الجزيرة:
2024-11-15@16:38:50 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

مثل العديد من السودانيين فقد رأيت الحرب كفاحًا، كان أولها كلامًا وشرارة تشظّت – بصورة سينمائية – لدرجة أنني بقيت محاصرًا داخل جزيرة توتي وسط الخرطوم، لعدة أشهر، دون ماء وكهرباء أو طعام كافٍ.

لم تكن تلك هي المشكلة الوحيدة، كان الرصاص يخترق النوافذ التي ظلت مغلقة على الدوام، ولذلك لم يكن ثمة مجال للنجاة من الموت سوى النزوح، وقطع مسافات ماراثونية؛ لأجل الوصول إلى أي مكانٍ آمن، وتقديم طلبات اللجوء.

العُقدة العصية

هذه سيرة مختصرة للحرب، ليس لي وحدي، ولكن لملايين النازحين، فعندما نشب القتال منتصف أبريل/ نيسان 2023، لم يكن أغلب السودانيين يتخيلون أنهم سوف يتم تهجيرهم من بيوتهم بالإكراه ليستوطنها الأغراب، وتتحول إلى ثُكنات عسكرية، لدرجة أن الخروج من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين أصبحَ هو العقدة العصية أمام مفاوضات جدة.

أرقام المنظمة الدوليّة للهجرة تبدو مُفزعة، فهي تتحدّث عن أن 20% من سكّان السودان أصبحوا نازحين ولاجئين، وقد سجلت فرار أكثر من 10 ملايين شخص من منازلهم، منهم مليونان فروا خارج الحدود، وتطالب بتوفير 3 مليارات دولار أميركي؛ لمجابهة الاحتياجات الإنسانية الطارئة، وهي أرقام غير دقيقة، مقارنة بالواقع المُتغير؛ لأن القتال الآن يدور في أكثر من عشر ولايات، كلها مناطق أزمات، وبقية الولايات أصبحت محطات للعبور.

فبخلاف غلاء الإيجارات وأسعار المواد الغذائيّة التي لا تُطاق، ثمة مخاطر غير محسوبة، والأخطر من ذلك ما يحدث للاجئين السودانيين في غابة أولالا بإقليم أمهرة الإثيوبي، إذ يتعرّضون يوميًا إلى القتل والخطف بواسطة عصابات الشفتة، دون أي تحرّكات لحمايتهم.

في الوقت عينه فشلت الحكومة والمنظمات الدولية عمليًا في التخطيط لاستيعاب موجات النازحين بالداخل، ولم توفر لهم المأوى والمياه الصالحة للشرب، أو ما يقيم أودهم، وتركتهم عُرضة للجشع وتجّار الأزمات، أو ربما ليلحقوا بطوابير اللجوء الخارجي، وهذا أشبه بالتواطؤ الرسمي الذي يصعب تفسيره.

الطريق إلى المُدن المُستحيلة

أصبحت الهجرة إلى أوروبا أو دول الخليج حلم الجميع، وهي بالضرورة تتطلب التضحية بكل شيء، ومجاراة سماسرة السفارات والمضاربين في كل شيء، فذلك هو الطريق الوحيد للمُدن المُستحيلة.

أما السفر إلى مصر وليبيا بالتهريب، وركوب المخاطر، فهو الخيار الوحيد المتاح لبقية الأسر التي تعيش على الكفاف، ولذلك فقد تصدّر السودان قائمة الدول الأعلى تسجيلًا في مفوضية اللاجئين بمصر، هذا إضافة إلى قوائم المهاجرين بالنية، ممن ينتظرون الإشارة بالرحيل، أو من تقطعت بهم السُبل.

وقد سجلت السلطات السودانية في المعابر ومطار بورتسودان مغادرة أكثر من 13 ألف مواطن البلادَ خلال أسبوعين فقط، وهذا يعني أن السودان، في حال لم تتوقف الحرب، سوف يصبح دولة خالية من سكانها، ليس من أجل الرفاهية، ولكن تحت وطأة حرب تستهدف الإنسان في المقام الأول، وحتى من بقي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع فقد أثقلت كاهله بالجبايات، ولذلك يتحدث العالم عن السودان كنموذج لأكبر أزمة نزوح، دون أن يقدم المساعدات الكافية والمطلوبة للحدّ من هذه الكارثة، وأهمّها التدخل بفاعلية لوقف الحرب.

