الجزيرة:
2024-12-17@00:25:44 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

مثل العديد من السودانيين فقد رأيت الحرب كفاحًا، كان أولها كلامًا وشرارة تشظّت – بصورة سينمائية – لدرجة أنني بقيت محاصرًا داخل جزيرة توتي وسط الخرطوم، لعدة أشهر، دون ماء وكهرباء أو طعام كافٍ.

لم تكن تلك هي المشكلة الوحيدة، كان الرصاص يخترق النوافذ التي ظلت مغلقة على الدوام، ولذلك لم يكن ثمة مجال للنجاة من الموت سوى النزوح، وقطع مسافات ماراثونية؛ لأجل الوصول إلى أي مكانٍ آمن، وتقديم طلبات اللجوء.

العُقدة العصية

هذه سيرة مختصرة للحرب، ليس لي وحدي، ولكن لملايين النازحين، فعندما نشب القتال منتصف أبريل/ نيسان 2023، لم يكن أغلب السودانيين يتخيلون أنهم سوف يتم تهجيرهم من بيوتهم بالإكراه ليستوطنها الأغراب، وتتحول إلى ثُكنات عسكرية، لدرجة أن الخروج من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين أصبحَ هو العقدة العصية أمام مفاوضات جدة.

أرقام المنظمة الدوليّة للهجرة تبدو مُفزعة، فهي تتحدّث عن أن 20% من سكّان السودان أصبحوا نازحين ولاجئين، وقد سجلت فرار أكثر من 10 ملايين شخص من منازلهم، منهم مليونان فروا خارج الحدود، وتطالب بتوفير 3 مليارات دولار أميركي؛ لمجابهة الاحتياجات الإنسانية الطارئة، وهي أرقام غير دقيقة، مقارنة بالواقع المُتغير؛ لأن القتال الآن يدور في أكثر من عشر ولايات، كلها مناطق أزمات، وبقية الولايات أصبحت محطات للعبور.

فبخلاف غلاء الإيجارات وأسعار المواد الغذائيّة التي لا تُطاق، ثمة مخاطر غير محسوبة، والأخطر من ذلك ما يحدث للاجئين السودانيين في غابة أولالا بإقليم أمهرة الإثيوبي، إذ يتعرّضون يوميًا إلى القتل والخطف بواسطة عصابات الشفتة، دون أي تحرّكات لحمايتهم.

في الوقت عينه فشلت الحكومة والمنظمات الدولية عمليًا في التخطيط لاستيعاب موجات النازحين بالداخل، ولم توفر لهم المأوى والمياه الصالحة للشرب، أو ما يقيم أودهم، وتركتهم عُرضة للجشع وتجّار الأزمات، أو ربما ليلحقوا بطوابير اللجوء الخارجي، وهذا أشبه بالتواطؤ الرسمي الذي يصعب تفسيره.

الطريق إلى المُدن المُستحيلة

أصبحت الهجرة إلى أوروبا أو دول الخليج حلم الجميع، وهي بالضرورة تتطلب التضحية بكل شيء، ومجاراة سماسرة السفارات والمضاربين في كل شيء، فذلك هو الطريق الوحيد للمُدن المُستحيلة.

أما السفر إلى مصر وليبيا بالتهريب، وركوب المخاطر، فهو الخيار الوحيد المتاح لبقية الأسر التي تعيش على الكفاف، ولذلك فقد تصدّر السودان قائمة الدول الأعلى تسجيلًا في مفوضية اللاجئين بمصر، هذا إضافة إلى قوائم المهاجرين بالنية، ممن ينتظرون الإشارة بالرحيل، أو من تقطعت بهم السُبل.

وقد سجلت السلطات السودانية في المعابر ومطار بورتسودان مغادرة أكثر من 13 ألف مواطن البلادَ خلال أسبوعين فقط، وهذا يعني أن السودان، في حال لم تتوقف الحرب، سوف يصبح دولة خالية من سكانها، ليس من أجل الرفاهية، ولكن تحت وطأة حرب تستهدف الإنسان في المقام الأول، وحتى من بقي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع فقد أثقلت كاهله بالجبايات، ولذلك يتحدث العالم عن السودان كنموذج لأكبر أزمة نزوح، دون أن يقدم المساعدات الكافية والمطلوبة للحدّ من هذه الكارثة، وأهمّها التدخل بفاعلية لوقف الحرب.

صناعة المجاعة

إذا كان السودان دولة زراعية، فهنالك ما يهدد ذلك النشاط، ويعمل على احتلال مناطق إنتاج الغذاء، وترويع الفلاحين، وغلق قنوات الري ونهب التقاوي الزراعية، وهذا ما جعل وزارة الخارجية السودانية تتهم الدعم السريع بتعمد تعطيل النشاط الزراعي في مناطق إنتاج الغذاء؛ لإحداث مجاعة في السودان، والهدف النهائي من ذلك هو إفراغ مناطق الإنتاج من أهلها واستبدالهم بـ "عناصر الدعم السريع ومرتزقتها الأجانب"، على حدّ وصف البيان.

