنت سكانها النازحين من مناطق أخرى. لكن اليوم، يواجه بعض هؤلاء السكان واقعا مختلفا، إذ لم يعد كثيرون يرون في الضاحية مكانا يصلح للعيش بعد انتهاء الحرب.

نسيم (11 عاما) نازحة من الضاحية تعرض حجارة لونتها خلال أنشطة فنية أقامها متطوعون في بيروت يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (رويترز)

تقول ديانا يونس: "عائلة خالي قررت عدم العودة. يخططون لبيع كل ممتلكاتهم هنا والانتقال إلى مكان آخر. لم يعد أحد يريد الضاحية".

ذكريات تتلاشى وأحلام تتبدد

نشأت منى حرب في الضاحية، التي غادرتها قبل 30 عاما، وكان والدها حتى وقت قريب يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز والجبنة، ليس لعدم توفرها في مكان آخر، ولكن لأن هذه الرحلة عبر الأزقة الضيقة كانت تمنحه شعورا بالانتماء والارتباط بالمكان.

تقول بحزن: "هذا مجرد مثال بسيط على شيء قريب مني تم محوه تماما".

أما زينب الديراني، التي حلمت دائما بحياة خارج الضاحية، فوجدت نفسها أمام واقع لم تكن تتمناه. "أردت الرحيل، لكن ليس بهذه الطريقة… أشعر أن كل أحلامي تنهار"، تقول بصوت يملؤه الألم والصدمة.

وتضيف: "ما زلت أعيش في حالة إنكار… وكأنني في كابوس لا أريد أن أستيقظ منه، لأنني عندما أفعل، سأجد نفسي أمام حقيقة قاسية لا أعرف كيف أتعامل معها".

ففي حين تتلاشى ذكريات الطفولة والأيام الجميلة، يغلب شعور الرعب والخوف من المستقبل على سكان الضاحية. وتختتم زينب حديثها بعبارة موجعة: "نحن نجلس وننتظر يومنا… من المؤسف أن أقول هذا، لكننا ننتظر اللحظة التي سنُقتل فيها مثل أحبائنا وأصدقائنا".

إعلان

مقالات مشابهة

  • منطقة وادي سيدنا العسكرية تقوم بإجراء تفجير مخلفات الحرب وعلى المواطنين عدم الانزعاج والابتعاد عن المنطقة
  • أبرز الأسماء التي ستفرج عنها إسرائيل اليوم ضمن صفقة التبادل مع حماس
  • الجيش يبدأ في تفجير مخلفات الحرب بالمنطقة العسكرية بجبل أبو وليدات يدعو المواطنين إلى الابتعاد عن المنطقة
  • طوفان الأقصى نصرٌ أم هزيمة؟
  • مسؤول عسكري أمريكي يجري محادثات استراتيجية في إسرائيل
  • وزير الدفاع الإسرائيلي يوبّخ رئيس المخابرات العسكرية
  • قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل
  • الاحتلال الإسرائيلي يفجّر مخزنا ومنزلا في نابلس.. وهذه تطورات العملية العسكرية بالضفة
  • وزير الدفاع الأمريكي: سنجهز إسرائيل بالذخائر التي لم تُمنح لها سابقًا
  • الحزب اليميني الهولندي: من المستحيل هزيمة روسيا عسكريا