المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة
تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT
مثل العديد من السودانيين فقد رأيت الحرب كفاحًا، كان أولها كلامًا وشرارة تشظّت – بصورة سينمائية – لدرجة أنني بقيت محاصرًا داخل جزيرة توتي وسط الخرطوم، لعدة أشهر، دون ماء وكهرباء أو طعام كافٍ.
لم تكن تلك هي المشكلة الوحيدة، كان الرصاص يخترق النوافذ التي ظلت مغلقة على الدوام، ولذلك لم يكن ثمة مجال للنجاة من الموت سوى النزوح، وقطع مسافات ماراثونية؛ لأجل الوصول إلى أي مكانٍ آمن، وتقديم طلبات اللجوء.
هذه سيرة مختصرة للحرب، ليس لي وحدي، ولكن لملايين النازحين، فعندما نشب القتال منتصف أبريل/ نيسان 2023، لم يكن أغلب السودانيين يتخيلون أنهم سوف يتم تهجيرهم من بيوتهم بالإكراه ليستوطنها الأغراب، وتتحول إلى ثُكنات عسكرية، لدرجة أن الخروج من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين أصبحَ هو العقدة العصية أمام مفاوضات جدة.
أرقام المنظمة الدوليّة للهجرة تبدو مُفزعة، فهي تتحدّث عن أن 20% من سكّان السودان أصبحوا نازحين ولاجئين، وقد سجلت فرار أكثر من 10 ملايين شخص من منازلهم، منهم مليونان فروا خارج الحدود، وتطالب بتوفير 3 مليارات دولار أميركي؛ لمجابهة الاحتياجات الإنسانية الطارئة، وهي أرقام غير دقيقة، مقارنة بالواقع المُتغير؛ لأن القتال الآن يدور في أكثر من عشر ولايات، كلها مناطق أزمات، وبقية الولايات أصبحت محطات للعبور.
فبخلاف غلاء الإيجارات وأسعار المواد الغذائيّة التي لا تُطاق، ثمة مخاطر غير محسوبة، والأخطر من ذلك ما يحدث للاجئين السودانيين في غابة أولالا بإقليم أمهرة الإثيوبي، إذ يتعرّضون يوميًا إلى القتل والخطف بواسطة عصابات الشفتة، دون أي تحرّكات لحمايتهم.
في الوقت عينه فشلت الحكومة والمنظمات الدولية عمليًا في التخطيط لاستيعاب موجات النازحين بالداخل، ولم توفر لهم المأوى والمياه الصالحة للشرب، أو ما يقيم أودهم، وتركتهم عُرضة للجشع وتجّار الأزمات، أو ربما ليلحقوا بطوابير اللجوء الخارجي، وهذا أشبه بالتواطؤ الرسمي الذي يصعب تفسيره.
الطريق إلى المُدن المُستحيلةأصبحت الهجرة إلى أوروبا أو دول الخليج حلم الجميع، وهي بالضرورة تتطلب التضحية بكل شيء، ومجاراة سماسرة السفارات والمضاربين في كل شيء، فذلك هو الطريق الوحيد للمُدن المُستحيلة.
أما السفر إلى مصر وليبيا بالتهريب، وركوب المخاطر، فهو الخيار الوحيد المتاح لبقية الأسر التي تعيش على الكفاف، ولذلك فقد تصدّر السودان قائمة الدول الأعلى تسجيلًا في مفوضية اللاجئين بمصر، هذا إضافة إلى قوائم المهاجرين بالنية، ممن ينتظرون الإشارة بالرحيل، أو من تقطعت بهم السُبل.
وقد سجلت السلطات السودانية في المعابر ومطار بورتسودان مغادرة أكثر من 13 ألف مواطن البلادَ خلال أسبوعين فقط، وهذا يعني أن السودان، في حال لم تتوقف الحرب، سوف يصبح دولة خالية من سكانها، ليس من أجل الرفاهية، ولكن تحت وطأة حرب تستهدف الإنسان في المقام الأول، وحتى من بقي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع فقد أثقلت كاهله بالجبايات، ولذلك يتحدث العالم عن السودان كنموذج لأكبر أزمة نزوح، دون أن يقدم المساعدات الكافية والمطلوبة للحدّ من هذه الكارثة، وأهمّها التدخل بفاعلية لوقف الحرب.