صناعة المجاعة

إذا كان السودان دولة زراعية، فهنالك ما يهدد ذلك النشاط، ويعمل على احتلال مناطق إنتاج الغذاء، وترويع الفلاحين، وغلق قنوات الري ونهب التقاوي الزراعية، وهذا ما جعل وزارة الخارجية السودانية تتهم الدعم السريع بتعمد تعطيل النشاط الزراعي في مناطق إنتاج الغذاء؛ لإحداث مجاعة في السودان، والهدف النهائي من ذلك هو إفراغ مناطق الإنتاج من أهلها واستبدالهم بـ "عناصر الدعم السريع ومرتزقتها الأجانب"، على حدّ وصف البيان.

لكن ماذا فعلت السُلطة القائمة لمنع ذلك المُخطط، وما هي رؤيتها للتعامل مع سيناريوهات التهجير القسري؟ وكيف سمح الجيش لقوات التمرد بالتوغل داخل القرى والمدن المأهولة بالسكان؟ فواجبه الدستوري يحتم عليه الدفاع عن المدنيين، على الأقل، وحماية المشروعات الزراعية في الجزيرة وسنار، وخلق مناطق آمنة تستوعب آلاف النازحين الفارين، دون مضايقات، حتى لا يعين الأعداء على فرض مخططهم الشرير، وصناعة المجاعة؛ للقتل بطريقة بطيئة ومؤلمة.

هبوط أقدار الناس

نحن تقريبًا إزاء سلسلة متواصلة من المعاناة، ليس في مواجهة الواقع المرير فحسب، ولكن في كيفية تخيُّل تلك الأسئلة، والإجابات المروعة التي جعلت شعبًا كاملًا في حيرة من أمره؛ لأن القوات المسلحة التي منحها ثقته المطلقة لم تدافع عنه في الوقت المناسب، وتركته في مواجهة عناصر متوحشة من الجنجويد تجيد القتل والاغتصاب.

هل ثمة حقيقة لهبوط أقدار الناس أكثر من ذلك؟ فاللاجئ السوداني اليوم منبوذ، مضطهد، وغير مُرحب به في أي دولة، كما لو أنه يحمل جرثومة الحرب في أنفاسه!

قيمة السودانيين أصبحت – لسببٍ ما – مرتبطة بقيمة عملتهم المحلية، أي الجنيه السوداني، وهو في تراجع مستمر أمام العملات الأجنبية، وهذا يعني أن الحرب الاقتصادية جاءت لتقضي على الموارد الشخصية أيضًا، فهي حرب على الإنسان بهدف إفقاره، بعد أن فقد كل مصادر الدخل وذهبت الوظائف مع الريح، وأصبح الشعب السوداني النازح كذلك عاطلًا عن العمل، ويحتاج إلى من يعينه، وهو الذي كان يؤوي النازحين من دول الجوار، ويغيث الملهوف ويطعم الطير، والمرشح كسلة لغذاء العالم!

من المهم أيضًا، – بما أن هذه الحرب استهدفت المواطن السوداني- طرح الأسئلة الحرجة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضررًا من الناس الذين لا يعبأ بهم أحد، ولا تصطحبهم المؤتمرات الخارجية ولا المفاوضات في جولاتها، فهل سوف يسدد قائد الدعم السريع، أو من استأجر بندقيته، فاتورة ما تم نهبه وتدميره؟

أو بالأحرى، كيف ستعوضنا الدول التي تمول هذه الحرب، بما ألحقت بنا من أذى وخسائر، أم ستكتفي بالإغاثة المُهينة وخيم الإيواء، والأدوية التي لا تشفي الجروح؟

الرصاصة الأخيرة

لم يعد مهمًا البحث عمن أطلق الرصاصة الأولى، فنحن في أتون المعركة فعليًا، وإنما ثمة حاجة مُلحة لنزع فتيل الأزمة، ومنع الرصاصة الأخيرة من إزهاق الأرواح في بلاد النيلين، ولا شك أن كثيرًا من الدول الطامعة في خيرات السودان ليس من مصلحتها توقف العنف، هذا إذا افترضنا أن المركز الاستعماري لا يمول الحرب حرفيًا، ولكنه كما قال ليوناردو دى كابريو في فيلم (الماس والدم) إنهم في الغرب "يخلقون الظروف التي تجعل الحرب تستمر".

