خطة اليوم التالي.. ماذا عن مشاركة قوات عربية في غزة؟
تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT
طُرحت فكرة مشاركة قوات عربية بصيغ مختلفة في وقت مبكر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في إطار التفكير بمستقبل القطاع في اليوم التالي للحرب، على أساس أن الاحتلال الإسرائيلي والأميركان وحلفاءهم الغربيين حسموا موقفهم بمنع عودة حماس لإدارة القطاع تحت أي شكل.
وظلت الفكرة ضمن السيناريوهات المطروحة طوال الأشهر الماضية، بغض النظر عن مدى جديتها وإمكانية تنفيذها، أو وجود ميل عربي أو فلسطيني أو إسرائيلي أو دولي تجاهها.
بيدَ أن هناك قبولًا أميركيًا بالفكرة، واستعدادًا للمشاركة في إنفاذها، بل وسعيًا عمليًا لدى الأطراف المختلفة لتسويقها.
الموقف الإسرائيليظهرت فكرة إشراك قوات عربية في ترتيبات اليوم التالي لإدارة القطاع ضمن السيناريوهات التي طرحتها جهات إسرائيلية في الشهر الأوّل للحرب، وظلّ هذا معروضًا في "السوق"، غير أنّ الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو لم تتبنَّ هذا السيناريو رسميًا حتى الآن.
في المقابل، فإن شخصيات رئيسية في الحكومة تبنّت الفكرة أبرزها بيني غانتس ويوآف غالانت.
وتنبع أهمية تبني غانتس للفكرة أنه الأكثر شعبيّة في دولة الاحتلال، وأنه الشخص الأوفر حظًا لرئاسة الحكومة الإسرائيلية بعد نتنياهو، وسبق له أن تولى قيادة الجيش الإسرائيلي.
وقد أوضح فكرته في برنامج النقاط الست الذي طرحه (قبيل انسحابه وحزبه من الحكومة الإسرائيلية في 8 يونيو /حزيران 2024) ودعا إلى آلية مدنية دولية لحكم قطاع غزة، بمشاركة أميركية أوروبية عربية فلسطينية، مع استبعاد حماس والسلطة الفلسطينية في رام الله منها.
أما غالانت، فتكمن أهمية طرحه أنه نفسه وزير الجيش الإسرائيلي، وعضو رئيسي في حزب الليكود الحاكم حاليًا.
وقد طرح غالانت فكرته منذ أشهر وأعيد نشرها في أواخر يونيو /حزيران 2024 (واشنطن بوست ويديعوت أحرونوت)، واقترح وجود لجنة توجيه بقيادة الولايات المتحدة تشاركها دول عربية "معتدلة" وتشرف على الأمن، بينما يتولى الأميركان الجانب اللوجيستي والقيادي من خارج غزة. وذكرت يديعوت أحرونوت أن غالانت قسّم قطاع غزة إلى 24 منطقة، وستأخذ قوة فلسطينية تدريجيًا السيطرة الأمنية، ويتم تنفيذ الخطة على مراحل من شمال القطاع باتجاه جنوبه.
أما اليمين الديني المتطرف (سموتريتش وبن غفير)، فيرفض الفكرة، ويدعو إلى إعادة السيطرة على القطاع، وإلى إعادة الاستيطان، مع تهجير أو توفير ظروف تهجير الفلسطينيين من القطاع. بينما حافظ نتنياهو على قدر من الغموض، ولم يُلزم نفسه بأي خطة مستقبلية، سوى الإشارة للتحكم في مستقبل القطاع، وهو غموض يخدمه إلى حد ما في متابعة إدارته للحكومة؛ لكنه يتسبَّب في اتساع دائرة الاستياء والضغوط من الدوائر العسكرية والأمنية والمعارضة، التي تريد أن ترى أفقًا واضحًا للخروج من مأزق القطاع.
الموقف العربيظهرت إشارات غير رسمية عن رغبة عدد من الدول العربية، بأن ينتهي الهجوم الإسرائيلي بإسقاط حكم حماس للقطاع، وإنهاء العمل المقاوم هناك.
غير أنه لم تظهر في الأشهر الأولى للعدوان تقارير تؤكد موافقة أي من هذه الدول على المشاركة في قوات أمنية في ترتيبات اليوم التالي لإدارة القطاع. ولعله كانت هناك بيئة رافضة أو متحفظة تجاه هذه الفكرة.