صناعة المجاعةإذا كان السودان دولة زراعية، فهنالك ما يهدد ذلك النشاط، ويعمل على احتلال مناطق إنتاج الغذاء، وترويع الفلاحين، وغلق قنوات الري ونهب التقاوي الزراعية، وهذا ما جعل وزارة الخارجية السودانية تتهم الدعم السريع بتعمد تعطيل النشاط الزراعي في مناطق إنتاج الغذاء؛ لإحداث مجاعة في السودان، والهدف النهائي من ذلك هو إفراغ مناطق الإنتاج من أهلها واستبدالهم بـ "عناصر الدعم السريع ومرتزقتها الأجانب"، على حدّ وصف البيان.
لكن ماذا فعلت السُلطة القائمة لمنع ذلك المُخطط، وما هي رؤيتها للتعامل مع سيناريوهات التهجير القسري؟ وكيف سمح الجيش لقوات التمرد بالتوغل داخل القرى والمدن المأهولة بالسكان؟ فواجبه الدستوري يحتم عليه الدفاع عن المدنيين، على الأقل، وحماية المشروعات الزراعية في الجزيرة وسنار، وخلق مناطق آمنة تستوعب آلاف النازحين الفارين، دون مضايقات، حتى لا يعين الأعداء على فرض مخططهم الشرير، وصناعة المجاعة؛ للقتل بطريقة بطيئة ومؤلمة.
هبوط أقدار الناسنحن تقريبًا إزاء سلسلة متواصلة من المعاناة، ليس في مواجهة الواقع المرير فحسب، ولكن في كيفية تخيُّل تلك الأسئلة، والإجابات المروعة التي جعلت شعبًا كاملًا في حيرة من أمره؛ لأن القوات المسلحة التي منحها ثقته المطلقة لم تدافع عنه في الوقت المناسب، وتركته في مواجهة عناصر متوحشة من الجنجويد تجيد القتل والاغتصاب.
هل ثمة حقيقة لهبوط أقدار الناس أكثر من ذلك؟ فاللاجئ السوداني اليوم منبوذ، مضطهد، وغير مُرحب به في أي دولة، كما لو أنه يحمل جرثومة الحرب في أنفاسه!
قيمة السودانيين أصبحت – لسببٍ ما – مرتبطة بقيمة عملتهم المحلية، أي الجنيه السوداني، وهو في تراجع مستمر أمام العملات الأجنبية، وهذا يعني أن الحرب الاقتصادية جاءت لتقضي على الموارد الشخصية أيضًا، فهي حرب على الإنسان بهدف إفقاره، بعد أن فقد كل مصادر الدخل وذهبت الوظائف مع الريح، وأصبح الشعب السوداني النازح كذلك عاطلًا عن العمل، ويحتاج إلى من يعينه، وهو الذي كان يؤوي النازحين من دول الجوار، ويغيث الملهوف ويطعم الطير، والمرشح كسلة لغذاء العالم!
من المهم أيضًا، – بما أن هذه الحرب استهدفت المواطن السوداني- طرح الأسئلة الحرجة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضررًا من الناس الذين لا يعبأ بهم أحد، ولا تصطحبهم المؤتمرات الخارجية ولا المفاوضات في جولاتها، فهل سوف يسدد قائد الدعم السريع، أو من استأجر بندقيته، فاتورة ما تم نهبه وتدميره؟
أو بالأحرى، كيف ستعوضنا الدول التي تمول هذه الحرب، بما ألحقت بنا من أذى وخسائر، أم ستكتفي بالإغاثة المُهينة وخيم الإيواء، والأدوية التي لا تشفي الجروح؟
الرصاصة الأخيرةلم يعد مهمًا البحث عمن أطلق الرصاصة الأولى، فنحن في أتون المعركة فعليًا، وإنما ثمة حاجة مُلحة لنزع فتيل الأزمة، ومنع الرصاصة الأخيرة من إزهاق الأرواح في بلاد النيلين، ولا شك أن كثيرًا من الدول الطامعة في خيرات السودان ليس من مصلحتها توقف العنف، هذا إذا افترضنا أن المركز الاستعماري لا يمول الحرب حرفيًا، ولكنه كما قال ليوناردو دى كابريو في فيلم (الماس والدم) إنهم في الغرب "يخلقون الظروف التي تجعل الحرب تستمر".
