الجزيرة:
2025-02-23@04:52:44 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

تاريخ النشر: 21st, July 2024 GMT

المأساة السودانية.. والنزوح إلى المدن المستحيلة

مثل العديد من السودانيين فقد رأيت الحرب كفاحًا، كان أولها كلامًا وشرارة تشظّت – بصورة سينمائية – لدرجة أنني بقيت محاصرًا داخل جزيرة توتي وسط الخرطوم، لعدة أشهر، دون ماء وكهرباء أو طعام كافٍ.

لم تكن تلك هي المشكلة الوحيدة، كان الرصاص يخترق النوافذ التي ظلت مغلقة على الدوام، ولذلك لم يكن ثمة مجال للنجاة من الموت سوى النزوح، وقطع مسافات ماراثونية؛ لأجل الوصول إلى أي مكانٍ آمن، وتقديم طلبات اللجوء.

العُقدة العصية

هذه سيرة مختصرة للحرب، ليس لي وحدي، ولكن لملايين النازحين، فعندما نشب القتال منتصف أبريل/ نيسان 2023، لم يكن أغلب السودانيين يتخيلون أنهم سوف يتم تهجيرهم من بيوتهم بالإكراه ليستوطنها الأغراب، وتتحول إلى ثُكنات عسكرية، لدرجة أن الخروج من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين أصبحَ هو العقدة العصية أمام مفاوضات جدة.

أرقام المنظمة الدوليّة للهجرة تبدو مُفزعة، فهي تتحدّث عن أن 20% من سكّان السودان أصبحوا نازحين ولاجئين، وقد سجلت فرار أكثر من 10 ملايين شخص من منازلهم، منهم مليونان فروا خارج الحدود، وتطالب بتوفير 3 مليارات دولار أميركي؛ لمجابهة الاحتياجات الإنسانية الطارئة، وهي أرقام غير دقيقة، مقارنة بالواقع المُتغير؛ لأن القتال الآن يدور في أكثر من عشر ولايات، كلها مناطق أزمات، وبقية الولايات أصبحت محطات للعبور.

فبخلاف غلاء الإيجارات وأسعار المواد الغذائيّة التي لا تُطاق، ثمة مخاطر غير محسوبة، والأخطر من ذلك ما يحدث للاجئين السودانيين في غابة أولالا بإقليم أمهرة الإثيوبي، إذ يتعرّضون يوميًا إلى القتل والخطف بواسطة عصابات الشفتة، دون أي تحرّكات لحمايتهم.

في الوقت عينه فشلت الحكومة والمنظمات الدولية عمليًا في التخطيط لاستيعاب موجات النازحين بالداخل، ولم توفر لهم المأوى والمياه الصالحة للشرب، أو ما يقيم أودهم، وتركتهم عُرضة للجشع وتجّار الأزمات، أو ربما ليلحقوا بطوابير اللجوء الخارجي، وهذا أشبه بالتواطؤ الرسمي الذي يصعب تفسيره.

الطريق إلى المُدن المُستحيلة

أصبحت الهجرة إلى أوروبا أو دول الخليج حلم الجميع، وهي بالضرورة تتطلب التضحية بكل شيء، ومجاراة سماسرة السفارات والمضاربين في كل شيء، فذلك هو الطريق الوحيد للمُدن المُستحيلة.

أما السفر إلى مصر وليبيا بالتهريب، وركوب المخاطر، فهو الخيار الوحيد المتاح لبقية الأسر التي تعيش على الكفاف، ولذلك فقد تصدّر السودان قائمة الدول الأعلى تسجيلًا في مفوضية اللاجئين بمصر، هذا إضافة إلى قوائم المهاجرين بالنية، ممن ينتظرون الإشارة بالرحيل، أو من تقطعت بهم السُبل.

وقد سجلت السلطات السودانية في المعابر ومطار بورتسودان مغادرة أكثر من 13 ألف مواطن البلادَ خلال أسبوعين فقط، وهذا يعني أن السودان، في حال لم تتوقف الحرب، سوف يصبح دولة خالية من سكانها، ليس من أجل الرفاهية، ولكن تحت وطأة حرب تستهدف الإنسان في المقام الأول، وحتى من بقي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع فقد أثقلت كاهله بالجبايات، ولذلك يتحدث العالم عن السودان كنموذج لأكبر أزمة نزوح، دون أن يقدم المساعدات الكافية والمطلوبة للحدّ من هذه الكارثة، وأهمّها التدخل بفاعلية لوقف الحرب.