وكانت الرؤية العربية تركز بشكل عام على إنهاء العدوان والانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وأن أي ترتيبات لمستقبل القطاع تتم في إطار مسار التسوية السلمية في المنطقة، وتنفيذ حلّ الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن يكون للسلطة الفلسطينية في رام الله دور أساس في الترتيبات المتعلقة باليوم التالي للحرب على القطاع.
كما أنّ بيان القمة العربية في المنامة المنعقد في 16/5/2024 دعا لنشر قوات حماية وحفظ سلام دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة باتجاه إنفاذ حل الدولتين. فربط وجود القوات الدولية بترتيبات إنهاء الاحتلال، وليس بإنفاذ شروط الاحتلال.
لكن على ما يبدو، فإن دولًا عربية أخذت تميل مع الزمن لإمكانية المشاركة ضمن قوات دولية. وتحدثت فايننشال تايمز في 6 مايو /أيار 2024 عن أن هناك دولًا عربية أصبحت مرحبة بالفكرة لكنها نبّهت إلى معارضة قطر والسعودية والأردن لذلك.
كما أن تصريحات الرئيس الإندونيسي سوبيانتو في مطلع يونيو/حزيران 2024 باستعداد إندونيسيا للمشاركة في قوات حفظ سلام في غزة، قد خدم الفكرة.
حل مشكلة الإسرائيلي أم الفلسطيني؟يظهر من كل الاقتراحات المعروضة لإدارة قطاع غزة بمشاركة عربية بعد انتهاء الحرب؛ وكأنها في إطار ترتيبات مرحلة انتقالية تقوم القوات العربية فيها بدور أساس في توفير الغطاء للانسحاب الإسرائيلي، وبما يحقق إدارة قطاع غزة وفق الشروط والمعايير الإسرائيلية والأميركية، ويضمن عدم عودة حماس وقوى المقاومة لإدارة القطاع، ومتابعة تفكيك القوى العسكرية والمدنية للمقاومة، وصولًا إلى إدارة مدنية فلسطينية يرضى عنها الاحتلال أو تُنفذ أجندته. والطرح العربي لا يتماهى ابتداء مع هذا السياق.
وتظهر أبرز المعوقات في أن الطرف العربي سيظهر وكأنه يقوم بحلّ المشاكل والصعوبات التي يواجهها الطرف الإسرائيلي، وليس المعاناة والتحديات التي
يواجهها الطرف الفلسطيني؛ وكما لو أن الاستلام والتسليم جاء على ظهر دبابة إسرائيلية.
من ناحية ثانية، سيبدو الأمر تكريسًا للاحتلال واستدامته (عن طريق الوكلاء) وليس خطوة باتجاه إنهاء الاحتلال، وهي من ناحية ثالثة تكرس عقلية الوصاية على الشعب الفلسطيني وإرادته، وكأن الشعب الفلسطيني لم ينضج بعد أكثر من مائة عام من المقاومة والصمود والتضحيات ليأخذ حقه في تقرير مصيره.
إذ إن أمر إدارة قطاع غزة هو شأن داخلي فلسطيني، يقرره الفلسطينيون بأنفسهم، ولا يفرضه الإسرائيليون، ولا حاجة لوكلاء ينوبون عنهم. ومن ناحية رابعة، فإن ثمة مخاوف حقيقية كبيرة لدى البلاد العربية؛ بسبب رفض حماس، واحتمال مواجهة قواتها القادمة إلى غزة بردود عنيفة أو مسلحة، تُفشل قدرتها على العمل، كما تُسيء (فوق ما هي عليه) إلى صورة هذه الحكومات لدى شعوبها.
الموقف الفلسطينيتبدو السلطة الفلسطينية في حالة ارتباك وهي تجد نفسها خارج سياق الأحداث، وهي تواجه "طوفانًا" من الانتقادات لضعف أدائها، وعدم قيامها بمسؤولياتها الوطنية المطلوبة، وقمعها للمقاومة وللحراك الشعبي في الضفة الغربية؛ مع انتقادها حماس والمقاومة.