عمومًا فإن المأساة السودانية مستمرة، وهي تحتاج إلى صحوة الضمير العالمي؛ لأنها مأساة ترتبط بالإنسان السوداني، العالق ضمنيًا في المسافة ما بين معنى النزوح واللجوء، وفي الخاطر رسالة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح إلى عزيزته إيلين، والتي وقع عليها بتلك العبارة: " آهٍ منك يا زمن النزوح".
إذ إنّ "صالح" كان في الحقيقة يعبّر عن معاناته مع تاريخ الحرب السودانية، دون أن يقتصر ذلك الألم عليه وحده؛ لأنّ نزوحه وأبناء جيله كان اختياريًا، أو لدوافع سياسيّة، بخلاف ما يحدث اليوم من تهجير غير مسبوق للسودانيين، يتفرج عليه العالم كما لو أن الأمر لا يعنيه، وأحيانًا يكتفي بالتعبير عن قلقه، في أقصى ردة فعل ساخرة اشتهر بها الأمين العام للأمم المتحدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الدعم السریع أکثر من
إقرأ أيضاً:
السودان... انتصار مدني وفتنة الانتقام!
«العين بالعين... تجعل العالم كله أعمى». تذكرت هذه العبارة المنسوبة للمهاتما غاندي خلال متابعتي لبعض الأحداث التي وقعت في ولاية الجزيرة وسط السودان، وكادت تغطي تماماً على أجواء الفرح العارم بين السودانيين، أو فلنقل بين أكثريتهم الساحقة، بعد الانتصار الذي حققته القوات المسلحة ومَن يقاتل في صفوفها من القوات المشتركة والمستنفرين، باستعادة مدينة مدني، «صرة السودان» ومعها الكثير من مناطق الولاية التي كانت تحت سيطرة «قوات الدعم السريع» لنحو عام ذاقت خلاله شتى صنوف المعاناة والانتهاكات الجسيمة.
في خضم أجواء الفرح، انتشرت على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تصور مناظر بشعة وصادمة لعمليات تصفية لأشخاص بالزي المدني على أيدي مسلحين بعضهم بزي القوات المسلحة، والبعض الآخر من المستنفرين. صحيح أن هذه الجرائم والموثق منها توثيقاً لا يقبل الشك، كانت محدودة، لكن أثرها كان كبيراً، وضررها بليغاً. فالسودانيون بطبعهم ينفرون من القسوة التي ظهرت في المقاطع التي سجلت تصفية أشخاص عزل بشكل فوري وانتقامي بالإعدام بالرصاص، أو بالذبح، أو بالتعذيب والإهانة ثم الرمي في النهر واتباع ذلك بإطلاق زخات من الرصاص.
إضافة إلى طبيعة الجرائم المروعة، كان مزعجاً أيضاً ما جرى تداوله، وتضخيمه في بعض الأحيان، عن استهداف سكان «الكنابي» في ولاية الجزيرة، وربط ذلك بدوافع عرقية. فقد أوردت بعض التقارير أن نحو 13 شخصاً قُتلوا على يد مسلحين في «كمبو طيبة»، وفسر الأمر على أنه بدوافع عرقية وجهوية، وهو أمر يطرق على وتر حساس يستغله الساعون لتأجيج خطاب العنصرية والجهوية والكراهية.