صناعة المجاعة

إذا كان السودان دولة زراعية، فهنالك ما يهدد ذلك النشاط، ويعمل على احتلال مناطق إنتاج الغذاء، وترويع الفلاحين، وغلق قنوات الري ونهب التقاوي الزراعية، وهذا ما جعل وزارة الخارجية السودانية تتهم الدعم السريع بتعمد تعطيل النشاط الزراعي في مناطق إنتاج الغذاء؛ لإحداث مجاعة في السودان، والهدف النهائي من ذلك هو إفراغ مناطق الإنتاج من أهلها واستبدالهم بـ "عناصر الدعم السريع ومرتزقتها الأجانب"، على حدّ وصف البيان.

لكن ماذا فعلت السُلطة القائمة لمنع ذلك المُخطط، وما هي رؤيتها للتعامل مع سيناريوهات التهجير القسري؟ وكيف سمح الجيش لقوات التمرد بالتوغل داخل القرى والمدن المأهولة بالسكان؟ فواجبه الدستوري يحتم عليه الدفاع عن المدنيين، على الأقل، وحماية المشروعات الزراعية في الجزيرة وسنار، وخلق مناطق آمنة تستوعب آلاف النازحين الفارين، دون مضايقات، حتى لا يعين الأعداء على فرض مخططهم الشرير، وصناعة المجاعة؛ للقتل بطريقة بطيئة ومؤلمة.

هبوط أقدار الناس

نحن تقريبًا إزاء سلسلة متواصلة من المعاناة، ليس في مواجهة الواقع المرير فحسب، ولكن في كيفية تخيُّل تلك الأسئلة، والإجابات المروعة التي جعلت شعبًا كاملًا في حيرة من أمره؛ لأن القوات المسلحة التي منحها ثقته المطلقة لم تدافع عنه في الوقت المناسب، وتركته في مواجهة عناصر متوحشة من الجنجويد تجيد القتل والاغتصاب.

هل ثمة حقيقة لهبوط أقدار الناس أكثر من ذلك؟ فاللاجئ السوداني اليوم منبوذ، مضطهد، وغير مُرحب به في أي دولة، كما لو أنه يحمل جرثومة الحرب في أنفاسه!

قيمة السودانيين أصبحت – لسببٍ ما – مرتبطة بقيمة عملتهم المحلية، أي الجنيه السوداني، وهو في تراجع مستمر أمام العملات الأجنبية، وهذا يعني أن الحرب الاقتصادية جاءت لتقضي على الموارد الشخصية أيضًا، فهي حرب على الإنسان بهدف إفقاره، بعد أن فقد كل مصادر الدخل وذهبت الوظائف مع الريح، وأصبح الشعب السوداني النازح كذلك عاطلًا عن العمل، ويحتاج إلى من يعينه، وهو الذي كان يؤوي النازحين من دول الجوار، ويغيث الملهوف ويطعم الطير، والمرشح كسلة لغذاء العالم!

من المهم أيضًا، – بما أن هذه الحرب استهدفت المواطن السوداني- طرح الأسئلة الحرجة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضررًا من الناس الذين لا يعبأ بهم أحد، ولا تصطحبهم المؤتمرات الخارجية ولا المفاوضات في جولاتها، فهل سوف يسدد قائد الدعم السريع، أو من استأجر بندقيته، فاتورة ما تم نهبه وتدميره؟

أو بالأحرى، كيف ستعوضنا الدول التي تمول هذه الحرب، بما ألحقت بنا من أذى وخسائر، أم ستكتفي بالإغاثة المُهينة وخيم الإيواء، والأدوية التي لا تشفي الجروح؟

الرصاصة الأخيرة

لم يعد مهمًا البحث عمن أطلق الرصاصة الأولى، فنحن في أتون المعركة فعليًا، وإنما ثمة حاجة مُلحة لنزع فتيل الأزمة، ومنع الرصاصة الأخيرة من إزهاق الأرواح في بلاد النيلين، ولا شك أن كثيرًا من الدول الطامعة في خيرات السودان ليس من مصلحتها توقف العنف، هذا إذا افترضنا أن المركز الاستعماري لا يمول الحرب حرفيًا، ولكنه كما قال ليوناردو دى كابريو في فيلم (الماس والدم) إنهم في الغرب "يخلقون الظروف التي تجعل الحرب تستمر".