لكن ماذا فعلت السُلطة القائمة لمنع ذلك المُخطط، وما هي رؤيتها للتعامل مع سيناريوهات التهجير القسري؟ وكيف سمح الجيش لقوات التمرد بالتوغل داخل القرى والمدن المأهولة بالسكان؟ فواجبه الدستوري يحتم عليه الدفاع عن المدنيين، على الأقل، وحماية المشروعات الزراعية في الجزيرة وسنار، وخلق مناطق آمنة تستوعب آلاف النازحين الفارين، دون مضايقات، حتى لا يعين الأعداء على فرض مخططهم الشرير، وصناعة المجاعة؛ للقتل بطريقة بطيئة ومؤلمة.

هبوط أقدار الناس

نحن تقريبًا إزاء سلسلة متواصلة من المعاناة، ليس في مواجهة الواقع المرير فحسب، ولكن في كيفية تخيُّل تلك الأسئلة، والإجابات المروعة التي جعلت شعبًا كاملًا في حيرة من أمره؛ لأن القوات المسلحة التي منحها ثقته المطلقة لم تدافع عنه في الوقت المناسب، وتركته في مواجهة عناصر متوحشة من الجنجويد تجيد القتل والاغتصاب.

هل ثمة حقيقة لهبوط أقدار الناس أكثر من ذلك؟ فاللاجئ السوداني اليوم منبوذ، مضطهد، وغير مُرحب به في أي دولة، كما لو أنه يحمل جرثومة الحرب في أنفاسه!

قيمة السودانيين أصبحت – لسببٍ ما – مرتبطة بقيمة عملتهم المحلية، أي الجنيه السوداني، وهو في تراجع مستمر أمام العملات الأجنبية، وهذا يعني أن الحرب الاقتصادية جاءت لتقضي على الموارد الشخصية أيضًا، فهي حرب على الإنسان بهدف إفقاره، بعد أن فقد كل مصادر الدخل وذهبت الوظائف مع الريح، وأصبح الشعب السوداني النازح كذلك عاطلًا عن العمل، ويحتاج إلى من يعينه، وهو الذي كان يؤوي النازحين من دول الجوار، ويغيث الملهوف ويطعم الطير، والمرشح كسلة لغذاء العالم!

من المهم أيضًا، – بما أن هذه الحرب استهدفت المواطن السوداني- طرح الأسئلة الحرجة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضررًا من الناس الذين لا يعبأ بهم أحد، ولا تصطحبهم المؤتمرات الخارجية ولا المفاوضات في جولاتها، فهل سوف يسدد قائد الدعم السريع، أو من استأجر بندقيته، فاتورة ما تم نهبه وتدميره؟

أو بالأحرى، كيف ستعوضنا الدول التي تمول هذه الحرب، بما ألحقت بنا من أذى وخسائر، أم ستكتفي بالإغاثة المُهينة وخيم الإيواء، والأدوية التي لا تشفي الجروح؟

الرصاصة الأخيرة

لم يعد مهمًا البحث عمن أطلق الرصاصة الأولى، فنحن في أتون المعركة فعليًا، وإنما ثمة حاجة مُلحة لنزع فتيل الأزمة، ومنع الرصاصة الأخيرة من إزهاق الأرواح في بلاد النيلين، ولا شك أن كثيرًا من الدول الطامعة في خيرات السودان ليس من مصلحتها توقف العنف، هذا إذا افترضنا أن المركز الاستعماري لا يمول الحرب حرفيًا، ولكنه كما قال ليوناردو دى كابريو في فيلم (الماس والدم) إنهم في الغرب "يخلقون الظروف التي تجعل الحرب تستمر".

عمومًا فإن المأساة السودانية مستمرة، وهي تحتاج إلى صحوة الضمير العالمي؛ لأنها مأساة ترتبط بالإنسان السوداني، العالق ضمنيًا في المسافة ما بين معنى النزوح واللجوء، وفي الخاطر رسالة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح إلى عزيزته إيلين، والتي وقع عليها بتلك العبارة: " آهٍ منك يا زمن النزوح".

إذ إنّ "صالح" كان في الحقيقة يعبّر عن معاناته مع تاريخ الحرب السودانية، دون أن يقتصر ذلك الألم عليه وحده؛ لأنّ نزوحه وأبناء جيله كان اختياريًا، أو لدوافع سياسيّة، بخلاف ما يحدث اليوم من تهجير غير مسبوق للسودانيين، يتفرج عليه العالم كما لو أن الأمر لا يعنيه، وأحيانًا يكتفي بالتعبير عن قلقه، في أقصى ردة فعل ساخرة اشتهر بها الأمين العام للأمم المتحدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الدعم السریع أکثر من

إقرأ أيضاً:

السودانية ريم جعفر لـ«التغيير»: دخول روايتي ضمن أبرز 100 كتاب أفريقي كان أمنية

الروائية السودانية ريم جعفر طبيبة وباحثة وكاتبة، وأم لثلاثة أبناء، اختيرت روايتها “فم مملوء بالملح” لتحقق إنجازاً آخر للعام الثاني توالياً.