والكنابي (مفردها كمبو بمعنى المعسكر) هي مناطق فقيرة يسكنها بالأساس متحدرون من غرب السودان وتحديداً من إقليم دارفور، استقروا في ولاية الجزيرة وعملوا بالزراعة وصاروا جزءاً من مكوناتها. وقد استغل وضعهم أحياناً لإثارة المشاكل الجهوية وتأجيج خطاب الكراهية، لا سيما إبان هذه الحرب. فبينما سعت بعض الأطراف للاصطياد في الماء العكر بتضخيم ما ورد عن الجريمة التي ارتكبت في «كمبو طيبة»، صدرت بيانات وتصريحات أخرى تنفي وقوع استهداف واسع أو ممنهج لسكان الكنابي، وتحذر من محاولات زرع الفتن وإثارة الكراهية.
الواضح لكثير من المتابعين أن الأحداث التي وقعت بعد تحرير مدني طغى عليها دافع الانتقام نتيجة الانتهاكات الواسعة التي حدثت على أيدي «قوات الدعم السريع» منذ اجتياحها ولاية الجزيرة ولا تزال مستمرة في مناطق وجودها. فهناك عدد من سكان الكنابي وغيرهم من الأهالي انضموا إلى «قوات الدعم السريع» وشاركوا في انتهاكاتها، أو عملوا مرشدين لها، أو قاموا بجرائم الاعتداء على البيوت والمحلات التجارية ونهبوها. لكن في مقابل هؤلاء هناك أيضاً أعداد من سكان الكنابي الذين شاركوا ضمن مستنفري أبناء الجزيرة الذين انضموا إلى صفوف القوات المسلحة وقاتلوا لاستعادة مناطقهم ودفاعاً عن مناطق أخرى.
يُحمد لقيادة الجيش أنها تحركت سريعاً لإدانة هذه الأحداث ومرتكبيها وتعهدت بالتحقيق فيها ومحاسبة المسؤولين عنها. كما أن الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، حرص على التشديد على رفض سياسة الانتقام وأخذ الحقوق باليد، قائلاً إن كل متهم أو مشتبه يثبت تورطه «في دعم الميليشيا المتمردة» سيقدم لمحاكمة عادلة.
المهم الآن أن يتحرّك الجيش فعلاً لمحاسبة المسؤولين عن هذه التجاوزات لأنه قوة نظامية وليس ميليشيا، كما قال البرهان، وبالتالي لديه مسؤولية في تطبيق قوانينه والالتزام بالقوانين الإنسانية الدولية. وما يضيف من أعبائه أن هناك قوات وكتائب غير نظامية، وأعداداً من المستنفرين، يقاتلون في صفوفه، وهؤلاء قد يتصرفون بنهج مختلف خارج عن أسس الانضباط، وسبق أن صدرت من بعضهم تجاوزات شكا منها مواطنون، ما يعني أن هناك ضرورة لمبدأ المحاسبة حتى لا تنتشر أي مظاهر فوضى، أو يعتقد آخرون أنه يمكنهم أخذ حقوقهم بأيديهم والانتقام جراء ما أصابهم ولحق بأهلهم من انتهاكات «قوات الدعم السريع».
في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها السودان، والاستقطاب الشديد الذي أحدثته الحرب، هناك أهمية أيضاً لمحاربة خطاب الكراهية ومحاولة إثارة الفتن، والمسؤولية هنا تقع على عاتق الجميع. فالذين يعتقدون أنهم يسجلون نقاطاً سياسية بتضخيم حادثة في الكنابي واستخدامها للتأجيج وإثارة نعرات عنصرية أو جهوية، إنما يغرسون خنجراً آخر في خاصرة البلد الممتحن بالجراحات والآلام، ولا يحتاج إلى المزيد.
هذه الحرب ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وإذا لم يراعِ البعض أن يجعل للصراع سقفاً لا يتجاوزه، وهو الوطن والحفاظ على تماسكه، والابتعاد عن كل ما يضعف وحدته، فإن هذه الحرب لن تكون آخر حروب السودان على الرغم من الكلام الإنشائي الذي يردده البعض ويفعل عكسه.
الشرق الأوسط