عمومًا فإن المأساة السودانية مستمرة، وهي تحتاج إلى صحوة الضمير العالمي؛ لأنها مأساة ترتبط بالإنسان السوداني، العالق ضمنيًا في المسافة ما بين معنى النزوح واللجوء، وفي الخاطر رسالة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح إلى عزيزته إيلين، والتي وقع عليها بتلك العبارة: " آهٍ منك يا زمن النزوح".

إذ إنّ "صالح" كان في الحقيقة يعبّر عن معاناته مع تاريخ الحرب السودانية، دون أن يقتصر ذلك الألم عليه وحده؛ لأنّ نزوحه وأبناء جيله كان اختياريًا، أو لدوافع سياسيّة، بخلاف ما يحدث اليوم من تهجير غير مسبوق للسودانيين، يتفرج عليه العالم كما لو أن الأمر لا يعنيه، وأحيانًا يكتفي بالتعبير عن قلقه، في أقصى ردة فعل ساخرة اشتهر بها الأمين العام للأمم المتحدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الدعم السریع أکثر من

إقرأ أيضاً:

قوات الدعم السريع السودانية تتفق مع حلفائها على تشكيل حكومة عبر ميثاق جديد

قال السياسيان السودانيان، الهادي إدريس، وإبراهيم الميرغني، إنّ: "قوات الدعم السريع ستوقع ميثاقا مع جماعات سياسية ومسلّحة متحالفة معها، مساء اليوم السبت"، مبرزين أنهم من بين الموقعين على الميثاق.

وأوضح السياسيان، لوكالة "رويترز" أنّ الميثاق يأتي من أجل: "تأسيس حكومة سلام ووحدة في الأراضي التي تسيطر عليها القوات شبه العسكرية".

وقال إدريس إنّ: "من بين الموقعين على الميثاق والدستور التأسيسي، عبد العزيز الحلو الذي يسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي ولديه قوات في ولاية جنوب كردفان. ويطالب الحلو منذ فترة طويلة بأن يعتنق السودان العلمانية".

تجدر الإشارة إلى أن كينيا، قد استضافت المحادثات، خلال الأسبوع الماضي، مما أثار جُملة تنديدات من السودان وانتقادات داخلية في كينيا للرئيس وليام روتو، بسبب ما وصفه بـ"إدخال البلاد في صراع دبلوماسي".

وفي حرب مستمرة منذ ما يقرب من عامين، تسيطر قوات الدعم السريع على معظم منطقة دارفور بغرب البلاد، وعلى مساحات شاسعة من منطقة كردفان؛ فيما يتصدى لها الجيش السوداني في وسط البلاد، مندّدا في الوقت ذاته بتشكيل حكومة موازية.

وبحسب عدد من التقارير الإعلامية، فإنه: "من غير المتوقع أن تحظى مثل هذه الحكومة، والتي أثارت قلق الأمم المتحدة، باعتراف واسع النطاق. إذ يقول مقربون من الحكومة إن تشكيلها سوف يُعلن من داخل البلاد".

وفي السياق نفسه، كانت الولايات المتحدة، قد فرضت في وقت سابق من هذا العام، عقوبات على محمد حمدان دقلو المعروف بلقب "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع المتهمة بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق، بما في ذلك الإبادة الجماعية.

إلى ذلك، اندلعت الحرب في السودان، عقب خلافات بين قوات الدعم السريع والجيش بخصوص ما يرتبط باندماجهما خلال مرحلة انتقالية، كانت تهدف للتحول إلى الحكم الديمقراطي، وهو ما تسبّب في تدمير مساحات شاسعة من البلاد ودفعت نصف السكان إلى أزمة معيشية صعبة، جرّاء المجاعة.

كذلك، تعيش السودان أزمة صحية طارئة، إذ أعلنت شبكة أطباء السودان، السبت، عن تسجيل 1197 إصابة بوباء الكوليرا، بينها 83 حالة وفاة في ولاية النيل الأبيض، المتواجدة في جنوبي السودان، وذلك خلال اليومين الماضيين.