وهي في الوقت نفسه، تتحدث عن استقلالية القرار الفلسطيني، وأن مستقبل غزة شأن فلسطيني داخلي، وتؤكد أنها الجهة التمثيلية المعتمدة. لكن تشكيلها لحكومة محمد مصطفى دون التفاهم مع حماس وباقي قوى المقاومة الفلسطينية، جعلها تبدو وكأنها تجهز لاستحقاقات ما بعد حماس في القطاع، وفق معايير يرضى عنها الإسرائيليون والأميركان. وهو ما يثير استياء شعبيًا واسعًا.
أما حماس وفصائل المقاومة، فترفض مشاركة قوات عربية ضمن الترتيبات الأميركية الإسرائيلية المقترحة؛ وتعدُّ ذلك خدمة للاحتلال وسلوكًا عدائيًا. وتعتقد أن ترتيبات اليوم التالي لقطاع غزة هو شأن فلسطيني داخلي يقرره الفلسطينيون بأنفسهم، وهي منفتحة على قيادة السلطة والمنظمة لعمل الترتيبات في إطار التوافق الوطني الفلسطيني، وفي إطار إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.
الرأي العام الفلسطينييدعم الرأي العام الفلسطيني، وفق استطلاعات الرأي التي نشرها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (ومقره رام الله)، موقفَ حماس بقوة. فقد تضاعفت شعبية حماس في الوسط الفلسطيني، وهي مرشحة للفوز بشكل ساحق في أي انتخابات قادمة، كما تزايد الالتفاف الشعبي حول خط المقاومة، وتزايد في المقابل الرفض الشعبي لمسار التسوية واتفاق أوسلو، بل وارتفعت نسبة المطالبين بسقوط السلطة الفلسطينية إلى نحو 60%.
وفي أحدث استطلاع للرأي في يونيو /حزيران 2024، وهو لا يختلف في جوهر نتائجه عن الاستطلاعين السابقين في أثناء معركة طوفان الأقصى (ديسمبر/كانون الأول 2023، ومارس/آذار 2024) أجاب 61% بأنهم يفضلون حماس لحكم قطاع غزة بعد الحرب، فيما لو كان الأمر متروكًا لاختيارهم، بينما دعم 1% فقط قيام دولة عربية أو أكثر بذلك، وفضل 6% فقط السلطة الفلسطينية بقيادة عباس، بينما فضل 6% آخرون السلطة الفلسطينية من دون عباس. وهذا يعني أن المزاج الشعبي العام ما زال يقف خلف المقاومة.
وما يُعقّد الأمر تجاه مشاركة الدول العربية أن هناك نسبًا تفوق 86% عبّرت عن عدم رضاها عن الأداء العربي تجاه ما يجري في غزة. كما عبّر 67% عن ثقتهم بأن حماس ستخرج منتصرة من الحرب.
الخلاصة:من الواضح أن فكرة مشاركة قوى عربية في ترتيبات اليوم التالي تواجهها تعقيدات كبيرة تجعلها مستبعدة على الأقل في المرحلة الحالية. فالحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نتنياهو ما تزال غير مستعدة لتقديم أي التزامات تجاه مستقبل غزة، وتريد إبقاء خيوط التحكّم بيدها.
والمقاومة الفلسطينية بقيادة حماس تحقق أداء بطوليًا على الأرض، وترفض أي تدخل عربي قد يصب في خدمة الأجندة الإسرائيلية، وثمة إجماع فلسطيني على أن مستقبل غزة هو شأن داخلي فلسطيني، كما أن ثمة أغلبية شعبية ساحقة تلتف حول حماس وبرنامج المقاومة، وترفض التدخل العربي في سياقه الذي يسعى لإنهاء المقاومة وتصفيتها، بل وترفض سلطة رام الله بالشكل الضعيف والمتخاذل الذي ظهرت عليه.