عمومًا فإن المأساة السودانية مستمرة، وهي تحتاج إلى صحوة الضمير العالمي؛ لأنها مأساة ترتبط بالإنسان السوداني، العالق ضمنيًا في المسافة ما بين معنى النزوح واللجوء، وفي الخاطر رسالة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح إلى عزيزته إيلين، والتي وقع عليها بتلك العبارة: " آهٍ منك يا زمن النزوح".

إذ إنّ "صالح" كان في الحقيقة يعبّر عن معاناته مع تاريخ الحرب السودانية، دون أن يقتصر ذلك الألم عليه وحده؛ لأنّ نزوحه وأبناء جيله كان اختياريًا، أو لدوافع سياسيّة، بخلاف ما يحدث اليوم من تهجير غير مسبوق للسودانيين، يتفرج عليه العالم كما لو أن الأمر لا يعنيه، وأحيانًا يكتفي بالتعبير عن قلقه، في أقصى ردة فعل ساخرة اشتهر بها الأمين العام للأمم المتحدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الدعم السریع أکثر من

إقرأ أيضاً:

مصر: ندعم بقوة جهود تسوية الأزمة السودانية

أكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي اليوم الخميس حرص بلاده على الانخراط بفاعلية في مختلف الجهود الإقليمية والدولية الرامية لوقف إطلاق النار وتحقيق تسوية في السودان ورفع المعاناة عن الشعب السوداني.

جاء ذلك خلال استقبال  الوزير عبد العاطي اليوم رمطان لعمامرة المبعوث الشخصي لسكرتير عام الأمم المتحدة للسودان، وذلك لبحث أخر التطورات ذات الصلة بالأزمة في السودان وسبل تجاوزها، وفق المتحدث باسم الخارجية تميم خلاف.

وصرح المتحدث، في بيان صحفي، بأن الوزير عبد العاطي شدد، خلال اللقاء، على أن الهدف الأساسي للتحرك المصري هو صون مصالح السودان والحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه.

واستعرض الوزير عبد العاطي الجهود المصرية الرامية لاحتواء التصعيد وتحقيق التهدئة في السودان، مبرزاً استضافة مصر لقمة دول الجوار للسودان في يوليو (تموز) ، واجتماع القوى السياسية والمدنية السودانية.

وأكد الوزير عبد العاطي حرص مصر على تعزيز التنسيق مع المبعوث الأممي لإنجاح المهمة الهامة المنوطة بها، والتطلع لتقديم كل الدعم للأمم المتحدة فى سبيل استعادة الأمن والاستقرار للسودان.

د. بدر عبد العاطي يستقبل السيد رمطان لعمامرة المبعوث الشخصي لسكرتير عام الأمم المتحدة للسودان، ويبحث معه الجهود الإقليمية والدولية لدعم الأمن والاستقرار فى السودان الشقيق وسبل تحقيق التهدئة وتوفير المساعدات الإنسانية. @Lamamra_UN pic.twitter.com/GKC7nFPTzn

— Egypt MFA Spokesperson (@MfaEgypt) November 14, 2024

كما أعرب الوزير عبد العاطي عن القلق من تدهور الأوضاع الإنسانية في السودان، مؤكداً حرص مصر على توفير الرعاية الكاملة للعدد الكبير من  النازحين من السودان من خلال توفير الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الاحتياجات.

مقالات مشابهة

  • وفاة 23 من نازحي شرق الجزيرة بالكوليرا في شندي شمالي السودان
  • السودان.. تفشي الكوليرا في مناطق سيطرة ميلشيات الدعم السريع بولاية الجزيرة
  • كم بلغ ضحايا مجزرة الهلالية شرق الجزيرة السودانية؟
  • تقرير: مقتل 61 ألف شخص بولاية الخرطوم السودانية في 14 شهرا
  • يخص الطلاب.. إعلان مهم للسفارة السودانية في القاهرة
  • مصر: ندعم بقوة جهود تسوية الأزمة السودانية
  • القنصل السوداني يطالب بفتح القنصلية السودانية في الكفرة لتسهيل الإجراءات للنازحين بشكل أسرع
  • والي الجزيرة يشدد علي ضرورة رصد الخلايا النائمة التي تتعاون مع المليشيا المتمردة
  • «الصحة السودانية» تسعى لتنسيق دولي لدعم نازحي شرق الجزيرة
  • تنسيق عربي – أميركي لحلحلة الأزمة السودانية: مصدر: مسؤولون من السعودية ومصر والإمارات ناقشوا مع واشنطن وقف الحرب