وأوضحت الشبكة الطبية (غير حكومية)، عبر بيان لها: "تسبب الانتشار الواسع لمرض الكوليرا بولاية النيل الأبيض في وفاة 83 شخصا، فيما أصيب 1197 شخصا، تعافى منهم 259 شخصا حتى مساء أمس الجمعة، وغادروا مستشفى كوستي (حكومي) بولاية النيل الأبيض".

وأشار البيان نفسه إلى أن "الوضع الصحي بولاية النيل الأبيض كارثي بسبب تفشي الوباء"؛ فيما دعت شبكة أطباء السودان، السلطات الصحية في البلاد، لفتح عدد من المراكز بسبب ضيق المستشفيات.

وفي سياق متصل، كانت السلطات السودانية، قد أعلنت الأربعاء الماضي، عن مقتل 6 أشخاص من أسرة واحدة، وإصابة 3 آخرين، وذلك بقصف مدفعي نفّذته قوات الدعم السريع على مدينة أم درمان، المتواجدة غربي العاصمة الخرطوم.

وأوضحت وزارة الصحة بولاية الخرطوم، في بيان، أن: "قوات الدعم السريع ارتكبت مجزرة جديدة في حق المدنيين باستهدافها الممنهج والمستمر للمواطنين المدنيين بمنطقة كرري بمدينة أم درمان غربي الخرطوم".

وبحسب البيان نفسه فإن: "القصف المدفعي الذي شنته اليوم أدى إلى وقوع مجزرة باستشهاد 6 أشخاص من أسرة واحدة، وإصابة 3 آخرين جراء وقوع القذائف داخل منزل الأسرة في حي الثورة بمنطقة كرري".

وبوتيرة متسارعة، بدأت تتناقص مساحات سيطرة "الدعم السريع" منذ أيام، لصالح الجيش، بكل من ولايتي الوسط (الخرطوم والجزيرة) وولايتي الجنوب (النيل الأبيض وشمال كردفان) المتاخمة غربا لإقليم دارفور (5 ولايات).


إلى ذلك، تسيطر "الدعم السريع" على 4 ولايات فيه، بينما لم تمتد الحرب لشمال البلاد وشرقها. وفي ولاية الخرطوم المكونة من 3 مدن، بات الجيش السوداني يسيطر على 90 في المئة من "مدينة بحري" شمالا، ومعظم أنحاء "مدينة أم درمان" غربا، و60 في المئة من عمق "مدينة الخرطوم" التي تتوسط الولاية وتحوي القصر الرئاسي وكذا المطار الدولي.

وقبل أيام قليلة، أفاد سكان وعاملون في القطاع الطبي بأن قوات الدعم السريع السودانية قد شنّت هجمات على مخيم زمزم للنازحين، الذي يعاني من أزمة مجاعة حادة، وذلك في إطار محاولات القوات العسكرية تعزيز سيطرتها على معقلها في دارفور، بينما تتكبد خسائر أمام الجيش في العاصمة الخرطوم.

ومنذ نيسان/ أبريل من عام 2023 يخوض الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" حربا، خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وذلك بحسب الأمم المتحدة والسلطات المحلية، فيما قدر بحث لجامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.

مقالات مشابهة

  • مركز الملك سلمان للإغاثة يوزّع 227 سلة غذائية في محلية الحاج عبدالله بولاية الجزيرة في السودان
  • قوات الدعم السريع السودانية تتفق مع حلفائها على تشكيل حكومة عبر ميثاق جديد
  • القوى السياسية والمدنية السودانية خلال اجتماع أديس أبابا: ندين الجرائم التي ارتكبتها ميلشيا الدعم السريع
  • وزير الخارجية السوداني: الحرب ستنتهي خلال 3 أشهر
  • مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية
  • الجزيرة نت تكشف التعديلات الدستورية التي أجازتها حكومة السودان
  • كينيا والأزمة السودانية.. وساطة محايدة أم انخراط في الصراع؟
  • «الشيوعي السوداني» يدعو لمناهضة محاولات إضفاء شرعية لأطراف الحرب
  • تصريح صحفي من الحزب الشيوعي السوداني حول محاولات تشكيل حكومة موازية
  • غزة وسوريا محور التقرير السنوي لمركز الجزيرة للدراسات