وهو ما يجعل موضوع مشاركة القوات العربية أمرًا افتراضيًا، بانتظار "كسر شوكة حماس" حسب الفكر الرغائبي للمُطبِّعين؛ بينما تظهر المعطيات على الأرض قدرة المقاومة على الصمود والاستمرار لآماد مفتوحة، لفرض شروطها في النهاية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحکومة الإسرائیلیة السلطة الفلسطینیة لإدارة القطاع قوات عربیة حزیران 2024 عربیة فی رام الله قطاع غزة فی إطار
إقرأ أيضاً:
لماذا لا تُقاتل المقاومة؟
تغلب على المشهد الميداني حالة من الصمت العملياتي- من جانب المقاومة- منذ عودة الحرب على قطاع غزة وحتى تاريخ كتابة المقال، حيث لم نشهد ذات الزخم العملياتي الذي لطالما شهدناه في الأشهر الخمسة عشر من الحرب التي سبقت هدنة الأيام الستين، مما أثار حالة من التساؤل والجدل حول قدرات المقاومة على استمرار العمليات الدفاعية ضد القوات الغازية، وانقسم الناس بين قلِق ومشكّك ومتذمّر وساخر.
فما سبب انخفاض وتيرة العمليات العسكرية للمقاومة، رغم مرورِ حوالي 20 يومًا على عودة الحرب، وتوسعةِ العدو عملياته البرية في رفح، وزجِّه بثلاث فرق عسكرية في عموم مناطق القطاع: (الفرقة 36 جنوب القطاع، والفرقة 252 وسط القطاع، والفرقة 162 شمال القطاع)، وبدئِه شقّ طريقٍ عملياتي جديد يفصل بين مدينتي رفح وخان يونس، أطلق عليه اسم (موراج)؟
لماذا لا تواجه المقاومة قوّات العدو المتوغّلة؟ هل هو ضعف حادّ في قدراتها إلى هذه الدرجة؟ أم هو تكتيك جديد متّبع يعتمد على الصبر والانتظارية قبل الانخراط في المعركة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات من المهم أولًا التطرّق لمفهومين من المفاهيم العسكرية؛ الأوّل هو أحد أنواع الدفاع، وهو الدفاع المرن، والثاني هو أحد أصول الحرب، وهو أصل الاقتصاد في القوّة.
إعلانعبر قراءة السياق الدفاعي لعمليّات المقاومة منذ بداية العملية البرية الإسرائيلية في ليلة السابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، يمكن النظر بسهولة إلى أن المقاومة قاتلت- لأوّل مرّة في تاريخها- من المتر الأوّل لمنطقة الدفاع، وسجّلت ضربات في كل شارع وأرض وزُقاق في جميع مناطق التوغل، ولم ينجح العدو في تجاوز أي نسق دفاعي واحد بدون أن توقع المقاومة خسائر في صفوفه، سواء في مناطق التأمين، أو مناطق الدفاع الأمامي، أو مناطق الدفاع في العمق.
ولم يسجّل تفكيك كتيبة واحدة من كتائب القسام المدافعة الأربع والعشرين، من بيت حانون شمالًا، حتى تل السلطان جنوبًا، بل سجلت المقاومة في ختام المعركة معدل قتلى في صفوف العدو من بين المعدلات الأعلى منذ بداية الحرب، وذلك في معركة لواء الشمال ضد قوات العدو في خطة الجنرالات، والتي استمرّت 115 يومًا، وقُتل فيها -باعتراف العدو- خمسة وخمسون قتيلًا، من بينهم قائد اللواء الإسرائيلي المدرع 401.
ومع مرور شهور على معركة طوفان الأقصى، وعبر قراءة تكتيكات المقاومة الدفاعية خلال المعركة، يمكن معاينة قدر تنوّع الأساليب والتكتيكات التي اتبعتها المقاومة في عملياتها العسكريّة، والتي تتّسم بطبيعتها غير المباشرة في الاشتباك مع العدو.
ومن جملة هذه الأساليب، عدم الاحتفاظ بمواقع دفاعية ثابتة، والانتقال من الدفاع الثابت للدفاع المرن، والتربص والانتظارية قبل شنّ هجوم واسع، واصطياد قوات العدو كلما سمحت فرصة محققة للإيذاء، وهو ما وصفه أحد جنرالات العدو بقوله إن: "حماس تقاتل كالحرباء"، نظرًا لكثرة تلون أساليب القتال.
هذا التحول الديناميكي لتشكيل وهيكلية ونمط قتال قوات المقاومة، يمكّنها من التكيف مع تطور الموقف العملياتي أثناء القتال، بل ويساعدها على الحفاظ على عنصر المفاجأة والمبادرة، وإبقاء العدو في حالة قلق من المجهول، وهو عنصر أساسي في تكتيكات الحرب غير النظاميّة.