التغيير: عبد الله برير

اختيرت رواية (فم مملوء بالملح) للكاتبة السودانية ريم جعفر ضمن 100 كتاب أفريقي بارز للعام 2024م، وهو إنجاز جديد لريم التي فازت العام الماضي بجائزة (الجزيرة).

وتتحدث الرواية عن ثلاث شخصيات من شمال وجنوب السودان تتقاطع حياتهم بصور مختلفة.

وتبدأ سلسلة من الكوارث في قرية سودانية صغيرة بسبب غرق غامض لصبي في نهر النيل.

أمنية

وفي حديثها لـ(التغيير) حول مدى توقعها  لتحقيق هذا الإنجاز قالت ريم: كانت أمنية أكثر من توقع لأن القائمة محترمة جداً والأدب الأفريقي يهيمن عليه كتاب من دول معينة مثل نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا.

وأضافت: كان من الصعب على السودانيين أن ينافسوا ويتميزوا لكن والحمد لله دخلت روايتي القائمة هذا العام، والعام الفائت كان هنالك كل من الأستاذة ليلى أبو العلا والكاتبة فاتن عباس.

وعن تسمية الرواية نفسها ومدلولاتها كشفت ريم أن الاسم مشتق من المثل  السوداني (خشمو ملح ملح) دلالة على الطعم المر الذي يبقى في فم الشخص بعد فقدان شئ عزيز، البطلات في الرواية يفقدن أبنائهن، ومن هنا جاء الاسم.

جائزة مميزة

وفي ديسمبر من العام الماضي فازت الروائية ريم جعفر بجائزة THE ISLAND (الجزيرة) للرواية الأفريقية 2023م لتكون أول كاتبة سودانية تترشح وتفوز بالجائزة.

الكاتبة السودانية فازت بالجائزة عن روايتها “فم مملوء بالملح”.

جائزة الجزيرة تم إنشاؤها لتزويد الكتاب الجدد في القارة الأفريقية بالموارد والدعم.

وتخصص الجائزة للكتاب الأفارقة الذين ينشرون أول رواية لهم، وهي مقدمة من دار نشر البريطانية هولاند هاوسHolland House، وتدعم الفائزين بمراجعة أعمالهم وتعمل على ربطهم بمجتمع النشر البريطاني من المحررين أو الوكلاء الأدبيين.

طبيبة وكاتبة

الروائية السودانية ريم جعفر طبيبة وباحثة وكاتبة، وأم لثلاثة أبناء، تخرّجت في جامعة جوبا، وعاشت وعملت في السودان وخارجه، وحالياً تقيم في كندا لدراسة الدكتوراه.

وسبق أن قالت ريم في تصريحات صحفية: “لم أكن أنوي إعلان النتيجة على حسابي الشخصي، تأثراً بالوضع السائد في السودان، لكن فاجأني ردّ فعل الغرباء والأقرباء، واختلف شعوري تجاه الفوز، وشعرت بفخر كبير لأني أمثّل بلدي في مسابقة على مستوى القارة الأفريقية، وفرحت لأن فوزي هو مصدر فرح للناس”.

وتحاول الكاتبة من خلال الرواية التركيز على وضع المرأة في المجتمع السوداني، فضلاً عن قضايا العنصرية، والأفكار الرجعية التي يكافح الجيل الجديد للتخلص منها.

الوسومالجزيرة الرواية الرواية الأفريقية السودان جنوب السودان ريم جعفر فم مملوء بالملح نهر النيل

مقالات مشابهة

  • كيف ممكن تنتهي الحرب السودانية ؟؟؟
  • الحرب تعصف بالمتاحف وتلتهم التراث السوداني 
  • بعد توقف 20 شهرًا.. استعادة خدمة تحويل الأموال داخل المصارف السودانية
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • العلاقات السودانية الإماراتية.. هل تنجح وساطة أردوغان في إصلاحها؟
  • رئيس البرلمان العربي محمد أحمد اليماحي: نشدد على ضرورة التوصل إلى تسوية شاملة ونهائية للأزمة السودانية
  • السودانية ريم جعفر لـ«التغيير»: دخول روايتي ضمن أبرز 100 كتاب أفريقي كان أمنية
  • تشاد ترفض عقد امتحانات 13 ألف طالب في الشهادة السودانية
  • «عقار»: تشاد رفضت استضافة امتحانات الشهادة السودانية بمدينة «أبشي»
  • أنتظر مواقفة الحكومة السودانية على الوساطة التركية ومن ثم ردود أفعال الجنجويد والقحاتة