إعلانهذه القراءة تعني أنّ أساليب الدفاع التي كانت صالحة في بداية المعركة، لم تعد صالحة في الأشهر التي تلتها، وأن تكتيكات لواءَي غزة والشمال، اختلفت عن تكتيكات القتال في لواء خان يونس ورفح، بل اختلفت التكتيكات في اللواء نفسه مع تغير تكتيكات العدو، بل حتى اختلفت التكتيكات في الكتيبة نفسها.
ويمكن النظر لذلك بسهولة إذا ما قورنت أساليب قتال المقاومة بين معركة جباليا الأولى في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، ومعركة جباليا الثانية في شهر مايو/ أيار، ومعركة جباليا الثالثة في شهر أكتوبر/ تشرين الثاني في خطة الجنرالات.
وبالنظر إلى أساليب الدفاع، تعمد حركات المقاومة عمومًا -خاصة مع طول أمد القتال، وتناقص الموارد- إلى تبنّي أسلوب الدفاع المرن، بعكس الجيوش النظامية التي تعتمد على أسلوب الدفاع الثابث في كثير من المعارك، ويُعنى بالدفاع المرن: المناورة بالقوات المدافعة، وتحريكها وفق متطلبات الموقف الميداني، بغية توظيفها بأفضل شكل ممكن، واستثمارها تكتيكيًا في أفضل المواضع التي تتضمن توجيه ضربات حاسمة وثقيلة لنقاط ضعف العدو، بدلًا من تبديد القوة في مواضع غير مجدية تكتيكيًا، ولا تسبب خسائر ثقيلة.
أما عن الاقتصاد في القوّة فيُعنى به استخدام أقلّ قدر ممكن من موارد القوة على صعيد صنوف السلاح والمقاتلين والبنية التحتية لتحقيق غايات الدفاع بما لا يؤدّي إلى استنزاف الموارد، وإنهاك القوات، وبما يتيح المجال أمام القوات لإدامة القتال لأطول مدى ممكن.
ونظرًا لانعدام خطوط الإمداد عند المقاومة، يفرض عليها الواقع العملياتي حاجة أكبر للعمل وفقًا لهذا الأصل من أصول الحرب، وقد اعتمدته المقاومة في معركة لواء خان يونس أمام قوات الفرقة المعادية 98، واعتمدته كذلك في معركة لواء رفح أمام قوات الفرقة المعادية 162، حيث نشر العدو عديدًا من التقارير تفيد في ذلك الوقت بأن كتائب القسام في كلا اللواءين سحبت ثلاثة أرباع المقاتلين، واحتفظت بربع القوة المدافعة للقيام بواجبات الدفاع عن مسارح العمليات.
إعلانإزاء المعركة الطولى والأعقد لكل من المقاومة والعدو، شكّل الاستنزاف العسكري أحد المضامير الجوهرية التي تسابق فيها طرفا القتال، وكان من الملاحظ أن المقاومة طوّرت تكتيكاتها على مدار أشهر الحرب لتجنب الاستنزاف، في المقابل اضطرت إسرائيل تزامنًا مع خوضها القتال على أكثر من جبهة: (لبنان، سوريا، الضفة الغربية) لحشد أكبر قدر من قواتها، ما أظهر ملامح أزمة استنزاف عند العدو، خصوصًا في صفوف الاحتياط، وكان الظن الغالب أن الهدنة الطويلة سيتلوها وقف لإطلاق النار، أو على الأقل هدنة أطول، لكن مقاتلي الاحتياط والقوات النظامية -على حد سواء- اصطدموا بعودة القتال، ووجدت إسرائيل نفسها مضطرة للزجّ بثلاث فرق عسكرية بغزة، وهو ما يعد تشكيلًا كبيرًا، مقارنة بطبيعة الجيش الإسرائيلي صغير الحجم.
ويشير الحشد الإسرائيلي والهجوم على منطقة رفح إلى مشهد تدفع فيه إسرائيل بقوات كبيرة ومقدرات وذخيرة وخطط، وتدفع فاتورة الاستنزاف على حسابها بالكامل، بينما تحتفظ المقاومة بقواتها ومقدراتها وأنفاقها لحين موعد تقدير الانخراط الكلي أو الجزئي في القتال، عندئذ ستكون معادلة الاستنزاف، صفرًا على صعيد رصيد المقاومة، وفاتورة معتبرة على صعيد قوات العدو.
طُرحَ على مدار أشهر الحرب الكثير من الأسئلة حول قدرات المقاومة لا سيما مع الدعاية الإسرائيلية التي ركزت بشدة على نجاحات عمليات الجيش الإسرائيلي في النيل من تلك القدرات وتحطيمها، لكن عديد الشواهد التي تواترت خلال المعركة أثبتت النقيض.
فعلى سبيل المثال سجلت بيت حانون واحدة من أكبر خسائر الجيش الإسرائيلي في العملية البرية قبيل الهدنة بساعات، بقتل حوالي 10 جنود إسرائيليين خلال 72 ساعة فقط، وهي البلدة التي هاجمتها القوات الإسرائيلية منذ الليلة الأولى للهجوم البري، وحتى آخر ليلة من أيام الحرب الـ471 قبيل دخول وقف إطلاق النار للمرحلة الأولى حيز التنفيذ.
إعلانمن خلال ما سبق، يمكن التوصل إلى تقدير مفاده، أن حالة الصمت العملياتي للمقاومة، تقع ضمن نطاق تكتيك دفاعي، وليست بسبب عجز عملياتي أو تنظيمي، وذلك لتحقيق غايات الاستنزاف والبقاء وكسر إرادة القتال، فما كان صالحًا دفاعيًا للمقاومة في الأشهر السابقة من الحرب، لم يعد صالحًا اليوم، بالتالي يصبح التخلّي عن الأرض والانسحاب تكتيكيًا بالقوات في عمق المناطق الدفاعية مفضّلٌ على الدفاع في جميع أنساق الدفاع "من الحافة حتى النواة"، وذلك لتحقيق أغراض توجيه الضربات الحاسمة، وإيقاع خسائر ثقيلة بقدر الإمكان.
يتيح هذا النمط من الدفاع الاستخدام الأمثل للموارد التي جرى استنزاف قدر لا بأس به منها، وتقليل الخسائر المادية والبشرية بالقدر الذي يتيح استدامة القتال إلى أقصى مدى زمني ممكن، كما يتيح هذا النمط -فيما لو أثبت نجاحه- أداة فعالة لدعم المواقف التفاوضية في السياق السياسي والعسكري.
فعندما تُظهر القوات المدافعة قدرتها على امتصاص الضغط والمبادرة بتنفيذ عمليات دفاعية مركزة ومدروسة، فإنها تؤكد على امتلاكها زمام المبادرة الإستراتيجية، مما يمنح القيادة السياسية موضع قوة على طاولة المفاوضات. هذه القدرة لا تعكس مجرد صمود دفاعي، بل تدل على ديناميكية قتالية متقدمة تفرض نفسها على العدو، وتُعيد رسم توازن القوى.
إلى جانب ذلك، يساهم هذا النمط من القتال في التأثير على الرأي الداخلي الإسرائيلي، الذي لا يمنح جيش العدو ذات الشرعية السابقة من الحرب، والذي بات أكثر حساسية لخسائر الجيش أكثر من أي وقت مضى من الحرب، نظرًا لاعتباره أن الحرب الحالية باتت عبثية، ولا تخدم الكيان بقدر خدمتها أجندة شخصية لنتنياهو واليمين الإسرائيلي.
كما يساهم هذا النمط في كسر الموقف الأميركي المتزعزع من فكرة عودة العمليات العسكرية، حيث تلتزم الإدارة الأميركية السابقة والحالية برؤية مفادها أن العمليات العسكرية غير قادرة وحدها على تحقيق أهداف الحرب، وأن العملية السياسية هي الأهم والأولى.
إعلانوقد عبّر عن ذلك وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع الأميركي السابق لويد أوستن بقولهما: إن الإنجازات التكتيكيّة التي أنجزها جيش الإسرائيلي في غزة من شأنها ألا تتبدد فحسب، بل وأن تتحول لهزيمة كبرى إذا ما لم يتم استثمارها عبر مسار سياسي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline